أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

المثل السادس والثلاثون :

عبادة الأصنام

جاء في الآية ٧٣ من سورة الحج :

(يَا أيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ)

تصوير البحث

هذا المثل حول الشرك والتوحيد ، كما هو حال المثل المتقدّم ، وهما تنويع لبيان مطلب واحد ، لعلّ ذلك يفيد الجميع ؛ باعتبار اختلاف مستوياتهم. والله تعالى ضرب مثلاً هنا صوَّر فيه ضعف وعجز الأصنام وعبدتها.

ماهية عبادة الأصنام

عبادة الأصنام من المسائل المعقّدة ، يمكن الإجابة عن بعض أسئلتها التالية :

ما الأهمية التي كان يوليها عبدة الأصنام لأصنامهم؟ هل كانوا يعدّونها خالقهم وربّهم؟

وإذا كان الجواب إيجابياً فكيف يمكن للانسان العاقل أن يعتبر شيئاً قد صنعه بيده خالقاً له؟ وإذا كان الجواب سلبياً فما تبرير عملهم الجاهلي تجاهها؟

طرح القرآن الكريم هذه التساؤلات ، كما أجاب عنها.

جاء في الآية الثالثة من سورة الزمر :

٣٤١

(أَلا للهِ الدينُ الخَالِصُ وَالَّذِين اتّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلياءَ مَا نَعْبُدُهُم إلَّالِيُقرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفى إنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في مَا هُمْ فيهِ يَخْتَلِفُون)

كما جاء ما يلي في الآية ١٨ من سورة يونس :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤلاءِ شُفَعاؤنا عِنْدَ اللهِ)

وفقاً لما ورد في هاتين الايتين فانَّهم ما كانوا يعدون الأصنام خالقين ، بل كانوا يعتقدون بخالقية الله تعالى ، لكنهم كانوا يولونها قداسة خاصة ويعتبرونها شافعة وواسطة جيدة بينهم وبين ربّهم ، فهي تشفع لهم. هذا شأن غالب المشركين ، لكن بعضاً قليلاً منهم كانوا يعدون الأصنام خالقين ، أمَّا الأغلب فما كانوا يحملون هذه العقيدة ، وكانوا يعبدونها لأجل أن تقرّبهم إلى الله خالقهم ، فيطلبون منها السعادة والسلامة والسعة والبركة وما شابه ذلك ، وبذلك نسوا الله تدريجياً لتصبح الأصنام المعبود المستقل والمناجى الأصيل.

سؤال : البيانات المتقدَّمة أوضحت مدى تعقّد عمل المشركين ، لكن يبقى سؤال وهو : كيف يمكن للانسان العاقل أن يسجد لشيء صنعه بيده ويعتبره واسطة ينال به من فيض الله ، ويعتبره مقدّساً إلى درجة قد يضحّي لأجله انساناً آخر.

الجواب : لم تكن أصالة للأصنام في الأيام الاولى من بداية عبادتها ، أي بداية الانحراف الكبير ، فقد كانت عندهم نموذجاً للمقدسات. على سبيل المثال لو جاء نبي أو وصي إلى بلدة عُدَّ عندهم واسطة بينهم وبين الله تعالى وحضي باحترام خاص ، باعتبار هذه العلاقة ، وعند ما يتوّفاه الله يُصنع له نصب تذكاري لكي يستمر التقديس والاحترام ، لكن هذه العلاقة المفروضة تُتناسى بمرور الزمان بحيث يتَّخذ النصب ذاته طابعاً مقدساً ، ولا يتداعى في أذهان الناس العلاقة الاولى لصاحب النصب وخالقه ، بل يصبح النصب بذاته وعلى نحو الاستقلال مقدساً فيُعبد.

وهذا هو حال الانصاب والتماثيل التي تُصنع لغرض الإشارة إلى مصادر البركة والنور من الشمس والقمر وما شابه ، فإنها تُعبد تدريجياً وبعد مرور زمن. ومن هذا القبيل كذلك أن يؤتى بحجر من مكان مقدس مثل الكعبة فتوضع في مكان لكي يتذكّر الحاج سفره الروحاني إلى بيت الله متى ما انتبه إلى الحجر ، لكن بعد فترة من الزمن تُنسى هذه العلاقة ليصبح الحجر بعد ردح صنماً ومعبوداً بحد ذاته.

٣٤٢

أو من قبيل ما يعتقده البعض من أن الله تعالى أرفع شأناً من أن تحيط به الأفكار ، ولا يمكن للأفكار أن تفعل ذلك ، ولا فائدة في ربٍّ لا تحيط به الأفكار ، لذلك ينبغي أن نبحث عن مخلوقاته التي هي في متناول أيدينا ويمكن للأفكار أن تحيط بها فنعبد بعضاً منها. وهذا ممَّا نجده عند بعض الفرق الصوفية المنحرفة ، فالمرشد لهذه الفرق يقول لمريديه : عند ما تصلون للآية : (إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينَ) في الصلاة تصوّروا مرادكم ومرشدكم ، وهذا هو نقطة بداية الانحراف نحو الشرك.

على أي حال ، كان للأنبياء والرسل أطول مواجهة مع الشرك والمشركين ؛ لكون الشرك بلاءً كبيراً على الانسانية في الماضي والحاضر.

