أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

فنظرنا فيها إلى قصور المدائن ، ثمّ ضرب اخرَى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور اليمن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما إنّه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق ، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل» (١).

هزأ المنافقون من تنبؤات الرسول ، وقالوا : كيف سيفتح المسلمون هذه البقاع وهم يعيشون حالياً تحديات تهدد وجودهم ودينهم ، وما أستطاعوا الغلبة على المشركين العرب فضلاً عن غيرهم. انتهت الخندق بنجاج المسلمين وانتصارهم ورفعة رأسهم ، ولم يمضِ زمن طويل من تنبؤات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى رأى المسلمون تحقّقها في أرض الواقع ، واستطاع الاسلام بعد خمسين عاماً من الحادث السيطرة على أجزاء كبيرة من العالم.

نعم ، ذلك امتياز نور الإيمان حيث يزداد بريقه وضياؤه بمرور الزمن ليبدو أفضل من ذي قبل دائماً ، أمَّا الأعمال السوداء لغير المؤمنين فتزداد ظلاماً بمرور الزمن.

كل ما لنا فقد حصلنا عليه في ظل الايمان ، ويكفي للمؤمن أن يكون الله وليَّه يهديه من وادي الظلمات إلى النور ، وبئس حال الكفار ، الذين وليُّهم الشياطين يخرجونهم من وادي النور إلى وادي الظلمات.

٢ ـ علامة الإيمان

في نهاية البحث ننقل رواية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يحكي فيها واحدة من علائم المؤمن :

«لا يستكمل عبدٌ الإيمان حتى يحبُّ للغير ما يحبُّ لنفسه» (٢).

من السهل التفوّه بهذه العلامة ، ولكن من الصعب جداً العمل بها.

__________________

(١) البحار ٢٠ : ٢١٩.

(٢) كنز العمال ، الحديث ١٠٦.

٣٨١
٣٨٢

المثل الأربعون :

الأضل سبيلاً

يقول الله تعالى في الآية ٤٤ من سورة الفرقان :

(أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كالأنعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبيلاً)

تصوير البحث

المثل يخصُّ الكفار والمشركين الذين سلكوا طريق اللجاجة والعناد أمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وألحوا على عقيدتهم الباطلة وسعوا نحو أهوائهم حتى ذهبت قواهم العقلية فما باتوا يدركون شيئاً ، لذلك شبَّههم الله بالأنعام.

الشرح والتفسير

لاتّضاح خطاب هذا المثل الفريد من نوعه علينا دراسة الآيات التي سبقت آيته.

تحدَّثت الآيات السابقة عمَّا أورده الكفار من إيرادات وانتقادات تجاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :

(وإذَا رأوْكَ إنْ يتَّخذونَكَ إلَّاهُزُواً) ، أي أنهم يستهزؤون بالرسول متى ما شاهدوه ، وكان ذلك أحد ردود الفعل التي صدرت من أعداء الرسل والأنبياء ، واقترنت مع نسبة بعض

٣٨٣

الصفات السلبية للانبياء. فرعون ـ مثلاً ـ كان يعتبر نفسه ربَّاً ويقول : (أنا ربُّكُمُ الأعْلَى) (١) وينسب إلى موسى الجنون قائلاً : (إنَّ رَسُولَكُمُ الذِي ارْسِلَ إليْكُم لَمَجْنُونٌ) (٢).

(أهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٣) ، أي أنَّه لو كان رسولاً فلما ذا يبدو كباقي البشر ويفعل كما يفعلون ، (مَالِ هَذَا الرَّسُولُ يأكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ) (٤) ، مع أن المفروض بالرسول أن يكون من الملائكة.

بطلان هذا الكلام واضح ، فالمفروض بالرسول أن يكون من البشر لا الملائكة (٥) ، لكي يفهمهم ويفهم آلامهم ومشاكلهم ويشعر بها فيعالجها بالعلاج المناسب. ولو كان من الملائكة لما أدرك مشاكلهم ولما احس بها ، مضافاً إلى أنَّه لا أحد من البشر يصغي لكلام الملائكة ؛ لأنَّ الناس سيقولون : ما تقوله الملائكة خاص بأمثالها ويناسب ما يجانسها ؛ باعتبارها معصومة ولا شهوة لها ، ولا يمكن لنا العمل بما تقول به الملائكة ، فإننا غير معصومين و... أما لو كان الرسول من جنس البشر فان هذه الذرائع جميعها ترتفع ولا مجال للتشبّث بها.

(إنْ كَادَ ليُضِلُّنا عَنْ آلهتنا لَولا أنْ صَبَرْنا عَلَيْهَا) (٦) ، وهذا الكلام أطلقه المشركون بعد ما مضى منهم من استهزاء ، ويريدون بذلك أنهم قاوموا الرسول وصمدوا على عبادة الأوثان ، ولو لا ذلك لانجرفوا مع الرسول ، كما يزعمون.

