أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

إن هذه الهداية الالهية شملت سلمان الفارسي الذي طوى مسافات شاسعة بين ايران والمدينة وتحمَّل المشاق والمتاعب الكثيرة لأجل لقاء الرسول وقبول دينه ، وقد كان من أوائل المسلمين الذين لبّوا دعوة الرسول وبقى على عقيدته وصمد وقاوم ودافع عنها حتى آخر لحظات عمره الشريف.

ولم تشمل هذه الهداية أمثال أبي لهب وأبي سفيان ؛ لأنهما كانا إلى جنب الرسول وكانا يرانه كل يوم ويسمعان حديثه وآيات الله ، ولم يزدهما ذلك إلَّا عصياناً ولجاجاً ومقاومة لهذا الدين.

من الواضح أن شمول أو عدم شمول الهداية لم يكونا اعتباطاً بل كانا عن حكمة ، فقد تحمَّل سلمان المشاق والمتاعب الوافرة لأجل هذا الدين ، وتحمَّل عبء العبودية والرق مرات عديدة وتحمَّل التعذيب ، ولم تثبّط هذه الامور عزيمته على لقاء الرسول ، فكان جديراً للهداية حقاً ، أما العصاة المتعصّبون وعبدة الأهواء والمغرورون ، فكان التعصّب والغرور واللجاجة قد ضرب بينهم وبين نور الايمان ستاراً يمنع من نيلهم من هذا النور ، فكانوا دون نصيب منه.

لا يمكن للأعمى أن يهتدي بنور الشمس مهما كان قوياً ، وهذا ليس لنقص في نور الشمس بل لسقم في عينيه.

والخفاش إذا كان يعيش في الظلام ويهرب من نور الشمس سعياً وراء الظلمات فلأجل أنه غير جدير ولا مؤهَّل لنور الشمس ، بل ذلك هو شأنه.

النور نور مهما كان ، وما علينا هو إعداد أنفسنا للاستلهام منه ، فنتجنّب الرذائل الأخلاقية لكي نكتسب أهليه الهداية الالهية.

إذن ، الآية : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) تعني : يهدي الله لنوره من وجدت فيه الأهلية والجدارة.

والآية : (وَاللهُ بكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ) تعني : الله عالم بمن تحققت فيه هذه الجدارة فيهتدي ومن لم تتحقق فيه فلا يهتدي بل يُحرم من الهداية. وبتعبير آخر : لا يتوفّق الانسان لعمل إلَّا إذا عشقه ، ولو أراد الانسان الهداية الإلهية فعليه أن يحب الله ويترك الأهواء واتّباع الشيطان.

شكى شخص عند أحد العظماء بأنه لم يُوفّق لرؤية صاحب الأمر والزمان (أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء) حتى في المنام ، رغم حبه إياه وعشقه الوافر له.

٣٦١

فقال له العالم : أدلّك على طريق يبلغ بك إلى الرؤية ، كُل هذه الليلة طعاماً مالحاً جداً ونم دون أن تشرب ماء بعده.

عمل هذا الشخص بوصفة هذا العظيم ، فنام عطشاناً ، وقد سرق العطش منه النوم إلَّا أنه كان ينام بين الحين والآخر وكلَّما نام شاهد في المنام ماءً وأنهاراً ومنامات تتعلَّق بالماء فقط ولم يرَ في المنام شيئاً غير الماء. وفي الصباح استيقظ وقال مع نفسه : عملت بوصفه ذلك الرجل ولم أرَ إلَّا الماء ، فذهب وحكى له ما جرى ، فأجاب ذلك الرجل : إنك كنت أمس عطاشاً ومشتاقاً للماء حقاً فما رأيت في منامك غيره ، ولو كنت مشتاقاً لرؤية الحجة بن الحسن حقاً (عجل الله فرجه) لرأيته.

يناسب بحثنا رواية وردت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد قال في طعم الإيمان : «ثلاثٌ مَن كنَّ فيه ذاق طعم الإيمان ، مَن كان لا شيء أحبُّ إليه من الله ورسوله ، ومَن كان لإنْ يُحرَق بالنار أحب إليه مِن أنْ يرتدَّ عَن دينه ، ومن كان يحبُّ لله ويُبغض لله» (١).

وجود هذه الثلاثة في الانسان يعني الالتفات والتوجّه الخالص لله لا للزوج والأولاد والأهواء والجيران والأصدقاء والمعارف ، كما تعني اختيار الانسان الحرق بالنار فيما لو خُيِّر بينه وبين البقاء على دينه ، كما تعني أن لا يعادي إلَّا مَن أراد الله معاداته وان لا يحب إلَّا من أحبه الله ، أي أن علاقاته تبتني على حبّ الله وبغضه ، عندئذٍ يذوق الانسان طعم الإيمان وحلاوته.

وهناك رواية اخرى يقول فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«مَن كَانَ أكثرُ همّه نيل الشهوات نزعَ من قلبه حلاوة الإيمان» (٢).

كيف يقوى إيماننا؟

سؤال : مع الأخذ بنظر الاعتبار الأهمية القصوى للايمان ، فما نعمل لتقويته؟ أو كيف يمكننا

__________________

(١) تنبيه الخواطر (من مجموعة ورّام) ٢ : ١١٦.

(٢) ميزان الحكمة ، الباب ٢٨٢ ، الحديث ١٣٧٤.

