أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

فلمّا تقاطروا إلى البيت عند الصبح وقف لهم أمير المؤمنين عليه‌السلام زاعقاً بهم ، فسألوه : أين محمد؟ فأجاب : وهل أودعتموه عندي؟ لقد خرج ...» (١).

وبعد ما دار نقاش بين الإمام وأبي جهل ، قال الأخير : لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد ، وإلَّا فما منعه أن يبيت في موضعه وإن كان ربّه يمنع عنه كما يزعم؟

فقال علي عليه‌السلام : «ألي تقول هذا يا أبا جهل؟ بل الله قد أعطاني من العقل ما لو قسّم على جميع حمقاء الدنيا ومجانينها لصاروا به عقلاء ومن القوّة ما لو قسّم على جميع ضعفاء الدنيا لصاروا به أقوياء ، ومن الشجاعة ما لو قسّم على جميع جبناء الدنيا لصاروا به شجعاناً ...» (٢).

باء : فرَّ المسلمون في معركة احد عند ما واجهوا الخسارة ، لكن عليّاً بقي يدافع عن الرسول ويصدّ كل ضربة توجَّه إليه ، فكانت النتيجة ٩٠ جرحاً ، وبعد انتهاء المعركة بعث الرسول بطبيبين إلى علي ، لكنهم عجزوا عن معالجته ، وكلما خاطوا جرحاً انفتق جرح آخر لتقاربها.

ثم جاء علي إلى الرسول قائلاً له : استشهد في المعركة من استشهد من أبطال الاسلام لكن الشهادة حيزت عنّي وشق ذلك عليَّ.

فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أبشر فانَّ الشهادة من ورائك» (٣).

وعند ما ضربه عبد الرحمن بن ملجم تذكّر ما بشره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الشهادة والقتل في سبيل الله فصاح بصوت عالٍ : «فُزْتُ وربِّ الكعبة» (٤).

النتيجة أن علياً عليه‌السلام أثبت حبّه الوافر للرسول وتضحيته في هذا السبيل ، كما اتّضح أن الاسلام كأفضل دين وأكمله لم يصلنا ببساطة وسهولة لكي نفقده كذلك ، بل علينا الحفاظ والدفاع عنه بأثمن ما عندنا ونضحّي بالغالي والرخيص في هذا السبيل.

__________________

(١) منتهى الآمال ١ : ٨٠.

(٢) بحار الانوار ١٩ : ٨٣.

(٣) بحار الأنوار ٣٢ : ٢٤١ ، و ٤١ : ٧.

(٤) بحار الأنوار ٤١ : ٢.

٤٢١
٤٢٢

المثل الخامس والأربعون :

المسيح عيسى عليه‌السلام

الآيات ٥٧ إلى ٥٩ من سورة الزخرف تشكّل مثلنا الخامس والأربعين ، حيث جاء فيها :

(ولَّما ضُرِبَ ابنُ مَرْيَم مَثلاً إذا قَومُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ وَقَالُواءَالِهتُنَا خَيْرٌ أمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إنْ هُوَ إلَّاعَبْدٌ أنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَني إسْرائِيلَ)

تصوير البحث

لم يمثّل القرآن هنا كما فعل في أمثال القرآن الاخرى ، بل أشار إلى مثلٍ ضربه المشركون في حق عيسى عليه‌السلام.

وهناك اختلاف في اعتبار هذه الآية من أمثال القرآن ، فبعض أدرجها في الأمثال وبعض آخر رفض ذلك.

معنى (المثل) في استخدامات القرآن

لأجل اتّضاح المطلب المتقدّم علينا التعرّف على معنى أو معاني مفردة المثل الواردة في القرآن.

جاءت هذه المفردة بمعاني مختلفة ، هي كالتالي :

الاول : المعنى الذي هو موضع بحثنا في أمثال القرآن ، أي تشبيه معنى معقّد غير محسوس بمعنى محسوس وبسيط وواضح يسهل هضمه على الجميع ، كتشبيه ثواب الصدقة بحبة أنبتت

٤٢٣

سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة (١). وأمثال القرآن تبحث عن هذا الموضوع في الآيات حتى لو لم يرد فيها مفردة (مثل).

الثاني : ما يطلقه عوام الناس من تشبيهات للانبياء ، من قبيل ما ورد في الآية ٧٨ من سورة ياسين : (وَضَربَ لَنَا مَثَلاًونَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحيى العِظَامَ وَهيَ رَمِيمٌ)

وشأن نزول الآية هو شخص يُدعى (ابي بن خلف) أو (امية بن خلف) أو (العاص بن وائل) أو (عبد الله بن ابي) نهض للاحتجاج على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وابطال أدلّته على المعاد ، فأخذ بعظام ومن المحتمل أنَّه فتتها أمامه وقال له : من يحيى العظام بعد ما تفتتت؟ ومن يستطيع إرجاع الحياة لها؟ وأيُّ عقل يمكنه التصديق بعودة حياة هذه العظام؟

فأجابه الله جواباً حاسماً قائلاً : (قُلْ يُحييهَا الَّذي أَنْشَأهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

على أي حال ، وردت مفردة المثل هنا وتعني ما ضربه الناس من الأمثال لا ما ضربه الله نفسه ، وهي أمثلة خارجة عن موضوع بحثنا ؛ لأنَّ بحثنا يخصُّ الأمثلة التي ضربها الله نفسه لا الناس.

