أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

عند ما أوشكت أنفاسها على الانقضاء أخذت تدعو بالدعاء التالي : (رَبِّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ ونجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ونجّني مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ)

استجاب الله لدعاء آسية وجعلها قدوة للمؤمنين والمؤمنات ، وصنّفها في زمرة أفضل نساء العالم ، كما ورد ذلك على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ قال :

«أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» (١).

ممَّا يُلفت أن زوجة فرعون حقَّرت البلاط الفرعوني الطاغي بطلباتها الثلاث ، حيث رجّحته على بيت في الجنَّة ، واعتبرته لا شيء في قبال جوار رحمة الله ، وبذلك أجابت من لامها على ترك كل هذه الامكانيات التي كانت في متناول أيديها ؛ باعتبارها ملكة مصر ، وعلى توجهها إلى راعٍ مثل موسى ، وهذا درس وعبرة للجميع.

إلهي ، وفقنا لحفظ الايمان حتى آخر لحظات من عمرنا.

ربّنا ، نحن ضعفاء أمام الوساوس الشيطانية ، فأعنَّا عليها.

آمين رب العالمين.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٤٦ (نقلاً عن الأمثل ١٨ : ٤٢٦).

٥٠١
٥٠٢

المثل السابع والخمسون :

مريم بنت عمران

يقول الله تعالى في الآية ١٢ من سورة التحريم :

(وَمَرْيمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنا فِيه مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ ربِّها وكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ)

تصوير البحث

ورد هذا المثل في نفس الاتجاه الذي ورد فيه المثلان المتقدِّمان ، وهو يؤكّد أن المعيار الوحيد للقرب إلى الله والحلول في ضيافته هو العمل الصالح والالتزام بالضوابط الالهية ، ولا تغني الأواصر والعلاقات مهما كانت قوية.

بالطبع ، هناك اختلاف بين هذا المثل والمثلين المتقدّمين نشير إليه فيما بعد.

الشرح والتفسير

(وَمَرْيمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنا فِيه مِنْ رُوحِنا)

الجانب الذي لاحظه القرآن في التمثيل بآسية غير الجانب الذي لاحظه في التمثيل بمريم بنت عمران ، فقد لاحظ هناك جانب الصبر والاستقامة وهنا جانب العفّة والطهارة.

بيَّن القرآن ثلاثة امتيازات لمريم :

الأول : العفّة ، فقد كانت مريم عفيفة بدرجة أنها كانت تخاف جبرئيل ويرتعش جسمها

٥٠٣

عند ما كان يأتيها متمثلاً بشاب جميل ، وهي في الخلوة تغسل جسمها وتقول له : (إنّي أعُوذُ بالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِياً) (١) ، ورغم أن جبرئيل طمئنها وقال لها : (إنَّما أنَا رَسُولُ ربِّكَ لأهَبَ لكِ غُلاماً زكيّاً) (٢) إلَّا أن الاضطراب لا زال يسيطر عليها ، لذلك قالت له : (أنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولَمْ يَمْسَسْني بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بغيّاً) (٣) ، وهذا كله يكشف عن مستوى عفتها وطهارتها.

الثاني : (وَصَدَّقَتْ بكَلِمَاتِ رَبِّها وكُتُبِهِ)

التسليم المطلق والخالص إلى الله والعبودية هي الامتياز الآخر الذي بيّنه القرآن لمريم.

كانت مريم مصدِّقة لكتب الله السماوية ولكلمات ربّها.

اختلف المفسِّرون في أنّ (كتبه) عطف تفسيري على (كلمات ربِّها) أم لا ، وأنا أعتقد انعدام العطف التفسيري أو قلة موارده في القرآن. وعلى هذا يكون المراد من (كتبه) هو الكتب السماوية ، أي التوراة والانجيل والقرآن ، والمراد من (كلمات ربِّها) هو الأحاديث القدسية ، أي كلام الله الذي لم يرد في الكتب السماوية (٤).

الثالث : (وَكَانَتْ مِنَ القَانتِينَ)

قنوت مريم هو امتيازها الثالث ، وهو يعني العبادة والطاعة ، وبما أنه جاء مطلقاً ودون قيد كان يعني أنها مفعمة بالطاعة والعبادة لربِّها ربّ العالمين.

ليس من السهل أن يكون الانسان مطيعاً خالصاً دون قيد أو شرط ، وكثير من أعمال عباد الله منتقاة ، أي أنَّه ينتقي ما ينفعه ويذر ما لا ينفعه ، بينما عباد الله المخلصون يعملون له مطلقاً مهما كانت آثار العمل ومردوداته.

نتيجة العفَّة التي يُضرب بها المثل وكذا الايمان والاعتقاد بجميع ما أنزل الله والطاعة والعبادة الخالصة التي لا مثيل لها أن نفخ الله فيها من روحه ومنحها ولداً طاهراً كعيسى بن مريم عليه‌السلام.

__________________

(١) مريم : ١٨.

(٢) مريم : ١٩.