أساليب مواجهة عبادة الأصنام

سؤال : ضرورة مواجهة الشرك وعبادة الأصنام أمر بديهي وواضح ، لكن ما هي أساليب هذه المواجهة؟ وما هي الأساليب التي اختارها الأنبياء والأوصياء لمواجهة هذه الظاهرة؟ وكيف كان تعاملهم مع هذا الانحراف الخطر والعظيم والمعقَّد؟

الجواب : وفقاً لما جاء في القرآن المجيد فإن الأنبياء سلكوا أساليب متنوّعة لمواجهة الشرك وعبادة الأصنام نشير إلى نماذج منها :

الأول : تعريف الناس وبخاصة المشركين بخالق الكون الأصيل. وقد أشار القرآن إلى هذا الاسلوب في الآية ٦١ من سورة العنكبوت من خلال طرح سؤال والإجابة عليه ، حيث جاء هناك :

(وَلَئِنْ سَألتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فأنَّى يُؤْفَكُونَ)

أي أنَّ الله خالقنا ورازقنا وولي نعمنا وملجأنا ومحيينا ومميتنا ، وإذا كان كذلك فلما ذا نعبد أصناماً من دونه؟ ألا ينبغي للانسان أن يسلِّم نفسه لولي نعمته ويخضع له؟

سعى الأنبياء لإيقاظ فطرة المشركين ومسح الغبار عنها لربطها بخالقها الأصلي وتوحيدهم إيّاه.

٣٤٣

الثاني : تحقير الأصنام وبيان عجزها وكذبها أمام القدرة الإلهية ، وذلك يقلّل من قداستها وقيمتها عند المشركين.

في هذا المجال تُطرح على المشركين أسئلة من قبيل : هل تدرك هذه الأصنام ما يدور حولها من شؤون؟ أو هل يمكنها الإجابة على أسئلتكم؟ أو هل هي قادرة على حل مشاكلكم؟

من الواضح أن السلب هو جواب هذه الأسئلة جميعها ، وإذا كان الواقع كذلك كان ذلك يعني أنها عمياء صماء ولا إرادة لها ، وعلى هذا كيف يمكن لها أن تكون حلالة لمشاكلكم؟

في القصة المعروفة عن النبي إبراهيم عليه‌السلام عند ما سئل عَمَّن كسر الأصنام وحطّمها أجاب :

(بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ هَذا فَسْألُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُون) (١).

القرآن ينقل جواب المشركين كالتالي :

(فَرَجَعُوا إِلى أنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا على رُءوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤلاءِ يَنْطِقُونَ) (٢).

عند ما شاهد فيهم إقراراً على عدم امكانية تكلم الأصنام فضلاً عن دفاعها عن نفسها بدأ بذمّها تحقيرها والمشركين كذلك وقال :

(قَالَ أفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ افٍّ لَكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أفَلا تَعْقِلونَ) (٣).

سعى إبراهيم عليه‌السلام من خلال تحقير الأصنام وبيان ضعفها وكونها ليست منشأً لا للخير ولا للشرِّ لتنبيه المشركين إلى سوء عملهم وبطلان اعتقادهم.

الثالث : إيقاظ وجدان المشركين النائم وتوظيف هذا الوجدان في هذا الطريق ، وقد أشارت الآية ٦٥ من سورة العنكبوت إلى هذا الاسلوب حيث تورّط المشركون في السفينة وسط البحر بأمواج عظيمة شعروا إثرها بقرب موتهم فاذا بهم يدعون الله مخلصين له وطالبين منه المعونة. وهذا يكشف عن لجوئهم إلى الله في المعظلات حيث ينقطع أملهم بكل شيء غيره وتنغلق عليهم الأبواب إلَّا بابه ، ويعرفون عندئدٍ أن لا معبود أهل للعبادة غير الله تعالى.

__________________

(١) الأنبياء : ٦٣.

(٢) الأنبياء : ٦٤ و ٦٥.

(٣) الأنبياء : ٦٦ و ٦٧.

٣٤٤

الآية التي هي موضع بحثنا بيان لضعف الأصنام وعجزها ، ولمزيدٍ من الإيضاح نشرع بتفسيرها.

الشرح والتفسير

(يَا أيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمِعُوا لَهُ)

التعبير بضرب مثل قد يكون لأجل أن هذا المثل الجميل وذات المغزى كان دارجاً بين الموحدين منذ الأزمان الماضية ولم يكن جديداً ، رغم ذلك طرحه الله هنا تارة اخرَى ؛ لكونه ذات طابع تربوي عالٍ ويحتوي على عبرٍ جيدة.

(إنَّ الَّذينَ تَدْعُون مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ)

الأصنام التي يعبدها المشركون ويسجدون ويركعون لها ضعيفة إلى درجة أنَّها غير قادرة على خلق ذبابة ، كحشرة صغيرة ، بل ان اصنام العالم كلها لو تكاتفت واجتمعت لأجل خلق ذبابة واحدة ما استطاعت عمل ذلك.

(وإنْ يَسْلُبُهُمُ الذُبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ)

بل ضعف الأصنام أشدّ ممَّا ذكر ، فلو أنَّ الذباب أخذ من الأصنام شيئاً ما كانت قادرة على استرجاعه ، فهي لا إرادة لها ولا قدرة على عمل شيءٍ ما ، أي أنَّها لا تنفع ولا تضرُّ ولا قابلية لها لدفع الشر عن عبادها ؛ لأنَّها غير قادرة عن الدفاع عن نفسها فضلاً عن الغير.

يقال : كان المشركون في أيام خاصة من السنة ، كأيّام العيد يطلون أصنامهم بالعسل والزعفران أو بموادٍ مشابهة لهما مما يجعلها ملجأً ومصدر طعام للذباب ، وتستمر الذباب بالتردّد والحوم حول هذه الأصنام حتى آخر قطرة من العسل ، وإذا أخذت الذباب ذرة بسيطة من هذا العسل فإنَّ الصنم غير قادر على استرجاعه (١) ، ولهذا يخاطبهم الله قائلاً : إنَّها أصنام ضعيفة عاجزة عن استرجاع ما سُرِق منها من العسل ، فكيف يمكن للانسان أن يطلب منها العون والمساعدة.