الثالث : الحوادث المرّة والمؤلمة التي يواجهها الانسان في طول حياته ، فقد اطلق عليها مثل في القرآن ، كما جاء ذلك في الآية ٢١٤ من سورة البقرة :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مسَّتْهُمُ البَاسَاءُ الضَرَّاءُ وَزُلْزِلوا حَتَّى يَقولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ألَا إنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)

فالمثل هنا فسِّر بما جرى على مَن تَقدَّم من الأقوام.

الرابع : بمعنى العبرة ، وهذا المعنى ورد في الآية ٥٥ و ٥٦ من سورة الزخرف :

(فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجْمَعِينَ فَجَعُلْنَاهُمْ سَلَفاً ومَثَلاً للآخَرِينَ)

المثل هنا بمعنى العبرة ، كما أنَّ آياتٍ من هذا القبيل خارجة عن موضوع بحثنا ، أي أمثال القرآن.

__________________

(١) ورد هذا المثل في الآية ٢٦١ من سورة البقرة ، وتقدم شرحه في المثل الخامس ، فراجع.

(٢) راجع التبيان في تفسير القرآن ٨ : ٤٧٨.

٤٢٤

الخامس : بمعنى النموذج والاسوة ، كما ورد ذلك في آية المثل الذي نحن فيه ، أي الآية ٥٩ من سورة الزخرف.

المعنى الأول للمثل هو المعنى الوحيد الذي يدخل في صلب موضوع بحثنا ، ويخرج منه المعاني الأربعة الباقية ، فهي خارجة عن كونها أمثالاً قرآنية ، رغم أن البعض ضمّها إلى أمثال القرآن ، وهو أمر مؤسف ؛ لأنهم جعلوا كل آية اشتملت على مفردة المثل في عداد أمثال القرآن ، وذلك خطأ.

هل آية هذا البحث مثل قرآني؟

لهذه الآية تفاسير مختلفة ومتباينة ، تندرج في عنوان أمثال القرآن وفق بعض التفاسير ، وتخرج عنها وفق تفاسير اخرَى ، نلفت انتباهكم إلى بعض هذه التفاسير :

التفسير الأول

وفقاً لما جاء في الآية ٩٨ من سورة الأنبياء فان الأصنام وعبدتها كلاهما في النار ، حيث ورد فيها : (إنَّكُم وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَهَا وارِدُون) ، أي أنهما يصبحان بمثابة الحطب لجهنَّم.

افتعل المشركون ضجيجاً بأن المسيح وفقاً لهذه الآية يدخل جهنم (نعوذ بالله) ؛ لأنه معبود لبعض المسيحيين ، وكذلك الملائكة (نعوذ بالله) ؛ لانها معبودات لبعض الناس ، وجادلوا في هذا الأمر وأخذوا يهزؤون بالرسول ويقولون : إذا كانت جهنَّم مأوى للملائكة ولعيسى فلا بدَّ وأن تكون مكاناً جيداً ، ونحن مستعدون للذهاب إليها من خلال عبادة الأصنام.

أجاب الله على هذه الضجَّة بقوله : عيسى عبد من عبادنا ، لم يدَّعِ الالوهية ، والمعبود الذي يدخل جهنَّم هو الذي يرضى بأن يُعبد ، أما المسيح لا أنه لم يرضَ على عبادة نفسه فحسب بل يكره ذلك ويتألَّم منه.

إذن ، ما كانت الضجّة التي افتعلها المشركون إلَّا جدلاً ومغالطة لا أكثر ، وهي بمثابة الفقاعة الجوفاء. وبهذا التفسير تخرج الآية عن كونها من أمثال القرآن.

٤٢٥

التفسير الثاني

شبَّه الله تعالى المسيح عليه‌السلام بآدم عليه‌السلام في الآية ٥٩ من سورة آل عمران ، إذ قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيْسى عِنْدَ اللهِ كَمثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُراب) ، أي أنَّه كما استطاع خلق آدم من تراب ، يمكنه كذلك أن يخلق عيسى من مريم (سلام الله عليها) دون زواج.

إذا اعتبرنا الآية ٥٧ من سورة الزخرف تشير إلى هذا المثل وأن ضجيج المشركين كان لأجل هذا الموضوع ، فان الآية عندئذٍ تندرج في أمثال القرآن ، لأنها تشير إلى مثلٍ طرحه الله تعالى ، وقد استخدم فيه تشبيهاً جميلاً.

التفسير الثالث

عند ما انطرح مثل عيسى بدأ المشركون بافتعال ضجَّة قالوا فيها : إن الرسول يريد دعوة الناس إلى عبادته ، ولأجل التمهيد لذلك طرح مثل عيسى عليه‌السلام باعتباره معبوداً للنصارى ، والقرآن ردّ على هذه الدعاوي بقوله : عيسى عبد من عبادنا ، ومن نعم الله على بني اسرائيل.