(٣) مريم : ٢٠.

(٤) انظر الأمثل ١٨ : ٤٢٧.

٥٠٤

فوارق هذا المثل مع المثلين المتقدِّمين

رغم أن الأمثال الثلاثة المذكورة في سورة التحريم تابعت هدفاً واحداً ، وهو بيان الملاك الأساسي لنجاة الانسان ، أي الضوابط الالهية لا العلاقات والانتساب بأولياء الله ، إلَّا أنها متباينة فيما بينها.

كان الحديث في المثل الاول عن امرأتين مشركتين أدبرتا عن الضوابط الإلهية فدخلتا جهنم مع الداخلين ، ولم ينفعهما علاقتهما بزوجيهما اللذين كانا من كبار أنبياء الله ، والمثل تحذير لضعفاء الايمان الذين تمسكوا بالانتساب لبعض أولياء الله.

في المثل الثاني كان الحديث عن أمرأة صبورة ومقاومة ، قد تمسكت بالتعاليم الإلهية وما أكترثت بشيء إلَّا برضا الله ، ولم تنتسب إلى أحدٍ من أولياء الله ، بل إلى طاغوت ، فقد كانت زوجة فرعون الأكثر ظلماً في البشرية ، رغم ذلك لم تؤثّر هذه العلقة وهذا الانتساب في عزمها وإرادتها ، وكان قرارها التزام الإيمان بالله وحفظه حتى آخر لحظة من حياتها.

وهذا المثل يُضرب لمن عاش في عائلة ومحيط غير مساعد ، تكثر فيه العقبات والموانع الموضوعة في طريق الإيمان ، فالاقتداء بها يعني تجاوز الموانع والانتصار عليها وعدم التشبُّث بها كذرائع.

الحديث في المثل الثالث عن إمرأة عفيفة تمتعت بامتياز الانتساب وكذا العمل بالضوابط الإلهية في أعلى مستوياتها ، ولهذا عُدَّت اسوة.

مزيد ايضاح : البيئة التي كانت تعيشها آسية غير مناسبة ولا تساعد على انعقاد الإيمان من جميع الجهات ، فقد كانت تعيش منزلاً يُعدُّ بؤرة للكفر والشرك والعناد والوثنية ، وما كان يسمع فيه صوت التوحيد أبداً ، وكان زوجها يعدُّ نفسه ربّاً أعلى (١) بل ربّ الأرباب ، أمَّا البيئة التي كانت تعيشها مريم فكانت بيئة طاهرة ومفعمة بالإيمان ، وقد كانت تسمع الترنمات الإلهية وهي جنين في بطن امِّها.

ينقل القرآن المجيد مناجاة ام مريم في الآية ٣٥ من سورة آل عمران كما يلي :

__________________

(١) كما ورد ذلك في سورة النازعات : ٢٤.

٥٠٥

(رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْني مُحَرَّراً فتقَبَّلْ مِنّي إنَّك أنْتَ السَّميعُ العليمُ)

الطهارة حكمت بيئة مريم حتى بعد الولادة ، فقد تكفّلها بعد وفاة أبيها نبي عصرها زكريا عليه‌السلام بعد حوادث لطيفة حصلت ، ممَّا زاد في قداستها وسمح لها دخول بيت المقدس والمسجد الأقصى لتقيم عباداتها هناك. وبلغ بها القرب إلى الله أن كان الله يبعث لها الغذاء ، كما جاء ذلك في الآية ٣٧ من سورة آل عمران :

(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وكَفّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَل عَلَيْها المِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قَالَ يا مَرْيمُ أنَّى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)

خلاصة الكلام أن بيئة مريم عكس بيئة آسية ، رغم ذلك كلتاهما بلغتا الكمال.

جاء في رواية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كَمُلَ مِنَ الرِّجَال كثيرٌ ولم يكمل من النساء إلَّا أربع ، آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد» (١).

مريم وآسية عاشتا بيئتين متضادتين وبلغتا الكمال ، وفي ذلك درس عظيم وعبرة للجميع. وعلى الناس أن يفهموا أن المقياس الأساس هو إرادة الانسان وعزمه ، فلا يُعدُّ فساد العائلة أو المجتمع والبيئة وما شابه ذلك عذراً ، فإنَّه يصعب بلوغ الهدف مع وجود هذه الامور لكن لا يستحيل ، ويمكن الانتصار والتغلب على الموانع من خلال التحلّي بإرادة صلبة ؛ سعياً لبلوغ القرب الالهي ، كما فعلت آسية ، والارادة والعزم هما اللذان يلعبان الدور الاساسي في هذا المجال.

خطابات الآية

١ ـ العفَّة رأس مال عظيم

آية المثل أكّدت على فضيلة العفة التي كانت مريم تتحلّى بها ، وهي صفة لو تمتع به أحد (سواء كان رجلاً أو امرأة) حصل على كل شيء ولو فقدها فقد كلّ شيء. لو تحلَّت المرأة بهذه

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٣٢٠ (نقلاً عن ميزان الحكمة ، الباب ٣٥٣٥ ، الحديث ١٧٦٧٤).

