أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

المثل الخمسون والحادي والخمسون :

اليهود

الآيات ١٤ ـ ١٧ من سورة الحشر تشتمل على مثلين ، يقول الله فيها :

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا في قُرىً مُحَصَّنَةٍ أوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأسُهُم بَيْنهُمْ شَديِدٌ تَحْسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بأَنَّهُمْ قَومٌ لَّايَعْقِلُونَ* كَمَثَلِ الذِينَ من قَبْلِهِم قَرِيباً ذاقُوا وَبَالَ أمْرِهِم وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ* كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذْ قَالَ للإنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كفَرَ قالَ إنّي بَرىءٌ مِنكَ إِنّي أخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ* فَكَانَ عَاقِبَتَهُما أَنَّهُمَا في النَّارِ خَالِدَينِ فِيها وَذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ)

تصوير البحث

الآيات الأربع تضمُّ مثلين جميلين عن طائفة من اليهود تدعى بني النضير قصدت الحرب مع المسلمين بإيعاز من المنافقين ، وهذه الآيات حذّرت هذه الطائفة من الحرب ومن عواقبها لكلٍّ من المنافقين واليهود ، وضربت مثلين يأتي شرحهما.

تاريخ اليهود في المدينة

لاتضاح الآيات الأربع علينا إلقاء نظرة على تاريخ اليهود في المدينة.

كان في المدينة يعيش ثلاث طوائف من اليهود ، هي : بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة ، كانوا قد صنعوا لانفسهم قلاعاً مستحكمة ، وكانوا يعملون في المجالات التجارية ، وكانت أوضاعهم المالية جيدة.

٤٦١

كان اليهود قد قدموا من شبه الجزيرة العربية إلى المدينة ؛ محاولة منهم للقاء الرسول الموعود ؛ باعتبار أنَّهم كانوا قد سمعوا من علمائهم أن الرسول سيظهر في الحجاز. كانوا يعيشون انتظار رؤية جمال الرسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة ، كما كانوا يبشرون أهل المدينة بظهوره وظهور دين جديد.

عند ما ظهر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاء بدين جديد أضاء بنوره ظلمات الحجاز وجد متعصّبو اليهود هذا الدين متضارباً مع مصالحهم وأهوائهم الشيطانية فهموا بالمخالفة.

اعاذنا الله من هوى النفس ، ما ذا يعمل؟ مجموعة تهاجر من وطنها لتسكن موطن الرسول الموعود ، حبّاً به وانتظاراً لرؤيته ، وعند ما تنقضي لحظات الانتظار الصعبة ويرونه أمامهم لا أنَّهم لا يستقبلونه ولا يرحّبون به فحسب بل يخططون لقتله ويتّحدون مع أعدائه ويتآمرون للقضاء عليه.

انتصر الاسلام في هذه المواجهة وفتح القلاع الثلاث ودمَّر اليهود وتركهم بين قتيل وبين مغادر المدينة بذلٍّ وصغار.

شأن نزول الآيات

بعد ما تلاشت طائفة بني قينقاع إثر المواجهة التي حصلت بينها وبين المسلمين ، همَّ المنافقون للإيعاز إلى طائفة بني النضير لمواجهة المسلمين ولشنِّ حرب ضدهم ، وقالوا لهم : لنتعاون معاً لطرد الاسلام واجتثاثه من الجذور ما دام غير مستحكم ولم يشكل حكومة في المدينة بعد.

الآيات المزبورة تحذّر اليهود من التعاون مع المنافقين ومن الوقوع في مستنقع الشقاء بسببهم ، والمنافقون سوف لا ينفعونكم شيئاً ، وأنتم لوحدكم غير قادرين على المقاومة أمام المسلمين ، ومصيركم هو نفس المصير الذي ابتلى به بني قينقاع ، وعاقبة كلا الطائفتين واحدة ، ثم يضرب لهم مثلين.

الشرح والتفسير

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إلَّافِي قُرَىً مُحَصَّنةً أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)

٤٦٢

أيها المسلمون ، لا تخافوا هؤلاء اليهود ، فهم لا يتجرّؤون مواجهتكم ، وإذا أرادوا مواجهتكم فمن خلف قلاع محصّنة وجدران ، وهذا يكشف عن قدرتكم وقوتكم وعن ضعفهم وعجزهم.

(بَأسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى)

شديدو البأس فيما بينهم إذا تقاتلوا ، ممَّا يجعلكم تتصوّرون أنَّهم متحدون وأقوياء ، مع أنَّهم متشتتين ، واتحادهم ظاهري ، وبذور التفرقة مزروعة في قلوبهم.