__________________

(١) انظر الأمثل ١٠ : ٣٥٧.

٣٤٥

(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ)

نقلت احتمالات متباينة في تفسير هذه الجملة ، يبدو أن اثنين منها أقوى من الباقي :

الاول : المراد من الطالب الذباب ، ومن المطلوب الصنم ، أي أن الذباب ضعيف ، كما هو حال الصنم.

الثاني : المراد من الطالب عبدة الأصنام (المشركون) ، ومن المطلوب الأصنام ، أي أن الأصنام وعبدتها كلاهما ضعيفان ، أما ضعف الأصنام فواضح ، وأمَّا ضعف المشركين ، فباعتبار ضعفهم الفكري والعقائدى.

أراد الله هنا التذكير بنقطة هي أن الله هو الوحيد القادر على حل مشاكل الانسان لا الموجود الضعيف والعاجز عن الدفاع عن نفسه.

تتداعى هنا عدّة أسئلة :

١ ـ هل هناك تشبيه في آية المثل؟

بحث المفسرون قضية الضعف وما إذا كان قد شُبِّه في الآية بشيءٍ ما أو لا ، فبعض قال : لا يوجد تشبيه في الآية ، والحديث فيها عن ضعف الأصنام وعجزها عن خلق موجود صغير مثل الذباب ، ولم يشبّه المسألة بشيءٍ ما ، وهو كلام أوقع ذلك البعض بمشاكل ، وبرأينا مفردة (مثل) ذات معنيين :

الاول : المَثَل تعني الشبيه والمِثْل ، وهو تشبيه لأمر معقول خارج عن الحس والتجربة بأمرٍ محسوس.

الثاني : المَثَل بيان لمصداق واضح لأمرٍ ما.

والمراد من المثل في الآية هو المعنى الثاني ؛ لأن الله أراد أن يبيّن بالآية ضعف عبادة الأصنام وعقيدة المشركين في الأصنام ، وبذلك حكى مصداقاً واضحاً لهذا الضعف والعجز في قالب المثل المزبور.

٣٤٦

٢ ـ هل الذباب موجود حقير؟

لم يشر القرآن إلى الذباب إلَّا في هذه الآية ، وهو موجود يبدو للانسان حقيراً وفاقداً للقيمة ، فهل هو كذلك حقاً؟

الجواب : ينبغي القول هنا : الذباب لا أنه موجود قيِّم فحسب بل من عجائب المخلوقات ومن آيات الله.

فهذا الموجود رغم صغرة يحتوي على جهاز تنفّس وهضم وفم ولسان ومعدة وأمعاء وجهاز أعصاب وفهم وإدراك وعضلات قوية جداً ، بحيث يمكنه تحريك أجنجته بها بسرعة ، وله أعضاء اخرَى كذلك.

اللافت أنه يحضى ببنية هي أكثر تعقيداً ودقة من طائرة كبيرة ، ويُعدُّ صناعة طائرة كبيرة أبسط من خلق ذبابة ؛ فإنَّ الطائرة لا إدراك لها ولا شعور ولا إرادة ولا جهازاً تناسلياً ، وغير قادرة على إعداد غذاء لنفسها ولا يمكنها الدفاع عن نفسها ، أمّا الذبابة فلها القابلية على جميع ما تقدَّم.

إذن ، الذباب من عجائب المخلوقات حقاً ، ولا أحد قادر على خلق هذا الموجود ، رغم التطوّر والتقدُّم العلمي الكبير الذي حصل في مجالات علمية مختلفة ، عندئذٍ يُطرح سؤال آخر.

على عتبة القرن الحادي والعشرين سمعنا أن الانسان أصبح قادراً على الاستنساخ ، وذلك يعني تمكنه في ظروف خاصة من خلق انسان أو حيوان من جزء صغير جداً من أجزاء انسان أو أي حيوان آخر ، والنتيجة هي : خلق موجود دون ام وأب ، وهذا يكشف عن قدرة الانسان على خلق ما هو أعظم من الذباب ، فكيف يمكن عدّه عاجزاً عن خلق ذبابة؟

في الجواب نقول : لا يمكن عدّ هذه العملية خلقاً ، بل هي من قبيل غرس شتلة مأخوذة من شجرة لتصبح بعد مدة شجرة ضخمة ومثمرة ، وجسم الحيوانات والانسان من قبيل الأشجار التي يمكن إيجاد أشجارٍ شبيهة لها بعد قطع جزءٍ صغير منها وشتله في مكان آخر ، فيتحوّل بعد فترة شجرة كبيرة ؛ والتناسخ من هذا القبيل ، وبخاصة أنا نعتقد كون خلية الانسان تحتوي على كل خصوصيات الانسان ، وتبقى قضية الحياة لغزاً من الألغاز لم يُحل بعد.

٣٤٧

جسر نحو التوحيد في شهر التوحيد

مهما كنَّا ومهما استطعنا نبقى ضعفاء أمام القادر المطلق ، ومرض السرطان المهلك من نماذج ذلك الضعف.