كلمات المشركين متناقضة هنا ، فهم ينسبون له الجنون من جانب ، ومن جانب آخر يبرزون تخوّفهم من تأثير كلام الرسول عليهم ، مع أنه لا أحد يخاف تأثير كلام المجنون عليه ، ولو كان مجنوناً حقاً فلا ينبغي الخوف من تأثير كلامه ، ولو لم يكن مجنوناً فالمفروض أن يكون كلامه صادقاً ، فلما ذا يُرفض كلامه؟ وكلامهم هذا يكشف عن سخف عقائدهم ويبرز ذلك

__________________

(١) النازعات : ٢٤.

(٢) الشعراء : ٢٧ ، وهذه التهمة لا تختص ببعض الأنبياء ، بل نُسب الجنون والسحر لجميع الأنبياء ، كما ورد ذلك في الآية.

(٣) الفرقان : ٤١.

(٤) الفرقان : ٧.

(٥) ولهذا اعتبر الله كون الرسول بشراً ممَّا مَنَّ الله تعالى به على البشر ، كما ورد ذلك في الآية ١٦٤ من سورة آل عمران.

(٦) الفرقان : ٤٢.

٣٨٤

بوضوح.

أجاب الله تعالى بثلاثة أجوبة على كلامهم الباطل والمتناقض :

الاول :(وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ مَن أضَلُّ سَبيلاً) (١).

وهذا الجواب يعني الانتظار إلى يوم رؤية العذاب ، فعندئذٍ يتّضح الحق والباطل.

سؤال : لماذا لم يدرك الكفار الحق قبل نزول العذاب؟

الجواب : الأهواء ضربت على قلوبهم ستاراً لا يسمح دخول الحقائق فيها ، فالأهواء وعبادة الأصنام والمال والجاه والمقام الدنيوي بمثابة الحجب والموانع التي تمنع من إدراك الحقائق ، وهذه الموانع لا تُرفع إلَّا بالعذاب الإلهي.

وهذا هو سبب اعتراف فرعون بحقيقة (أنَّه لا إله إلَّاالّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إسرائيلَ وَأنَا مِنَ المُسْلِمِينَ) (٢) بعد ان أوشك على الغرق ، رغم أنه كان يقول : (مَا عَلِمْتُ لكم مِنْ إلَهٍ غَيْري) (٣) ، لكن إيمانه عندئذٍ دون جدوى.

عند ما ينزل العذاب الإلهي تُزال حُجب الغرور والغفلة والجهل ، وبعدها يفهم الكفّار من هو الأضل سبيلاً.

سؤال : الآية الكريمة في مقام الإجابة على الكفّار ، وهل يُعدُّ التهديد بالعذاب الإلهي جواباً؟

الجواب : نعم ، قد يكون التهديد بالعذاب آخر جواب ، ولا يوجد جواب غيره.

السفسطائيون ينكرون كل شيء ويشكون في كل ما يوجد حتى في شكوكهم ذاتها ، وكبار الفلاسفة يقولون : السفسطائيون يرفضون كل دليل يُقام ، وأفضل دليل هو أن تُضرم ناراً وتقرّبهم إليها وتقول لهم : لا وجود لهذه النار والحرارة الصادرة منها ، فهي خيال لا أكثر ، ولا يمكن أن يحترق بها أحد ، لأنّ الاحتراق وهم لا حقيقة ، عندها يتراجعون عنها تدريجياً ليتبدَّل هذا الانسان إلى واقعي بعد ما كان سوفسطائياً.

__________________

(١) الفرقان : ٤٢.

(٢) يونس : ٩٠.

(٣) القصص : ٣٨.

٣٨٥

إذن ، لا طريق لإيقاظ المتعصبين واللجوجين من غفوتهم وغفلة أفكارهم غير العذاب الإلهي ، فهو الذي يزيح ستار الغفلة ويوقظهم.

الثاني :(أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (١).

كيف يمكن هداية من كان إلهه هواه؟ إنَّ تعاملهم غير المؤدب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وما يطلقونه من كلام بذيء تجاه الرسول ، كله يرجع إلى اتّباع الأهواء ، وإلَّا فبطلان عبادة الأوثان أمر واضح.

أساساً لا يخفى الحق على أحد دائماً ، بل لا بدَّ وأن يظهر له في وقت ما ، وما يمنع من اتّضاح الحق هو عبادة الأوثان. ألم يكن الحق واضحاً عهد الامام علي عليه‌السلام في حربه مع معاوية (لعنه الله)؟

في جانب كان علي عليه‌السلام مركزاً للعدالة والعبادة ، وأنصاره عبارة عن ثلَّة من المسلمين المخلصين من الصحابة الذين لا يبغون من الحرب إلَّا رضا الله تعالى ، وفي الجانب الآخر كان معاوية مركزاً للظلم والتمييز وسبباً للاضطرابات وعدم الثبات في الدولة الاسلامية ، ويحوم حوله مجموعة من الذين جمعتهم مائدة معاوية الدسمة ورشاويه ، وهل يستحيل تشخيص الحق بين هاتين الطائفتين؟ بالطبع لا ، لكن الأهواء والموائد المنوّعة والرشاوي والأموال هي التي منعت من التشخيص.