هذا هو حال اليهود في العصر الحاضر ، فهم أقوياء ومتحدون عند القتال في الظاهر ، لكنهم عاجزون لا خيار لهم أمام مسلمي حزب الله (١) ، وأن بذور الفرقة مزروعة في قلوبهم ، فهم ماديون ومن عبدة الدنيا ، ويميلون حيثما مالت مصالحهم وينفصلون ويتفرّقون أينما اقتضت تلك المصالح.

(ذلِكَ بأنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)

سبب اختلافهم وفرقتهم هو جهلهم وعدم كونهم من ذوي العقول والفكر ، فالعقل سبب للاتحاد ، والجهل سبب للاختلاف والفرقة.

إذن ، ما على المسلمين أن يرهبوا اليهود.

وبعد بيان ما عليه اليهود من الفرقة والاختلاف شرع في بيان مثلين لهم.

المثل الاول : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبَالَ أمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ)

مثل بني النضير كمثل الذين سبقوهم ممَّن دفعوا ثمن أعمالهم وكفارتها ، وهم حالياً يعيشون في عذاب أليم.

وبهذا مثَّل الله بني النضير بالأقوام الذين سبقوهم من حيث دفعهم كفارة سوء أعمالهم.

احتمل المفسرون احتمالين في المراد من القوم المذكور في الآية :

الاول : المراد هو مشركو مكة الذين دفعوا ثمن أعمالهم أو كفارتها في حرب بدر. المنافقون أوعزوا لمشركي مكة لخوض حرب بدر ، وبعد ما نشبت خسروها ورجعوا أذلاء ، واليهود

__________________

(١) وقد لاحظنا كيف أرغم جهاد رجال حزب الله وايمانهم الجيش الاسرائيلي على الانسحاب من جنوب لبنان بذلٍ.

٤٦٣

سيبتلون بنفس المصير الذي ابتلى به هؤلاء.

الثاني : المراد هو يهود بني قينقاع ، الذين تأثروا بإيعازات المنافقين واغواءاتهم وخاضوا حرباً مع المسلمين وخسروها وارغموا على ترك المدينة. فيا يهود بني النضير ، إن مصيراً كمصير بني قينقاع في انتظاركم.

المثل الثاني : (كَمَثَلِ الشَّيطانِ إذْ قَالَ للإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي أخافُ اللهَ ربّ العَالَمِينَ)

كان المثل الاول مضروباً في حق اليهود الذين حاربوا المسلمين بإيعاز من المنافقين ، أمَّا المثل الثاني فيخصُّ المنافقين ، وبعبارة اخرى : كان المثل الاول يخصُّ مَن اثيروا تحرَّضوا ، وهذا المثل لمَن أثاروا وحرّضوا.

يقول الله في هذا المثل : المنافقون الذين أثاروا اليهود وأوعزوا لهم لحرب المسلمين مثل الشيطان الذي يثير الانسان ويوعز له لأن يكفر بالله ، ويتركه هارباً بمجرّد أن لا يرى الموقف لصالحه.

قد يتجلّى الشيطان بشكل انسان ليخدع وليمرر حيله (١) ، نشير إلى نماذج من هذا القبيل :

الف : تمثَّل الشيطان بشكل انسان في معركة بدر ، يدعو المشركين للحرب ويحرّضهم للهجوم على المسلمين ، وسحب نفسه عند ما مالت كفّه الميزان لصالح المسلمين ، وأنزل الله عندها ملائكة لنصرتهم ، وعند ما سئل عن سبب الانسحاب رغم أنَّه كان يحرّض على القتال ، قال : إنّي أرى ما لا ترون (٢).

باء : عند ما عقد زعماء قريش جلسة لدراسة قضية كيفية مواجهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تمثَّل لهم كشيخ عجوز من أهالي نجد ، اقترح عليهم أن يُنتخب من كل قبيلة فتى ، يجتمعون ويهاجمون بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقتلونه ، لكي يتوزَّع دمه على جميع القبائل ، وتعجز قريش عن الانتقام من

__________________

(١) بحث العلامة المجلسي الموضوع بالتفصيل ، راجع بحار الأنوار ٦٠ : ٢٨٣ فما بعدها أو ٦٣ : ١٣١ على طبعة مؤسسة الوفاء.

(٢) تاريخ الأنبياء : ٦١٧ ، البحار ٦٣ : ٢٣٣.

٤٦٤

جميع العرب ، ووافقوا على هذه الخطة (١).

جيم : في قضية بيعة أبي بكر بعد وفاة الرسول يُقال : تمثَّل الشيطان للمسلمين كشيخ عجوز في المسجد ، وكان أول من أقدم على بيعة أبي بكر (٢).

على كل حال ، يقول الله للمنافقين مثلكم كمثل الشيطان الذي يوعز للانسان بالكفر ويحرّضه عليه ، ثم يلوذ بالفرار من الساحة عند ما يشعر بالخطر ، ويقول : إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين.