تنمو خلايا الجسم بنحوٍ منتظم ومتوازن ، لكن قد تكون هناك خلية يخرج نموّها عن حاله الطبيعي فتنمو أكثر ممَّا ينبغي أن تنمو وتكبر كثيراً لتتحوَّل إلى غدّة تشلُّ عضلات جسم الانسان تدريجياً ، والانسان رغم تقدّمه وتطوّره علمياً ما استطاع أن يجد علاجاً لهذا المرض ، وقرابينه تزداد كل يوم ، هذا مضافاً إلى المرض الجديد الذي يُدعى (الايدز) ، وذلك هو قول الله :

(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ)

إلهي ، العزة لك والقدرة لك والعلم لك والحياة والممات بيدك ، وكل شيء منك ، والسعادة منك نعبدك وحدك لا شريك لك (إنَّكَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ) (١).

__________________

(١) آل عمران : ٢٦.

٣٤٨

المثل السابع والثلاثون :

ذات الله لا مثيل لها

الآية ٣٥ من سورة النور تشكل المثل السابع والثلاثين من أمثال القرآن الجميلة ، يقول الله فيها :

(اللهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيتُونَةٍ لَّاشَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَو لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)

تصوير البحث

هذا المثل من أهم أمثال القرآن المجيد ، وقد هَمَّ المفسرون والعرفاء بتفسيره ، وكلٌّ من الطائفتين ذكر له تفسيراً خاصاً ، والآية تمثيل بيّن وبليغ لذات الله تعالى ، حيث شبّهته بالنور ، ويأتي شرحه.

الآية تشتمل على مثلين

في الآية مثلان ، الأول هو المستبطن في العبارة : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ) ، والثاني هو الذي تستبطنه باقي عبارات الآية.

نحن على يقين بأن الله تعالى ليس نوراً محسوساً لذلك علينا تقدير كاف التشبيه في الآية لتكون كالتالي : الله كنور السماوات والأرض ، فان تجسيم الله تعالى أمر محال ذاتي. وعلى هذا تكون الجملة الاولى لوحدها مثالاً.

٣٤٩

هل يجوز التمثيل لذات الله؟

هل يجوز لنا أن نمثّل لذات الخالق تعالى ونشبِّه ذلك الموجود المعنوي الواجب الوجود بموجودات مادية ممكنة الوجود؟

الجواب بالايجاب والسلب معاً ، فلا إشكال في التمثيل وفقاً لما جاء في الآية الكريمة ، فإنَّ الله نفسه مثّل لذاته ، لكن التمثيل ممنوع كذلك وفقاً لما جاء في الآية ٧٤ من سورة النحل ، فقد جاء هناك : (فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمثالَ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

وإذا كان التمثيل ممنوعاً وفقاً لما جاء في الآية الأخيرة لماذا مثَّل القرآن لذات الله في الآية ٣٥ من سورة النور؟

جاء الجواب على هذا السؤال في ذيل الآية ٧٤ من سورة النحل ، فقد ورد هناك : (إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، أي أنَّه لا مانع من التمثيل لله من قبل الله نفسه ، أمَّا التمثيل له من قبلكم فلا يجوز ؛ لأنكم لا تعلمون بما تمثّلون به ، فقد تمثّلون لذاته بما يثبت النقص له ، بينما هو لا يمثِّل لذاته إلَّا التمثيل المناسب ؛ لأنَّه يعلم بذاته والانسان لا يعلم بها.

شأن نزول الآية ٧٤ من سورة النحل هو أن المشركين كانوا يبرّرون عبادتهم للأصنام بالقول بأنَّ الله بمثابة الملك والأصنام بمثابة وزراء له ، وبما أنَّه لا يمكن الوصول إلى الملك فنقترب إلى الوزراء ونتمسك بهم تقرُّباً إلى الملك (١).

نزلت هذه الآية لردِّ التبرير المتقدِّم ، معلنة منع التمثيل لذات الله على الاطلاق ، مغلِّطة ذلك التمثيل ؛ وذلك باعتبار أنَّ الملك أو أي انسان آخر موجود ضعيف ومحدود من حيث الزمان والمكان ، فلا يمكن للجميع الوصول إليه ، أما الله العالم والقادر فهو موجود وحاضر في كل مكان وزمان وفي قلب كل انسان ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، والاتّصال به ممكن وسهل للجميع ، بل أسهل من الاتّصال بالام والأب والزوج والأخ والاخت والولد ؛ وذلك لأنه غير محدود ويمكن مناجاته وخطابه في كل لحظة وآن ، وفي النوم واليقظة ، وعند القيام والقعود ، وفي الصحاري والبوادي ، وفي الشوارع ، وتحت أي ظرف من الظروف.

__________________

(١) انظر الأمثل ٨ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٣٥٠

يصف الله العلماء في الآية ١٩١ من سورة آل عمران قائلاً :

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِياماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانكَ فقِنا عَذابَ النَّارِ)

إذن ، لا مشكلة في الاتصال بالله والتواصل معه لكي نحتاج لإيجاده إلى واسطة مثل الأصنام ، ولهذا لا يمكن تشبيه الله بموجود ضعيف عاجز ، فهو يسمعنا ويرانا عند الصلاة التي ندعوه في كل واحدة منها مرّتين على أقل تقدير ونقول : (إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ) ، ولا يمكن قياسه مع ممكن الوجود.

ونتيجة ذلك : عدم امكانية التمثيل لله إلَّا من قبل الله نفسه فحسب.

بالطبع ، ما تُضرب له من أمثال توضِّح بعض الجهات من وجوده وتعيننا على معرفة جوانب خاصة منه ، ولا تمثيل يُبيّن جميع أبعاد وجوده فهو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ) (١) ؛ باعتبار أن المخلوقات جميعها فانية أما هو فباقٍ ، كما أنَّ كلَّ شيء متناهٍ وهو غير متناهٍ ، وكل المخلوقات ضعيفة وجاهلة ، وهو قادر وعالم.