٣٦٢

أن نوقد نور الايمان في قلوبنا؟

الجواب : هناك أساليب متعددة لتقوية الإيمان نشير إلى بعضٍ منها :

الاول : التعرُّف على القرآن

يقوى إيماننا أكثر كلَّما تعرَّفنا على القرآن أكثر ، ويضعف إيماننا كلما ابتعدنا عن ينبوع السعادة هذا ، وقد صرَّحت بذلك الآية الثانية من سورة الأنفال :

(إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيمَاناً وَعَلى ربِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

أيُّها الأعزة ، عليكم التعرُّف على القرآن أكثر فأكثر ، فاتلوا القرآن وراجعوا تفسيره ، وبخاصة أن تفاسيراً جيدة أصبحت في متناول اليد هذا العصر.

يسرّني أن أرى بعض المسلمين الذِين يعيشون بين الكفار قد حافظوا على دينهم وإيمانهم بل ازدادوا إيماناً بفضل هذا الاسلوب.

الثاني : التدقيق في أسرار الخلق

الدنيا التي نعيشها مفعمة بآيات الله تعالى ، وإذا سبق وأن قيل في ورقة الشجرة : إنها بمثابة كتاب لُاولي الألباب ، يقال فيها اليوم : إنها مكتبة لذوي العقول ، وتكفي الانسان ليتعرَّف على الله إذا لم يمر منها دون تفكّر ، فهي من عجائب الخلق رغم كثرتها وتواجدها في كل مكان من ساحات المنازل والشوارع والازقة.

يقول العلماء : إذا وضعنا الورقة تحت مجهر نجدها تتكون من بناء ذات عدَّة طبقات ، لكل طبقة بناء خاص ومسئوليات خاصة. في الورقة شبكة معقدة وطويلة ومنتظمة من الأنابيب ، لا يمكن للمهندسين تصميم هكذا شبكة لأنابيب المياه في مدينة. ولهذا يقال : كل ورقة مكتبة لمعرفة الخالق.

لبلوغ هذا الهدف ، يمكن للشباب أن يطالعوا ما دوِّن في علم الأحياء والنبات ، والتي تُدرّس بعضها في الإعدادية ، وكلَّما دققنا في خلق الله كلما زادت معرفتنا ، وكانت نتيجة هذه المعرفة وثمرتها حب الله ، وفاكهة حب الله الصون من الخطأ وارتكاب المعصية.

٣٦٣

الثالث : التقوى والورع

الاجتناب عن ارتكاب الذنوب والسير في طريق الاسلام المستقيم من عوامل تقوية الايمان ، وكلَّما زاد تقوى المؤمن وورعه كلما تنوّر قلبه بنور الإيمان أكثر فأكثر ، وكذا العكس ، أي كلَّما ضعف تقوى الانسان كلما ضعف إيمانه.

كما أن هناك علاقة متبادلة بين الايمان والتقوى ، فكما أن التقوى تقوّي الايمان كذلك الايمان فهو يقوى التقوى ويزيد فيه.

الرابع : التوسّل والدعاء

التوسّل بلطف الله والمعصومين عليهم‌السلام من عوامل تقوية الإيمان ، فلا ينبغي الغفلة عنهما ، والمفروض في التوسّل والدعاء أن يقترنا بحضور القلب والواقعية ، وأن ينطلقا من الإحساس بالحاجة حقاً ، فلا ندعو ولا نتوسل إلَّا ونعتبر أنفسنا فقراء محتاجين ، ونخاطب الله ونقول : (لا نأمل شيئاً إلَّا منك) أو (مَن لنا غيرك)؟

لو أحكمنا علاقتنا مع الله تعالى أصلح الله علاقتنا مع باقي المخلوقات.

أتمنى أن نبلغ منازل الإيمان العليا من خلال العمل بهذه الأوامر والأساليب.

في نهاية البحث ننقل حديثاً جميلاً عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه : «إنَّ أعلى منازل الإيمان درجة واحدة مَن بلغ إليها فقد فاز وظفر ، وهو أن ينتهي بسريرته في الصَّلاح إلى أن لا يُبالي لها إذا ظهرت وأن لا يخاف عقابها إذا استرت» (١).

مباحث تكميلية

تفاسير متباينة لآية واحدة!

قلنا : للآية تفاسير مختلفة ، تقدَّم تفسير واحد وسيأتي تفسيران (التفسير الفلسفي والتفسير الروائي) ، وقبل التعرُّض لهذين التفسيرين ينبغي الإجابة عن السؤال التالي :

هل يمكن أن يكون عدَّة تفاسير لآية واحدة؟ وهل يمكن أن يكون هناك عدَّة معاني لجملة

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٢٧٣ ، الحديث ١٣٣٨.

٣٦٤

واحدة وفي وقت واحد؟ وهل يجوز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد؟

الجواب : نعتقد أن ذلك ليس جائزاً فحسب بل يُعدُّ فناً ويكشف عن بلاغة المتكلم وجمال وعمق كلامه ؛ فاستعمال اللفظ في أكثر من معنى من محاسن الكلام وكماله (١).

وعلى هذا ، فلا مانع للآية أن يكون لها سبعون تفسيراً قصدها المتكلم جميعاً ، ونجد نماذج لذلك في باقي مجالات اللغة العربية بل حتى غير العربية. وعلى سبيل المثال ذُكر سبعون معنى لمفردة العين ، كعضو الانسان المعروف والذهب والشمس وغير ذلك. وقد وصف أحد الشعراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبيتين التاليين :

المرتجى في الدُّجى والمبتلى بعمى

والمشتكى ضمئاً والمبتغى ديناً

يأتون سدته من كل ناحية

ويستفيدون من نعمائه عيناً

أي أنَّ طوائف أربع تأتي للرسول وتطلب منه شيئاً ، هم :

١ ـ المبتلون بالظلمات يأتون لعين وشمس وجوده.