٥٠٦

الصفة ما تلوّثت بالذنوب ولو توافرت جميع العوامل والأرضيات المساعدة على التلوّث ، ولو لم يتمتّع بها شخص تلوّث بالذنوب ولو كان جنب أفضل البشرية.

العفة تعدُّ النقطة التي تقابل عبادة الشهوة والبطن ، ومن أهم فضائل الانسان ، ويعتبرها علماء الأخلاق صفة بين عبادة الشهوة والاغتمام والكسل. وفي هذا المجال وردت مباحث مختلفة كثيرة في القرآن والروايات (١).

٢ ـ الارادة أساس العمل

لا شكَّ أن للعوامل والأرضيات ، من قبيل : العائلة والمجتمع والبيئة والحكومة وتوافر أرضيات الطاعة أو المعصية ، دوراً وتأثيراً على سعادة الانسان وشقائه ، لكنَّ أيّاً من العوامل المذكورة لا يمكنها أن تقهر الانسان وتجبره على انتخاب الطريق الذي يخالف إرادته.

نفهم من الأمثال الثلاثة المتقدّمة ، وبخاصّة مثل آسية ومريم عليه‌السلام ، أن الارادة تشكل أساس العمل أو العامل الأساسي لأفعال الانسان وأعماله واعتقاداته.

أثبتت آسية أنَّ بامكان الانسان أن يحكِّم إرادته للايمان والتقوى في أحلك الظروف وأتعسها ، وأنه يتوفّق رغم هذه الظروف ، كما عرفنا من سيرة زوجة نوح عليه‌السلام وزوجة لوط عليه‌السلام أن عاقبة الانسان لا تكون إلى خير حتى في أفضل الظروف إذا لم يتمتع بإرادة ثابتة وقوية.

إذن ، الآيات المتقدّمة جواب داحض لمن يعتقد بالجبر ، وتدلُّ بوضوح على أن السبب الاول والأخير للسعادة والشقاء هو إرادة الانسان.

__________________

(١) للمزيد راجع الاخلاق في القرآن ٢ : ٣٠٧ فما بعدها (بالفارسية وللمؤلف كذلك).

٥٠٧
٥٠٨

المثل الثامن والخمسون :

تصوير للمؤمنين والكافرين

يقول الله تعالى في الآية ٢٢ من سورة الملك :

(أفَمَنْ يُمْشي مُكِبّاً عَلَى وجْهِهِ أهْدَى أمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُسْتقيم)

تصوير البحث

الآية الكريمة ـ بقرينة ما سبقها وما لحقها ـ تصوير لحال المؤمنين والكافرين (١) ، ومثل جميل لهذه القافلة التي تبدأ من نقطة العدم ثم تلبس ثوب الوجود متّجهة نحو نقطة اللانهاية ، أي ذات الله تعالى. وهي قافلة قد ينحرف البعض عنها في بداية حركتها أو في وسطها ، وبعض يستمر معها في حركتها المستقيمة حتى نهاية شوطها.

نظرة إلى الآيات التي سبقت المثل

الآيات الاولى لهذه السورة تحدَّثت عن المبدأ وصفات الله تعالى ، ودعت الانسان للتفكير في صفات الله وآياته ، ثم شرعت ببيان حال المؤمنين والكفار ، وفي المرحلة الثالثة ذكَّرت ببعض آيات الله ، من قبيل آية خلق نظام الكون العجيب ، وبخاصة السماوات والكواكب والارض ونعمها وخلق الطيور.

__________________

(١) كما يرى ذلك تلميذ الامام علي عليه‌السلام القدير (ابن عباس) ، وعدَّها من أمثال القرآن ، التي وردت لتوصيف المؤمنين والكفار ، راجع التبيان ١٠ : ٦٨.

٥٠٩

ندرس هنا إحدى الآيات الإلهية ذات الصلة بآية المثل.

(أوَ لَمْ يَروْا إلى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ)

خلق الطير وطيرانه بأشكال مختلفة من آيات الله المنَّان. وإذا دقّق الانسان في خلق الطير وكيفية طيرانه العجيب أدرك قدرة الخالق صاحب كل قدرة في الكون ، وكل شيء يقابله هو كلا شيء ، ويمكن الوثوق به والاتكاء عليه كافضل ما يمكن الاتكاء عليه.

يمكن للانسان أن يكتسب القدرة على الطيران بالتامُّل في ظرافة خلق الطير ، ويمكنه كذلك اختراع الآليات التي يمكن فتح السماوات بها وبلوغ محالٍّ من السماوات لم تبلغها الطيور.

كلَّما زاد العلماء من دراساتهم على الطيور كلّما استطاعوا أكثر على رفع نواقص الطائرات. وعلى سبيل المثال كانت عجلات الطائرات مفتوحة عند الطيران ممَّا يسبب بعض المشاكل لها ، وبعد تدقيق العلماء في طيران الطير شاهدوا أنها تضمُّ رجليها عند الطيران ، وهذا هو الذي دعاهم إلى صناعة طائرات تضمُّ عجلاتها عند التحليق. وهذا ممَّا يدعو حقاً إلى تعظيم الخالق وتمجيده.

