أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

وهناك مجالات كثيرة ومتنوّعة لكسب الرزق.

٤ ـ (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) أي أنَّ الله إلى جانب ما وفَّر لهم من نعمٍ مادية (الأمان والاقتصاد السليم) منحهم نعمة معنوية وهي إرسال نبيّ معصوم وبصير منهم ؛ لكي يتمَّ تعاليمهم ومعارفهم.

إنَّ أهل هذه المدينة يتمتعون بهذه الخصال الأربع ويعيشون في رخاء ، رغم ذلك لم يشكروا الله على نعمه.

(فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فَأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والخَوفِ) إنّ أهالي هذه البلدة كفرت بدل أن تشكر نعم الله ، وكانت النّعم سبباً لتكبرّهم وغرورهم وأنانيتهم ، فظلموا بدل أن يفيدوا من النعم بشكل صحيح ، وكان نتيجة ذلك نزول العذاب الإلهي ، وأذاقهم الله ، إثر ذلك ، الطعم المرَّ للجوع وسلب منهم الأمان ، فكانت السرقات والغارات تهددهم في كل وقت ، وتسلَّط أوباشهم عليهم ، وتدمَّر اقتصادهم إثر تزلزل الأمان عندهم.

سؤال : إنَّ تعبير «أذَاقَهَا» لا يتناسب مع تعبير «لِبَاسَ» بل المناسب هنا استخدام مفردة «ألْبَسَهَا» ، فما سرّ هذا التعبير؟

الجواب : هناك نقطتان دقيقتان في مجال استخدام (اذاق) مع (لباس) نشير إليهما هنا :

الف ـ اللباس يضم الجسم كله ويحتويه ، وكذا العذاب الإلهي فانه يشمل جميع القرية.

باء ـ بالنسبة إلى عبارة «أذَاقَهَا» ينبغي الالتفات إلى أنّ إحساس الإنسان واستيعابه ذات مراحل ومراتب :

قد يدرك الإنسان شيئاً من خلال حاسة السمع ، كأن يسمع بصوت النار ، فيدرك وجود حريق.

وقد يرى الإنسان النار فيستوعب وجودها بالباصرة ، وهذا الادراك ذات مرتبة أعلى من سابقه.

وقد يلمس النار فيدرك وجودها ، وهذا النوع من الادراك يقع في مرتبة أعلى من السابقتين.

وقد يدرك الإنسان الشيء من خلال تذوّقه ، وهذا أعلى درجات الاحساس. وسبب

٢٨١

استخدام الآية الشريفة لمادة الاذاقة هو أنها تريد الأشارة إلى شدّة إدراكهم وتحسسهم للعذاب الإلهي وطعمه المر.

(بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) أي أنَّ صنيعة أهل القرية هو السبب في نزول هذا العذاب الإلهي ، فانَّ الإنسان قد يقترف الذنوب التي ترجع عواقبها عليه ، رغم صعوبة تحمّلها.

على سبيل المثال ، إذا حلَّ النظام الطبقي في مجتمع ما ، وكان الاغنياء لا يكترثون من معاناة الفقراء ، فإنَّ الأمان الاقتصادي سيسلب من هذا المجتمع وتعود مردوداته جُلّها على الاغنياء أنفسهم ، وسبب ذلك ليس إلّا بخل الاغنياء وامتناعهم عن الانفاق وإعانة الفقراء.

لذلك جاء في رواية : «إذا بخل الغنيّ بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه». (١)

أي أنّ الفقر هو السبب في السرقات وفي النهاية السبب في فقدان الأمن في المجتمع.

كما جاء في رواية اخرى : «سُوسُوا أموالكم بالصّدقة». (٢)

أي أنَّ طريقة حفظ الأموال ليست هي ادخارها ، بل في التصدُّق ببعضها لكي لا يؤدي نار الفقر إلى إحراق أمن المجتمع وإحراقها في النهاية.

خطابات الآية

١ ـ العذاب والبؤس نتيجتان لأعمالنا

إن الذي يُستشفُّ من آيات القرآن ، وبخاصة الايتين هنا ، هو أنَّ مشاكلنا وما نتحمله من العذاب هو نتيجة أعمالنا وأنَّ الله لا يظلم أحداً.