٢ ـ العُمي الذين يقبلون عليه لنعمة عينه.

٣ ـ الفقراء يأتونه لطلب العين ، أي الذهب.

٤ ـ المسلمون الذين يشعرون بالظمأ فيقدمون له لطلب عين الماء.

ضمَّن هذا الشاعر الماهر المعاني الأربعة للعين في مفردة العين التي وردت في شعره.

على أي حالٍ ، لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحدٍ ، ولهذا يمكن للآية الواحدة أن يكون لها عدَّة معاني وتفاسير ، على أن يكون لكلِّ تفسير شواهده وقرائنه لا أن يكون تفسيراً اجتهادياً وبالرأي ، فنحن ممنوعون من ذلك.

بعد هذه المقدمة نَبتُّ بالتفسيرين الآخرين لهذه الآية.

الف : التفسير الفلسفي

ذكر الفلاسفة تفاسير متعدِّدة لهذه الآية نشير إلى واحدٍ منها.

__________________

(١) بحث هذا الموضوع علماء الاصول ، منهم الاستاذ في كتابه : أنوار الاصول ١ : ١٤١ ، وقد أشبعه بحثاً هناك.

٣٦٥

يقول الفلاسفة : هناك ثلاثة عوالم ، هي :

١ ـ عالم المعقولات : وهو عالم العقول والمجرّدات ، أي عالم ما وراء المادة ، وهو عالم لا زمان فيه ولا مكان ولا جسم ولا أجزاء.

٢ ـ عالم النفوس : وهو العالم الذي تلتقي فيه المجرّدات بالمادة ، مثل روح الانسان التي هي من المجرّدات تلتقي بجسمه الذي هو مادي.

٣ ـ عالم الأجسام : وهو الذي أشارت إليه العبارة : (مَثَلُ نُورِهِ) ، فهي تعني نور الوجود ، فقد شبَّه الفلاسفة الوجود بالنور في كثيرٍ من مباحثهم ، وقالوا هنا : المراد من النور هو نور الوجود الذي يقع في ثلاث مراحل ، في عالم المجردات توجد الملائكة ، وفي عالم النفوس يوجد الناس وفي عالم الأجسام توجد الأجسام الاخرى.

المراد من المصباح الذي ورد في الآية هو عالم العقول ، وهذه العقول تقع في الزجاجة التي هي عالم النفوس ، وهذه العقول التي في النفوس توضع في مشكاة تُدعى أجسام. ينشر الله نور الوجود ، حيث خلق العقول والمجردات أولاً ثم الزجاجة التي هي النفوس ثمّ الوعاء والمشكاة ، وهو عالم الأجسام ، أما شجرة الزيتون المباركة فهي ذات الله تعالى ، التي هي مصدر كل الموجودات في العالم ، وأما الزيت فهو فيض الوجود الذي ينبع من الله تعالى.

الخلاصة : فسَّر الفلاسفة النور الالهي بالوجود ، وطابقوا المصباح والزجاجة والمشكاة على العوالم الثلاثة.

باء : التفسير الروائي

يستفاد من الروايات الواردة في تفسير هذه الآية أن المراد من المصباح هو العلم ، فهو سراج منير يهتدي به الناس ، والمراد من المشكاة قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهر ، والمراد من الزجاجة هو وصي الرسول ، أي الامام علي عليه‌السلام ، فقد حافظ على الرسول وآثر بنفسه لأجل الرسول وتحمَّل الأخطار والمشاق في هذا المجال ، والمثال البارز لهذا الكلام دفاعه عنه في معركة (احد) ، فقد كتب الشيعة والسنة أن مَن تبقى حياً من المسلمين فرَّ إلَّا علي فقد عكف في

٣٦٦

ساحة الحرب دفاعاً عن الرسول وللذود عنه فكان يحوم حوله ويواجه كل من قصد الرسول وأراد قتله.

انتهت معركة احد وعلي عليه‌السلام يحمل معه جروحاً كثيرة ، عدَّتها بعض الروايات إلى تسعين جرحاً ، وفي رواية وردت عن الامام نفسه يقول فيها : «أصابني يوم احد ست عشر ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهنَّ ، فأتاني رجل حسن الوجه ، حسن اللمّة ، طيّب الريح ، فأخذ بضبعي فأقامني ثم قال : أقبل عليهم ، فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله ، وهما عنك راضيان» قال علي عليه‌السلام : «فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته فقال : يا علي أقرّ عينك ذاك جبرئيل» (١).

جملة (نورٌ على نورٍ) تشير إلى الأئمة الاثنى عشر ، فكلٌّ منهم نور على النور الذي سبقه ، والمراد من الشجرة المباركة هو الشجرة الإبراهيمية المباركة التي تفرَّع منها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد من (لا شَرقِيَّة وَلا غَرْبِيَّة) هو نفي التوجُّهات اليهودية والمسيحية (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٠ : ٩٣.

(٢) انظر الأمثل ١١ : ٩٥.