هذا الكلام يصدر من الشيطان عند ما يرى نفسه على حافة العذاب ، فيتوب ، لكن لا فائدة في التوبة عند نزول البلاء والعذاب ، كما أن التوبة غير مقبولة على عتبة الموت حيث تنجلي ستار الغفلة ، وحيث يتورّط الطرفان ، الشيطان الذي حرّض وأثار والانسان الذي تأثّر وتحرَّض ، وكذا المنافقون الذي أثاروا اليهود وحرَّضوهم واليهود الذين أُثيروا وتحرّضوا ، وعاقبة الطرفين هي جهنَّم وبئس المصير.

المثلان ضربا في اليهود والمنافقين في صدر الاسلام ، لكن هل يختصان بعهد الرسول؟

الإنصاف في القول بأن المثلين جاريان في جميع العهود والأزمان والأماكن ، وشاملان لكلِّ من همَّ بقتال المسلمين بتحريض من المنافقين ، الذين يرفعون يد العون والإثارة عند ما يرون الورطة بأعينهم ، بل أحياناً يهمّون بالدفاع عمَّن حرَّضوا الآخرين ضده ؛ وذلك لانعدام مفاهيم من قبيل العهد والوفاء في قواميس المنافقين والشياطين.

خطابات الآية

١ ـ أعداء الاسلام ضعفاء

وفقاً لما جاء في الآية ، أعداء الاسلام ليسوا كما نتصوّر ، فهم غير متّحدين ولا أقوياء،

__________________

(١) البحار ١٩ : ٤٦.

(٢) راجع تفصيل القصة على لسان الامام علي عليه‌السلام في الكتاب القيم : أسرار آل محمد : ٢١٩ فما بعدها ، وكذا كتاب سليم : ١٤٥ ، تحقيق محمد باقر الأنصاري الزنجاني ، كما أن هناك نماذج اخرى لا نتحال الشيطان شخصيات انسانية ، راجع البحار ٦٣ : ١٣١ فما بعدها على طبعة مؤسسة الوفاء.

٤٦٥

ويقاتلون حتى حلفاءهم إذا ما تعرّضت مصالحهم للخطر ، فقلوبهم متفرِّقة ، وأفضل دليل على تفرّقهم هو عدم الاشتراك في المصالح ، فلكلٍّ مصالح تخصّه.

٢ ـ الجهل سبب الاختلاف

جاء في ذيل الآية كون الجهل هو سبب التفرقة والاختلاف بين المشركين والكفّار ، إذ يقول الله : (ذلِكَ بأنَّهُمْ قَوْمٌ لَايعقِلُون) ، وهذا يعني أن الوحدة والاتّحاد يكشف عن النباهة والعقل والدراية.

المجتمع الواعي هو الذي يهتم بالمصالح العامة لكل المجتمع ، وسلامة الفرد بسلامة المجتمع ككل.

هل أدركنا هذا الخطاب المهم الذي أوحاه الوحي وقال به العقل؟ وهل نحن مستعدون للتخلّي عن اختلافاتنا وميولنا الحزبية نزولاً عند طلب العقل والشرع؟ كم من الطاقات والقوى تُهدر في النزاعات الداخلية والحزبية؟ من المفروض أن تُصرف هذه الاموال والطاقات الفكرية والثقافية في طريق عمران البلاد والدين ، فلما ذا تستهلك في نزاعات داخلية تافهة؟

نعم ، الاتحاد علامة العقل ، والاختلاف علامة الجهل.

٣ ـ الوثوق بالمنافقين خطأ

عرفنا من آيات المثل أنَّه لا يمكن الوثوق بالمنافقين الداخليين ولا الأجانب ، ولا ينبغي لأنصار النظام الاسلامي وأتباع المدرسة القرآنية أن ينخدعوا بحيل المنافقين أو يتعاونوا معهم أو يثقوا بهم ، فإنَّهم يلوذون بالفرار ويتركون الآخرين لوحدهم بمجرَّد إحساسهم بالخطر ، بل يتعاونون مع الأعداء إذا وجدوهم أقوى.

كان المنافقون ولا يزالون يشكّلون خطراً جدياً على الاسلام والمسلمين ، وسيبقون كذلك ، وما علينا إلَّا الحذر منهم.

٤٦٦

٤ ـ تاريخ المتقدِّمين يضيء الطريق للمتأخرين

إذا أردتم اختيار الطريق الصحيح لحياتكم فعليكم دراسة التاريخ ومطالعة سيرة المتقدِّمين ، لكي تستفيدوا من تجاربهم وتعتبروا من عبرهم ، فانَّ التاريخ يكرّر نفسه.

يقول الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنَّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين». (١) وهذا هو المراد من تكرُّر التاريخ.