إذا كان معظم الشباب في مجتمع لا يتمتعون بأبسط وسائل العيش ولا يمكنهم التقدم على الزواج ، ومن جانب آخر فيه أفراد يتمتعون بأفضل وسائل العيش ويوفّرون لأولادهم مبالغ كبيرة كصداق لزواجهم ويصرفون الملايين في هذا المجال ، وشاع في هذا المجتمع الفساد والفحشاء وعدم الأمن ، فهل المقصر في هذه الظواهر غير أفراد المجتمع ذاتهم؟! مَنْ يُلامُ غير أفراده؟

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٧٤١ ، ونهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٣٦٤.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٤٦.

٢٨٢

من هنا يقول القرآن المجيد في الآية (٤١) من سورة الروم : (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِّ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمَلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

نعم ، إنَّ منشأ جميع هذه المصائب والمشاكل هو ذات الإنسان. إنَّ الأب الذي لا يفكر إلّا في جمع المال وادخاره ولا يكترث بتربية الأولاد والعائلة ، إذا واجه في المستقبل مشاكل اخلاقية ومصائب من قبيل تعاطي أولاده للمخدرات ، فلا يلوم إلّا نفسه ؛ لأنّه هو السبب في تلك المشاكل لا غيره.

عند ما اعتقلنا عام ١٣٤٢ ه‍. ش بصحبة بعض الشخصيات السياسية والدينية ، وارسلنا إلى معتقل طهران ، كنا نسمع في بعض الأيام أصواتاً مرعبة ، كنت أتصور أنها نتيجة التعذيب الروحي الذي كان يلحقه أفراد الأمن بالسجناء ، إلّا أنّي علمت بعد ذلك أنّ منشأها هو المتعاطون للمخدرات وقد حان الوقت لتناولهم هذه المواد ، وباعتبار فقدانها في السجن كانوا يواجهون آلاماً شديدة ... لا شك أنَّ هذه المصائب نتيجة لأعمالهم.

ليت النتائج تتوقف إلى هذا الحد ، بل إنَّها قد تطال العرض ، فيبيع هذا الشخص عرضه مقابل مقدار بسيط من هذه المخدرات.

شخص من أهل الهوى والهوس كان يحب بنتاً ولا يتوفق للقاء بها رغم أنّه جرّب جميع الطرق ، إلى أن فكّر في جرّ أخيها إلى المخدرات وتعاطيها ، فتوفق في ذلك ، وبعد الاعتياد عليه قطعها عنه ، وقال له : لا طريق لك إليها بعد ذلك إلّا أن تصطحب اختك معك. وبذلك توفق من النيل من هذه البنت.

لقد استفاد العدو من طرق كثيرة لإيقاع شبابنا في الفخ. والمخدرات هي أحد تلك الطرق التي استفاد منها ، وهو يعلم أنَّ الشاب الذي يتعاطى هذه المادة ويبتلي بهذا المرض يفقد إرادته ويمكن جرّه إلى أي عمل شاء.

٢ ـ هل كان وجود خارجي لهذه القرية؟

المستفاد من الآية هو أنَّ للقرية ذات المواصفات الاربع وجوداً خارجياً ، لذلك كان النقاش بين المفسّرين في تحديد مكانها.

٢٨٣

هناك احتمالات كثيرة نضمّن بحثنا هذا اثنين منها فقط :

١ ـ يعتقد بعض المفسّرين أنَّ هذه القرية الآمنة هي مكة ، (١) فهي مصداق بارز للقرية الآمنة ، كما أنَّها في الحقيقة تحضى بنعمة توفّر جميع انواع الثمار فيها ، ورغم أنها تفقد بذاتها بعض النعم ، إلّا أن ذلك البعض يفدها من باقي المناطق والدول ، وهي بذلك تحضى بنعم قلما نجد مكاناً يحضى بها.

عند ما هجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة قاصداً المدينة ، كانت مكة تعاني من الجفاف الذي دام سبع سنوات ، وكانت هذه المحنة نتيجة كفرانهم نعمة تواجد الرسول فيهم ، وقد بلغ بهم الجفاف أنَّ رسول الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل لهم أغذية من المدينة ، كما أنَّ الجفاف هذا اقترن مع فقدان الأمن فيها.

نعم ، إنّ كفران النعمة سيتبعه عذاباً إلهياً وهذه سنة إلهية صادقة في كل مكان وزمان ، وتكرّر في كل مكان تتكرر فيه كفران النعمة.

٢ ـ يعتقد بعض آخر من المفسرين أنّ المراد من هذه القرية هو مدينة سبأ (٢) حسب ما جاء في سورة سبأ ، فإنَّ تلك البلدة كانت عامرة كثيراً ، وكان فيها سدّ يُدعى (مأرب) تبدلت هذه البلدة بفضل هذا السدّ إلى قطعة من الخضار ، وكانت النعم فيها متوفرة بشكل لا يحتاج قاصدها إلى أن يصطحب معه غذاء ومتاع ؛ لأنَّه يكفيه أن يضع سلة على رأسه ويمشي في طرقها ، فإنَّ السلة ستمتلئ بعد فترة وجيزة بثمار الاشجار التي في طرفي الشارع.