يا رسول الله ، أنت لا تستطيع إنقاذ هؤلاء ، فإن أربابهم أهواءهم ، وبئس للانسان الذي يصبح إلهه هواه ، فهو أخطر ما يمكن أن يكون في حياة الانسان.

يقول المؤلف الشهير ويل ديورانت : «لمَّا كان لكلِّ شيء روح أو إله خفيٌّ فالمعبودات الدينية لا تقع تحت الحصر» ، كما يقول : «لا تكاد لا تجد حيواناً في الطبيعة كلها ـ من الجعران المصري إلى الفيل عند الهندوس ـ لم يكن في بلدٍ ما موضع عبادة» (٢).

لكن جاء في رواية : «أبغض إلهٍ عُبد على وجه الأرض الهوى» (٣) ؛ وذلك لأجل أنَّ هذا

__________________

(١) الفرقان : ٤٣.

(٢) قصة الحضارة ١ : ١٠٢ ـ ١١٠.

(٣) المحجة البيضاء ٨ : ٤٤.

٣٨٦

الصنم يلوّث الانسان بكثير من الذنوب ، من قبيل : المسكرات والمخدرات والسرقة والتهريب والقتل وما شابه. كثير من المجازر التي تُرتكب في الوقت الراهن تحصل بدافع من اتباع الهوى والنفس. إنَّ مجزرة هيروشيما من قبل امريكا وقصف مدينة حلبجة بالاسلحة الكيمياوية من قبل النظام العراقي ودفن النساء والأطفال البوسنيين وهم أحياء ، كلها من الآثار المخرّبة لحكومة الاهواء على حياة البشر.

على أي حال ، لا مشكلة ولا صعوبة في تمييز الحق عن الباطل ، على أن لا يتَّبع الانسان هواه.

الثالث :(أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلونَ) (١).

في هذه الآية يخاطب الله تعالى المشركين ويجيب على كلامهم الوارد في آية المثل ، قائلاً للرسول : إنَّ أكثرهم لا عقل لهم يدركون به ولا آذان لهم يسمعون بها ، فهم كالحيوانات العاجزة عن الإدراك ، بل هم أضلُّ سبيلاً من الحيوانات ، فإن صوت الحق ملأ العالم ، وآيات الله وآثاره موجودة في كل مكان ، لكن سماع صوت الحق ومشاهدة آثار الله وآياته تستدعي آذاناً تصغي وعيناً تشاهد وعقلاً يعي ويدرك ، وهم يفقدون هذه الأشياء.

لو أن ضوء الشمس ملأ الأرض كلها ما استطاع الأعمى أن يراه ، كما أن الأصم لو كان جالساً على شاطئ البحر ما كان بإمكانه أن يسمع صوت أمواجه ، وهذا هو شأن الكفار فلا يسمعون الحق ولا يرونه ولا يدركونه ، فهم كالأنعام بل أضل.

لماذا شُبِّه الكفار بالحيوانات؟

كما لاحظنا فان الله شبَّه الكفّار الذين لا يسمعون ولا يرون ولا يدركون من الحق شيئاً بالحيوانات ، بل اعتبرهم أضل من الحيوانات ، لكن لماذا؟

هناك وجوه شبه بين الكفار والحيوانات ، هي :

الف : لا تدرك الحيوانات شيئاً ، فلا قدرة لها على الفهم والاستيعاب ولا شعور لها ، وأعمالها

__________________

(١) الفرقان : ٤٤.

٣٨٧

تصدر عنها بدافع غريزي ، وهذا هو شأن الكفار ، فلا شعور لهم ، لذلك لا يدركون شمس الحقيقة؟

باء : الحيوانات لا تشعر بالمسؤولية ، فهي لا تدرك كون المزرعة ليتيمٍ أو موقوفة وأن الدخول إليها حلال أم حرام ، فهي لا ترى نفسها مسؤولة تجاه هذه الامور ؛ لأنَّها لا تدرك ، أي أن عدم إحساسها بالمسؤولية ينشأ عن عدم إدراكها ، وعدم احساس الكفار بالمسؤولية من هذا القبيل ، فهو ناشئ عن عدم إدراكهم.

جيم : الحيوانات تابعة لغرائزها ، فهي لا تعرف غير العلف والاصطبل ، وكذا حال المشركين ، فهم لا يعرفون غير أهوائهم وما تمليه عليهم.

دال : الحيوانات غير تابعة للمنطق ، ولا ترى معنى للاستدلال ، وكذلك الكفار ، فهم عاجزون عن إدراك استدلالات القرآن القوية رغم بساطتها ، والتي وردت في مجالات مختلفة مثل التوحيد والمعاد ، ويصرّون دائماً على كلماتهم التي يرددونها دائماً.