والآية مندرجة تحت أمثال القرآن وفقاً لهذا التفسير.

خطابات الآية

الضجيج من معالم الجاهلية

الجاهل انسان متعصّب ، والمتعصّب من أصحاب الضجيج لا من أصحاب المنطق.

للامام علي عليه‌السلام خطبة في (نهج البلاغة) تُدعى القاصعة ، أشار فيها إلى الضجيج كبلاء كبير تعاني منه المجتمعات البشرية في الماضي والحاضر ، والخطبة وحدها تكفي للكشف عن مقام الأمير الرفيع وعلمه وعظمته ومنطقه.

يقول أمير المؤمنين في جزء من الخطبة : «فالله الله في كِبْر الحمية وفخر الجاهلية ، فإنَّه ملاقح الشنآنِ ومنافخ الشيطان التي خدع بها الامم الماضية والقرون الخالية حتى أعتقوا في

٤٢٦

حنادس جهالته ومهاوي ضلالته» (١).

كلام الامام جميل جداً ، وكأنَّه بيان لآلآم المجتمع المعاصر ، وعلى متعصّبي مجتمعاتنا الحالية أن يدركوا خطاب الامام ويتخلّوا عن التعصّب الذي ليس في محلّه ويتركوا الضجيج ويسلّموا أنفسهم للحق والحقيقة.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢.

٤٢٧
٤٢٨

المثل السادس والأربعون :

الصحابة

آخر آية من سورة الفتح تشكّل المثل السادس والأربعين من أمثالنا ، يقول الله فيها :

(مُحَمَّدٌ رسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَغفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)

تصوير البحث

هذا المثل الجميل الذي يتكوّن من توصيف ورد في التوراة ومثل ورد في الإنجيل يتحدَّث عن أصحاب الرسول الحقيقيين ، وهو يحكي ـ من جانب ـ عمَّا كان يتّصف به الصحابة ، ومن جانب آخر يخبر عمَّا ينبغي عمله وما هي مواصفات من أراد أن يصير مسلماً حقيقياً وناصراً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته.

شأن نزول الآية

نزلت سورة الفتح بعد صلح الحديبية ، إذ طلب الرسول من المسلمين في السنة السادسة من الهجرة أن يستعدوا للحج والعمرة وزيارة بيت الله الحرام ، فأحرم الرسول بصحبة ألف

٤٢٩

واربعمائة من المسلمين في مسجد الشجرة ، وغادروه باتجاه مكة ، ولم يأخذوا معهم من المعدات الحربية غير السيف الذي كان يحمله كل مسافر لغرض الدفاع عن نفسه ، وبذلك وبارتداء المسلمين ثوبي الإحرام بدى بوضوح كونهم غير قاصدين الحرب ، وظاهرهم يكشف عن نواياهم الحقيقية كزائرين.

لأسباب خاصة تحرَّك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بصحبة المسلمين باتجاه الحديبية (١) ، وتوقّفوا هناك. قلق المشركون واضطربوا بسبب قدوم المسلمين ، وكان قلقهم ناشىء عن أن دخول المسلمين مكة واتيانهم بمناسك الحج بالنحو المتباين مع النحو الدارج يثير انتباه باقي الحجاج ويؤثر فيهم أو يميل قلوبهم نحو الاسلام فيسلمون. ولأجل ذلك قرروا منعهم من دخول مكة ، وبعثوا إلى المسلمين شخصاً يُدعى (عروة بن مسعود) وهو من علمائهم وأذكيائهم ، وبعد وصوله إلى المسلمين سأل الرسول عن سبب مجيئة إلى مكة ، فأجاب الرسول : جاء المسلمون للزيارة والعمرة المفردة ، ولهذا لم يأتوا معهم بعدّة حربية من الدروع والخناجر و... وبعد المفاوضات تقرَّر أن يبقى المسلمون في الحديبية حتى يخبر عروة زعماء قريش بنتيجة مفاوضاته مع المسلمين.

وفي هذه الأثناء شاهد عروة لقطة كانت مؤثرة في انعقاد صلح الحديبية ، لقد شاهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ والمسلمون يتسابقون على قطرات الوضوء التي تسقط من أعضائه ليتبرّكوا بها.

بعد ما رجع عروة إلى مكة عرض على زعماء قريش نتائج مفاوضاته وأوصاهم بعدم مواجهة المسلمين ؛ لأن المسلمين ذائبون في عشق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومستعدون لكل تضحية وعمل في سبيله ، وذكر لهم قصة وضوئه.

__________________

(١) تقع الحديبية غرب مكة ، بينها وبين جدة ، وتبعد عن مكة حالياً ستة عشر كيلو متراً ، وهي ميقات العمرة المفردة ، أي بالامكان الاحرام منها للعمرة المفردة ، وهي أقرب المواقيت بالنسبة إلى من قدم مكة من جدة ، لكنه ميقات يقع في الطريق القديم بين جدة ومكة ، وفي الطريق الجديد بنوا مسجداً بمحاذاته ، بالامكان الإحرام منه ، والحديبية بمثابة الحدود النهائية للحرم تقريباً ، والفاصل بينها وبين العلائم الموضوعة للحرم قليلة ، كما يعيش فيها عدَّة من السادة ، ومن المحتمل أن هذا هو سبب تسميتها وادي فاطمة.