٣٦٧
٣٦٨

المثل الثامن والثلاثون :

سراب الحياة

جاء ما يلي في الآية ٣٩ من سورة النور :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمآنُ مَاءً حتى إذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حسابَهُ واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ)

تصوير البحث

وردت هذه الآية في الكفار غير المؤمنين ، عكس آية المثل السابق ، حيث وردت في المؤمنين (وفقاً لأحد التفاسير) ؛ فهي أجابت على التساؤل التالي : هل تقبل الأعمال الحسنة لهؤلاء عند الله أم لا تُقبل منهم أيٌّ من الأعمال الحسنة؟ جواب الآية على هذا التساؤل كان من خلال ضربها مثلاً يأتي شرحه.

الشرح والتفسير

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)

لأجل اتّضاح معنى الآية ينبغي شرح المفردتين (سراب) و (قيعة).

السراب من مادة سَرْب ، وتعني الحركة والجري من الأعلى نحو الأسفل ، ففي العربية مفردات دقيقة ، فقد وضع العرب للجري من الأعلى إلى أسفل مفردة غير التي وضعوها للجري من الأسفل إلى الأعلى أو الجري على الارض المستوية ، أي أنَّهم كانوا يضعون مفردة

٣٦٩

مستقلة للحالات المتباينة والمختلفة ، فللجري من الأعلى إلى الأسفل وضعوا (سَراب) ، والذي تورَّط بالسراب يقال : (سَرَب) ، كما قد يُطلق (سَرْب) على الماء الجاري ؛ لأنه يجري ويسيل من الاعلى إلى الأسفل دائماً ، أما علميّاً فالسراب ليس ماءً بل يشبه الماء وينشأ من انكسار الضوء (١).

حرارة سطح الارض إذا ازدادت سببت ترقيق طبقات الجو القريبة من سطح الأرض ، والضوء الذي يأتي من الطبقات العليا ينكسر عند ما يصل سطح الأرض ، ويبلغ الانكسار إلى مستوى الانعكاس الكامل ، فيعكس لون السماء الأزرق فتبدو طبقات الجو القريبة من سطح الأرض ماءً ، وهو ما يُطلق عليه السراب.

أرجع بعض العلماء قصة سعي هاجر زوجة إبراهيم عليه‌السلام بين الصفا والمروة إلى رؤيتها السراب ، وخلاصة القصة : أن هاجر صعدت جبل الصفا سعياً نحو الماء فشاهدت سراباً على جبل المروة ، فركضت نحو المروة ، لكنها لم تجد ماءً ، فنظرت إلى الصفا فرأت سراباً فركضت نحوه كذلك ولم تجد ماءً عند ما بلغته ، واستمر سعيها للبحث على الماء بين الجبلين سبع مرَّات حتى نبعت عين زمزم تحت رجلي اسماعيل عليه‌السلام ، وبذلك نجيا من الموت (٢).

اتضح بذلك معنى السراب لغةً وعلمياً ، لكنَّ المعنيين غير منظورين في الآية ، والمراد من السراب في الآية المعنى الكنائي ، الذي هو عبارة عن الشيء الذي يبدو جميلاً وخلَّاباً من بعيد ، وهو أجوف في الواقع.

مفردة (قيعة) تعني الصحراء الخالية من الماء والكلأ ، واختُلِف في كون هذه الكلمة مفرداً أو جمعاً ، والإنصاف أنَّها مفرد ، كما هو حال السراب.

إذن ، من كان نور الإيمان منطفأً عنده ولا إيمان له فان أعماله الصالحة وعباداته وسجداته وانفاقه وإعاناته كسراب في صحراء جرداء خالية من الماء والكلأ.

(يَحْسَبُهُ الظمآنُ مَاءً)

__________________

(١) كمثال على ذلك : لو وضعنا ملعقة بنحو مائل في قدح ماء لوجدنا الملعقة تبدو معوجّة ، وهذا بسبب انكسار الضوء.

(٢) تفاصيل القصة تجدها في الأمثل ١ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

٣٧٠

الظمأ يعني العطش ، والظمآن هو العطشان ، والسراب يجذب العطشان نحوه ؛ باعتبار حاجته الملحّة للماء.

(حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)

الظمآن بعد ما يرى السراب ، يتحرّك باتجاهه ، وعند ما يصل إليه لا يجد ماءً ، فينظر إلى حيث كان ، فيرى سراباً آخر ، فيتّجه نحوه كذلك ، وهذه العملية تستمر هكذا ، ممَّا يؤدّي إلى ازدياد عطشه. هذا هو شأن الكفار يوم القيامة ، فهم يبحثون عن أعمالهم الحسنة التي أدوها في الدنيا لعلَّها تنجيهم ، لكنهم لا يحصلون على شيء فيرجعون خلو اليدين ؛ لأن أعمالهم كانت بمثابة السراب الذي يبدو ماءً وما هو بماء.

(فَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)

يتعطش الكافر يوم القيامة إلى الأعمال الصالحة ، فيرى من بعيد تلاً من أعماله فيتّجه نحوها ، وعند ما يقترب منها يجدها لا شيء بل يجد الله (أي يجد عظمته أو عذابه) يهتمُّ بحسابه ويريه جزاء أعماله القبيحة.

(واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ)

لا يتوانى الله في حساب الكفار ، بل يُسرع في حساباتهم. وحساب يوم القيامة يختلف عن الحسابات العادية التي نمارسها يومياً ، فهو حساب معقّد ودقيق ويستدعي وقتاً طويلاً ، فمن الصعب جداً أن تُراجع أعمال الانسان كلها منذ بداية خلقته ، سواء التي نفذّها بيده أو برجله أو بلسانه أو بقلبه أو بعينه أو اذنه.