هاء : لا تشخّص الحيوانات المصالح والمفاسد ، ولا تعلم بما يصلحها أو يفسدها ، ولهذا قد تجازف أو تقرب من المخاطر وهي لا تعلم ما قد أقدمت عليه ، كما هو حال الكفار الذين لا يعلمون بأنَّ عبادة الأصنام واتّباع الأهواء لا يجلب لهم نفعاً ولا فائدة ، كما لا يعلمون أن السعادة والنجاح يتحقق في ظلِّ التوحيد.

هذه وجوه خمسة يشترك فيها الكفار مع الحيوانات ، ولهذا شُبِّهوا بها في الآية الكريمة.

(بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبِيلاً)

مقارنة الحيوانات بالمشركين تثبت تفوّق الحيوانات على المشركين ، وكون الأخيرين أسوأ حالاً من الحيوانات ، للُامور التالية :

الأول : الحيوان حيوان كان ويكون وسيبقى كذلك ، وهذا هو شأنه ولا يمكنه أن يتجاوز حيوانيته ؛ لعدم قابليته على التطوّر والتقدُّم ، أمَّا الانسان فله القابلية على التطوّر ليكون حتى أفضل من الملائكة ، لكنه قد يبقى في مرحلة الحيوانية بسبب تماديه في العناد وتعصبه ، ممَّا يجعله أن يكون دون مستوى الحيوانات.

لا يُلام الشخص على عدم انتفاعه من السوق إذا دخله دون أن يكون له رأس مال ، بينما

٣٨٨

يُلام لو دخله وقد كان له رأس مال ولم ينتفع منه. والانسان الذي سجدت له الملائكة ونفخ الله فيه من روحه وأصبح أفضل المخلوقات إذا سقط كان أضل من الحيوانات دون شك.

الثاني : الحيوانات تقدِّم خدمات كثيرة للانسان ، فبعضها تمنح الانسان لبناً يعبّر عنه القرآن تعبيراً جميلاً في الآية ٦٦ من سورة النحل ، حيث جاء هناك : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنَ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَناً خالِصاً سَائغاً للشاربين) ، وكثير من المنتجات الاخرى مثل اللحم والعظم والصوف والجلد بل حتى الدم فان الانسان وكذا باقي الحيوانات تفيد منه ، هذا كله مضافاً إلى الإفادة منها كوسائل للنقل والحمل ، علاوة على كونها أداة طيّعة بيد الانسان (١).

الثالث : الحيوانات تتَّبع منهجاً غريزياً ، بعبارة اخرَى : إيعازات خلقتها هي التي تهديها إلى أهدافها أمَّا المشركون فان الأهواء ضربت على عقولهم وفطرتهم ستاراً ، لذلك كان خطر ضلالتهم أكثر.

الرابع : خطر الحيوان محدود مهما بلغ ، فالذئب من أخطر الحيوانات ، وأقصى خطره أن يهاجم قطيعاً من الغنم ويأكل أو يقتل عدّة خرفان ، أمَّا خطر الانسان عند ما يتَّبع الأهواء ويعصي العقل فقد يلقي بقنبلة نووية في هيروشيما ويقتل (٨٥٠٠٠) انساناً في لحظة واحدة ويصيب آخرين لا زالوا يعانون من إصاباتهم. ألم يكن هكذا اناس أضل من الحيوانات؟

الخامس : الحيوانات لا تسعى للتمظهر بمظهر حسن عند ما ترتكب ذنباً ولا تسعى لتبرير أعمالها السيئة ، أمَّا المبعدون عن الهداية فيبرّرون جرائمهم الكبرى ويقولون في تبرير قصف مدينتين يابانيتين بقنابل نووية : لو لم نعمل هذا لاستمرَّت الحرب وطالت ولزادت الضحايا والقرابين إثر ذلك!

يقول أحد الكبار : لو أنَّ الآية الشريفة المزبورة كانت قد نزلت دون ذيلها (بَلْ هُم أضَلُّ سَبِيلاً) لمتُّ غيظاً ؛ لأن الحيوانات أفضل من بعض الناس بكثير.

خطاب الآية

العزَّة في ظل الإيمان

يستفاد من مجموع ما قيل في تفسير هذه الآية الكريمة أن الانسان إذا كان يسعى نحو بلوغ

__________________

(١) أشارت الآيات ٥ ـ ٨ من سورة النحل إلى فوائد الحيوانات المختلفة.

٣٨٩

مقامه الحقيقي وشأنه الواقعي وأراد تنمية قابلياته والنجاة من خطر السقوط فعليه السير تحت ظل الايمان والطاعة ، والعمل بما أوصى به الإمام علي عليه‌السلام حيث قال : «مَن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وغنى بلا مال ، وهيبة بلا سلطان فلينتقل عن ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته» (١).

