أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

الظلّ الذي تفتعله الغمام ، وهو ظلٌّ سائر وغير دائم ولا ثابت في محل ما ، فلا يمكن اللجوء إليه هروباً من حرارة الشمس.

الدنيا منام يراه الانسان النائم ، وهو خيال أجوف ، من قبيل رؤية الانسان لكنوز كثيرة يمتلكها ، ولا يجدها ولا آثارها في اليقظة.

إذن ، الدنيا فانية ، كما أنها جوفاء وخالية من المحتوى.

هاء : في حديث يصف لقمان الحكيم الدنيا لابنه كما يلي :

«إنَّ الدنيا بحر عميق قد غِرق فيها عالَمٌ كثير» (١).

الذي يغرق إمَّا أن يصبح طعاماً للحيوانات البحرية أو أن أمواج البحر تلقي به إلى أماكن بعيدة ، بحيث لا يبقى منه أثر. والدنيا تفعل بالانسان كما يفعل البحر بالغريق ، فهي قاسية وغير وفيّة.

عاش في هذه الدنيا أقوام ونحل كثيرة لا نجد لها أثراً حالياً ، فهي قد غرقت في بحر الدنيا ، فعلينا البحث عن وسيلة نجاة من بحر الدنيا يُطمئن إليها ننقذ بها أنفسنا من الغرق.

واو : يقول الامام علي عليه‌السلام فيما يخصُّ أهل الدنيا :

«أهل الدنيا كَرَكْبٍ يُسار بِهِم وهُمْ نيام» (٢)

عبدة الدنيا يقضون حياتهم في نوم الغفلة ، وقد أدهشتهم شهوات الدنيا ولذّاتها ، لذلك لا يصطحبون معهم متاعاً في سفرهم نحو الآخرة ، يستيقظون عند ما يشعرون بصفعة الأجل ، عندها يندمون ويأسفون ، لكن ذلك لا يفيدهم ؛ لأن زمن التدارك قد مضى وولَّى.

زاء : يصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدنيا بمثل جميل ويقول :

«الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر» (٣).

يحكم المؤمنين قيود كثيرة في الدنيا ، هي من قبيل الحلال والحرام ورضا الله وغضبه والمحرمات والواجبات ، وهي قيود تحدُّ من نشاطات المؤمنين كثيراً ، أمَّا الكفَّار فهم في حلٍّ من

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٦٣ ، الحديث ٦٠٥٦.

(٢) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٥٤ ، الحديث ٦٠١٧.

(٣) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٤١ ، الحديث ٥٩٣٣.

٣٢١

جميع هذه القيود ، فهم أحرار والأهواء هي التي تحكمهم ، ولذلك يُعدُّ المؤمن سجين الدنيا في زنزانة تتحطّم عند الموت لتحلِّق روحه منها نحو الحرية. وهذا هو السبب في أنَّ أولياء الله يتطلّعون إلى الموت ويعدونه فوزاً «فُزْتُ وربِّ الكعبة» أو يتمنّونه «اللهمَّ عجِّل وفاتي سريعاً» ، فهم يستقبلون الموت برحابة صدر ولا يهابونه أبداً.

إذا كان دفتر أعمال الانسان أبيض كان الموت نعمة له ؛ لأنه يتخلَّص عنده من الدنيا المفعمة بالمصائد والفخاخ الشيطانية ، ويتخلَّص كذلك من قيود الدنيا ليبلغ نعمة الحرية التي ينالها المؤمن في الآخرة.

حاء : يصف النبي عيسى عليه‌السلام الدنيا كما يلي :

«إنَّما الدنيا قنطرةٌ فاعبروها ولا تعمروها» (١).

الدنيا ليست هدفاً ولا غاية ، بل وسيلة ، والنظر إلى الدنيا من هذه الزاوية يعدُّ إيجابياً جداً ، ونرتكب خطأً كبيراً إذا نظرنا إليها كهدف وغاية. لذلك شبّهها النبي عيسى عليه‌السلام بالجسر الذي ينبغي العبور عليه لا المكث فيه ، فالعاقل لا يبني منزلاً على الجسر ، فهو ليس محلاً للتوقف والعيش ، والعجيب إذا صدر ذلك من الانسان.

في هذا المجال ورد حديث عن الامام علي عليه‌السلام يقول فيه : «عجبت لعامر الدنيا دار الفناء وهو نازل دار البقاء» (٢).

طاء : ينقل الامام علي بن الحسين عليهما‌السلام مكاشفة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يخصُّ الدنيا الدانية ، حيث يقول :

«إنّي كنت بفدك في بعض حيطانها ، فإذا أنا بامرأة قد قحمت عليّ وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها ، فلمّا نظرت إليها طار قلبي ممَّا تداخلني من جمالها فشبهتها ببُثينة بنت عامر الجُمحي وكانت من أجمل نساء قريش ، فقالت : يا ابن أبي طالب ، هل لك أن تتزوّج فاغنيك عن هذه المسحاة وأدلك على خزائن الأرض فيكون لك الملك ما بقيت ولعقبك من بعدك؟ فقال لها : مَن

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٥٩ ، الحديث ٦٠٣٣.