(صَافَّات وَيقْبَضْنَ)

من خلال هذين الجملتين القصيرتين بيّن الله نوعين من طيران الطيور ، ففي الجملة الاولى بيَّن نوعاً مرموزاً من الطيران ، وهو الطيران بصفّ الأجنحة دون تحريكها ، كما نلاحظ في طيران بعض الطيور في طبقات السماء المرتفعة.

والنوع الثاني هو الذي يتم من خلال تحريك الأجنحة ، كما هو ملحوظ في أكثر الطيور.

وهناك نوع ثالث من الطيران ، وهو الذي يكون خليطاً من النوع الاول والثاني ، فتقبض أجنحتها تارة وتصفها تارة اخرى.

وهناك نوع رابع من الطيور ، وهي التي تحرّك أجنحتها لفترة ثم تضمّها وتتحرك في الجو على غرار الذي يريد الغطس ، كما نلحظ ذلك في العصافير.

والخلاصة أن جميع الطيور تشترك في أصل الطيران ، لكن كلاً منها تطير بنحو خاص يتناسب وفيزلوجية جسمها والفضاء الذي تطير فيه ، والالتفات إلى نوعيات الطيران يزيد من ايمان الشخص ويقينه بخالقه القادر.

٥١٠

(مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّاالرّحْمنُ إنَّه بكُلِّ شَيءٍ بَصِيرٌ)

من الذي خلّص هذه الطيور من جاذبية الأرض القوية التي تجذب حتى ذرات الغبار المتناهية في الصغر؟ ومن منعها من السقوط على الأرض؟

يا لها من قدرة فائقة ساعدت هذه الطيور على التحليق والطيران كل يوم ، متغلبة بذلك على جاذبية الارض؟!

هناك بعض من الطيور المهاجرة التي تقطع بالطيران ١٨٠٠٠ كيلو متراً في السنة! من الذي أنقذها من جاذبية الأرض؟ كيف يمكنها تهيئة الغذاء لنفسها في سفراتها الطويلة؟ كيف أمكنها التعرّف على الاتجاه الصحيح؟ (١) هل هناك قدرة بإمكانها فعل ذلك غير قدرة الله العالم والمحيط بكل شيء؟

مع الالتفات إلى ما تقدَّم من شرح مبسط للآيات التي سبقت آية المثل ، وبخاصة مسألة التأمّل في خلق الطيور ، نرجع إلى آية المثل لنبتَّ بشرحها وتفسيرها.

الشرح والتفسير

(أفَمَنْ يَمْشِي مُكبّاً عَلَى وجْهِهِ أهْدَى)

تقسَّم الحيوانات من حيث الحركة والمشي إلى ثلاثة أقسام : الاول : مستقيمة القامة ، وهي التي تمشي على رجلين اثنين ، مثل الانسان ، الثاني : ذوات الأربع ، وهي التي تمشي على أربع ، رجلين ويدين ، الثالث : الزواحف ، مثل الأفاعي.

شبَّه الله الكفَّار في هذه الآية بالزواحف التي تزحف على بطنها.

(أمَّنْ يَمْشي سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُسْتقِيمٍ)

كما شبّه المؤمنين بمستقيمي القامة الذين يمشون بنحو سوي وعلى طريق مستقيم.

ومع هذا التشبيه كيف يمكن المقارنة بين من يمشي مستقيم القامة وسوياً وبين من يمشي زاحفاً على بطنه؟ فمن هو أهدى منهما؟

__________________

(١) لمزيد معلومات في عجائب الطيور راجع الأمثل في ذيل الآية ٧٩ من سورة النحل.

٥١١

ترك الله الحكم والجواب على المقارنة إلى مخاطبي القرآن ، وحرّضهم على معرفة الاختلاف بين الاثنين.

مشاكل حركة الزواحف ومعايبها

للزحف مشاكل متعدّدة :

الاولى : تتحدّد عنده قدرة النظر ، والأخطار تهدّده دائماً ، ويكون عرضة للسقوط في وادٍ أو الانحراف عن الطريق ؛ لأنه عاجز عن تحديد الأخطار وتشخيصها في وقتها.

الثانية : سرعة الزحف قليلة جداً ، وقد تكون نسبتها إلى المشي العادي نسبة الواحد إلى العشرة.

الثالثة : الزحف يتعب الانسان بسرعة ، هذا على فرض عدم مواجهة موانع في الطريق وعدم انحرافه عنه وعدم سقوطه في وادٍ والزاحف يتوقف عن الحركة بسرعة ؛ لكون الزحف متعباً جداً.