__________________

(١) ميزان الحكمة الباب ٢٧١٠ ، الحديث ١٢٥٤٠ ، وقد نقل مضمون هذه الرواية عن كلٍّ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام الحسن المجتبى عليه‌السلام والامام الصادق عليه‌السلام.

٣٩٠

المثل الحادي والأربعون :

اتَّخذوا أولياءً من دون الله

الآية ٤١ من سورة العنكبوت تشكّل المثل الحادي والأربعين من أمثال القرآن ، حيث جاء فيها :

(مَثَلُ الَّذِين اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْليَاءَ كَمَثَلِ العَنْكبُوتِ اتَّخذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

تصوير البحث

بما أنَّ التوحيد والشرك من أهم مباحث القرآن ولهما دور أساسي في سعادة الانسان وشقائه ، لذلك خصَّ الله تعالى بعضاً من أمثلته بهذا الموضوع ، مستخدماً مبدأ التنويع في بيانه. والمثل المزبور يتعلق بالشرك وعبادة الأوثان ، مشبّهاً فيه المشرك وما يعبد من الاصنام بالعنكبوت وبيته ، بياناً لضعف الأصنام وعجزها.

أهمية التوحيد

تقدَّم أن الشرك كان أول اهتمامات الإنبياء والرسل ، وكان يشكل أساس المواجهة بينهم وبين معاصريهم ، أمَّا التوحيد فكان أهم ما دعى إليه وأساس دعوتهم ؛ وذلك لأجل أنَّ الشرك أساس شقاء البشر ومنشأ كل الدنوب والانحرافات العقائدية ، أمَّا التوحيد فأساس السعادة ومنشأ النجاج والفلاح.

٣٩١

التوحيد ينير القلب ويوحّد المجتمع ، أمَّا الشرك فلا يجلب معه إلَّا الظلمات والتشتّت والتفرقة في المجتمع ، ولهذا اختص ثلث القرآن بموضوع التوحيد والمسائل ذات الصلة به.

الشرح والتفسير

(مَثَلُ الَّذِينَ اتّخذوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْلياءَ)

شبَّه الله تعالى المشركين هنا بالعنكبوت وأصنامهم ببيت العنكبوت ، والتشبيه لا يختص بالمشركين بل يشمل كل مَن اتّخذ إلهاً غير الله كولي لنفسه ، فالآية عامة دون اختصاص بالمشركين. وعلى هذا تكون شاملة لوثن المقام والسلطة والشهوة والأهواء النفسانية والثروة وكل ما يمكن أن يُعصى الله به.

(كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخذتْ بَيْتاً)

أي أن مثل هؤلاء كمثل العنكبوت التي تتّخذ بيتاً لتلجأ إليه ، وهؤلاء قد يكونون مشركين أو غيرهم ممَّن اتخذ إلهاً غير الله ، ومثل آلهتهم كمثل بيت العنكبوت ، وهو قد يتمثَّل بالمقام أو الشهوة أو الصنم أو ما شابه ، فهذه كلها بيوت للعنكبوت.

(وإنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لبَيْتِ العَنْكَبُوتِ)

وهل يمكن الوثوق بمثل بيت العنكبوت؟ وهل يمكن الوثوق بغير الله والاطمئنان به؟

الجواب بالسلب قطعاً ؛ لأن بيوت العنكبوت من أوهن البيوت وأضعفها ؛ وذلك لأنها مصنوعة من مواد لا مقاومة لها أمام الحوادث ، وتتلاشى بقطرات ولو قليلة من المطر ، فضلاً عن السيول ، كما أنها تتلاشى بشعلة الشمعة الضعيفة ، فضلاً عن الحريق ، كما يكفيها نسيماً من الريح لتتلاشى دون حاجة إلى إعصار ، كما أنها تتلاشى بغبار بسيط وبما شابه ذلك وهذا يكشف عن ضعف هذه البيوت ، كما يلاحظها الجميع.

(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

أي أن الاتكاء على الأوثان المزبور كالاتكاء والوثوق ببيت العنكبوت لو كان هؤلاء يعلمون بذلك.

٣٩٢

خطابات الآية

١ ـ أصنام جديدة

كما تقدَّم فإنَّ عبادة الأوثان لم تقتصر على عبادة أحجار أو أخشاب ، بل تشمل كل عبادة لغير الله ، وفي عصرنا الحاضر هناك الكثير من الأوثان من قبيل المقام والشهوة والمال والثروة والأهواء النفسانية والشياطين وكل ما يغفل الانسان عن الله.

تحدَّثت الآية ٦٠ من سورة يس عن أحد أشكال عبادة الأصنام قائلة : (ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدوا الشَّيْطانَ) ، أي أنَّ عبادة الشيطان وطاعته من أصناف عبادة الأصنام ، لكن هل تعلمون كيف تكون عبادة الشيطان؟ وهل هي تعني الصلاة والصوم للشيطان؟

في الإجابة على ذلك ينبغي القول : كلا ، فلا يعمل أحد هذا ، وعبادته تعني متابعة شخص والائتمار بأوامره (١).