ينبغي النظر في تاريخ المتقدِّمين وسيرتهم ، ومن خلال استيعاب ومعرفة عوامل انتصارهم أو خسارتهم يمكننا أن نخطو نحو المستقبل بثقة وبنحو أفضل.

٥ ـ خُطى الشيطان والمنافقين واحدة

النتيجة المستفادة من تشبيه المنافقين بالشيطان هي أن نهج الشيطان والمنافقين واحد ، وانهم يخطون في نفس النهج ، كما أن اليهود والمشركين من هذا القبيل ، ولهذا شُبِّه اليهود بالمشركين.

الاختلاف الوحيد بين الشيطان والمنافقين هو أن الاوائل شياطين الجن والآخرين شياطين الإنس ، أمَّا مناهجهم وخططهم فواحدة ، وينبغي الحذر من كليهما.

إلهي! نعوذ بك من شر الشيطان ونسألك أن تحيمنا منه.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

٤٦٧
٤٦٨

المثل الثاني والخمسون :

جاذبية القرآن المتميّزة

يقول الله تعالى في الآية ٢١ من سورة الحشر :

(لَوْ أنْزَلنَا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرونَ)

تصوير البحث

هذا المثل يتعلَّق بالجاذبية الخارقة للطبيعة التي يتمتّع بها القرآن ، وقد شبَّه الله تعالى قدرة النفوذ المعنوي لكلامه في الانسان بخضوع وخشوع الجبال أمام القرآن ، بحيث لو نزِّل هذا القرآن على الجبال لخشعت وخضعت له ؛ خوفاً من الله ورهبة منه. ثمّ يعتبر التعقّل والتفكر في آيات الله هو الهدف من أمثال القرآن.

جاذبية القرآن العجيبة

سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تكشف عن أن المشركين كانوا يخافون من جاذبية القرآن القوية. وقد بيَّن القرآن خوفهم هذا في الآية ٢٦ من سورة فصّلت كالتالي :

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنَ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)

نعم ، كانت جاذبية القرآن كبيرة جداً وكان خوفهم بدرجة حيث كانوا يوجدون ضوضاءً عند تلاوته من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكي لا تصل كلماته إلى أسماع الناس ، وغاية ما كانوا

٤٦٩

يفعلونه في هذا المجال أنَّهم كانوا يوصون من يدخل المسجد الحرام بوضع قطنة في اذنه لكي لا يسمع شيئاً من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويُسحر به (١).

ومن المؤسف أن هذا المنهج بأساليبه المتقدِّمة متَّبع حالياً ، سعياً للحؤول دون بلوغ صوت الحق أسماع الناس.

بعض التُّهم التي ألصقها المشركون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تكشف عن هذا المعنى ، منها : تهمة السحر التي أشارت إليها الآية الثانية من سورة يونس :

(قَالَ الكَافِرُونَ إنَّ هذَا لسَاحِرٌ مُبينٌ)

الشرح والتفسير

(لَوْ أنْزَلْنَا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)

نعم ، لو أن هذا القرآن كان قد نزل على الجبال لتلاشت ، لكن الانسان الغافل يسمعه يُتلى على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة وعشرين عاماً ، وقلبه لا يتأثر به ، وكأنَّه أقسى من الحجر.

وردت نظريتان في تفسير الآية الشريفة :

الاولى : لو كان للجبال عقل وإحساس وقابلية للاستيعاب والفهم وأنزلنا عليها هذا القرآن لخشعت ، أي أنَّ الآية قضية شرطية لتنبيه الانسان ، وأنَّ المفروض بالانسان أن يخشع قلبه للقرآن إذا كان له عقل ، لكنَّه لا يخشع للقرآن ولا يخضع له لماذا (٢)؟

الثانية : الآية ليست قضية شرطية بل حقيقة ؛ لأن لجميع الموجودات إدراكاً وإحساساً يناسبه (٣). وهذا المعنى انعكس في آيات عديدة ، منها : الآية الاولى من سورة التغابن ، إذ جاء هناك :

(يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)

__________________

(١) في هذا المجال وردت قصص كثيرة وجميلة مرَّ ذكر بعضها في الأمثال المتقدِّمة.

(٢) انظر مجمع البيان ٩ : ٢٦٦.

(٣) انظر مجمع البيان ٩ : ٢٦٦.

٤٧٠

ولو لم يكن للموجودات عقل وإدراك متناسب معها لما كان هناك معنى لتسبيحها ، بل هي تدرك فتسبح وتقدّس وتحمد وتثني ، لكنا لا ندرك تسبيحها وتقديسها وذكرها ، أمَّا الذي يتمتّع بحالة شهود عالم الباطن فيسمع تسبيح الموجودات ويفهمها.