(٢) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٥٤٩ ، الحديث ٦٠٣٥.

٣٢٢

أنت حتى أخطبك من أهلك؟ فقالت : أنا الدنيا. قال : قلت لها : فارجعي واطلبي زوجاً غيري». ثمّ أنشد عليه‌السلام أبياتاً جميلة في ذمها (١).

تقدَّمت تسعة من الأمثال الواردة عن الدنيا على لسان المعصومين واذا جمعناها إلى الآية تصبح عشر أمثال جميلة تعكس بوضوح الجوانب والخصائص الأربع التي ذكرناها للدنيا.

اللافت أن المعصومين أينما تحدَّثوا عن موضوع بيّنوه بنحو واف لا لُبس ولا نقص فيه ، وبه تتمُّ الحجة على الجميع بحيث لا يمكن لأحد أن يدَّعي عدم العلم أو المعرفة.

٣ ـ ما سبب ذم الروايات الدنيا؟

كثرة مذمّة الدنيا من قبل الروايات إشارة منها إلى نقطة جاءت في نفس الروايات تحدّد فلسفة وعلة هذه المذمّة ، على سبيل المثال جاء ما يلي في رواية وردت عن الوجود المقدس للامام الصادق عليه‌السلام :

«رأس كلِّ خطيئة حب الدنيا» (٢).

هذه الرواية تُرجع الذنوب كلها (وهي من قبيل السرقة والتهمة والغيبة والاستهزاء وإيذاء المؤمن والزنا واللواط والاعتداء على الآخرين وترك الواجبات وفعل المحرمات) إلى حبّ الدنيا وعبادتها.

وفي رواية لافتة وجميلة يقول الامام الكاظم عليه‌السلام :

«إعلم أنَّ كل فتنة بذرها حبُّ الدنيا» (٣).

وفي رواية يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أكبر الكبائر حبُّ الدنيا» (٤).

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٥٣ ، الحديث ٦٠١٥.

(٢) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٢١ ، الحديث ٥٨١٥.

(٣) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٢١ ، الحديث ٥٨١٣.

(٤) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٢١ ، الحديث ٥٨١٤.

٣٢٣

تحليل الروايات

الدنيا محلّ التزاحم عكس الآخرة ، فلا تزاحم فيها ، وبعبارة اخرَى : للتزاحم مجال في الامور الدنيوية ، ولا يُتصوَّر هذا التزاحم في الامور المعنوية. وعلى سبيل المثال إذا كنت حافظاً للقرآن فلا يتزاحم ذلك مع حفظ القرآن من قبل الآخرين حتى لو حفظه نساء الدنيا ورجالها جميعاً. وعكس ذلك في الأمور الدنيوية فإذا كنت مالكاً لقطعة من الارض ، تزاحم ذلك مع ملك شخصٍ آخر لنفس الأرض. أي هناك تزاحم بين ملكك وملك الآخرين أو إذا كان زيد رئيساً للجمهورية فلا يمكن لعمرو أن يكون رئيساً للجمهورية كذلك.

وبما أنَّ هذه الدنيا دار تزاحم كانت سبباً للذنوب. وامكانيات الدنيا لو قسمت بعدالة بتكافؤ لأمكن للجميع الاستفادة منها بالنحو المطلوب إلَّا أن طلّاب الزيادة وعبدة الدنيا حالوا دون حصول تعادل في توزيع الامكانيات ووفّروا الأرضية للتعدي والتجاوز على الحقوق ، وبذلك تندرس حقوق الضعفاء وتضيع. وهذا هو تصوير كون الدنيا منشأً للذنوب.

إذن ، لو اقتنع الانسان بما لديه واتَّخذ القناعة كمنهج لحياته حفظ نفسه بعيداً عن التلوّث بكثير من الذنوب.

٣٢٤

المثل الرابع والثلاثون :

تنوّع أمثال القرآن

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هَذَا القُرْآنِ للنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً) (١).

تصوير البحث

خلافاً لباقي الأمثال حيث تحدَّثت عن عينيات خارجية فان الحديث في هذه الاية عن المسائل الكلية وتنوع أمثال القرآن ، لعلَّ هذه الأمثال تقنع بتعدّدها وتنوّعها الانسان الجاحد والمجادل وتهديه إلى الصراط المستقيم.

هل هذه الآية من أمثال القرآن؟

اختلف المفسرون في هذا الباب ، فبعض عدَّها من أمثال القرآن وبعض آخر رفض إدراجها في الأمثال ، وبرأيي أن الإجابة على هذا السؤال يتوقّف على كيفية تفسيرنا لأمثال القرآن ، فإذا كان المراد من المثل التمثيل بشيء ذي عينية خارجية ، كما هو حال الكثير من أمثال القرآن ، كانت هذه الآية خارجة عن نطاق المثل ، وإذا كانت الإشارة الكلية إلى أمثال القرآن كافية في صدق المثل اندرجت هذه الآية تحت هذه الأمثال ؛ لأن هذه الآية تشير إلى تنوّع الأمثال القرآنية.