٤٣٠

وبعد نقاش دار بينهم توصلوا إلى أن يبرموا صلحاً مع المسلمين بشرط أن لا يحجوا هذا العام.

قصد عروة وسهيل بن عمرو الحديبية لإبرام عقد الصلح مع المسلمين ، وبعد لقائهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واتفاقهما ، أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الامام علي عليه‌السلام بكتابة عقد الصلح.

أمر الرسول عليّاً بكتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) لكن سهيل اعترض زاعماً أنَّهم لو كانوا متفقين مع المسلمين في شعاراتهم لما تنازعوا معهم ، وطلب كتابة (بسمك اللهمَّ) (١).

ثقل على المسلمين كلام سهيل ، لكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وافق عليه وأمر علي كتابة ما كان دارجاً كتابته ثم قال لعلي : «اكتب! هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سُهيل بن عمرو» ، فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول أنك رسول لم اقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال لعلي : «اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سُهيل بن عمرو ...» ، وعندئذٍ انعقد صلح الحديبية ، وتقرّر فيه أن يقدم المسلمون العام المقبل ويقيموا في مكة مدَّة ثلاثة أيام لغرض الزيارة وأداء العمرة المفردة (٢).

ترتبت آثار كثيرة على صلح الحديبية ، والفتح المبين الذي أشارت له الآيات الاولى من سورة الفتح هو هذا الصلح ، فقد كان فتحاً مبيناً حقاً ؛ لكثرة مردوداته الايجابية وبركاته ، رغم استياء بعض المسلمين والمتطرّفين وضيقي الصدور ممَّن لا ينظرون إلَّا للمستقبل القريب ، حيث قال البعض : يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اصبر واحتسب ، فانَّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً».

وبعد الانتهاء من كتابة الصلح والإشهاد عليه أمر الرسول المسلمين بالنحر والذبح للإحلال من الاحرام ، ثمّ رجعوا إلى المدينة.

عندها نزلت آيات تطمئن قلوب المسلمين وتسكّنها وتعدهم بفتح مكة ودخولها بعز : (لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شَاءَ اللهُ) (٣) ، وهي تعدُّ من معجزات القرآن ؛ لكونها أخبرت عن الغيب.

__________________

(١) كان هذا التعبير دارجاً عند المشركين ويبدأون به رسائلهم وكتبهم.

(٢) راجع سيرة ابن هشام ٣ : ٣١٧ ـ ٣١٨.

(٣) الفتح : ٢٧.

٤٣١

كما وعدت الآيات المسلمين الانتصار على باقي الأديان والمذاهب في العالم : (ليُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ) (١) ، ثم أدرجت أوصاف المؤمنين وأصحاب الرسول.

بعد ما اتضح شأن نزول الآية نبتُّ بتفسيرها.

أوصاف أصحاب الرسول في التوراة

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)

الانسان المتعصّب والجاهل مثل سهيل بن عمرو ينكر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته ، وهذا لا يغيّر الواقع ، وما على المسلمين أن يستاؤوا من انكار مثل هذا الشخص ؛ لأن الله خالق الكون قد قبل نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته.

(والَّذِينَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّار)

الذين معه ويسيرون في خطه ولم يدّعوا الاسلام فقط بل اثبتوا كونهم مؤمنين بجدارة في ميادين العمل ، وكانت عقيدتهم بالرسول صادقة وحقيقية يحملون خمس صفات عالية.

وأنتم كذلك ، إذا أردتم أن تكونوا من أنصار امام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فعليكم الاتصاف بهذه الصفات الخمس.

أول صفة هي أن يكونوا أشداء وأقوياء أمام الأعداء ، ولا يهابونهم ، بل يقفون أمامهم كالسد المانع ذي قوة على الصد والمنع الشديد.

وفقاً لهذه الآية ، فإنَّ استخدام العنف في حق الأعداء لا أنه غير مستعاب فقط بل مطلوب ولازم أحياناً. اولئك الذين يرفضون العنف بالكلية في زماننا هم لا يعرفون معنى العنف ولا يفهمونه ، ولا معرفة لهم بآيات القرآن وتاريخ الاسلام.

ينبغي الوقوف أمام الذئب الذي لا يفهم اللين والمنطق والاستدلال باستحكام وقوة ، بل ينبغي استخدام كل ما نملك من سلاح لصده ومنعه.

كثير من الناس في عصرنا الحالي هم أسوء من الذئب ، اولئك الذين يبقرون بطن الحامل

__________________

(١) الفتح : ٢٨.

٤٣٢

بطلقة رصاص ويقتلونها مع طفلها تقمّصوا ثوب الانسانية وليسوا بأناس ، وعلينا الوقوف أمامهم ؛ لأنهم لا يفهمون غير العنف ، والعدالة عينها في الدفاع والمقاومة ، وهو أمر منسجم مع الطبيعة ، وذلك من قبيل كريات الدم البيضاء التي تفزع للمواجهة بمجرد احساسها بالخطر وشعورها بدخول عدو أجنبي ، أي الميكروبات.