الآية تندرج في أمثال القرآن طبقاً للتفسير الاول ، لكنها تخرج عن موضوع بحثنا طبقاً للتفسير الثاني.

الآية ٣١ من سورة الرعد التي وردت في تأثير القرآن شاهد على التفسير الاول ، وقد جاء فيها ما يلي :

(وَلَوْ أنَّ قُرآناً سُيِّرت بِهِ الجبالُ أوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَل للهِ الأمْرُ جَمِيعاً)

في شأن نزول هذه الآية يرى بعض الفطاحل أنَّها نزلت جواباً على بعض مشركي مكة حيث جلسوا خلف الكعبة واستدعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقدم إليهم أملاً في هدايتهم.

قال له المشركون : إذا أردت أن نتّبعك فعليك إبعاد جبال مكة ، لكي تتسع من خلال ذلك أراضينا ، وعليك كذلك تفجير الأرض وجعل ينابيع وأنهاراً فيها ، فنغرس أشجاراً ونزرع ، فإنك ـ كما تزعم ـ لست أدنى من داود الذي سخّر الله له الجبال وكانت تسبّح معه (١) ، أو سخِّر لنا الريح تنقلنا إلى الشام نحلُّ مشاكلنا ونؤمّن حاجياتنا ونرجع في ذات اليوم ، كما سخَّره الله لسليمان ، وأنت ـ كما تزعم ـ لست أقل من سليمان ، كما عليك إحياء جدّك قصي (من أجداد قريش) أو أيّ شخص آخر من الموتى ، لكي نسأله عمَّا تدعو له من أنَّه حق أو باطل ؛ لأن عيسى عليه‌السلام كان يحيي الموتى ، وأنت ـ كما تزعم ـ لست أدنى شأناً من عيسى.

عندها نزلت هذه الآية قائلة لهم : ما تقولونه صدر عن عناد ولجاجة لا سعياً للايمان بالرسول ، ويكفي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لديه من معاجز (٢).

__________________

(١) كما ورد ذلك في الآية ٧٩ من سورة الأنبياء : «وسَخَّرنا مع داودَ الجِبالَ يُسَبّحنَ والطَّيْرَ وكُنَّا فَاعِلينَ» ، كما جاء ذلك في الآية ١٨ و ١٩ من سورة (ص).

(٢) انظر الأمثل ٧ : ٣٦٤.

٤٧١

خطاب الآية

هيبة القرآن وعظمته

هذه الآية تحكي هيبة القرآن وعظمته ، وهي بدرجة تجعل الجبال متصدّعة ، ومع هذا كيف هو حال الذين يُقرأ عليهم هذا القرآن متواصلاً دون أن يؤثر فيهم أدنى تأثير ، إن قلوب هؤلاء أكثر قساوة من الحجر.

إلهي ، زدنا علماً بالقرآن ، واجعل كل آية منه سبباً لزيادة ايماننا.

٤٧٢

المثل الثالث والخمسون :

علماء بلا عمل

الآية الخامسة من سورة الجمعة تشكّل مثلاً آخر من أمثال القرآن الجميلة ، يقول الله تعالى فيها :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلوا التّورَاة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتِ اللهِ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)

تصوير البحث

الآية تحدَّثت عن اليهود الذين لم يؤمنوا برسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله رغم أن التوراة بشَّرت بها ، لكنهم تجاهلوا البشارة ، وبتعبير أدق : الآية تضرب مثلاً للعلماء غير العاملين بعلمهم وتشبّههم بالحمار الذي حُمّل كتباً لكن لا يمكنه أن يستفيد منها.

شأن النزول

عند ما نزلت الآية الثانية من سورة الجمعة التي قالت بأن الله بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في مجتمع امّي ، قال متعصبو اليهود : عدم إيماننا بالاسلام بسبب أن الاسلام دين غير شمولي ويخصُّ المجتمع الامي المذكور في الآية ، التي هي بمثابة الاعتراف بعدم شمولية الاسلام (١).

__________________

(١) انظر الأمثل ١٨ : ٢٩٩.

٤٧٣

غالباً ما يبحث اللجوجون والمغرورون عن الذرائع ، واليهود اللجوجون غير خارجين عن هذه القاعدة ، والآية جواب لما تشبّث به هؤلاء من ذريعة.

الشرح والتفسير

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلوا التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَاراً)

وهب الله تعالى نعمة إلهية كبرى لليهود ، وهي كتاب التوراة السماوي ، لكنَّهم لم يؤدوا حق هذا الكتاب ، وكأنهم لم يُوهبوا هذه الموهبة الكبرى ، ومثل هؤلاء كمثل الحمار الذي يحمّلوه كتباً لا يفيد من مضمونها ومحتواها.