__________________

(١) الكهف : ٥٤.

٣٢٥

يُذكر أن بعضاً ممَّن كتب في أمثال القرآن أخطأ هنا ، ومع احترامي له أقول : لا ينبغي عدّ الآية مثلاً بمجرد تضمّنها مفردة (مثل) ، فقد جاء في الآية :

(فأتوا بِسُورةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (١) رغم ذلك لا علاقة للآية بالأمثال القرآنية ، بل تحدَّثت عن إعجاز القرآن المجيد.

كما وردت مفردة (مثل) في الآية التالية : (للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ) (٢) وهي كذلك لا علاقة لها بأمثال القرآن ، بل الحديث فيها عن الإرث.

ومن جانب آخر ، هناك البعض من أمثال القرآن لم تستخدم فيها مفردة (مثل) ، رغم ذلك يعدها الجميع من الأمثال.

النتيجة : وجود أو عدم وجود مفردة (مثل) لا يدل على كون الآية من الأمثال أو ليست من الأمثال ، بل المثل هو أن تبيّن الآية معنى عقلياً معقداً في قالب أمرٍ محسوس يسهل استيعابه للجميع.

الشرح والتفسير

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرآن للنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)

مفردة (صَرَّفنا) من مادة التصريف ويعني التبديل والتغيير ، ولذلك يقال صَرَّافاً لمن يبدّل النقد من عملة إلى اخرَى فيبدل الدينار بالدولار أو بالعكس مثلاً.

وقد اطلق اصطلاح (علم الصرف) على العلم المعروف ؛ باعتبار كونه علماً يعني بتبديل الكلمة إلى أشكال وصيغ مختلفة من الماضي والمضارع واسم الفاعل والمفعول والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث والمخاطب والغائب وغير ذلك.

يقول الله في هذه الآية : إنَّا بيّنّا أمثالاً مختلفة ومتنوّعة للناس ، وبيّنا الموضوع المتحد باشكال وصيغ مختلفة ومتنوعة لعلَّ الانسان يهتدي بها إلى ربّه.

__________________

(١) البقرة : ٢٣.

(٢) النساء : ١١.

٣٢٦

(وَكَانَ الإنسانُ أكْثَرُ شَيءٍ جَدَلاً)

ما ذا يعني الجدل؟

الجدل يعني فتل الحبل فتلاً جيداً ، كما يطلق على المتصارعين ، باعتبار اشتداد وانفتال أحدهما بالآخر ، كما يُطلق على نقاش شخصين في القضايا الفكرية والمنطقية ، حيث تُفتل أفكار كلٍّ منهما بالآخر وتلتحم.

النتيجة : كون الجدل في البداية اطلق على فتل الحبل وشدّه ثم توسّع هذا المفهوم ليشمل كل انفتال مادي حتى لو كان من قبيل تصارع شخصين ، ثم اطلق على مفهوم أوسع ليشمل انفتال الأفكار بالنحو المشار إليه في الأسطر المتقدّمة.

استخدم القرآن ولغرض هداية الانسان أمثالاً متعدّدة ومتنوّعة ، لكن الانسان رغم ذلك يجادل في الحق ويقف أمامه أكثر من أي موجود شاعر آخر. الانسان موجود مجادل ، هذا هو سبب عدم تسليمه للحق وهو سبب جحود البعض في صدر الاسلام وعدم إيمانهم رغم سماعهم آيات القرآن من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ورؤيتهم إيّاه كل يوم ، وظلوا هكذا حتى الموت. وقبال هؤلاء اناس آمنوا بمجرّد سماعهم آية من آيات القرآن دون أن يروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

سبب ذلك واضح ، فالذين لم يؤمنوا كانوا اناساً مجادلين يقلبون الحقائق بالجدل ، أمَّا اولئك الذين آمنوا بالرسول لمجرّد جرعة واحدة من جرعات الهداية دون أن يروا الرسول فقد كانوا يبحثون عن الحقيقة والهدى ، وهذا هو الشرط الأساس للهداية.

أشار الله إلى هذا الموضوع المهم في بداية سورة البقرة وعبر جملة قصيرة حيث قال : (ذلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدَىً للمُتَّقِينَ) ؛ وذلك لأن المراد من التقوى في هذه الآية ليس المعنى المألوف والمصطلح بل المتقين هنا هم اولئك الذين خلت قلوبهم من العناد واللجاجة والجدل ، فالقرآن بالنسبة إلى هؤلاء سبب للهداية ، أمَّا أصحاب اللجاجة والعناد فما يزيدهم القرآن إلَّا ضلالاً فضلاً عن أن يكون سبباً لهدايتهم.

أمثال أبي لهب وأبي جهل لم ينهلوا من القرآن شيئاً ، وذلك لأنهم كانوا يفقدون أرضية النهل من بركات ونعم هذا الينبوع ، فإنَّ قابلية القابل شرط مضافاً إلى فاعلية الفاعل ، فكما أنَ

٣٢٧

نزول قطرات الغيث الشفافة شرط لنمو النباتات كذلك الأرض المعدَّة والخصبة شرط لنمو النباتات.