إذن ، الخطأ في تحديد الخطر وعدم القدرة الكافية للنظر وبطء الحركة والتعب المفرط يعطل الزاحف عن الاستمرار في الطريق ، وتعدُّ تلك الامور من معايب الزحف ومشكلاته. أما الذي يمشي مستقيم القامة فقابليته على الرؤية أكثر ويرصد الأخطار من بعيد ـ وبخاصة أنَّ أكثر حواسه واقعة في رأسه ـ ويحدّدها ويتّخذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، ولا ينحرف عن الطريق ، مضافاً إلى أنَّه يتمتع بالسرعة الكافية ولا يتعب عاجلاً ، فلا يتوقف.

هل يتساوى هذان الاثنان؟ بالطبع لا ، والذي يمشي مستقيم القامة أهدى لطريقه من الذي يمشي زاحفاً.

المؤمن الذي يمشي سوياً ومستقيم القامة في الصراط المستقيم ونور إيمانه يضيء له الدرب أهدى من الكافر الزاحف الذي لا نور له يضيء دربه ولا سرعة ولا قابلية له لتحديد المخاطر ولا السير لفترة طويلة.

هذا مضافاً إلى أن الكافر الزاحف لا قدرة له على إبصار آيات الله التي تقدَّمت الاشارة إليها في الآيات السابقة من السماوات والطيور وما شابه ، أمَّا الذي يمشي سوياً فله القابلية على

٥١٢

إبصار آيات الله جيداً ، فيتأمَّل فيها ويتدبّر ، ويدرك بذلك عظمة الله وقدرته أكثر ، فيخطو في طريق الهداية باستحكام واستقامة.

خطاب الآية

الإيمان ينبوع المحاسن

تقدَّم أن الآية نزلت في توصيف المؤمنين والكفَّار ، وهي ليست الوحيدة التي وصفت الفريقين بل تقدمت آيات وكذلك روايات في توصيفهما.

لماذا كل هذا الحديث والتأكيد على الايمان وما يقابله ، أي الكفر؟

الحقيقة هي أن الايمان والتقوى مصدر الخيرات والبركات ، وينبغي القول دون مبالغة : كلّ شيء يتحقق في ظل الايمان والتقوى

من هو المؤمن؟

إذا كان الايمان قلة عالية وارتقاؤها يُعدُّ منشأً لجميع المحاسن وإذا كان ثوباً ثميناً فينبغي معرفة من هو الجدير بهذا الثواب الثمين والصعود إلى هذه القلة المليئة بالافتخارات.

وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤمن في ثلاث جمل قصيرة لكنَّها ذات معنى عميق ، حيث قال : «المؤمن كيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ» (١) ، ومن خلال هذه الصفات الثلاث يجتاز المخاطر ، أمَّا غير المؤمن فكالزواحف لا يتمتع بفطنة ولا كياسة ولا حذر ، ويقع في المصيدة ببساطة ، وانسان من هذا القبيل يظن نفسه كيّساً ، وليس كذلك ، وبذلك يتلف رأس ماله الأعظم ، وهو عمره ، ونهايته الهلاك دون جدوى

مراتب الايمان

كتاب الزرّاد : قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : نخشى أن لا نكون مؤمنين. قال : «ولِمَ ذاك»؟

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٢٩١ ، الحديث ١٤٥٠.

٥١٣

قلت : وذلك أنا لا نجد فينا من يكون أخوه عنده آثر من درهمه وديناره ، ونجد الدينار والدرهم آثر عندنا من أخ قد جمع بيننا وبينه موالاة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : «كلَّا انكم مؤمنون ولكن لا تكملون إيمانكم حتى يخرج قائمنا ، فعندها يجمع الله أحلامكم فتكونوا مؤمنين كاملين ، ولو لم يكن في الأرض مؤمنون كاملون إذاً لرفعنا الله إليه وأنكرتم الأرض وأنكرتم السماء ، بل والذي نفسي بيده انّ في الارض في أطرافها مؤمنين ما قدر الدنيا كلها عندهم تعدل جناح بعوضة» (١).

يتمنَّى الامام في رواية إدراك المؤمنين الذين تكامل الايمان عندهم وبلغوا القمة في الايمان ، ويوصي من أدركهم أن يستفيض من نورهم ، ودنيا الحرام عندهم لا تعدل أكثر من جناح بعوضة.

اللهمَّ وفقنا لطي مدارج الايمان حتى بلوغ قمة جبله الشامخ.

اللهمَّ ارزقنا كياسة المؤمنين الحقيقيين وذكاءهم لكي يتسنَّى لنا رفع عقبات الرقي وبلوغ أعلى درجات الايمان.

__________________

(١) سفينة البحار ١ : ١٤٧.