العمل وفق أوامر الشيطان عبادة له ، وكل أمر لم يصدر من الله وائتمر به الانسان كان نوع شرك وعبادة للأصنام.

٢ ـ بيت العنكبوت من آيات الله العظمى

بيت العنكبوت من عجائب الخلق ، كذلك العنكبوت نفسه الذي يبدو بأعيننا موجوداً قليل القيمة. وقد اكتشف العلماء حتى الآن عشرين ألفاً من أصناف العنكبوت ذات أشكال وسلوك وحياة متباينة.

في القسم التحتاني من بطنه توجد حفرة صغيرة بحجم رأس الأبرة ، في داخلها سائل لزج يُدخل العكبوت أطرافه فيها ويخرج مقداراً من هذا السائل اللزج يصنع منه خيوطاً تُستحكم عند تعرُّضها للهواء ، وبهذه الخيوط ينسج بيتاً أو شبكة للصيد.

يوفر العنكبوت غذاءه من خلال الحشرات التي تقع في شبكته ، فهو من الحيوانات التي

__________________

(١) جاء هذا المضمون في رواية وردت عن الامام الصادق عليه‌السلام ، راجع ميزان الحكمة ، الباب ٢٤٩٦ ، الحديث ١١٣٥٢.

٣٩٣

تتغذّى على اللحوم. بعض الحشرات تقع في الشبكة وهي طائرة ، فيهمُّ بسرعة على لفِّها بخيوطه لتصبح سجينته حتى الموت فيأكلها عندئذٍ.

لهذه الخيوط خصائص فريدة نشير إلى بعضٍ منها :

الاولى : أكثر استحكاماً من الفولاذ ، فإذا صنعنا خيوطاً من الفولاذ بنفس مقاسات خيوط العنكبوت كانت خيوط العنكبوت أكثر استحكاماً ، وإذا صنعنا أنابيب من سائل العنكبوت بحجم قطر انابيب الفولاذ كانت أنابيب سائل العنكبوت أقوى وأكثر استحكاماً بمرات.

الثانية : ينسج العنكبوت من السائل الموجود في حفرة بطنه ما يقرب من ٥٠٠ خيطاً أو وتراً ، وهذا أمر عجيب حقاً.

الثالثة : الأعجب من ذلك كله أن بعض الخيوط تشكّلت من أربعة خيوط أقل سمكاً ، كلُّ منها يتشكل من ألف خيط.

ألم يكن ذلك من آيات الله؟ (وَكَأيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالأرْض يَمرُّونَ عَلَيْهَا وهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١).

الرابعة : هندسة العنكبوت مما تثير الإعجاب ، فهذا الحيوان الضعيف ينسج بيته على غرار أشعة الشمس بنحو مساوي ومنتظم ، مراعياً في ذلك الفواصل والزوايا بدقة فائقة.

خلاصة الكلام ، أن الله تعالى أعمل دقة ونظاماً في غاية الدقة عند خلقه هذه الحشرة التي تبدو ضعيفة.

كلٌّ من العجائب تكفي لمعرفة الله تعالى ، مع أن الكون مفعم بهذه العجائب والآيات ، ولا مسألة غير التوحيد تتمتع بهذا المقدار من البراهين والأدلة ، فلها مليارات من البراهين ، فكلٌّ من النجوم والكواكب وحتى الحيوانات وأوراق الاشجار والبشر كلها أدلة على الله تعالى ، فهو ليس بالأمر الخفي.

سؤال : إذا كان وجود الله تعالى بهذه الدرجة من الوضوح فلما ذا ينكره الماديون؟

__________________

(١) يوسف : ١٠٥.

٣٩٤

الجواب : إنَّهم يقرّون بوجود الله بنحوٍ أو آخر لكنهم يبدّلون اسمه ، فعند ما يتحدّثون عن عظمة الله وقدرته المتجلّية في معدة الانسان حيث يمكن له العيش بثلثها فقط ، يقولون : (الطبيعة عملت بنحوٍ حيث يمكن للانسان العيش بثلث المعدة إذا تعطَّل ثلثا أجزاء المعدة ، فعند التعطيل يقوم الجزء غير المعطَّل بجميع النشاطات المطلوبة من المعدة). وفي الحقيقة مرادهم من الطبيعة هو الله تعالى ، فنحن ندعوه ونخاطبه ولا ندعو الطبيعة ولا نخاطبها ؛ لأنَّها غير ذات شعور وليست أهلاً للخطاب.