خطابات الآية

١ ـ تنوّع أمثال القرآن

سؤال : لماذا استخدم القرآن أمثلة متنوّعة؟ ولما ذا بيَّن مطلباً ومضموناً واحداً بقوالب متباينة؟ تارة يمثّل بالحيوانات وأُخرى بالصالحين أو الفاسدين واخرى بالنباتات أو نور الشمس وما شابه ذلك ، فما سبب هذا التنوّع؟

الجواب : ذهنية الأشخاص تختلف كاختلاف أشكالهم الظاهرية ، فشخصيات الأفراد وقدراتهم على الاستيعاب والتحليل وأذواقهم وثقافتهم مختلفة ، وإذا أراد المتكلّم أن يتوفّق ويؤثر في المخاطبين فعليه صياغة كلامه بقوالب مختلفة ومتنوّعة ناظراً في ذلك إلى قابليات المخاطبين ؛ لأنَّ منهجاً في البيان قد يكون مؤثراً في الشباب وغير مؤثر في الكهول أو بالعكس ، وقد تؤثر جملة في شخصٍ امّي ولا تؤثر في المثقف ، وقد تكون بعض المطالب مؤثرة في النساء غير مؤثرة في الرجال وهكذا.

إذن ، على المتكلّم أن يلاحظ هذه النقطة المهمة وينوّع في أساليب بيانه سعياً في التأثير على جميع المخاطبين وبمختلف مستوياتهم.

مخاطبو القرآن المجيد اناس كانوا عهد البعثة ، وسيكون له مخاطبون إلى يوم القيامة وفي أرجاء المعمورة وبأذواق وأفكار ومستويات وتطلّعات ومعلومات مختلفة فاستخدم أمثالاً متنوّعة علماً منه باختلاف البشر في مختلف الجوانب. وبعبارة اخرَى : إنَّ كتاباً من هذا القبيل لا يمكنه أن يتحدَّث بأدبيات واحدة مع اختلافات وتنوّع مخاطبية ، بل عليه تنويع أدبياته ليستوعبه الجميع.

على سبيل المثال تحدّث القرآن عن نفسه بأنحاء مختلفة ، ففي مورد يقول : (قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ

٣٢٨

نُورٌ وكِتَابٌ مُبينٌ) (١) فشبَّه نفسه بنور الشمس حيث ينفذ في كل مكان ويؤثر أثره حيث ينفذ.

وفي مورد آخر يشبّه نفسه بالشجرة ذات الجذر والأصل الثابت والتي تثمر في كلّ وقت وفصل ، حيث يقول :

(ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طِيّبةً كَشَجَرَةٍ طَيَّبةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُون) (٢).

القرآن الكريم هو من ضمن التفاسير الواردة للكلمة الطيبة (٣) ، فإنَّه بمثابة الشجرة المثمرة والطيّبة دائمة وعامة البركات ويمكن للجميع الاستفادة منها ، كلٌّ حسب قابليته.

وفي مورد آخر تحدث القرآن عن سعة كلامه الحق قائلاً :

(قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِداداً لِكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (٤).

القرآن المجيد من التفاسير الواردة في هذه الآية (٥).

إنَّ بطون القرآن ومفاهيمه وتفاسيره ومصاديقه الجديدة كثيرة جداً بدرجة لا يكفيها استخدام بحار الأرض كمداد وحبر للكتابة.

عند ما نراجع كلمات المعصومين عليهم‌السلام نجدهم قد انتهجوا منهج القرآن في الكلام مع المخاطبين ، ويعبرون عن المطلب الواحد تعابير مختلفة ويستخدمون له بيانات متنوّعة. على سبيل المثال عند ما يجيبون عن السؤال عن قدرة الله يجيبون أجوبة متناسبة مع قابليات الأفراد وقدراتهم على الاستيعاب ، لاحظوا النموذج التالي :

السؤال : قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟

__________________

(١) المائدة : ١٥.

(٢) إبراهيم : ٢٤ و ٢٥.

(٣) انظر الميزان ١٢ : ٤٩.

(٤) الكهف : ١٠٩.

(٥) انظر مجمع البيان ٦ : ٤٩٨.

٣٢٩

الجواب : يجيب الامام علي عليه‌السلام كما يلي : «إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون» (١).

لكن هذا السؤال غلط مِن الأساس ؛ لأنَّ مفهوم هذا السؤال كون العالم كبيراً وصغيراً في ذات الوقت ، وهو من قبيل القول بأن موجوداً طوله عشرين متراً وعشر أمتار في آن واحد ، فهذا تناقض محال. ولو طلبت من طالب أن يقسّم عشرين جوزة بين ثلاثين طالباً على أن لا يصل لكلٍّ منهم أقل من جوزة كاملة ما استطاع الطالب فعل ذلك ، فهل التقصير منه أو من طلبتك غير الممكنة؟ طبيعي أن لا تعكس هذه المسألة عجز الطالب بل انَّ المسألة غلط.