الشرح والتفسير

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ)

لأجل اتّضاح هذا المثل الذي شُبِّه فيه وجود الله المقدس بنور السماوات والأرض علينا دراسة خواص النور.

نور الشمس هو المصداق الباز والكامل للنور ، وله خواص وآثار متعدِّدة ، أهمها أربع :

١ ـ الهداية

يمكن الاهتداء بالنور ، ويمكن استخدام نور القمر والنجوم لهذا الغرض. ولهذا يضلُّ الانسان في الليالي المظلمة. فالاهتداء أثر مهم للنور.

__________________

(١) الشورى : ١١.

٣٥١

٢ ـ التربية والنمو

الأثر المهم الآخر لنور الشمس هو النمو ، فالانسان والحيوانات والنباتات وجميع الموجودات الحية تنمو وتتربّى برعاية هذا النور ، وتنعدم الحياة أينما انعدم النور.

نور الشمس ينفذ إلى عمق ٦٠٠ أو ٧٠٠ متر في البحر ، وتبدأ الظلمات الخالصة فيما بعد هذا العمق ، ولأجل ذلك كان العلماء يتصوّرون كون الحياة منعدمة في تلك الظلمات ، بينما عثروا على موجودات حية فيها.

والسؤال المطروح هنا هو : كيف أمكن للموجودات أن تعيش وتتربى في هذه الأعماق دون نور؟

الحقيقة أنَّ هذه الموجودات تنال نصيباً من النور ؛ لأن بعض الأغذية التي تُعدُّ في المستويات الأعلى من هذه البحار تسقط إلى تلك الأعماق لتتناولها الموجودات هناك. وهذا يعني أن الله قد أعدَّ مطبخاً واسعاً بحجم سطح البحار لإطعام الموجودات الحية في البحر.

فالنمو والتربية والحياة أثر مهم آخر للنور.

٣ ـ إيجاد القدرة والحركة

الأثر المهم الآخر لنور الشمس كمصداق أكمل للنور هو إيجاد القدرة على الحركة وإيجاد الطاقة.

يعتقد العلماء أن منشأ الطاقة الموجودة هو نور الشمس ، والحرارة التي تصدر من الحطب عند احتراقه هي في الحقيقة نتيجة لادّخار نور الشمس في الحطب عند ما كان شجرة تنمو بنور الشمس ، وتتحررّ هذه الطاقة عند احتراق الحطب لتتبدل إلى قوّة محرّكة.

يُعدُّ الفحم الحجري من مصادر الطاقة ، وقد حصل على طاقته من الشمس كذلك ؛ لانَّه ـ وفقاً لاكتشافات العلماء ـ عبارة عن بقايا لأشجار تحجّرت في باطن الأرض تدريجياً لتصبح فحماً بعد مرور زمن طويل.

النفط من أهم مصادر الطاقة في عصرنا الراهن ، وقد اكتسب طاقته من الشمس كذلك ؛ لأنه عبارة عن بقايا حيوانات تربّت في البحر وتفسّخت بعد جفاف البحار إثر تحولات

٣٥٢

وانقلابات تحصل على وجه الأرض ، تُدفن بعدها بقايا هذه الحيوانات لتتدّل بمرور الزمان إلى مادة سوداء معروفة بالنفط. ومن الواضح أن الحيوانات تتغذى من النباتات ، والأخيرة تنمو بفضل نور الشمس.

الكهرباء من مصادر الطاقة المهمة ، وهي كباقي مصادر الطاقة تنال قدرتها من الشمس كذلك ، فماء البحر يتبخّر بواسطة نور الشمس ويصعد إلى الطبقات العليا من الجو ، ثمّ يتبدّل البخار إلى غيث يسقط على سطح الأرض ، فتتبدل قطراته إلى قنوات وأنهار يُدَّخر ماؤها خلف السدود ، ويوضع في السدود محركات تربينية تُحرَّك من خلال الماء المتجمّع خلف السدود عند ما تُفتح منافذ له نحوها.

الريح هو الآخر من مصادر الطاقة ، وهو يحصل بفضل نور الشمس.

والنتيجة : كل مصادر الطاقة في عالم المادة تستلهم قوتها وقدرتها من نور الشمس.

٤ ـ رفع موانع الحياة

من الآثار المهمّة الاخرى لنور الشمس هو كونه بمثابة مضاد حيوي للميكروبات ، فهو يعمل على تطهير الأرض من الميكروبات والبكتيريا المضرّة ، والشمس عند ما تسطع تقتل هذه الموجودات إذا نالتها إشعاعات من الشمس ، ولو لم يكن نورها لتبدّلت الأرض إلى مستشفى واسعة ومقبرة عظيمة.

إذن ، تعدُّ الهداية والتربية وايجاد القدرة والطاقة ورفع موانع الحياة من الآثار المهمّة لنور الشمس.

ومع الالتفات إلى الخصائص المتقدِّمة لنور الشمس نبتُّ بشرح الآية الشريفة ، لكي يتّضح كيفية تشبيه الله بنور السماوات والأرض.

كما أن النور سبب للاهتداء كذلك الله تعالى ، فهو مرشد وهادي الموجودات جميعها ، المادية منها والمعنوية ، وقد جاء في الآية ٥٠ من سورة طه :

(رَبَّنا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)

هداية الله للموجودات تختلف باختلافها ، فيهدي الله بعضها بالهداية الغريزية وبعضها

٣٥٣

الآخر بالهداية الالهامية وبعضها من خلال التعاليم التي يأتي بها الإنبياء والأوصياء ، والمسلَّم هو أن الموجودات كلها مشمولة بهداية الله تعالى ، ولو لم تكن هدايته لما اهتدى موجود أبداً.