التوراة بشَّرت بالرسول وذكرت علائم ومواصفات الرسول بنحو دقيق ، بحيث أصبحت معرفتهم الرسول كمعرفتهم أولادهم ، رغم ذلك أنكروا الرسول أو تنكروه ، لماذا؟ (١) ألم يهاجروا من بلدانهم الأصلية إلى الحجاز شوقاً لرؤية خاتم الرسل؟ إذن ، لماذا أدبروا عن بشارات التوراة ولم يؤمنوا بالرسول وبدينه ، بل حاربوه؟

مثل هؤلاء الذين لا يعملون بعلمهم كمثل الحمار الذي لا يفيد من مضامين الكتب التي يحملها.

(بِئسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتِ اللهِ)

كيف لا يُشبَّه هؤلاء اليهود العنودون بالحمار مع أنهم أنكروا آيات الله تعالى لا في العمل فحسب بل أنكروها بألسنتهم كذلك؟ وهذا الموقف الذي صدر من اليهود لم يختص بيهود صدر الاسلام ، بل اليهود ـ طبقاً لما ورد في الآية ٨٧ من سورة البقرة ـ استكبروا أمام كل رسول جاءهم بما يخالف أهواءهم النفسية ، فقتلوا بعضاً من الرسل وكذَّبوا بعضاً آخر ، وهذه سيرتهم على طول التاريخ.

(واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)

رغم أن ذات الله هي منبع الهداية ومصدرها إلَّا أن قابلية الانسان شرط في ذلك ، والله لا

__________________

(١) كما هو مضمون ما ورد في البقرة : ١٤٦ ، الأنعام : ٢٠.

٤٧٤

يهدي إلَّا من توفّرت فيه هذه الأرضية ، وهدايته لا تشمل من اتَّخذ العناد واللجاجة كمنهج له وظلم نفسه.

خطابات الآية

١ ـ المثل عام

معنى العبارة : (حُمِّلوا ... ثُمَّ لَمْ يَحْمِلوا) هو أن الله منح اليهود نعمة كبرى دون أن يريدوها ، والنعمة هي التوراة ، لكنَّهم لم يفيدوا منها. وهذا أمر لا يختص باليهود ، بل تشمل كل انسان وكل نعمة منحها الله للانسان ولم يفد منها شيئاً.

العقل من النعم التي لا بديل لها وقد منحها الله الانسان دون إرادة منه ، لكن كثيراً من الناس لم يستفد من هذه النعمة بنحوٍ صحيح ومناسب.

السلامة نعمة كبرى مجهولة (١) ، منحها الله للانسان دون إرادة واختيار منه ، لكن يا تُرى هل نفيد منها بنحو صحيح ومناسب ، أم أنها من مصاديق (حُمِّلوا ... لَمْ يَحْمِلوا؟)

يا ترى هل استفدنا من المعارف الدينية والقرآن وسنة الرسول والائمة وأقوال العلماء والمراجع ، التي هي نِعَم كثيرة منحها الله إيَّانا دون إرادة منا ، لغرض هداية أنفسنا والمجتمع؟

٢ ـ لماذا الحمار؟

الحيوانات التي تستخدم للحمل كثيرة ، لكن لماذا الله مثَّل العلماء غير العاملين واليهود المتعصّبين بالحمار دون غيره من الحيوانات؟

الجواب : يبدو أن ذلك لاشتهار الحمار بالحماقة والجهل ، ولهذا يُضرب به المثل في حق الأحمق من الناس. ويكفي في حماقة هذا الحيوان أنَّه لو امر بالعبور من طريق وعر ومفعم بالأخطار عشر مرَّات لفعل ذلك دون أن يحاول تغييره.

__________________

(١) كما ورد ذلك في رواية للامام الرضا عليه‌السلام حيث قال : «الصحة والأمان نعمتان مجهولتان لا يعرفهما إلَّا مَن فقدهما» ، مسند الرضا : ١٢٠.

٤٧٥

لأجل أن يبيّن الله حماقة اليهود ولجاجتهم وكذا العلماء غير العاملين شبَّههم بالحمار الذي لا يفيد من الكتب التي يحملها على ظهره ، ولا يعرف عنها غير إحساسه بالثقل والتعب. وهل يمكن تصوّر حماقة أكثر من حماقة الشخص الذي يحمل علوماً دون أن يفيد منها طول عمره؟

٣ ـ سبب التعبير بالأسفار لا الكتب

الأسفار من مادة سِفر ، ويعني الكشف عن شيء ، ويُطلق على النساء غير المحجبات سافرات ؛ باعتبار كشفهنَّ عمَّا يجب ستره ، كما استخدمت هذه المادة في السفر (أي التنقل من مكان إلى آخر) ؛ باعتبار أن الانسان يكشف عن نفسه في السفر عكس ما كان عليه في الحضر حيث يكون مستوراً في محلته وبيته وبنايته التي يعيش فيها أو في السيارة التي يتنقل بها أو في دائرته أو معمله الذي يعمل فيه.