الامام علي عليه‌السلام عند ما وجد في السائل ذهنية جيدة ومعرفة بمسائل من قبيل التناقض والامكان وما شابه أجابه بما تقدَّم من جواب.

ذات السؤال سأله آخر من الامام الرضا عليه‌السلام فكان جواب الامام الرضا عليه‌السلام مختلفاً عن جواب الامام علي عليه‌السلام ، فقد قال له : «نعم وفي أصغر من البيضة ، وقد جعلها في عينك ، وهي أقل من البيضة ؛ لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ، ولو شاء لأعماك عنها» (٢).

وجواب الامام كان متناسباً مع عقلية المخاطب وقابليته وقدرته على الاستيعاب.

النتيجة : هي ضرورة اختلاف الخطاب باختلاف المخاطب من حيث القدرة على الاستيعاب والقابلية على إدراك المفاهيم (٣) ، وهذا لا يعدُّ نقصاً ولا يُحمل على قلة معلومات المتكلم بل يعد فناً عظيماً يكشف عن قدرة المتكلم على البيان ، ولذلك على مبلغينا أن يلمّوا بألسن جميع المخاطبين وعقليّاتهم لكي ينفذوا في قلوب الجميع ويؤثروا أثرهم وإلَّا فيُحرمون من الموفقية.

٢ ـ منع الجدال

الجدال والمراء عن غير حق حرام في الاسلام ، ويعد من الكبائر ، ولذلك لا يرضى الاسلام

__________________

(١) بحار الأنوار ٤ : ١٤٣ ، الحديث ١٠.

(٢) البحار ٤ : ١٤٣ ، الحديث ١٢.

(٣) للمزيد راجع نفحات القرآن ٤ : ١٧١ فما بعدها.

٣٣٠

بالمناظرات إلَّا إذا قصد طرفاها اتّضاح الحق والحقيقة وكانا يبحثان عن الحق ، أمَّا إذا قصد كلٌّ منهما التغلّب على الطرف الآخر كان ذلك جدلاً محرماً.

على المناظرين أن يتحلُّوا بشجاعة لقبول الحق ، وهذا هو المطلوب في الاسلام.

في مجال الجدال نقرأ آية وروايتين.

١ ـ جاء في الآية ٣ من سورة الحج :

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيْدٍ)

يجادل البعض حول التوحيد وحول الله تعالى دون أن يكون له علم ومعرفة في هذا المجال ، ويطلق مجادلاته عن هوى وهوس ، وهؤلاء المجادلون يعدون من أتباع الشيطان ؛ لأن الشيطان رائدهم في هذا المجال ، وقد انحرف بواسطة الجدل ، عند ما أمره الله بالسجود بصحبة الملائكة امتنع عن السجود مستخدماً القياس وقائلاً لربّه : خلقت آدم من تراب وخلقتني من نار ، والنار أفضل من التراب (١). مع أن السجدة لم تكن لترابية آدم عليه‌السلام بل للروح الالهية التي نفخها الله فيه.

إذن ، جدال إبليس هو الذي جلب له الشقاء ، كما أنَّ المجادلين أتباع الشيطان المجادل.

٢ ـ يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية :

«ما ضَلَّ قوم إلَّا أوثقوا الجَدَلَ» (٢).

وهذا الحديث يعني أن الجدل سبب الضلالة.

٣ ـ يقول الامام علي عليه‌السلام في رواية قصيرة :

«الجَدَلُ في الدين يُفسد اليقين» (٣).

خلاصة ما تقدم كون الجدل غير المنطقي سبباً في الضلالة ومفسداً لليقين ، والمجادلون أتباع الشيطان ، وما علينا هو الابتعاد عن الجدل والتسليم إلى الحق والخضوع له.

__________________

(١) هذا مضمون الآية ١٢ من سورة الأعراف.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ١٣٨.

(٣) ميزان الحكمة الباب ٤٩٢ ، الحديث ٢٢٨٥.

٣٣١
٣٣٢

المثل الخامس والثلاثون :

التوحيد والشرك

الآية ٣١ من سورة الحج تشكّل المثل الخامس والثلاثين ، وقد جاء فيها :

(وَمَنْ يُشرِكْ باللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)

تصوير البحث

المثال يحكي موضوعاً هو موضع اهتمام جميع الأديان ، أي الشرك والتوحيد ، فقد شبَّههما هنا بالسماء والسقوط منها ، وسيأتي شرح ذلك.

الشرح والتفسير

(وَمَنْ يُشرِكِ باللهِ فَكَأنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ)

في هذه الآية شُبِّه التوحيد بالسماء والشرك بالسقوط من السماء ذات الشمس والقمر والنجوم ، أي مصادر النور والضياء والبركات ، مضافاً إلى أن السماء نفسها تحضى بجمال وعظمة خاصة.

التوحيد مركز النور والعظمة الإلهية ويأتي للموحدين بالبركة والضياء ، أمَّا الشرك فبمثابة السقوط من سماء التوحيد.