إنّ هذه المدينة كانت تتمتع بالأمن والاستقرار والنعم الوافرة ، إلّا أن أهلها اختاروا طريق الكفر لهذه النعم ، فأوحى الله إلى فئران أن دمّري هذه المدينة ، فأثقبت هذه الفئران السد ، وتوسعت هذه الثقوب تدريجياً إلى أن دمّرت السد في ليلة ، وأخذ الماء بسيوله الجارفة المدينة بأجمعها ودمّر ما فيها من قصور ومزارع وبيوت وأشجار وبساتين. وكان التدمير إلى درجة اضطّر بعده للهجرة من سلم من أهالي المدينة ، وما استطاعوا العيش فيها.

__________________

(١) انظر تفسير مجمع البيان ، ٦ : ٣٩٠ ، التبيان ٦ : ٤٣٢.

(٢) انظر تفسير الأمثل ٨ : ٣١١ ـ ٣١٢.

٢٨٤

لقد ذاق عصرنا حالياً ثمرة كفران النعمة ، فاوربا قبل الحرب العالمية الثانية كانت غارقة في النعم وكانت مدنها معمورة وذات حضارة متقدمة وتقنية عالية و... فقد كانت تحضى بكل شيء ، إلّا أنَّ كفرانهم للنعم أبلاهم بحرب شاملة كان ضحيتها ثلاثين مليوناً من القتلى وثلاثين مليوناً آخرين بين معوّق أو مجروح ، وتدمّر إثر ذلك قسم كبير من أوربا.

وعلى هذا ، فإنَّ الآيات هذه تحذير لنا بأن لا نكفر بنعم الله المعنوية والمادية ، ما علينا هو شكرها.

٢٨٥
٢٨٦

المثل الحادي والثلاثون :

أمثال الكفَّار

يقول الله تعالى في الآية ٤٨ من سورة الاسراء :

(انظُر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطيعُونَ سَبيلاً)

تصوير البحث

هذا المثل يختلف عمَّا تقدَّم وعمَّا سيأتي من أمثال ؛ لأنَّ الأمثال التي جاءت في القرآن أوضحت أموراً عقلية معقَّدة وغير حسية ، أمَّا هذه الآية فحكت الأمثال التي جرت على ألسن الكفَّار في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي أمثال استهدفوا بها الإضلال ، عكس أمثال الله حيث استهدفت الهداية والإرشاد.

الشرح والتفسير

لأجل معرفة ما جاء على لسان الكفار في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ينبغي الرجوع إلى الآيات التي سبقت هذه الآية.

يقول الله في الآية ٤٥ من سورة الاسراء :

(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً)

ما هو الحجاب المستور؟

اختلف المفسرون في معنى الحجاب المستور ، فبعض اعتبره الستار الحقيقي الذي يمنع من

٢٨٧

رؤية الأشياء التي خلفه. وعند ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يتلو القرآن يُجعل ستار حائل بينه وبين الكفار يمنع من رؤيتهم إيَّاه ، لكنهم كانوا يسمعون صوته. والمراد من المستور هنا هو غير المرئي ، أي أنَّه كان ستاراً لا يُرى بالعين يُجعل بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والكفار.

فلسفة هذا الستار غير المرئي هي أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما كان ينشغل بتلاوة القرآن يقرأ آيات في ذمِّ الكفّار والمشركين والأصنام وآيات عن مستقبل الاسلام وانتصاراته ممَّا قد يغيظ الكفار ويجعلهم ينفجرون غيضاً وكمداً ، وهو أمر يشكِّل خطراً على حياة الرسول ؛ لاحتمال هجومهم على الرسول وتعرّضه لبعض المساوئ ، وقد جعل الله هذا الستار لكي يحول بينه وبينهم (١).

يعتقد بعض آخر من المفسرين أنَّ عبارة (حجاباً مستوراً) كناية عن الحجاب المعنوي من اللجاجة والتعصّب والجهل والعداوة ، فهذه الصفات المذمومة تبلورت على نحو حجاب للمشركين حالت دون فهمهم آيات القرآن ، التي هي سبب هداية القلوب وضيائها ، لكنها لا تؤثر في هذه القلوب بسبب هذا الحجاب المضمر (٢).