رغم ذلك جاء في رواية : «إنَّه تعالى يُحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر» (١) ، وهذا هو معنى (واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ)

لكن يا ترى كيف يمكن هذا؟

للاجابة على هذا السؤال ينبغي إلقاء نظرة على بعض منجزات البشر.

يوضع في الطائرة صندوق يُدعى الصندوق الأسود ، وهو في الحقيقة نظام مراقبة يشرف

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٢٩٨.

٣٧١

على حركات وإيعازات الطيّار بدقة ، وإذا برز نقص أو إشكال فني في الطائرة يحدّده مباشرة حتى لو سقطت الطائرة وتحطّمت وقُتِل مَن كان فيها.

النموذج الآخر الحاسوب الذي تستخدمه المخابرات في العالم ، فهي قادرة على سرد كل معلومات ذات علاقة بحادث أو قضية أو شخص ما في لحظات من خلال حاسوباتها.

والنموذج الأبسط لذلك أجهزه الحاسوب التي تحدّد ساعات دخول وخروج الموظفين في دائرة ، فهي تعيّن مقدار تأخُّر الموظف وساعاته إن نقصت ، ومقدار راتبه في نهاية الشهر.

كذلك أعمال الانسان فإنّها مراقبة من قبل أجهزة إلهية دقيقة جداً ، تسجّل عندها كل حركة ونشاط للانسان ، وبامكان الله تعالى أن يحصل على أعمال الانسان الكثيرة التي قام بها خلال عشرات السنين من عمره بنظرة واحدة ، (واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ)

غالباً ما تخلو الأعمال السريعة والمستعجلة مِن الدقة الكافية ، لكن الدقة هنا فائقة بحيث لا يبقى شيء ولو بسيط دون حساب ، رغم السرعة العالية.

معاذ بن جبل يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا نبيَّ الله ، وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به يا رسول الله؟ فيجيبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فهل يكبُّ الناس في النار على مناخرهم إلَّا حصائد السنتهم» (١).

أي أن كلام الانسان لا يُحاسب عليه فقط بل خطره أكثر من خطر باقي الأعمال ، ويمكنه إدخال الانسان في النّار ، وبخاصة أن كبائر الذنوب تُقترف باللسان. ولهذا علينا الانتباه عمَّا يصدر منَّا من أعمال ، فإنَّا محاسبون على كل واحد منها ، خصوصاً اللسان الذي خطره أكبر من غيره.

النتيجة : وفقاً لما جاء في هذه الآية كون أعمال الانسان الكافر بمثابة السراب الذي يبدو شيئاً من بعيد ، وهو لا شيء ولا واقع له من قريب ، فلا يغني من جوع ولا يروي من عطش.

خطابات الآية

١ ـ المثل لدنيا الكافرين أم لُاخراهم؟

سؤال : هل أعمال الكفار في الآخرة بمثابة السراب ولا فائدة تعقبها أم في الدنيا كذلك؟

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٣٥٦٨ ، الحديث ١٧٩١٤.

٣٧٢

وبتعبير آخر : هل أن أعمال الكفار غير مثمرة في الدنيا والآخرة معاً؟

الجواب : نعتقد أن الآية تشير إلى دنيا الكفار وإلى آخرتهم ، فأعمالهم في الدنيا كذلك سراب لا أكثر.

الانسان المعاصر تورَّط بأنواع مختلفة من السراب الذي يسعى حثيثاً نحوه ثمّ يجده لا شيء ، ومن ذلك الحرية الغربية.

إذا نظرنا إلى العالم الغربي من بعيد نرى الحرية الجميلة تتلألأ فيه وتجتذب الانسان نحوها ، لكنَّا عند ما ندخل في المجتمعات الغربية لا نجد أثراً للحرية الحقيقية ، بل نجد الغربيين اسرى لُامور مختلفة من قبيل الأهواء والموضات والمخدرات ومختلف الأمراض الجنسية والتمييز العنصري وما شابه ذلك.

الإدمان جعل من الانسان موجوداً لا ابالياً تجاه الدين والشرف والناموس. كما أن الموضات والأزياء لا تنسجم مع العقل السليم ؛ لأن ترك لبس الحذاء أو الملابس بذريعة سقوط موضته يُعدُّ نوع إسراف مذموم. أما الأهواء فقد سيطرت على الانسان كالأخطبوط الذي يسيطر على فريسته ، وقد سلب من الانسان كل نشاطاته العقلائية.

نعم ، الحرية الغربية سراب لا أكثر ، فهي ذات ظاهر جذاب وباطن أجوف ، كما هو حال حياة الانسان غير المؤمن ، فهي حياة سرابية من جميع الجهات ، فقد نراها حياة مرفّهة وسعيدة من بعيد ، لكن واقعها من قريب غريق الهموم والأمراض ، بحيث نصيبه عند الغداء أو العشاء قرص صغير من الخبز لا أكثر!

كتبت احدى الصحف أنَّ في أمريكا غابة تدعى غابة انتحار الأثرياء ، يقصدها الأثرياء بعد مللهم من سراب الحياة فيقدمون على الانتحار.

أليست هذه الحياة سراباً؟ فهي من بعيد قصر فخم وحياة مرفّهة وسيارة فاخرة وعمل مفضَّل وامكانيات وافرة ومعمل وأسهم و... أمَّا من قريب فمرض واضطراب ويأس وفراغ وما شابه ، إذن حياة الكفار سراب لا أكثر.

يقول الله تعالى في الآية السابعة من سورة الروم : (يَعْلَمُونَ ظَاهِرَاً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون)

٣٧٣

أي أنهم يعلمون زخارف الحياة وزينتها وما ظهر منها ، ويجهلون باطنها الأجوف.