إذن ، أول صفة لأنصار الرسول هو مواجهة الأعداد بشدّة والوقوف باستحكام أمامهم.

(رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)

الصفة الثانية للمسلمين الحقيقيين هي اللين والرحمة فيما بينهم بنفس نسبة الشدة التي يتمتعون بها لمواجهة الأعداء ، فهم شديدون مع الأعداء ومتراحمون فيما بينهم ، أي يتمتعون بجذابية تجاه بعضهم الآخر ودافعة تجاه الأعداء والكفار ، والمسلم الحقيقي هو الذي تجتمع فيه صفة القهر واللطف.

لو لم يكن المجاهدون الشيعة في جنوب لبنان انعكاساً ل (أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) لاستطاعت اسرائيل الزحف من لبنان إلى باقي الدول المجاورة لها ؛ لأن اسرائيل ذئب ، والذئب لا يفهم شيئاً غير العنف ، فقد لمع هؤلاء الشباب وفعلوا فعلتهم ، وكما قال فيهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله : إنّهم فعلوا ما لم تفعله جيوش الدول العربية جميعها.

(تَراهُمْ رُكّعاً سُجَّداً)

الصفة الثالثة للمسلمين الحقيقيين هي علاقتهم المتواصلة مع الله ، فيركعون ويسجدون لله دائماً.

وهذه العبارة تعني أن أعمالهم جميعها من الركوع والسجود والاستراحة والترفيه والحب والبغض وكل سلوكهم عبارة عن عبادة ؛ لأنها تصدر عنهم بنية القربة وإرضاءً لله تعالى ، ويستلهمون قدرتهم وقوتهم من خلال هذه العبادة ، فيبدون أشداء أمام أعداءهم ولينين ورحماء فيما بينهم.

(يَبتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ ورِضْوَاناً)

صفتهم الاخرى هي خلوص نيتهم تبعاً لرسولهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يبتغون ولا يطلبون شيئاً من خلال أعمالهم غير رضا الله والفضل من قبله تعالى ، ولا نجد في أعمالهم الرياء والتظاهر.

٤٣٣

أيّها القرّاء ، الإخلاص إكسير عجيب ، والانسان يزداد توفيقاً كلما ازداد إخلاصاً ، فالاخلاص والاخلاص ثم الاخلاص.

(سِيمَاهُمْ فِي وُجوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السُّجُودِ)

الصفة الاخرى لأصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الحقيقيين هو ظهور علامات وآثار العبادة والسجود في وجوههم ، فالإناء ينضح بما فيه.

السيماء في العربية تعني العلامة ، وعلامة المسلم الحقيقي هو ارتسام عقيدته الباطنية وعباداته التي يمارسها في الخفاء على وجهه وسرايتها إلى ظاهره ، ونور إيمان قلبه يشع من وجهه. وإذا وسَّعنا في معاني الآية قلنا : يمكن مشاهدة آثار الإيمان في جميع لقطات حياته ، في سلوكه الفردي والاجتماعي ، وفي حركاته وسكناته.

(ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ)

هذه الصفات الخمس لأصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ورد ذكرها في التوراة.

أعزتي ، الطريق واضح ، لكنه بحاجة إلى همّة وإرادة مستحكمة ، اتَّصف بهذه الصفات الخمس لترى نفسك في لواء أنصار صاحب الزمان (عجل الله فرجه).

يا أيّها الذين قضوا عمرهم قائلين : (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) ، إن الفوز العظيم في الاتّصاف بهذه الصفات الخمس.

علي عليه‌السلام نموذج كامل للصفات الخمس

في مجال المقاومة والصمود يقول الامام علي عليه‌السلام : «واللهِ لَوْ تظاهرت العرب على قتالي لما ولَّيتُ» (١) ، وهو نفسه الذي كان رمزاً في الغضب والمواجهة كان في ذات الوقت بحراً من اللطف والعاطفة عند ما يرى يتيماً مسلماً فيجلسه في حضنه ويلاطفه ويمسح بيده على رأسه ويذرف الدموع عليه ، بحيث لا يصدق أحد أن هذا الرجل هو نفسه الذي يقف أمام الأعداء كالجبل الصامد.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٢٦.

٤٣٤

علي يذهب لمساعدة زوجة شهيد ويقرّب وجهه من التنور ليذيق نفسه حرارته ، خوفاً من أن يغفل يوماً عن الأيتام.

علي يعيش العبودية دائماً ، فهو أسوة العابدين وقدوتهم ، وأحياناً يأتي بألف ركعة يومياً (١).

لا مثيل لإخلاص علي ، فكان قطعة من الإخلاص ، عند ما بارز عمرو بن عبد ود في معركة الخندق غلبه وكاد يقتله فبصق عمرو في وجه علي وشتمه فتوقف عن قتله ومشى قليلاً في ميدان المعركة ثم قتله ، وعند ما سأله المسلمون عن سبب ذلك الإجراء وأنّه لماذا لم يقتله مباشرة بعد ما تغلّب عليه ، قال : «قد كان لشتم امي وتفل في وجهي فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي فتركتُهُ حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله» (٢) ، أي أنه لو كانه قتله مباشرة كان لانتصار النفس سهم في قتله فهدّأ نفسه لكي يكون قتله خالصاً لوجه الله تعالى.