مع الالتفات إلى هذه المقدمة تقول الآية : اولئك الذين امتنعوا عن توحيد الله وجعلوا

٣٣٣

شريكاً له وخرجوا عن صفوف الموحّدين بمثابة الذي يسقط من السماء ، ومن الطبيعي أن لا يعيش الذي يسقط من السماء إلى الأرض.

(فَتَخْطَفُهُ الطيرُ أَوْ تَهْوي بِهِ الرِّيحُ وفي مَكَانٍ سَحِيقٍ)

المشرك الذي يسقط من السماء إلى الأرض لا ينجو ؛ لأنه سبيتلى ـ وهو معلق في الهواء ـ بأحد مصيرين نتيجة كلٍّ منهما الموت والفناء.

الأول : أن يقع فريسة للطيور الجوارح آكلات اللحوم والجيف ، بحيث كل طير منها تلتقم جزءً من لحمه ، وعندها لا يصل إلى الأرض إلَّا عظامه.

الثاني : إذا لم يبتل بالطيور المتقدّم ذكرها فسيبتلي بالأثناء برياح وعواصف تلقيه في مكان بعيد لا يصله انسان لكي ينقذه.

وخلاصة الكلام أن المشرك شُبِّه في هذه الآية بالذي يسقط من السماء نحو الأرض ويبتلي في الأثناء بطيور جوارح آكلة لحوم أو رياح وعواصف تلقي به إلى مكان سحيق يستحيل على انسان الوصول إليه.

خطابات الآية

١ ـ ما المراد من الطيور؟

لا يبعد أن يراد من الطيور المتقدّم ذكرها هو الاهواء (١).

المشرك مبتلى بالأهواء ، فبعض من الأهواء تُذهب بماء وجه الانسان ، وبعضها الآخر تُذهب بانسانية الانسان ، وبعضها الآخر تُذهب بشجاعة الانسان أو مروّته أو غير ذلك ، وفي النتيجة لا يبقى من الانسان المشرك شيء ، بل طيور الأهواء والهوى والهوس تأكل كل ما لديه من شخصية وانسانية.

٢ ـ ما المراد من الريح

قد يكون المراد من الريح التي أشارت إليه الآية والذي يلقي الانسان الساقط إلى أماكن

__________________

(١) انظر الأمثل ١٠ : ٣٠٦.

٣٣٤

بعيدة يصعب الوصول إليها هو الشيطان الطاغي (١) ، فالمشرك إذا نجى من طيور الهوى والهوس قع أسيراً بريح الشيطان العاصي فيأخذ به إلى حيث لا ناصر ولا معين يعيش الضلال والشقاء.

٣ ـ لا هدوء للمشرك

جاذبية الأرض من نِعم الله علينا ، فهي تسبب أن يكون وزن لكل شيء ، ولولاها لما كان استقرار وثبات لشيء في الكرة الأرضية. المنازل والمزارع والمعامل والمدارس والمستشفيات مستقرَّة في مكانها بسبب وزنها والجاذبية التي ترد عليها. وهذه الجاذبية خاصة بالأرض وتقلُّ كلما ابتعدنا عن الأرض ومركزها ، والأشياء تفقد أوزانها خارج ميدان جاذبية الأرض ، ولذلك يدخل روّاد الفضاء دورات تعليم وتأقلم على الفراغ والفضاء الخالي من الجاذبية قبل رحلتهم الفضائية لكي يستعدوا لقضاء مدّة في الفضاء.

من سبل تجربة الفراغ وفقدان الجاذبية هو السقوط الحر من الأماكن المرتفعة ، عندها يجرّب الانسان حياة لم يجرّ بها سلفاً ، ولهذا يعتقد الأطباء أن كثيراً من الذين يسقطون من شاهق تحصل لهم سكتات قبل الوصول إلى سطح الأرض.

يشعر المشرك عند سقوطه من السماء بحالة الفراغ والخلو من الوزن ، وعندها تنتابه أحاسيس الاضطراب تخيّم على وجوده بالكلية ، ويبدو أن الذي ينفصل عن التوحيد ويتوجّه نحو الشرك يودّع الهدوء والطمأنينة ويلتقي بالاضطراب والقلق ، ولا يعود له الاطمئنان والهدوء إلّا تحت ظلِّ التوحيد وترك الشرك وعبادة الأصنام (أَلَا بِذِكَرِ اللهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ) (٢).

وهذا أمر يقرُّ به حتى المشركون أنفسهم ، فقد جاء في الآية ٦٥ من سورة العنكبوت : (فَإذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ؛ وذلك لأنَّهم يعلمون جيداً بأنَّه لا أحد سيُرجع لهم الطمأنينة غير الله ، فيدعونه مخلصين له ، أمَّا الأصنام فيعلمون بعجزها عن إنقاذهم ، لكن

__________________

(١) انظر الأمثل ١٠ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٢) الرعد : ٢٨.

٣٣٥

توحيدهم مؤقت ويعودون إلى الشرك تارة اخرَى بعد ما يصلون إلى السواحل حيث ترسو سفنهم.

والخلاصة أن الشرك وعبادة الأصنام سبب للاضطراب والقلق ، والتوحيد سبب للطمأنينة والهدوء.