على سبيل المثال ، توجد طيور لا تعرف امها ولا أبيها ؛ لأنها لم ترَ والديها أبداً ، فهما يموتان قبل تفقس البيوض ، رغم ذلك نرى الفراخ تَخرج من البيوض وهي تعلم منهج حياتها من الطيران والبحث عن الطعام واختيار الطعام المناسب والتزاوج والتلاقح وصناعة العش وما شابه ذلك ، فكيف أمكنها تعلُّم ذلك دون أن يكون لها مرشداً من أب أو ام؟ ذلك عين الهداية الغريزية والتكوينية التي منحها الله سبحانه للموجودات ، (الذي أعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى!)

شملتنا نحن البشر الهداية التكوينية والتشريعية كذلك ، فمن الذي علَّم حديث الولادة أن يمصَّ ثدي امه؟ ومَن عَلَّمه أن يبكي عند ما يشعر بالجوع أو العطش أو الألم؟ هذه كلها من مصاديق الهداية التكوينية ، أما الهداية التشريعية فهي التي شملتنا بواسطة تعاليم الرسل والأنبياء والأئمة.

كما أنَّ نور الشمس يربّي الموجودات ويجعلها تنمو كذلك الله خالق الموجودات فهو يربّيها ، ولهذا اطلق عليه (رب العالمين) ، ونكرّر هذه الصفة مرّتين في كل صلاة نصلّيها.

تربية الله للانسان تبدأ منذ انعقاد النطفة وتستمر حتى نهاية عمره ، ولو انقطع فيض الله ورعايته لنا لحظة واحدة انتهينا جميعاً ، ولهذا نقول بأن حياة جميع الموجودات بيد الله الحسيب.

الأثر الآخر لنور الشمس هو كونه منشأ للطاقة ، والله تعالى منشأ لجميع الطاقات المتصوّرة في العالم حتى الشمس التي هي منشأ كل طاقة مادية على وجه الأرض ، فهي من مخلوقاته تعالى وتستلهم طاقتها منه ، ولو انقطعت فيوضات الله تعالى عن الشمس للحظة واحدة لتلاشت بحيث لا يبقى منها شيء رغم عظمتها وضخامتها ، ولهذا يُقال : (لا حول ولا قوّة إلَّا بالله العلي العظيم).

الله عظيم يمكنه منح المخلوقات حركة وقدرة وقابلية ، وهو الوحيد القادر على خلق موانع مادية للحركة ، وقادر كذلك على رفعها ، فلو أراد تلاشت كل قدرة ، أمَّا البشر فضعيف إلى

٣٥٤

درجة قد يقتله ميكروب أو فيروس لا يمكن رؤيته إلَّا بمجهر قوي.

علينا التدقيق في عبارات تتردَّد على ألسنتنا كثيراً من قبيل : (لا حول ولا قوّة إلَّا بالله) أو (بحول الله وقوّته أقوم وأقعد) ، فإن التدقيق فيها يوصلنا إلى نيتجة هي : لو رفع الله فيضه عن الانسان لفقد الانسان كل قواه ولأماتته موجودات ضعيفة جداً ولعجز عن حفظ لعاب فمه كما يعجز عن ذلك حديث الولادة.

الآثر الآخر لنور الشمس هو عمله كمضادٍ حيوي ، كما تفعل ذلك المضادات الحيوية والمطهرات الصناعية ، والله يعمل كذلك ، فهو يرفع موانع الحياة ليتسنَّى لموجودات من قبيل الانسان أن يعيش على وجه الأرض.

على سبيل المثال ، نذكر الأسماك كغذاء للبشر ، فاناث الأسماك تفرز بيوضاً كثيرة جداً لو سمح للبيوض جميعها أن تعيش لاكتضَّ البحر بالأسماك بحيث تسلب ماء البحر قدرته على الحركة ، لكن تدابير الله تعالى كانت في خلق موجودات اخرَى في البحر تعيش على هذه البيوض وتقضي عليها ، إيجاداً للتوازن والتعادل في بيئة البحر.

ومثال آخر ، بعض النباتات تنمو بسرعة فائقة جداً يمكنها أن تغطي مدينة كاملة في فترة قصيرة. ومثال آخر كذلك هو وجود حيوانات سريعة التكاثر لو سمح لها لما تركت مساحة ومجالاً للبشر وباقي الموجودات. لكن الله تعالى رفع هذه الموانع كلها وجعل تعادلاً في البيئة ليتسنى للجميع العيش معاً.

تحطُّ ميكروبات كثيرة على عيون الناس يومياً وبخاصة في المدن الملوّثة ، بامكانها أن تعمي عيون البشر جميعهم في فترة قصيرة لكن الله خلق الدموع لدفع هذه الميكروبات وقتلها ، فان الدمع يحتوي على مواد من صنف المضاد الحيوي يطهّر العين ، وهي مواد موجودة في لعاب الانسان كذلك وتلعب نفس الدور الذي تلعبه في الدموع.

إذن ، الله كالنور سبب للهداية والتربية والطاقة والحيوية ويمنح الحياة ويرفع الموانع عنها ، ولهذا هو :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ)

٣٥٥

الأشياء التي شُبِّهت بالنور

في الآيات والروايات شُبِّهت أشياء كثيرة بالنور ، نكتفي بذكر خمسه نماذج.

١ ـ ذات الله تعالى ، (اللهُ نُورُ السَّمَاواتِ والأرْضِ) ، وقد تقدَّم شرح ذلك في الأسطر السابقة.

٢ ـ القرآن المجيد ، كما جاء في الآية ١٥ من سورة المائدة : (قَدْ جَاءَكُمْ مِن اللهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبينٌ) ، والنور في هذه الآية إشارة إلى القرآن الكريم.