كما يُطلق على الكتاب سفر ؛ بإعتبار كشفه عن الحقائق والواقعيات والمعارف الانسانية.

الكتاب السماوي سبب لهداية الانسان نحو الحقيقة ويكشف له عن الواقع ، لكن الكثير من البشر لا نصيب له من هذا الكتاب إلَّا عناء حمله ونقله دون أن يفيد منه شيئاً.

٤ ـ الهداية تستدعي قابلية

كما تقدَّم ، فإنَّ الأنوار الإلهية تقدم من الله ، أمَّا القابليات فنحن نوجدها. لا خلاف في طبع الغيث اللطيف ، لكنه لا يُنبت الزهور أينما هطل ، بل الأمر يتوقّف على نوعية الأرض ، فاذا كانت سبخة فلا تنبت الإَّ الأعلاف ، وتنبت الزهور قطعاً إذا كانت خصبة.

لأجل ذلك قد يهتدي الانسان ويبلغ قلّة الكمال إثر سماعه كلمه صدرت من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أكثر من ألف سنة ، فإن انساناً من هذا القبيل يحمل قابلية الهداية. لكن أشخاصاً من قبيل أبي سفيان وأبي جهل قضوا عمراً إلى جنب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمعوا منه مباشرة آيات كثيرة وبلغتهم مواعظه العديدة ، ولم يخطوا ادنى خطوة باتجاه الانسانية ، بل كانوا يبتعدون عن الانسانية شيئاً فشيئاً ليصبحوا كالأنعام بل أضل سبيلاً (١) ؛ وذلك لأجل انعدام القابلية فيهم.

__________________

(١) كما هو مضمون ما ورد في الفرقان : ٤٤.

٤٧٦

٥ ـ الآية شاملة لكلِّ عالم غير عامل

كما تقدَّم ، فإن الآية رغم نزولها في اليهود إلَّا أنها دون شك شاملة لكل عالم لم يعمل بعلمه.

يقول المفسر الكبير المرحوم العلامة الطبرسي في ذيل هذه الآية :

«قال ابن عباس : فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به ، وعلى هذا فمن تلا القرآن ولم يفهم معناه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقاً به وإن حفظه وهو طالب لمعناه فليس من أهل هذا المثل» (١).

إذن ، الآية تحذير للمسلمين جميعاً بأن لا يبتلوا بالمصير الذي ابتلى به اليهود ، وقد شملهم فضل الله بتنزيل القرآن عليهم ، على أن لا يترك على الرفوف يتراكم عليه الغبار أو يعلّق على الجدران لدفع العيون أو ليُهدى للعرائس أو ليُقرأ في مجالس الفاتحة فقط ، أو لتجويد آياته وتلاوتها بصوت حسن وحفظه على أقصى تقدير دون أن تنعكس تعاليمه في سلوكنا الفردي والاجتماعي ، ودون أن نجد له أثراً على عقائدنا وأعمالنا.

العلماء غير العاملين في الروايات

للعلم والعالم قيمة عالية في الثقافة الاسلامية ، حيث وصفت الروايات العلم بما يلي : رأس الفضائل ، ووراثة كريمة ، وأفضل غنية ، ومصباح العقل ، ونعم دليل ، وأفضل هداية ، وجمال لا يحظى ، وأفضل الأنيسين ، وأفضل شرف ، وأشرف الأحساب (٢).

كما وصفت العالم بما يلي : العلماء ورثة الأنبياء ، ومصابيح الأرض ، وخلفاء الأنبياء (٣).

ومن الواضح أن هذه الفضائل والقيم خاصة بالعلم الذي يُجسّد في الخارج ويُترجم إلى واقع وللعالم الذي يعمل بعلمه ، وإلَّا فالعلم الذي يخلو من العمل لا أنه لا يسبب الهداية ولا يضييء الدرب للآخرين بل لا يهدي حامله كذلك.

ورد في رواية يقشعر لها البدن عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٢٨٥.

(٢) انظر ميزان الحكمة ، الباب ٢٨٣٠.

(٣) انظر ميزان الحكمة ، الباب ٢٨٣٨.

٤٧٧

«مَن ازداد علماً ولم يزدد هدىً لم يزدد من الله إلَّا بُعداً» (١).

ممَّا يبعث إلى التأمُّل في هذه الرواية هو أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل من لم يزدد هدى بعلمه لم يقترب إلى الله بل قال : يزداد من الله بُعداً ؛ وذلك لأن عذر الانسان مقبول عند الله ما دام جاهلاً ، لكنه عند ما يزداد علماً فلا يقبل الله له عذراً ، ولهذا يتراجع ويتخلَّف أكثر من ذي قبل.