٤ ـ لا إرادة للمشرك

الانسان صاحب إرادة قبل السقوط ، لكنه عند ما يسقط ويعلق في الفضاء تنسلب عنه الإرادة ، ولا يستطيع تقرير شيء ، والمشرك عند ما يسقط من سماء التوحيد يكون كذلك ويفقد إرادته وقدرته على اتّخاذ قرار.

أهمية التوحيد

التوحيد أهم مباحث القرآن المجيد وباقي الكتب السماوية ، وقد دعى الانبياء وأوصياؤهم الناس إليه وحذّروهم عن الشرك وعبادة الأصنام.

لا مسألة أهم من التوحيد في التعاليم الدينية ، والشاهد على هذا آية من القرآن تكرّرت بالنص في موضعين من سورة النساء ، هما الآية ٤٨ و ١١٦ ، حيث جاء هناك :

(إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)

واللافت هنا أن المراد من الغفران هنا هو الغفران دون توبة ، أمَّا مع التوبة فيُغفر الشرك كذلك. فإنَّ أكثر الصحابة باستثناء بعض قليل مثل الإمام علي عليه‌السلام كانوا مشركين ، وعند ما أسلموا وتابوا غفر الله لهم.

إذا مات العاصي قبل أن يتوب فلا يُغفر له إن كان مشركاً ولا أمل في غفرانه ، أمَّا إن كانت معصيته اموراً اخرَى غير الشرك فيحتمل أن يغفر الله له وأن يشفع له أولياء الله ، أمَّا المشرك فلا يُغفر له ولا يُشفع له ، فالشرك لا يقع موضع غفران ولا شفاعة. وهذا يكشف عن أهمية التوحيد وخطره وعظمته في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فالتوحيد ينبوع السعادات والشرك ينبوع الشقاء ودمار لكل حسنة.

٣٣٦

سؤال : ما سبب أهمية التوحيد؟ وما سبب ذم الشرك وبغضه إلى هذا الحد؟

الجواب : فلسفة الأهمية البالغة للتوحيد والذم الشديد للشرك هي امور مختلفة نشير إلى بعضها :

الأول : أول أثر وبركة للتوحيد هو اتّحاد المجتمعات البشرية. تختلف البشرية فيما بينها باللغات والأعراف والعقائد والأفكار والتقاليد والثقافة وما شابه ذلك ، وفي بلد مثل ايران حيث يشكّل جزءً بسيطاً من العالم توجد لغات عديدة وثقافات وأقوام متنوّعة ، وقس عليه باقي أرجاء المعمورة ، ففيها آلاف اللغات والقوميات والثقافات ، لكن يا ترى ما حلقة الاتصال بين البشر؟ وما نقطة الاشتراك بينهم؟ وإذا قرّرت الشعوب والحكومات العيش تحت ظلِّ حكومة عالمية واحدة فما الذي يشتركون فيه؟

لا شكَّ أن التوحيد المتجذّر في معتقداتهم الأساسية يشكّل أهم عامل في اتحادهم ، فالتوحيد محور جيّد جداً للاتّحاد وحبل متين يمكن للجميع أن يتمسك به.

يشير الله إلى هذا المطلب في الآية ٦٤ من سورة آل عمران قائلاً :

(قُلْ يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالوا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ ألَّا نَعْبُدَ إلَّااللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ)

تتجلَّى هذه الوحدة في مراسم الحج على أرض الحجاز ، حيث يمكن مشاهدة الملايين من المسلمين من بلاد مختلفة وبألوان ولغات وثقافات وتقاليد متفاوتة جميعهم محتشدين هناك متجهين نحو كعبة معبودهم ، يبدون كالنهر الشفاف قاصداً الالتحاق ببحر الوحدة اللامتناهي ينبعون من قلل الانسانية العالية ويلتقون حول الكعبة معلنين خضوعهم وتسليمهم للحق تعالى.

في آخر صلاة جمعة قبل عرفة في مكة المكرمة يشترك أكثر من مليون مسلم ، وهي أعظم صلاة جمعة للمسلمين في السنة ، يصطفون جميعم في صفوف العبودية ويرفعون أيديهم دفعة واحدة داعين ربَّهم معظّمينه وممجّدينه ، فيركعون متّحدين ، ويسجدون متّحدين ، وبذلك

٣٣٧

تتشكّل لقطات بديعة فريدة للاتحاد والتلاحم (١).

يا ترى كم ستزداد اللقطة جمالاً وبداعة لو أن رقعة الاتحاد تجاوزت المسلمين لتبلغ مستوى العالم بمختلف ثقافاته ، تمسكاً بحبل الله.

إذن ، الاتحاد من الآثار المهمة للتوحيد ، وفي قباله الشرك الذي يؤدي إلى التفرّق والاختلاف. كان للعرب الجاهليين ثلاثمائة وستين صنماً ، وهذا يعني اختلافهم وتشتتهم إلى ثلاثمائة وستين فرقة صغيرة وانقسام مجتمعهم إلى هذا العدد رغم صغره ، ومن الطبيعي أن لا يخلو هكذا مجتمع من نزاع وجدال وصراع وقتل وعصيان وأن لا يكون له نصيب من السعادة والهدوء ، لكن هذا المجتمع اتَّحد وتماسك في ظل التوحيد وهداية الاسلام ورسوله ، وتفوّق عندها على جميع المجتمعات.