٣ ـ فلسفة التمثيل بحيوان ضعيف

عند ما سمع المشركون تشبيه الله المشركين بالعنكبوت وأصنامهم ببيت العنكبوت اعترضوا وتساءلوا عن سبب تمثيل الله بحيوانات ضعيفة ، وهل هي تتناسب مع عظمة الله؟

أجاب القرآن عن اعتراضهم وتساؤلاتهم من خلال الآية ٤٣ من نفس السورة ، حيث قال :

(وَتِلْكَ الأَمثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّاالعَالِمُونَ)

أي أن الفصيح والبليغ يتكلَّم بما يقتضيه الحال ، فإذا كان الحديث عن ضعف وهون موجودٍ من قبيل معبود المشركين فعليه التمثيل بما يكشف عن هذا الضعف والوهن ، وأي مثال أفضل من بيت العنكبوت يكشف عن ضعف وهون الأوثان؟

٤ ـ قيمة العلم

أكّد القرآن على العلم والمعرفة في موضعين من الآيات المتقدّمة :

الاول : في نفس المثل حيث ذيّله بالعبارة التالية : (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

والثاني : عند الإجابة على اعتراض المشركين على تمثيل القرآن بحيوانات ضعيفة مثل العنكبوت والبعوض ، فقد جاء هناك : (وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّاالعالِمُونَ)

مفهوم الجملتين ، حيث أكّد فيهما القرآن على العلم ، هو كون العلماء والمفكرين هم المخاطبون الأصليون لهذا الكتاب ، رغم أنَّه كتاب لجميع البشر.

٣٩٥

كلَّما ازدادت قابلية الانسان العلمية كلَّما ازداد نهماً منه.

أهمية العلم في ديننا بالغة بحيث يُعدُّ رأس الفضائل وغايتها (١) ، كما أنَّه من الأعمال الموصى بها في ليالي القدر ، رغم كون هذه الليالي للدعاء والمناجاة والتوبة (٢).

مباحث تكميلية

١ ـ لنعتبر من التاريخ

عند ما نتصفّح التاريخ نجد شواهد كثيرة تحكي عن ضعف وهون كلّ قدرة غير الله تعالى.

يحكي القرآن الكريم قصة قوم سبأ في الآيات ١٥ ـ ٢١ من سورة سبأ ، وهي نموذج كامل وشاهد حقيقي على ما نقول.

خلاصة قصة قوم سباً

كانت في بلاد قوم سبأ جبال تجري منها سيول عند هطول الأمطار ، ممَّا يؤدي إلى تدمير مزارعهم ومنازلهم ، فأقدموا على إيجاد سدٍّ ترابي يمنع وصول السيول إلى المزارع والمنازل ، ويبدو أنَّه أول سدٍّ بناه البشر ، فأوجدوا بحيرة عظيمة خلف السد ، كما أوجدوا قنوات لري المزارع والبساتين.

تبدّلت بلادهم ببركة هذا السد إلى مزرعة عامرة عظيمة ملؤها الأزهار والثمار والفواكه ، فازدهر اقتصادهم ، وكان منشأً لبلورة حضارة سمّيت باسمهم ، وقد بلغ الرفاه والنعم في بلدهم إلى درجة كانت الطرق جميعها مُظلَّلة بالاشجار المثمرة ، وكان المسافرون يمشون تحت ظل الاشجار ما داموا في هذا البلد ، كما كانوا في غنى عن حمل أمتعة معهم باعتبار وفرة فواكه واثمار أشجار الطريق ، بل كان يكفيهم أن يحملوا معهم سلة يملؤونها من أمتعة الطريق.

لكن وفور النعمة يبعث إلى الغرور والغفلة ، فقد بدأ يصدر من البعض ما يكشف عن

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٢٨٣١ ، الحديث ١٣٣٣٠.

(٢) المصباح المنير (المشكيني) : ٣٩٥.

٣٩٦

نكرانهم نعم الله ، فكانوا يقولون مثلاً : (يا له من وضع ، فقد كان السفر خاصاً بالأثرياء ، وحالياً الجميع بإمكانه السفر) ، أو (يا له من بلد تتّصل فيه القرى بالمدن والقرى بالقرى ، وكل مكان فيه مشجَّر ومعمور؟ يا رب فرّق بين القرى) ، وكثير من الكلمات الاخرى التي تصدر عن غفلة.

أدَّى نكران النعمة إلى نزول العذاب الإلهي وتدمير ما كان معموراً.

هل تعلمون كيف دمّر الله هذا البلد العامر؟ هل دمَّره بالقنابل النووية؟

كلا ، كانوا ضعفاء كبيت العنبكوت ، فما كانت الحاجة إلى قنابل نووية ، فقد أوكل الله وظيفة تدمير هذا البلد إلى مجموعة من الفئران ، لكي يُفهم الانسان أن كل قدرة غير الله ضعيفة كضعف بيت العنكبوت.

أوجدت الفئران ثقوباً صغيرة في السد توسَّعت هذه الثقوب تدريجياً إلى أن أدت إلى انهيار السد في ليلة تزامن مع صوت مرعب ، وغطى الماء البلد لكي يتبدَّل إلى مستنقع بعد ما كان يبدو بلداً أخضر من كثرة الأشجار والمزارع والبساتين ، ولم يعد بلداً مؤهلاً للعيش ، فهجره أهله إلى البلاد المجاورة.