٥١٤

المثل التاسع والخمسون :

البخلاء

يقول الله تعالى في الآيات ١٧ ـ ٣٣ من سورة القلم :

(إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كما بَلَوْنا أصحابَ الجَنَّة إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصبحِينَ* وَلَا يَستَثنُونَ* فَطَافَ عَليها طائِفٌ مِن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصبَحَتْ كَالصَّرِيمِ* فَتَنَادوا مُصبِحِينَ* أنِ اغذُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُم صَارِمِينَ* فانطَلَقُوا وَهُم يَتَخافتُونَ* أَن لا يدَخُلَنَّهَا اليومَ عَلَيكُم مِسكِينٌ* وَغَدَوا عَلَى حَردٍ قَادِرِينَ* فَلَمَّا رَأوهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُمُونَ* قَالَ أَوسَطُهُم أَلَمْ أَقُل لَكُم لَوْلَا تُسَبِّحُونَ* قَالُوا سُبحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَأَقبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ* قَالُوا ياوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ* عَسَى رَبُّنَا أَن يُبدِلَنَا خَيراً مَنهَا إنَّا إلى رَبِّنَا راغِبُونَ* كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أكبَرُ لَو كَانُوا يَعْلمُونَ)

تصوير البحث

قد يجسِّم الله الحقائق التربوية المهمة جداً في قالب تشبيه محض ، وقد يجسّمها من خلال قولبة قصة حقيقية من الواقع الخارجي في إطار مثل ، والآيات السبع عشرة من سورة القلم من قبيل القسم الثاني.

الشرح والتفسير

كان الحديث في الآيات السابقة لآيات المثل عن المناعين عن الخير (١) ، وعقب ذلك ذكر

__________________

(١) هؤلاء لا أنهم بخلاء فحسب بل يمنعون الآخرين من الانفاق كذلك.

٥١٥

قصة أصحاب الجنّة في قالب تمثيل جميل.

يستفاد من تعابير الآيات الجميلة أن هذه القصة كانت معروفة عند العرب قبل الاسلام ، بالطبع ليس بالتفصيل المذكور هنا ، وحاول القرآن بيان نكات ظريفة في هذه القصة ، أوضح من خلالها عاقبة المنَّاع للخير.

جاءت قصة أصحاب الجنة في القرآن كالتالي :

(إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كما بَلَوْنا أصحابَ الجَنَّة)

يا رسول ، إنَّا أدخلنا امتك في اختبار كما أدخلنا من قبلهم أصحاب الجنة (١) ، ويراد من الجنة هنا البستان لا ما تقابل جهنم.

كان في الامم السالفة والد خيّر ، له بستان واسع ، عند ما يحلُّ فصل جني الثمار كان هذا الرجل السخي يخبر الفقراء والمساكين لينالوا نصيباً منها ، ولأجل ذلك كان البستان ينمو ويثمر كل عام أكثر فأكثر.

توفي هذا الأب السخي وترك البستان لُاولاده ، الذين كانوا بخلاء وقصيري النظر ، ويرون ثمار البستان حقهم الخاص بهم دون غيرهم ، فمنعوا الفقراء والمساكين من النيل من البستان ، كما كان يفعل ذلك والدهم ، وكان لسان حالهم يقول : لِمَ نعطِ هؤلاء مع أنَّهم لم يفعلو لنا ولبستاننا شيئاً ولم يعملوا فيه ، كما أنهم لم يستثمروا شيئاً من أموالهم في البستان؟

وهل هم يدينون لنا بشيء؟ وهل هو إرث آبائهم؟ والحق ينبغي أن يرجع لصاحبه ، ونحن أصحاب هذا الحق وما لنا وهؤلاء الفقراء؟ ولما ذا يعيش الفقراء؟ فليموتوا!

ولأجل تحقيق أفكارهم الشيطانية رسموا الخطة التالية :

(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِ مُنَّها مُصبحِينَ* وَلَا يَستَثنُونَ)

تقضي خطتهم التي أقسموا عليها أن يذهبوا في الصباح الباكر مع غلمانهم إلى البستان

__________________

(١) اختلف المفسرون في محلّ هذه الجنة ، فقال البعض : إنَّها في اليمن ، واحتملها البعض مدينة صنعاء الكبيرة ، وطائفة ثالثة قالت : إنَّها في الحبشة ، وطائفة رابعة قالت : في الشام ، والاحتمال الخامس : كونها في الطائف ، والاحتمال الاول هو المشهور ، راجع الأمثل ١٨ : ٤٩١.

٥١٦

ويجنون ثماره قبل أن يأتوا الفقراء ، وإذا جاءوا فلا يشاهدون شيئاً يأخذونه معهم (١) ، فذهبوا إلى فراشهم بهذا الأمل.

(فَطَافَ عَليها طائِفٌ مِن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ)

الطائف تعني الذي يطوف ، وقد اطلق هذا الاصطلاح على من يطوف الكعبة بهذا الاعتبار. كما يُطلق الطائف على البلاء الذي ينزل ليلاً ، من قبيل السرقة التي غالباً ما تحصل ليلاً ، وسبب الاطلاق هو أن السارق غالباً ما يطوف البيت الذي يقصد سرقته قبل أن يسطو عليه ، وذلك ليتعرَّف على نقاط ضعفه وفجواته ليدخل منها.

تأوّهات المظلومين تبلورت على نحو طائف وبلاء إلهي نزل على بستانهم وأتلفه.

(فَأَصبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)

عند الصباح لم يجدوا أثراً من الثمار والفواكه التي خططوا لها بالأمس ، فقد تبدَّلت جنتهم إلى قطعة من الفحم.

ما هو البلاء الذي نزل على هذه الجنة؟ قد يكون عبارة عن صاعقة أمرها الله أن تحرق الجنة لتبدّله إلى فحم ورماد.

تكفي درجة حرارة بمستوى مائة لإحراق هذه الجنة ، أمَّا إذا كانت درجة حرارة الصاعقة خمسة عشر ضعفاً فما تفعل بالجنَّة؟ إنَّ هذه الدرجة من الحرارة تذيب كل أنواع الفلزات فضلاً عن الأشجار والفواكه والخضار.

(فَتَنَادوا مُصبِحِينَ* أنِ اغذُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُم صَارِمِينَ)

استيقظ أصحاب الجنة صباحاً ولم يكونوا على علم بما كان قد حصل لبستانهم ، فنادى أحدهم الآخر ليستعجلوا في اليقظة والذهاب لجني الثمار ، وبعد حمل المستلزمات الضرورية تحركوا باتجاه البستان.

__________________

(١) لم يتّخذوا هذا القرار بناءً للحاجة ، بل لضعف إيمانهم وبخلهم ؛ لأن بامكانهم أن يبذلوا مقداراً من محصولات بستانهم مهما كانت حاجتهم. إلَّا أن بعض المفسرين فسَّر عبارة «وَلَا يَستَثنُونَ» بنحو آخر وقال : عند ما خططوا للغد لم يقولوا : إن شاء الله ، فما كان غرورهم يسمح لهم بالتفوّه بهذه العبارة المباركة. لكن التفسير الأول اصح ؛ لكونه متناسباً مع القصّة. راجع الأمثل ١٨ : ٤٩١.

٥١٧

(فانطَلَقُوا وَهُم يَتَخافتُونَ* أَن لا يدَخُلَنَّهَا اليومَ عَلَيكُم مِسكِينٌ* وَغَدَوا عَلَى حَردٍ قَادِرِينَ)

أيقظ أحدهم الآخر بإيجاد ضوضاء ، لكنهم خرجوا ببطء ودون إيجاد أي صوت ودون أن يتكلَّموا ، وإذا أرادوا مبادلة الكلام همس أحدهم في إذن الآخر ، وما كان كلامهم إلَّا تحذير أحدهم الآخر من أن يطلّع واحد من الفقراء على الموضوع.

نعم ، كانوا قد قرروا أن يحولوا دون اطلاع الفقراء ، وأن يمنعوهم بقوّة دون الوصول إلى الجنة ، ومن المحتمل أنَّهم وظّفوا بعض الأقوياء ليمنعوا الفقراء عن دخول الجنة إذا ما اطَّلعوا رغم الإجراءات التي اتخذوها للحؤول دون اطلاعهم.

(فَلَمَّا رَأوهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُمُونَ)

بعد الاجراءات والاحتياطات التي قاموا بها وصلوا جنّتهم وفقاً لخطّتهم ، لكنَّهم عندئذٍ تعجّبوا حيث لم يعثروا على أثرٍ للطراوة والخضار ، ولا نسيم ، ولا صوتاً للطيور ولا للقنوات ، ولا فاكهة ولا شجرة ، فلم يبقَ من الجنة غير الفحم والرماد ، عندئذٍ اعترفوا بخطأهم وأقرّوا بصحة منهج والدهم واعتبروا أنفسهم ضالين.

(قَالَ أَوسَطُهُم أَلَمْ أَقُل لَكُم لَوْلَا تُسَبِّحُونَ)

يبدو أن واحداً من الاخوة كان أعقلهم ، وكان مخالفاً لهم منذ البداية وكان مصرّاً على العمل وفق نهج الوالد ، إلَّا أنَّ إخوته كانوا يشكّلون الأكثرية ، وهو الاقلية ، لذلك لم يكن لرأيه تأثير عليهم ، لكنه بعد ما شاهد ـ كاخوته ـ ما آلت إليه جنتهم قال لهم ما ورد في العبارة المتقدَّمة.

(قَالُوا سُبحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَأَقبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ)

كانت ملامة أخيهم بمثابة السوط الذي جلد ضميرهم وأيقظه من سبات الغفلة ، عندئذٍ جرى تقديس الله وتسبيحه على ألسنتهم ، وبدءوا يعترفون بأنَّهم ظالمون.

إنَّهم ظلموا أنفسهم ، كما ظلموا الفقراء ، ثم أخذ أحدهم يلوم الآخر ، ويحمّل أحدهم الآخر مسؤولية هذا العمل ، وهو سيرة المذنبين دائماً.

نعم ، في الصباح الباكر كان أحدهم يوقظ الآخر بصوت عال ، وتحرّكوا باتجاه الجنَّة

٥١٨

باحتياط ، وهم حالياً يتَّهم بعضهم الآخر.