الثاني : الأثر الآخر للتوحيد هو منحه الموحّدين قدرة وقوّة ، كما أن الشرك يسلب عن المشركين قدرتهم ويجعلهم عاجزين.

ما انفك المشركون عن حياكة المؤامرات ضد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين عند ما كانوا اقلية في مجتمع مكة ، فكانوا يأتون كل يوم بمؤامرة جديدة سعياً لإطفاء نور الاسلام وإخماد جذوته.

جاء رؤساء قريش لأبي طالب في يوم من الأيام لكي يعلنوا وقف اطلاق النار ـ كما يصطلح عليه حالياً ـ مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد النقاش الذي دار بين الطرفين قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : مخاطباً أبا جهل : «أدعوهم إلى أن يتكلّموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم» ، فقال أبو جهل : ما هي وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها؟ قال : «تقولون لا إله الَّا الله وتخلعون الأنداد من دونه» (٢).

لا زالت هذه العبارة التي أطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تشكّل طريق حلٍّ للبشر حيث عيوا الحروب والخلافات والنزاعات ؛ وذلك لأن الرجوع إلى شجرة التوحيد الطيبة هو الحل

__________________

(١) ممَّا يؤسف له أن هذه الصلاة وهذا التجمع العظيم لا يستخدم لغرض حل مشاكل المسلمين في الوقت الراهن ، بل يقتصر الامام على ذكر مطالب تكررت على المسلمين منذ مئات الأعوام.

(٢) فروغ ابدّيت ١ : ٢٢٢ (بالفارسية) ، على أن السير نقلت هذا الحادث بأشكال شتَّى ، راجع المنتظم ٢ : ٣٦٩ ، وكذا تفسير مجمع البيان ٨ : ٣٤٣.

٣٣٨

الوحيد لحلِّ هذه المشاكل وبلوغ السلطة المتزامنة مع العزة والأمان والهدوء والطمأنينة والعدالة الحقيقية.

تعالوا نفكر ونتأمل في كيفية تبديل الاسلام عرب الجاهلية في مكة والمدينة ، الذين كانوا غارقين بالاختلاف والنزاعات الدامية ، إلى اناسٍ مقتدرين وذوي عزّة استطاعوا تحت ظلِّ الاخوّة والاتحاد أن يفتحوا شرق الأرض وغربها في أقل من نصف قرن؟ ألم تكن تلك العظمة ثمرة للتوحيد والتمسك بحبل الله؟

الثالث : التوحيد يأتي بالهدوء والطمأنينة إلى المجتمع. السبب الأساس للجرائم والمعاصي في الدنيا هو الشرك وعبادة الأصنام ، والشرك لا يقتصر على عبادة الأخشاب والاحجار بل يشمل كل عبادة لغير الله من المقام والهوى وما شابه ، فهذه كلها شرك نوعاً ما ، والانسان عند ما يعبد هذه الامور يغفل عن الله فيرتكب الكثير من الذنوب والمعاصي والجرائم.

تقدّمت الاشارة إلى رواية حكت أن الشيطان قبَّل أول درهم ودينار ضربا في الأرض ، ونظر إليهما ووضعهما على عينيه ثم ضمهما إلى صدره ثمّ قال : «أنتما قرَّة عيني وثمرة فؤادي ما أُبالي من بني آدم إذا أحبوكما أن لا يعبدوا وثناً ، حسبي من بني آدم أن يحبوكما» (١).

لا زال الشرك رائجاً في عصرنا رغم حلول الفكر والتعقل مكان الجهل ، فكم من جرائم تُرتكب لأجل جمع المال واكتنازه؟ لا هدوء ولا أمان في مجتمعات هذا العصر ، بل النزاع والاضطراب هو الحاكم فيها ، ولو كانت المجتمعات موحِّدة لحلَّ فيها الأمان والطمأنينة والهدوء.

لبلوغ المجتمع الموحِّد علينا كسر أصنام أنفسنا ، وعلينا مراجعة معبد الأصنام الكائن في قلوبنا بين الحين والآخر لنكسر الأصنام التي تكوّنت فيها. ما أحلى القلوب التي شأنها شأن الكعبة بعد الاسلام حيث تكسَّرت جميع الأصنام التي كانت فيها.

إنَّ قلوب البعض تشبه الكعبة قبل الاسلام حيث كانت تكتض بالأصنام ، لكن أصنامها من نوع الثروة والمال والنساء والأولاد والجاه والمقام والأماني وغيرها.

القلب بيت الله علينا تطهيره من كل الأصنام ، ومن صدأ الشرك لكي نشاهد من خلاله صاحب البيت الأصلي.

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٣٧٥٠ ، الحديث ١٩٠٢٦.

٣٣٩
٣٤٠