٣ ـ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما ورد ذلك في الآية ٤٦ من سورة الاحزاب : (وَدَاعِياً إلى اللهِ بإذْنِهِ وسِراجاً مُنيراً)

٤ ـ أئمة الهدى عليه‌السلام فهم نور الهُدى في ظلمات الضلال ، كما جاء ذلك في زيارة الجامعة الكبيرة : «خَلَقَكُم اللهُ أنْواراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِين».

٥ ـ العلم كذلك شُبِّه بالنور ، فقد ورد ما يلي في الرواية : «العلمُ نورٌ يقذفهُ اللهُ في قلبِ مَن يشاء» (١).

يُذكر أن العلم من حيث الحصول على قسمين :

الف : علم اكتسابي تحصيلي ، وهو الذي يحصل عليه الانسان بالسعي والجهد في المدارس والحوزات والجامعات.

باء : علم إلهي ، وهو الذي يقذفه الله في القلوب الجديرة والمفعمة بعشق الله والطاهرة ، وهو ليس اكتسابياً.

هذه خمسة نماذج ممَّا شُبِّه بالنور ، وعند التدقيق فيها نراها تشترك في شيءٍ واحدٍ ، وهو الله تعالى ، فالقرآن المجيد كلام الله ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث من قبل الله ، والائمة خلفاء رسول الله ، والعلم يقذفه الله في القلوب المؤهلة. وعلى هذا ، جميع الأنوار ترجع إلى الله تعالى.

(مَثَلُ نُورِه كمِشكَاةٍ فيها مِصْبَاحٌ ...)

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٦ ، والرواية منقولة عن الامام الصادق عليه‌السلام ، وفي الوافي ١ : ١٠ ورد تعبير «من يريد» بدلاً عن «مَن يشاء».

٣٥٦

تقدَّم أن الآية ٣٥ من سورة النور عبارة عن مثلين ، مضى الحديث عن المثل الأول حيث شبِّهت ذات الله بنور السماوات والارض ، أمَّا المثل الثاني فيبدأ من عبارة (مَثَلُ نُورِهِ ...) إلى آخر الآية.

طرحت بحوث كثيرة في ذيل المثل الثاني ، فكل صاحب تخصُّص نظر إلى الآية من زاوية تخصصه ، وفسَّر علماء الكلام الآية من وجهة نظرهم ، وفسرها الفلاسفة من وجهة نظرهم الخاصة ، وفسَّرها العرفاء من وجهة نظر عرفانية ، وفسَّرها مفسرو القرآن بما يتلاءم مع اختصاصهم ، سنشير إلى بعض من هذه التفاسير ، وقبل البتِّ بالتفسير نورد توضيحاً حول السراج أو المصباح.

السراج في التاريخ

كان الانسان يعيش في الظلام قبل اكتشاف النار ، وما كان يستفيد إلَّا من الأنوار الطبيعية ، مثل الشمس والقمر والنجوم ، ثم اكتشف أكبر وأهم نعمة إلهية ، وهي النار ، بعد ما شاهد القدحة الحاصلة من اصطكاك شيئين أو احتراق مواد جافة لسبب ما ، عندها حصل تحوّل عظيم من جميع الجوانب في حياة البشر ، بحيث يمكن الادّعاء بأنَّ النار أهم سبب للتقدُّم الصناعي ولتسهيل العيش على الأرض.

استخدم الانسان النار لإيجاد الحرارة وللإضاءة كذلك ، وصنع لهذا الغرض وسائل تكاملت تدريجياً ، منها : السراج الذي اعدَّ لأجل استخدام النار للإضاءة.

السراج الذي كان يستخدمه الانسان في عصر الجاهلية وأوائل ظهور الاسلام داخل ضمن سلسلة التكامل الذي نالته الصناعات البشرية ، وهو آنذاك كان يتكوّن من خمسة أجزاء ، ومورد الآية هو السراج الذي كان يُستخدم آنذاك ، لنتعرف هنا على أجزائه الخمسة.

١ ـ الفتيلة ، وهي الخرقة التي تجتذب الوقود لتحترق وتُضيء ، والتي عُبِّر عنها بالمصباح في الآية الكريمة.

٢ ـ الزجاجة ، وهي التي توضع فوق الفتيلة لكي تنظم جريان الهواء ، ولا تترك الفتيلة تخرج منها دخاناً بسبب عدم الاحتراق الكامل ، الأمر الذي يؤدي إلى اسوداد السقف بسخام

٣٥٧

المصباح ، كما أن الانارة ضعيفة دون هذه الزجاجة.

٣ ـ الوعاء الذي عبّر عنه القرآن بالمشكاة.

السراج المزبور يعمل جيداً في الظروف الاعتيادية لكنه ينطفأ عند هبوب الريح ، كما أن الزجاجة تنكسر إذا صدمها شيءٌ ، ولهذا كان يستدعي وجود مكانٍ معدٍّ له ، وعلى هذا الأساس تُصنع أوعية خاصة تُقسَّم إلى قسمين :

الف : الأوعية المحمولة ، وهي مستطيلة يحيطها الزجاج من كل الأطراف ، فيها نافذة يدخل من خلالها السراج ، ويمكن حملها ونقلها من مكان إلى آخر.

باء : الأوعية الثابتة التي لا يمكن نقلها من مكان إلى آخر ، وغالباً ما توضع حيث يوجد رفّ أو شباك يطل على ساحة البيت ليضيء المصباح للبيت ولساحته ، ويجعل فوقه منفذ لتبادل الاوكسجين ونافذة لإدخال السراج في الوعاء. وأحياناً تجعل الزجاجة في الجانب المطل على الساحة ويترك الجانب المطل على البيت دون زجاجة.