ممَّا يلفت أنَّ الآية (قَالُوا سُبحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) تكشف عن أنَّهم لم يتلقّوا نزول العذاب ظلماً من الله عليهم ، بل نزّهوا الله من كل ظلم ، واعتبروا أنفسهم سبباً لهذا العذاب. إنهم أعلنوا من خلال هذه الجملة كونهم ظلموا الآخرين فكانوا أهلاً لنزول العذاب ، ولم يكن ذلك ظلماً من الله عليهم ، بل ما صدر منه هو عين العدالة والحكمة ونوعٌ من اللطف في حقّهم ؛ لأن وجدانهم استيقظ من سباته إثر هذا العذاب فتابوا إلى الله وأنابوا إليه.

(قَالُوا ياوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ)

ربّنا ، أغوتنا نعمك وأغفلتنا عن صاحب النعم ، فانحرفنا.

ربّنا ، ما كنا نعلم أنَّ الأموال التي وهبتها لنا لم تكن بأكملها لنا ، بل جعلت سهماً للفقراء فيها.

ربّنا ، علمنا أن ذلك كان اختباراً منك لنا فنتوب ونقرُّ بذنبنا ، وها نحن جئناك تائبين نادمين داعيك بالدعاء التالي :

(عَسَى رَبُّنَا أَن يُبدِلَنَا خَيراً مَنهَا إنَّا إلى رَبِّنَا راغِبُونَ)

يقظ أصحاب الجنة من سبات الغفلة بصفعة العذاب الإلهي ، فاعتبروا ممَّا حدث لهم وتابوا ودعوا الله بهذا الدعاء.

بعد التوبة والدعاء عزموا بجدٍّ ومثابرة على العمل على الأرض ، فلم يمضِ وقت طويل ـ كما ينقل ابن مسعود ـ حتى رزقهم الله بلطفه جنَّة أعظم وأفضل ممَّا كانت لهم (١). لكن بعض المفسرين يرى أن توبتهم لم تُقبل لعدم توافر شروط التوبة فيهم (٢).

(كَذَلِكَ العَذَاب وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أكبَرُ لَو كَانُوا يَعْلمُونَ)

هذه الآية استنتاج لقصة أصحاب الجنَّة ، وهي تحذير لكلِّ من كان يعيش حياة ذات وجوه شبه مع حياة أصحاب الجنَّة ، فهي تقول : إن العذاب الاخروي أشدّ وأكبر من العذاب

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٢٣٧.

(٢) انظر الأمثل ١٨ : ٤٩٧.

٥١٩

الأليم والمفجع الذي أنزلناه على هؤلاء. وعلى كل من توفَّرت عنده امكانيات وثروة أن يترك منها سهماً للفقراء ، ولو بخل في ذلك وخطى في هذا الاتجاه بحيث لا هو بذل ولا ترك الآخرين يبذلون فليطمئن من نزول عذاب الله عليه في الدنيا والآخرة.

بالطبع لا ينبغي أن يكون العذاب دائماً عبارة عن صاعقة سماوية تحرق ممتلكات البخيل ، بل لله جنود لكل زمان ومكان ، من قبيل : الآفات والحروب والسيول والأمراض المستعصية والجفاف وانعدام البركة ، فهذه كلها جنود لله يبعثها حيث يشاء.

خطابات الآية

١ ـ الاستئثار بلاء خطر

إذا اتُّخذت الأموال والثروة جسراً للوصول إلى الغايات ، ولم يخرج حبّها عن مستوى الاعتدال كان ذلك أمراً مطلوباً ومستحسناً ، أما إذا بلغ حبُّها مستوى الإفراط وعدَّت بحد ذاتها هدفاً وليس وسيلة وأنتجت ثماراً من قبيل الاستئثار كان ذلك أمراً مذموماً.

ولأجل ذلك فرض الاسلام الحقوق الواجب دفعها ، كما دعى المسلمين إلى الإنفاق الزائد على ذلك (الانفاق المستحب) لكي يحول بذلك عن انتاج أو نمو شجرة الاستئثار البغيضة.

تتجلَّى أخطار الاستئثار عند ما تتسع رقعة آثاره الذميمة لتشمل المجتمع كله بعد ما كانت منحصرة في المستأثر فقط ، كما هو حال باقي الذنوب ، وذلك لأن آهات المظلومين والمستحقين والمساكين قد تتبدَّل إلى إعصار يكتسح المجتمع بأسره.

علينا تطهير أنفسنا من هذه الصفة الذميمة ، وذلك من خلال إنفاق بعضٍ من أموالنا (قدر الإمكان) لمحرومي المجتمع وفقرائه ، ولنقتدِ في هذا المجال بالأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

ينقل في أحوال الامام الصادق عليه‌السلام قوله التالي :

«كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا ، وكنت آمر في كل يوم أن يوضع عشر بنيات يقعد على كل بنية عشرة كلَّما أكل عشرة جاء عشرة اخرى يلقى لكلّ نفس منهم مدّ من رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم الشيخ والعجوز والصبي

٥٢٠