علائم الايمان كلها مطبوعة في سلوك علي ، وآثار العبادة تشع من وجهه النوراني.

مثل أصحاب الرسول في الإنجيل

قرأنا أوصاف أصحاب الرسول في التوراة من خلال الأسطر السابقة ، وهذا يكشف ضمنياً عن أن الرسول ليس الوحيد للذي كان قد ذُكر في التوراة والانجيل بل وكذلك أصحابه من خلال ذكر أوصافهم ، كما تقدم توضيح ذلك.

آية المثل أشارت إلى مثل أصحاب الرسول الحقيقين في الانجيل وقالت :

(وَمَثَلُهُمْ في الإنجيل كَزَرْعٍ)

أي مثل أصحاب الرسول الصادقين في كتاب النصارى السماوي (الانجيل) كمثل المزرعة أو الزرع الذي له مواصفات خمس.

١ ـ (أخْرَجَ شَطْئَهُ)

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٤١ : ٢٤. قد يشكك البعض في امكانية الإتيان بألف ركعة يومياً ، لكن العلامة الأميني يقول : كان في النجف مَن يأتي بألف ركعة في ثمان ساعات ، وبهذا ينتفي احتمال استحالة الأمر.

(٢) انظر بحار الأنوار ٤١ : ٥١.

٤٣٥

للشطأ معنيان ، أحدهما : ما يخرج حول اصول الشجر ، فينمو تدريجاً ليستقل ويصبح شجراً بعد مدة. ثانيهما : فراخ الحيوانات إذا ازدادت ، وعلى العموم الشطأ يفيد معنى التكاثر والتوسّع وما شابه.

أول خصلة للزرع المذكور في الآية هو أنه غير عقيم بل يتكاثر وتزداد رقعته ، ولا حدود له.

٢ ـ (فَآزرَهُ)

آزر يؤازر تعني الرعاية والحماية والتقوية ، وقد اطلقت مفردة (الوزير) على المقام المعروف ، باعتباره يقوّى الملك ويحميه ، كما اطلقت هذه المفردة على الامام علي عليه‌السلام ؛ باعتباره يدافع عن الرسول ويحميه ويسعى في طريق تقوية الدين.

الزراعة المفروضة في المثل لا أنها تتكاثر وتنمو وتزداد فحسب بل فراخها وما ينتج منها ترفع الموانع من طريقها وتؤمن احتياجاتها وتقوي أصلها وتؤازره.

٣ ـ (فَاسْتغْلَظَ)

الخصيصة الثالثة هي أن الشطأ المحمي في المزرعة يستحكم في الأرض تدريجياً وفي ظل هذه الحماية يستغلظ ويقوى.

٤ ـ (فَاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ)

تستمر الرعاية والحماية للشطأ إلى حيث تشعر بالاستقلال وعدم الحاجة إلى التقوية والحماية وأن عهد الارتباط والحاجة للغير قد ولَّى ، وتقوم بنفس العمل الذي كان أصلها يقوم به ، ويمرُّ شطؤوها بالمراحل التي مرَّ بها الأصل ، أي المؤازرة والاستغلاظ والاستقلال.

٥ ـ (يُعْجِبُ الزُّراعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفَّار)

نمو الزراعة وتكاثر اصولها كبير ومبارك جداً بحيث تثير إعجاب المزارعين والفلَّاحين وتجعلهم في حيرة من أمرها ، فيضعون أصابعهم في أفواههم تعجباً ، لما يشاهدونه من سرعة نمو الاشجار وازديادها بحيث تغطي المزرعة بعد فترة قصيرة. أما الكفَّار فيمتلؤون غيظاً.

(وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرَاً عَظِيماً)

٤٣٦

وعد الله أصحاب الرسول بالمغفرة والأجر العظيم إذا تحققت فيهم شرطان ، الاول : آمنوا بالله واصلحوا اعتقاداتهم حقاً.

الثاني : كانت أعمالهم صالحة كنتيجة للاعتقادات السليمة ، وهذا يعني أن الله لم يعد جميع الصحابة بل ذلك البعض الذي تحققت فيه الشروط المزبورة. والشاهد على ذلك هو أنَ (منهم) تبعيضية ، وتخصُّ بعض الصحابة ولا تشمل الجميع.

الخلاصة : الآية شبهت أصحاب الرسول بالمزرعة النامية ، ولأجل إيمانهم وأعمالهم الصالحة بشّرتهم بالمغفرة والأجر العظيم.

خطابات الآية

١ ـ الاسلام دين عالمي

الآية المتقدّمة من أمثال القرآن العجيبة ، وتحمل معها خطاباً مهماً وعظيماً للمسلمين.