فائدة هذا الوعاء هو المنع من انطفاء الشعلة أو تحطم زجاجة السراج.

٤ ـ الوقود ، الأمر الآخر الذي يستدعيه السراج هو الوقود الذي تجتذبه الفتيلة ويشتعل بعد إيقاد النار في الفتيلة (١).

٥ ـ مصدر الطاقة والوقود ، إذا كان وقود السراج زيت الزيتون فلا بدَّ وأن يكون مصدر لهذا الزيت ، وهو شجرة الزيتون.

والنتيجة : كون شجرة الزيتون والوعاء والزجاجة والفتيلة تشكّل مجموعها عوامل خمسة لتوليد النور والإضاءة ، وهي امور أشارت لها الآية الكريمة.

الشرح والتفسير

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ في زُجاجة الزُّجَاجَة كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)

__________________

(١) كانت تستخدم أنواع مختلفة من الزيوت إلَّا أن زيت الزيتون كان أفضلها ؛ باعتبار عدم تصاعد دخان منه ، وباعتبار رائحته المناسبة ، مضافاً إلى دوامه وعدم احتراقه بسرعة.

٣٥٨

زجاجة هذا السراج شفافّة ونظيفة ولامعة وتنير كإنارة النجم في السماء.

(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةِ زَيْتُونَة لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)

مصدر طاقة هذا السراج شجرة الزيتون المباركة والنابتة لا في شرق البستان بحيث تكون في الظلِّ عند شروق الشمس ولا في غرب البستان بحيث تُحرم من نور الشمس عند الغروب ، بل هي وسط البستان تتمتّع بنور الشمس والهواء الطلق بأفضل ما يمكن.

(يَكَادُ زيْتُهَا يُضيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْه نَارٌ)

وقود السراج زيت الزيتون ذات جودة عالية جداً ، يؤخذ من الشجرة المزبورة ، وهو شفّاف ويبدو بحدّ ذاته منيراً ومشعاً دون إيقاد النار فيه ، فهو خالص جداً.

(نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)

النور يصدر من كل أجزاء السراج ، من المصباح ومن الزجاجة ومن الوعاء ، بحيث يبدو السراج نوراً متراكماً ، والله سبحانه وتعالى يهدي ويرشد مَن يشاء إلى هذا النور الإلهي.

(وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ واللهُ بكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ)

يضرب الله هذه الأمثال لكي يستوعب الناس بمختلف مستوياتهم المفاهيم العالية بنحو أفضل ، والله عليم بكل شيء.

خطابات الآية

١ ـ ما المراد من نور الله؟

شبِّه نور الله تعالى في هذه الآية بالسراج ذات الأجزاء المتقدّم ذكرها ، فما ذلك النور الذي شبِّه بالسراج؟

أبدى المفسرون نظريات مختلفة في هذا المضمار ، لكنَّ هناك نظرية منسجمة مع ما يراه المتكلمون ، وهي كون المراد منه نور الإيمان.

نور الايمان شعلة متّقدة ومصباح في زجاجة قلب الانسان ، وقلب الانسان ونور الايمان وضعا في وعاء الصدر. المشكاة هي صدر المؤمن ، والزجاجة قلبه والمصباح نور الإيمان المتّقد في قلب المؤمن. يستلهم نور الايمان المتّقد في قلب المؤمن طاقته من الكلمات النورانية للقرآن

٣٥٩

المجيد وروايات المعصومين ، أي أن الآيات والروايات بمثابة زيت الزيتون الذي يؤمّن وقود سراج الايمان الكائن في قلب الانسان ، ولهذا تزداد نورانيته كل يوم وكلّما اقترب من الآيات والروايات.

مصدر وقود الايمان (الآيات والروايات) هو شجرة الوحي المباركة التي هي لا شرقية ولا غربية ، فليست ذات طابع مادي بحت ولا ذات طابع معنوي بحت ، بل تغطي كل الجوانب والأنحاء. وهذا الوقود زلال وشفاف وصاف جداً ، فلا خطأ ولا زيغ في الآيات وكلمات المعصومين ، فهي كلمات مضيئة ولامعة لا تحتاج إلى شيء آخر لإيقادها.

كلٌّ من الآيات والروايات نور على نور ، آيات الله في القرآن المجيد نور ، وكلمات المعصومين نور على نور كلمات الله.

إن الله يهدي من يشاء من خلال آياته وروايات المعصومين ، والله يضرب الأمثال المتنوّعة للناس ، وهو يعلم ما يضرب من الأمثال.

إذن ، وفقاً لهذا التفسير ، المراد من نور الله هو نور الإيمان ، والشاهد عليه ما ورد في بعض الآيات من التعبير بالنور للاشارة إلى نور الايمان ، كما جاء ذلك في آية الكرسي :

(اللهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ والَّذِين كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِن النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ) (١).

هذا مضافاً إلى الروايات التي دلَّت على أن كلمات المعصومين نور ، وبهذا يكون المراد من النور في الآية هو نور الإيمان.

٢ ـ «يَهْدِي اللهُ لنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ» ما ذا تعني؟

سؤال : هل أن الله يهدي من أراد هدايته ولا يهدي من لم يرد هدايته؟ أو هل الهداية الإلهية المبتنية على اساس الحكمة تشمل أولئك الذين شملتهم مشيئة الله فقط؟

الجواب : مشيئة الله تتبع حكمة الله دائماً ، والحكيم يهدي وفق محاسبات لا اعتباطاً.

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧.

٣٦٠