النتيجة : ينبغي السعي لكسب العلم وينبغي تحمّل جميع المتاعب التي تواجهنا في هذا الطريق ، كما ينبغي العمل بالعلم وجعل هذا العلم وسيلة لهداية أنفسنا وهداية الآخرين ، لكي لا تصدق علينا الرواية والآية السالفتان.

__________________

(١) المحجة البيضاء ١ : ١٢٦.

٤٧٨

المثل الرابع والخمسون :

من خصائص المنافقين

جاء في الآية الرابعة من سورة المنافقون :

(وإذا رأيتَهُمْ تُعجِبُكَ أجسَامُهُمْ وإنْ يَقولُوا تَسْمَعْ لِقَولِهِمْ كَأنَّهُم خُشُبٌ مُسنَّدةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيحةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أنَّى يُؤفَكُونَ)

تصوير البحث

بما أنَّ المنافقين أخطر أعداء الاسلام كان من المفروض التعريف بهم والكشف عن واقعهم ، من هنا وردت أوصافهم في آيات مختلفة ، منها الآية المزبورة ، التي أشارت إلى ثلاثٍ من خصائصهم ، التي تكشف عن واقعهم وزيف ظاهرهم للجميع.

أوصاف المنافقين

من الضروري التعرّف على أوصاف المنافقين ذوي الوجهين ، لغرض مواجهتهم ، ومن هذا المنطلق بتّ الله بالتشهير بهم وتعريفهم في كثير من الآيات. وفي سورة المنافقون أشار إلى عشرة من أوصافهم (١) ، ثلاثة منها في آية المثل.

__________________

(١) الأوصاف هي : ١ ـ الكذب الصريح «والله يشهد انَّ المنافقين لكاذبون». ٢ ـ اليمين الكاذب لتضليل الناس «اتّخذوا أيمانهم جنَّة». ٣ ـ عدم إدراك الواقعيات بسبب تركهم دين الحق «لا يفقهون». ٤ ـ ذوي ظاهر حسن

٤٧٩

ونحن نبت بدراسة هذه الأوصاف الثلاثة ، أملاً بالتعرُّف على المنافقين من خلال هذه العلائم الثلاثة ، كما يتعرَّف الطبيب الخبير على المرض المزمن والخطر من خلال علائمه.

الشرح والتفسير

١ ـ (وإذا رأيْتَهُمْ تُعجِبُكَ أجسامُهُمْ)

صفة المنافقين الاولى هي أن لهم ظاهراً جذّاباً وخادعاً ، أمَّا باطنهم فضعيف ، ولا يتمتَّعون بشخصية ثابتة ، ولهذا يهتمّون بظاهرهم كثيراً ، فيبدون بظاهر قوي وجميل ومنتظم ، لكن حقيقتهم شيء آخر.

أيها النبي ، إذا نظرت لهم فلا يعجبك ظاهرهم ولا يخدعك ، وهم عكس المؤمنين ذوي الظاهر البسيط وشخصيات ثابتة وواقعية.

روى بعض المفسرين في صفة رئيس المنافقين (عبد الله بن ابي) : «كان عبد الله بن ابي رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم» (١).

٢ ـ (وإن يَقولوا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِمْ كَأنَّهم خُشُبٌ مسندة)

الصفة الثانية للمنافقين هي كونهم يشبهون الاخشاب التي تستند أحدها على الاخرى. (الخُشب) جمع (خَشَب) ، و (مسنَّدة) تعني اليابسة التي لا تعتمد على نفسها بل تحتاج لشيءٍ آخر تعتمد عليه (٢).

__________________

ولسان ذلق ومتملّق رغم الفراغ الباطني «وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم». ٥ ـ عدم الخضوع للحق والصلابة الظاهرية «كأنَّهم خشب مسنّدة». ٦ ـ سوء الظن والخوف من كل شيء باعتبار خيانتهم «يحسبون كل صيحة عليهم». ٧ ـ الاستهزاء بالحق «لووا رؤوسهم». ٨ ـ الفسق وارتكابهم الذنب «إنَّ الله لا يهدي القوم الفاسقين». ٩ ـ يعتبرون أنفسهم أغنياء ومالكين ، والناس بحاجة إليهم «هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا». ١٠ ـ يعتبرون أنفسهم أعزَّة والآخرين أذلّة «ليخرجنَّ الأعز منها الأذل». انظر الأمثل ١٨ : ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

(١) الكشاف ٤ : ٥٤٠ (نقلاً عن الأمثل ١٨ : ٣٢٨).

(٢) قد تموت شجرة وتجفّ مكانها وتستند إلى جذورها ، وقد تقتطع الشجرة فتجفّ ، وعندها تكون بحاجة إلى ما

٤٨٠