إذن ، كلا التفسيرين في مقام بيان مفهوم أنَّ هذا الحجاب كان مانعاً عن نفوذ الآيات في قلوب المشركين.

جاء في الآية ٤٦ من نفس السورة :

(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أدْبَارِهِمْ نُفُوراً)

بلغ تعصّبهم ولجاجتهم مستوى جعلهم يولّون أدبارهم عن الحق ويعرضون عنه نفرةً منه بدلاً من أن يولوا أدبارهم عن الباطل ويعرضوا عنه.

ولهذا جاء التعبير العجيب واللافت التالي على لسان نوح عليه‌السلام في الآية ٧ من سورة نوح :

(وَإنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُم جَعَلُوا أصَابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأصَرُّوا وَاسْتَكْبَروا اسْتِكْبَاراً)

الآية تحكي مستوى جهل وعناد معاصري النبيّ نوح عليه‌السلام حيث ما كانوا يكتفون بوضع

__________________

(١) انظر مجمع البيان ٦ : ٤١٨.

(٢) انظر تفسير الأمثل ٩ : ١٨ ـ ٢٢.

٢٨٨

أصابعهم في آذانهم بل كانوا يستغشون ثيابهم ويضعونها على رؤوسهم لكي ينتفي بالكلية احتمال سماعهم شيئاً من كلام نوح عليه‌السلام الحق.

نعوذ بالله جميعاً من بلاء التعصّب واللجاجة وحفظنا من حريق ناره.

وجاء في الآية ٤٧ من سورة الاسراء :

(نَحْنُ أعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُون إلَيْكَ وَإذْ هُمْ نَجْوى إذ يَقُولُ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)

والآية تشير إلى شيطنتهم من الاستماع ثم التسقيط والتنقيص بغية منع الناس من الإهتداء ، فيناجي أحدهم الآخر ويقول : إنَّ النبي رجل مسحور.

إنَّ الرجل المسحور يُعدُّ من الأمثال التي قالها المشركون في حق الرسول.

ما تعني المسحور؟

عرب الجاهلية كانوا يرون سبب الجنون مساس الجن أو حلوله في الانسان (١) ويدعون الذي حلَّ فيه الجن مجنوناً ، كما يرون سبباً آخر للجنون ، وهو سحر السحرة ويدعون المبتلى بهذا مسحوراً.

وبناءً على هذا شبَّه المشركون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسحور علَّهم بذلك يحولون دون ترك أثر لكلام الرسول الجذّاب في قلوب الناس.

يستفاد من آية المثل الشريفة أنَّ المشركين كانوا قد ضربوا للرسول أكثر من مثل واحدٍ عَدُّوه فيها مسحوراً أو مجنوناً أو كاهناً (٢) وساحراً وشاعراً.

أسلحة الجاحدين

على طول التاريخ كان ولا زال الرسل وأوصياؤهم والأئمة ونوّابهم الخواص والعوام

__________________

(١) ولأجل ذلك كانوا ينهالون على المجانين بالضرب.

(٢) الكاهن هو الذي يتنبّأ ويُخبر عن الغيب ، وقد كان معروفاً أنَّ الكهنة كانوا ذا علاقة بالجن والشياطين ، وكانوا يستلمون الأخبار منهم.

٢٨٩

والعلماء والفقهاء وكلُّ من خطى خُطاهم موضع إتِّهام من قبل الجاحدين ومنكري الله ، ولا ينفكون دائماً عن إلصاق مختلف التهم والتخرُّصات والأكاذيب بهؤلاء الثلَّة من سالكي طريق الحق والحقيقة لغرض إبعاد طلَّاب المعارف الإلهية عنهم ، كما فعلوا ذلك عند الثورة الاسلامية في إيران وقد شهدنا الأعداء دائماً يلصقون التُّهم بالثوّار وبالامام رحمه‌الله وبأتباعه وأنصاره الأوفياء ، لكنَّا نعلم جميعاً أن حبل الكذب قصير ، ولا تبقى الحقيقة خافية دائماً.

من التهم التي الصقوها بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تهمتان رائجتان سبق وأن اتُّهم بهما باقي الأنبياء ، وهما : ساحر ومجنون ، وفي ذلك يقول القرآن :

(كَذَلِكَ مَا أتى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّاقَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (١).