وفقاً لهذه الآية ، لا ينبغي للمسلمين أن يسعوا لإصلاح أنفسهم وحفظ دينهم وعقيدتهم فحسب ، بل عليهم التفكير والسعي لأجل نشر الاسلام وهداية باقي الشعوب والامم. حفظ الدين أمر مطلوب ومستحسن لكنه غير كاف ، وعلى المسلم أن يخرج شطأً ويهتمَّ بتربية تلامذة وأولاداً طيبين ويختار أصدقاء جديرين ويهمَّ بإصلاحهم ، ويشكّل عائلة نموذجية ، ويرعاهم ويحميهم لكي يستحكموا تدريجياً ويستقلوا ، ثمّ كلٌّ منهم يدخل خط الانتاج والنمو والحماية والاستحكام والاستقلال.

المجتمع الاسلامي مجتمع متنامي ومتسع ومتكاثر ، وليس محدوداً ومنحصراً في حدوده ولا يتقدَّم ولا يتطوَّر. الآية تأمر المسلمين أن لا يقتنعوا بما لديهم بل عليهم السعي لعولمة الاسلام ، أي دين الحق الوحيد.

ما ذا يقول القرآن؟ وما ذا انجزنا وما عملنا؟ وما ذا أنجز الآخرون وما عملوا؟ القرآن ـ وفقاً لهذه الآية ـ يأمرنا باستخدام كل ما لدينا من وسائل وآليات من المرسلات والأقمار الصناعية والكامبيوتر والانترنت والمطبوعات والكتب والصحف والمبلّغين والسينما وتوظيفها جميعاً لغرض تبليغ الاسلام وإيصال رسالته إلى العالم كله.

٤٣٧

هل ترجمنا القرآن ، الذي هو وصفة سعادة البشر ويحتوي على أفضل المعارف الدينية ، إلى لغات أجنبية؟ هذا في وقت ترجم فيه الانجيل المحرَّف إلى آلاف اللغات وعرض على جميع الشعوب والأقوام.

وهل عملنا هذا يعدُّ استخداماً مناسباً للوسائل المتقدمة والتقنية الحديثة؟

آية المثل توجّه خطابها للحوزات العلمية لأن يعدّوا مبلغين جديرين وبارزين ملمّين باللغات الأجنبية تلبية للطلبات ، سواء في داخل الدول الاسلامية أو خارجها.

بعد تحطّم الاتحاد السوفيتي شعرت اوربا الشرقية بفراغ عجيب ، وباعتبار وجود مسلمين هناك تبلورت الأرضية لقبول الاسلام من قبل الاوربيين ، لكن ممَّا يؤسف له أنَّا كنَّا نفقد المبلغين الذين ينطقون بلغات اوربا الشرقية ، ففقدنا هذه الفرصة الذهبية ، في وقت أرسل البابا إلى هناك مائة ألفٍ من مبلّغيهم الذين ينطقون بلغات اوربا الشرقية مع رأس مال يقدَّر بمائة مليون دولار ، وبذلك كانت الفرصة من نصيب المسيحيين.

في هذا المجال مسؤولية الحوزات العلمية والجامعات والحكومات الاسلامية والآباء والامهات والمربين والمعلمين والله ثقيلة جداً.

زعماؤنا الدينيون كانوا موفقين في هذا المجال ، كما كانوا موفَّقين في المجالات الاخرى ، على سبيل المثال كانت لعلي عليه‌السلام في عصره كلمات وخطب وحكم ورسائل كثيرة مفعمة بالمعارف ، وقد جمع (نهج البلاغة) مقتطفات من تلك الكلمات والخطب والرسائل ، ليت السيد الرضي كان قد جمع كل ما صدر منه من رسائل وخطب وكلمات وحكم.

كان علي عليه‌السلام بمثابة الزرع الذي يخرج شطأه ، كان منشغلاً دائماً في هداية الناس والنشاطات الاجتماعية والعبادية. نشاهد عدد الألف في سيرة علي عليه‌السلام كثيراً ، فقد حرَّر ألف عبدٍ من كد يده (١) ، وكان أحياناً يأتي بألف ركعة يومياً (٢) ، وقتل في ليلة من ليالي معركة

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٦ ، ابواب العتق ، الباب ١ ، الحديث ٣ و ٦.

(٢) في رواية رواها أبو بصير عن الامام الصادق عليه‌السلام أن عليّاً عليه‌السلام كان يأتي بالف ركعة يومياً في أواخر عمره ، انظر بحار الأنوار ٤١ : ٢٤.

٤٣٨

صفين خمسمائة وعلى رواية ألفاً من أنصار معاوية ، وكان يكبر عند كل ضربة (١).

على الشيعة أن يقتدوا بعلي في جميع امورهم وبخاصة في مسائل من هذا القبيل.

ما الذي عمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صدر الاسلام؟ كيف نمى الاسلام الذي ظهر في مهد الجاهلية وعلى أرض مكة الجرداء؟ كيف أخرج شطأه وتوسّعت رقعته ليغطّي أكثر بقاع الأرض خلال فترة تقل عن مائة عام؟

كانت مكة آنذاك محاطة بخمس حضارات ، في الشمال الحضارة الرومية ، وفي الشرق الحضارة الفارسية وإلى جنبها حضارة بابل في العراق ، وفي الجنوب حضارة اليمن ، وفي الغرب حضارة مصر ، وعند ما بدأت تنمو شتلة الاسلام استحكمت واستقلت ثم بدأت تخرج شطأً فشطأً ، وفي فترة تقل عن القرن فتحت ايران واليمن ومصر وبابل ، واستطاعت الشتلة أن تغطّي ببراعمها بلاد أربع حضارات.