٢ ـ أليس الاتكال على غير الله اتكال على بيت العنكبوت؟

النموذج الآخر للقدرات الشبيهة ببيت العنكبوت هو قدرة الشاه نادر قلي أفشار ، فقد استطاع بقدرته طرد الأفغان الذين كانوا يسيطرون على إيران ظلماً وعدواناً ثمّ أقدم على توسيع رقعة سلطته ، فهاجم عدَّة دول حتى وصل الهند وتحوّل إلى اسطورة ، لكنَّ هذه الأسطورة وافاها الأجل ببساطة. في ليلة غضب على أحد طباخيه ، وخوفاً من توقيع حكم إعدامه صباح اليوم اللاحق سابق الطباخ وأقدم على قتل نادر شاه ليلاً وقطع رأسه ، وهو نائم.

نعم ، هذا هو شأن كل قدرة بيت عنكبوتية ، وإذا دقَّق الناس فهموا أنه لا يمكن الوثوق بقدرة غير قدرة الله ، ولا يمكن الاتكاء على غير الوحيد الأحد.

٣٩٧
٣٩٨

المثل الثاني والأربعون :

توحيد المالك

يقول الله تعالى في الآية ٢٨ من سورة الروم :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُم مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقُومٍ يعْقِلُونَ)

تصوير البحث

نظراً للأهمية الفائقة للتوحيد وفروعه المختلفة جاء هذا المثل لبيان أحد فروع الشرك والتوحيد ، منطلقاً من بعض عقائد المشركين وموظفاً وجدانهم وفطرتهم للتفكير في التوحيد ، ومن خلال طرح بعض التساؤلات حثَّهم على التفكُّر في عبادة الأصنام وقضاياه المختلفة.

فروع التوحيد

للتوحيد فروع مختلفة نشير إلى بعض منها باختصار.

١ ـ توحيد الذات

توحيد الذات يعني القول بأن ذات الله تعالى واحدة ، وهو خالق ومبدأ كل شيء ، وفي قبال ذلك الوثنيون الذين يقولون بمبدأين الكون هما : الله والشيطان ، وأن الانسان مخلوق من الشر والخير ، وخالق الخير لا يمكنه أن يكون خالقاً للشر ، كما أن خالق الشر لا يمكنه أن يكون

٣٩٩

خالق الخير ، والله مبدأ الخير ، والشيطان مبدأ الشر.

واجهت الأديان التوحيدية وبخاصة الاسلام هذه العقيدة ، ومن وجهة نظر المسلم لا شرَّ في العالم ، وكل ما يوجد هو خير ، لكن الأشقياء يسيؤون استخدام الأشياء ، فالمال والثروة والمقام والشهوة كلها خير ، لكن المسيئين يستخدمونها بنحو غير مشروع ، وبذلك يتبلور الشر ، وسوء استخدام شيء لا يدل على كونه شراً.

تجري هذه القاعدة في حق باقي الأحياء كذلك ، فسموم الحيوانات ليست شراً ؛ لأنها وسائل للدفاع عن نفسها ، كما أنَّ كثيراً من الأدوية تُعدُّ بهذه السموم ، لهذا نرى اهتمام بعض شركات صناعة الأدوية بقضية تربية الحيوانات السامة من قبيل الأفاعي.

إذن ، لا شرَّ في الكون لكي نحتاج للقول بوجود مبدأين للكون ، وكل ما يوجد يُعدُّ خيراً ولا مبدأ للعالم اكثر من واحد ، فهو مبدأ كل شيء وكل أمر وهو ذات الله ، وهذا ما يطلق عليه توحيد الذات.

٢ ـ توحيد الصفات

المراد من توحيد الصفات هو كون كلٍّ من الصفات عين الاخرى ، عكس صفات الانسان ، فكلٌّ منها غير الاخرى. يدا الانسان من مظاهر قدرته ، ودماغه وسيلته للتعقل والإدراك ، أمَّا الله تعالى فذاته كلها قدرة وذاته كلها علم ، وذات قدرته عين ذات علمه ، وذات علمه عين ذات قدرته.

وهناك تفسير آخر لتوحيد الصفات ، وهو أنَّه لا يمتلك أحد الصفات الإلهية ، وهو وحيد في صفاته ومنفرد بها ، علمه وقدرته ورحمته وحكمته موجودة فيه بنحو استقلالي ، ولم يأخذها من آخر ، عكس ما عليه الانسان فقد اكتسب قدرته وعلمه من الله ولم تكن فيه على نحو الاستقلال ، والله هو الذي منحه هذه الصفات.

٣ ـ التوحيد في الأفعال

هذا التوحيد يعني رجوع جميع الأفعال والحركات والنشاطات إليه ، وكل ما يملكه

٤٠٠