ومن نماذج السراب في حياة الانسان المعاصر هو الامراض النفسية الموحشة. نعلم بتقدُّم العلم والطب كثيراً في علاج الأمراض العضوية والبدنية ، كما أنه قضى على كثيرٍ من الأمراض التي كانت في العهود السابقة ، أمَّا الأمراض النفسية فقد أخذت بالانتشار ، ومن المحتمل أن يأتي يوم يستحيل فيه العثور على انسان سليم نفسياً ؛ لأنَّ سراب الحياة سلب منه النوم ، ولا يمكنه أن يغفو ساعات متوالية إلَّا بأقراص منوّمة.

تجاوز هذه الدنيا الفانية والخادعة يتم من خلال العمل بالوصفة الدقيقة للطبيب الكبير المعالج لهذه الأمراض ، أي الامام علي عليه‌السلام ، حيث قال : «تَخفَّفُوا تَلْحَقُوا» (١).

الاسفار القديمة كانت تتمُّ على نحو قوافل ، وما كان يتوفّق فيها إلَّا مَن كانت أمتعته قليلة وخفيفة وإلَّا يتخلَّف عن القافلة في مراحلها الاولى ، والامام عليه‌السلام يرى شأن السفر في الدنيا نحو الآخرة شأن السفر مع القافلة ، فمن خفّف فيها استطاع اللحاق بها وإلَّا تخلّف.

٢ ـ الاسلام دين النوعية لا الكمية

لم يطلب الاسلام أعمالاً كثيرة من المسلمين بل طلب منهم أعمالاً خالصة ، ولهذا قد توضع يوم الآخرة تلاً من الأعمال في الميزان لا تزن شيئاً. نفس الاشخاص يوزنون كذلك من حيث الاخلاص ، وفي هذا المجال جاءت الرواية التالية : «إنَّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة» (٢).

إذن ، ما يوليه الاسلام من أهمية هو عمق العمل ، ولهذا لا يوصي الاسلام بالكثرة والكمية أبداً بل بالكيفية والنوعية.

يقول الله تعالى في الآية السابعة من سورة هود :

(لَيَبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً) ، داعياً الانسان من خلال هذه الآية إلى الاهتمام بنوعية العمل وكيفيته.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٤٩٧.

٣٧٤

المثل التاسع والثلاثون :

أعمال المشركين

يقول الله تعالى في الآية ٤٠ من سورة النور :

(أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لم يَكَدْ يَرَاهَا ومَنْ لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)

تصوير البحث

تضمَّنت سورة النور ثلاثة أمثال ، أحدها : الآية ٣٥ ، وقد تحدثّت عن نور الايمان ، وفي المثالين الآخرين (الآية ٣٩ و ٤٠) ورد الحديث عن أعمال الكفار ، فشُبِّهت أعمالهم في الآية ٣٩ بالضوء الكاذب الذي يبدو ماءً (السراب) ، أمَّا في المثل الذي هو موضع بحثنا فلا يعتبر الله أعمالهم ضوءً ولو كاذباً بل ظلمات مطلقة.

الشرح والتفسير

(أوْ كَظُلُمَاتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ)

لجيّ من اللجاجة وتعني الإلحاح على عمل ، كما لو راجعت شخصاً لكي يقوم بعملٍ لك ، لكنه يرفض فتراجعه تارة اخرَى فيرفض كذلك وتستمر المراجعات ... وهذا لجٌّ. ومن هذا الباب اطلق لُجّي على البحر عند ما تتتابع أمواجه ، فكأنَّ الأمواج تلجُّ. والله شبَّه أعمال الكفار بظلمات البحر إذا كان لجّيّاً.

٣٧٥

(يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ)

يصف القرآن هذا البحر الموَّاج بأن أمواجه تتلاحق موج بعد موج أو موج فوق موج وفي ليلة غائمة.

البحار كلَّما عمقت كلما ازدادت أمواجها وعظمت ، ويمكن تصوّر عظمة الأمواج في البحار العميقة من خلال قياسها مع الأمواج الصغيرة التي تحصل في حوض السباحة التي هي أصغر بكثير من أمواج البحار وبخاصة العميقة منها.

المستفاد من توصيف القرآن بأن البحر لجّي كونه عميقاً ، كما أن العلماء يقولون : لا ضوء في الأعماق الأكثر من سبعمائة متر ، وهذا يكشف عن وجود ظلمات دامسة في هذه الأعماق. والعجيب أن في هذه الأعماق توجد نباتات وحيوانات مشعَّة ، أي يشعُّ منها ضوء. فمن اين جاءت بالضوء؟ وما هي الأجهزة التي تولّد الضوء؟ يا مَن في البحر عجائبه؟ (١)

ما سبب كون أعمال الكفَّار بمثابة الظلمات التي في البحر اللجّي وفي أعماق لا يصلها ضوء؟

لهذا الأمر علتان ، أحدهما : عمق البحر ، وثانيهما : أمواجه. الأمواج تسبب انكسار الضوء وتمنع من عبوره إلى أعماق البحر ، مضافاً إلى هذه الظلُمات المتراكمة فإن السماء غائمة وممطرة ، وعادة ما تكون الغيوم الممطرة متراكمة وتزيد من الظلام ، عكس الغيوم الاخرى التي يقل تراكمها ويسهل عبور الضوء منها (٢).

(ظُلمَاتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لم يَكَد يراها)

ملخّص الكلام هنا أن عوامل الظلام جميعها قد اجتمعت في هذا البحر ، من الليل المظلم والسحب المتراكمة والممطرة التي تمنع من نفوذ الضوء فيها ومن العمق الكبير ومن الأمواج المتتالية التي تكسر الضوء.

لقد تراكمت الظلمات هنا إلى مستوى لو أنَّ شخصاً وضع يده أمامه ما أستطاع رؤيتها حتى لو قرّب يده من عينيه ، مع أنَّه بامكانه رؤيتها في الليالي العادية.

__________________

(١) هذه جملة من دعاء جوشن الكبير الذي يحتوي على ألف اسم من أسماء الله تعالى.

(٢) هذا إشارة إلى ما ورد في كلام الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام في الكلمة ٤٧٢ من كلماته القصار ، حيث قسَّم السحاب إلى قسمين قائلاً : «اللهُمَّ اسقنا ذلل السحاب دون صعابها».

٣٧٦

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)

الله مصدر كل ضوء ونور ، ومن أراد النور فعليه اخذه من مصدره ، وهذا هو المراد من هذه الآية ، والمراد من النور هنا نور المعنوية والعلم والمعرفة والإيمان ، وما يمكن الحصول عليه إلَّا من منبع النور.

أعمال الكفَّار مثل الشخص الذي ذكرته الآية حيث يكون في قعر بحر مظلم تراكمت عليه الظلمات بحيث لا يمكنه رؤية يده ، عكس المؤمنين فانَّ نور إيمانهم نور على نور ، يفيد منه الآخرون كما يفيد المؤمنون ذاتهم منه.

خطابات الآية

١ ـ أعمال الكافرين فقط ، لماذا؟

سؤال : أهم عامل يشكّل شخصية الانسان هو العقيدة والإيمان ، فلما ذا شُبِّهت أعمال الكافرين فقط هنا بالظلمات ولم تُشبَّه عقائدهم وكلامهم؟

الجواب : عمل الانسان ترجمة لعقيدته وطريقة تفكيره ، وفي الحقيقة العمل يكشف عن ماهية الانسان وواقعه ولا يدع مجالاً للنفاق إلى مدَّة طويلة ، مع أنَّ بالامكان إخفاء العقائد الفاسدة والتفوّه كذباً بما يعاكسها بحيث يبدو الانسان صاحب عقائد صالحة.

الايمان القوي هو الذي يظهر أثره في العمل ، وقد جاء في تعريف الإيمان : «الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان وعمل بالجوارح» (١).

رغم أن العقيدة والايمان يشكلان أهم عاملين لشخصية الانسان ، لكن العقيدة تتجسّد في القول والعمل ، وامكانية النفاق في القول كثيرة ، وعمل الفرد هو الذي يكشف عن شخصيته ، والآية أكَّدت على أعمال الكفَّار رغم أنَّ عقائدهم وأقوالهم كأعمالهم ظلمات في ظلمات.

٢ ـ «ظُلُماتُ بعضُها فَوْقَ بَعْضٍ» إلى أي شيء تشير؟

يقول البعض : إن الظلمات الثلاث ناظرة إلى عقائد الكفَّار وأقوالهم وأعمالهم.

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الحديث ١٢٦٣.

٣٧٧

وبعض آخر يقول : الظلمات الاولى تشير إلى ظلمة جهل الانسان ، فالجاهل لا إيمان له ، وإذا سلك طريق العلم هداه هذا الطريق وأرشده.

والظلمات الثانية تشير إلى الجهل الناشئ عن الجهل ، أي كون الانسان لا يعلم بأنه جاهل ، وهو خطر كبير ؛ لأنَّ الذي لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم يظن كونه هادياً ومصلحاً ، لكن واقعه عكس ذلك ، فجهله مركب ، عكس الذي يجهل ويعلم أنَّه يجهل فإنَّ جهله بسيط.

والظلمات الثالثة تشير إلى من يجهل ولا يعلم أنَّه يجهل بل يتصوَّر نفسه عالماً (١).

استخدم القرآن الكريم تعبيراً جميلاً جداً في الآية ١٠٤ من سورة الكهف واصفاً هؤلاء بما يلي :

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحَياةِ الدُّنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنعاً)

مثل هؤلاء يعدون خيانتهم خدمة ، فيعصون الله ويظنون أنهم يطيعونه ، وهذه هي الظلمات الثلاث المتراكمة بعضها فوق بعض.

٣ ـ الجبر أم الاختيار؟

سؤال : جاء في نهاية الآية : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ، فهل هي تعني أن الله تعالى يمنح من نوره إلى البعض فيهتدون بالطبع ، ويمنع عن البعض نوره فيضلّون بالطبع؟ أليس هذا جبراً؟

الجواب : جرت سنَّة الله تعالى على أن يتم توفير الأرضية من قبلنا والإفاضة منه ، أي نحن نوجد القابلية ، والفاعلية منه تعالى. وعلى هذا يجعل الله نوره ويعطيه لمن وفَّر في نفسه الأرضية والقابلية اللازمة للنور الإلهي. وهذا لا يعني أنَّ الله تعالى يجعل نوره اعتباطاً ودون حساب أو كتاب ، بل نور الايمان لا يدخل في قلب اللجوج والمتعصّب والمعادي للحق وسيئ السيرة ومتَّبع الأهواء ؛ لأنّه لم يُعدّ الأرضية اللازمة لدخول هذا النور. القلب مرآة الانسان لا ينعكس فيها النور الالهي ما لم تمسح وتنظَّف ، كما لا ينعكس لو كانت قد صدأت

__________________

(١) انظر الأمثل ١١ : ١٠٣.