على المسلمين أن يكونوا هكذا ، لكن ممَّا يؤسف له أنَّ بعضنا لا يسعى في تربية أولاده ، فهو لا يراهم ولا يلتقيهم إلَّا وهم نائمون ، يستيقظ صباحاً وهم نائمون ولا يرجع إليهم إلَّا ليلاً حيث غرقوا في نومهم ، ولا مجال له ليباشر عملية تربيتهم.

آخر شيء تبقَّى أنَّ المسلمين حالياً إذا أرادوا أن يكونوا كما كان المسلمون في صدر الاسلام حيث فتحوا بلداناً كثيرة فعليهم أن يصلحوا أنفسهم وأن يدعوا الاختلافات ويبدّلوا فرقتهم إلى وحدة واتحاد وكتبهم وصحفهم إلى كتاب واحد وصحيفة واحدة.

٢ ـ المثل لا يشمل جميع أصحاب الرسول

يُطلق الصحابي على كل مَن تشرَّف في الكون بخدمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وزاره من قريب ، لكن هل المثل الجميل المذكور في الانجيل يعم كل من كان صحابياً أم يخصُّ البعض من الصحابة؟

الجواب : يتّضح جواب هذا السؤال من خلال التدقيق في الآية ذاتها ، فقد جاء في ذيلها : (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحات مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجراً عَظِيماً)

__________________

(١) وقد سميت تلك الليلة بليلة الهرير أي الهروب ؛ لأنَّه هرب فيها الكثير من أفراد العدو ، كما استشهد فيها ألف وسبعمائة من معسكر الامام عليه‌السلام ، منهم اويس القرني وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، كما قتل عشرات الآلآف من معسكر معاوية ، انظر مناقب الخوارزمي : ٢٩٤ ، ومنتهى الآمال ١ : ٢٩٣.

٤٣٩

والآية تقسِّم الصحابة إلى القسمين التاليين :

الأول : الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات فلهم أجر عظيم.

الثاني : الذين لم يؤمنوا حقيقة وما عملوا الصالحات فهم محرومون من الأجر الإلهي العظيم.

إذن ، تنزيه جميع الصحابة ـ كما فعل ذلك بعض أهل السنة ـ لا ينسجم مع القرآن الكريم (١) ؛ لأن هناك آيات كثيرة خصوصاً في سورة التوبة وردت في ذم بعض الصحابة ، مع أنَّا لو نزّهنا جميع الصحابة واعتبرناهم جيّدين ، فلما ذا تنازعوا فيما بعد؟ ألا يعدُّ ذلك تناقضاً؟

في أحد أسفاري إلى مكة كان لي نقاش في المسجد الحرام بعد صلاة المغرب مع بعض الاخوة من أهل السنة ، جرّنا الحديث إلى قضية الصحابة ، فكانوا يقولون : إنَّهم منزَّهون جميعاً ، فسألتهم : لو كنتم في حرب صفين فتنضمُّون إلى عسكر الامام علي عليه‌السلام أم معاوية؟ فقالوا : إلى عسكر علي عليه‌السلام ، لكنَّا لا نسيء إلى معاوية.

فسألتهم : لو أعطاكم الامام علي سيوفاً وأمركم بقتل معاوية فما تفعلون؟ قالوا : ننفّذ أمر علي ونقتل معاوية ، لكنَّا لا نقول في معاوية إلَّا قولاً حسناً؟! وهذا يشبه النصب والهزل أكثر من الحقيقة.

يبرّر البعض هذا المنهج من التفكير بأن كلاً من علي ومعاوية عمل وفق اجتهاده واستنباطاته الشخصية ، ولذلك لا يعدان مقصرين ، وكذا الحال بالنسبة إلى طلحة والزبير وعائشة ، فما خروجهم عن خلافة الامام علي عليه‌السلام إلَّا وفق اجتهاداتهم ، ولهذا لا يعدون مذنبين أو مقصرين عند الله ؛ لأن كلاً منهم عمل وفق ما تفرضه عليه وظيفته الشرعية.

بطلان هذا التبرير واضح جداً ، فإذا قبلنا هذا الكلام فلا يبقى مذنب على وجه الأرض ، لأن هابيل وقابيل عملا وفقاً لما تمليه عليهما اجتهاداتهما واستنباطاتهما ، ولا يمكن مؤاخذة أيٍّ منهما وفقاً لهذا المنهج ، كما أنَّ كلاً من موسى وفرعون ، وإبراهيم ونمرود ، وعيسى وعبدة الأصنام ، وشعيب وقومه و... عمل وفق اجتهاده واستنباطه ، ولا يُعدُّ واحد منهم مقصّراً أو مذنباً!!!

__________________

(١) للمزيد راجع نظرية عدالة الصحابة ، للاستاذ أحمد حسين يعقوب.

٤٤٠