٣٧٨

وفسدت ، وسبب ذلك الانسان نفسه.

علينا أن نوفّر الأرضية اللازمة للنيل من الفيض الإلهي في كل اللحظات.

من هنا يتّضح الجواب عن سبب قولنا في الصلاة : (إهْدِنَا الصِّراط المُسْتَقِيم) ، مع أنا لو كنا في غير الصراط المستقيم لما كنا نصلّي؟ أليس ذلك تحصيل حاصل؟

وجوابه : أنا بحاجة إلى فيض الله تعالى ونوره في كل لحظة ، ولهذا علينا الحفاظ على هذه القابلية دائماً وفي كل وقت وعلى كل حال لكي نكون أهلاً لنور الايمان ، كما هو شأن المصباح الكهربائي الذي يحتاج إلى الكهرباء في كل آن ولحظة وإلَّا فينطفأ بمجرّد انقطاع التيار.

في هذا المجال يُنقل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله دائماً :

«إلهي لا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً» (١) ، وهذا الحديث يشير إلى حقيقة هي : أنَّ الانسان يستعدُّ لتقبُّل الهداية الإلهية بعناية منه تعالى ، ولا تتأتَّى هذه العناية إلَّا في ظلِّ سعي الانسان في طريق العبودية.

مباحث تكميلية

١ ـ مظاهر من نور الإيمان

في أول إجراء اتّخذه الرسول بعد الهجرة من مكة إلى المدينة أمر ببناء مسجد وتشكيل حكومة اسلامية. وعلى هذا كيف يمكن القول بفصل الدين عن السياسة؟

من خلال الدراسة المبسطة لسيرة حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نعرف أن المسجد في ذلك العهد كان بمثابة المقر والمركز للقيادة رغم بساطته.

وفقاً لما جاء في الكتب التاريخية فان مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عبارة عن أربعة جدران بُنيت من الوحل ، ولم يكن له سقف ، وكان ارتفاع الجدران بمستوى قامة انسان ، وما كان بالامكان الاستفادة منه عند هطول الأمطار ، لذلك جاء بعض الصحابة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) نقل هذا الدعاء عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة المعصومين عليهم‌السلام بألفاظ مختلفة ، وفي مجالات مختلفة ، ننقل ثلاثة منها : ١ ـ بحار الأنوار ١٤ : ٣٨٤ ، ٢ ـ بحار الأنوار ١٦ : ٢١٨ ، ٣ ـ بحار الأنوار ١٨ : ٢٠٤ ، ولم نعثر على رواية تدلُّ على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكرّر هذا الدعاء يومياً.

٣٧٩

يطلبون منه بناء سقف للمسجد ، وبعد أن سمح بذلك بدأ المسلمون ببناء السقف ، فبني من السعف ، أمَّا أعمدته فكانت من جذوع النخل.

وقد بقي هذا المسجد على بساطته حتى آخر عمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن بما أن الذين قاموا بهذا العمل أشخاص مؤمنون ، وكلٌّ منهم بمثابة منبع لنور الإيمان ، توسع بعد وفاة الرسول تدريجياً ليتبدَّل إلى أعظم واجمل مسجد في العالم الاسلامي بلغت مساحته حالياً كل المدينة عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو أن أحدنا بذل أموالاً طائلة في سبيل رؤية هذا المسجد كان عمله في محله.

نعم ، إنَّ أعمال المؤمنين النيّرة تنمو وتتسع.

عند ما أخذوا بأسرى كربلاء إلى الشام أقعدوهم في بيت خرب يقرب من قصر يزيد الذي شق السماء بارتفاعه والذي كان يلفت نظر كل مارٍّ ، أمَّا حالياً فالبيت الخرب أصبح مزاراً تهوي إليه قلوب الشيعة من محبي أهل البيت عليهم‌السلام ، وأمَّا القصر فأصبح خربة لا أكثر ، وأمَّا قبر معاوية فمهما بحثت عنه لا تجد إلَّا أثراً ضعيفاً في الباب الصغير ، في بيت صغير خرب ، رغم أنه كان حاكم الشام ومطلق العنان في تلك البلاد وظالماً جباراً لا يعرف غير أهوائه وشهواته. أمَّا بنت الحسين الصغيرة فقبرها معمور ويهوى إليه الناس من كل مكان.

نعم ، ذلك من خصائص الايمان ، فيعلو ضياؤه وبهاؤه كلما طال عمره ، أمَّا الكفر فتتراكم ظلماته كلَّما طال عليه الزمان.

المصداق الآخر لهذا الإدّعاء هو ما حصل في معركة احد حيث طُلِب من المسلمين حفر خندق أطراف المدينة يمنع من عبور المشركين رجالاً وفرساناً وفي الأثناء واجهوا صخرة عجزوا عن كسرها ورفعها من مكانها فاستعانوا بالرسول ، ولنقرأ الحادث على لسان الرواية :

«... فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه ، فبعثوا جابر بن عبد الله الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلمه ذلك ... فقلت : يا رسول الله ، إنَّه قد عرض لنا جبل لا تعمل فيه المعاول ، فقام مسرعاً حتى جاءه ثم دعا بماء في إناء وغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ، ثم شرب ومجّ ذلك الماء في فيه ثم صبَّه على ذلك الحجر ثمّ أخذ معولاً فضرب ضربه فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام ، ثم ضرب اخرَى فبرقت برقة

٣٨٠