كما قلنا فإن هذه التهم والتخرُّصات ما كانت إلَّا لإغفال الناس ، لكنها لم تترك أثراً ، لذلك ما انفكوا عن تبديلها وتغييرها إلى مستوى التناقض أحياناً من قبيل نسبة السحر والكهانة والجنون للرسول وهي متناقضة ؛ لأن السحر والكهانة يستدعيان الذاكرة القوية والذهنية الناشطة ، ولا يمكن لمجنون أن يكون ساحراً أو كاهناً.

الحقائق المستبطنة في الاتهامات

في هذه الاتهامات حقائق مستبطنة ينشرها الأعداء بنحوٍ لا إرادي ، فهم ينسبون الجنون والسحر للرسول مثلاً ، وفلسفة هذه النسبة المستقبحة أنهم جاءوا للرسول وقالوا له : ما الهدف من دعوتك للدين الجديد؟ إذا كان هدفك جمع المال فسنعطيك مالاً تصبح به اغنى رجال مكة وإن كنت ترغب الزواج فسنزوّجك أفضل نساء مكة ، وإذا كنت ترغب في الرئاسة فسنجعلك رئيساً علينا.

لكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أجابهم بعبارته التالية : «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» (٢).

__________________

(١) الذاريات : ٥٢.

(٢) سيرة ابن هشام ١ : ٢٦٥.

٢٩٠

ولأجل هذا الجواب الصريح كانوا ينسبون له الجنون ؛ لأن شخصاً يترك أفضل النساء والجاه والمقام والثروة لغرض الدعوة للتوحيد لا بدَّ وأن يكون ـ حسب عقليتهم ـ مجنوناً.

نعم ، إنَّ الموحِّدين مجانين من وجهة نظر عبدة الدنيا ، الموحِّد عند ما يجد ضالة في الشارع أو الزقاق يسعى متواصلاً للحصول على صاحبها ، وهذا العمل يُعدُّ جنوناً من وجهة نظر الدنيويين ؛ لأن العقل من وجهة نظرهم هو عبادة الدنيا ، أمَّا الطهارة والتقوى فجنون!

من هذه التهم التي أطلقها الأعداء نفهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان رجلاً لا يراهن على مبادئ الاسلام ولا يستبدلها بأي شيءٍ ، ولذلك دُعي مجنوناً ومسحوراً.

ونستفيد من نسبة الكهانة إليه أنه كان يعلم الغيب ويخبر عنه دون أن يخطأ بحيث يصدق إخباره ويتطابق مع الواقع ، ولهذا جاء ما يلي في الآيات الاولى من سورة الروم :

(غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ)

وفقاً للآية غُلبت الروم بواسطة الفرس ، وبعد فترة غير طويلة غلبت الروم الفرس ، وتزامن مع ذلك انتصار المسلمين ، وعند ما شاهد الكفار تحقُّق هذا الأمر وصدق إخبار الرسول بالغيب نسبوا إليه الكهانة ، واين هو من الكهانة مع أن إخباره عن الغيب يكشف عن واقع وحقيقة مستقبلية لا كذباً ولا وهماً.

لماذا نسبوا إليه الشعر؟

سبب نسبة الشعر إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أنَّ آيات القرآن كانت فصيحة وبليغة وموزونة بدرجة استقطبت قلوب الناس ، فما كان مفرٌّ للكفار إلَّا أن يقولوا : إنَّه شاعر ، وقد أجابهم القرآن الكريم من الآية ٦٩ من سورة ياسين بما يلي :

(وَمَا عَلَّمنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّاذِكْرٌ وقُرآنٌ مُبِينٌ)

نسبة الشعر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تكشف عن جاذبية ولطافة وظرافة في القرآن.

ونسبة السحر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تحكي عن آثار مهمة ومعجزة ترشَّحت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الأمر الذي أعجزهم عن مواجهته بالحق والحقيقة والواقعية فاضطرَّهم ذلك لإلصاق هذه

٢٩١

التهمة ، وقصة أسعد بن زرارة التي مضى ذكرها في الجزء الاول شاهد حسن على ما نقول.

خطاب الآيات التربوي

الآيات المزبورة تعلِّمنا أنَّا إذا أردنا إدراك الحقيقة فعلينا إزالة الحُجُب التي تمنع من الإدراك وبخاصة حجاب التكبّر والتعصُّب والأنانية واللجاجة ، وإذا لم تزل هذه الحجب فسيبدو الباطل حقاً ، وعندها ينحرف الانسان عن طريق الحق.

يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«مَن كانَ فِي قَلْبِه مِثْقالُ حبَّة مِن خَرْدَلٍ من عصبيّة بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية» (١).

إذن ، ينبغي إزالة حجاب التعصُّب لرؤية الحق.

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٢٧٤٣ ، الحديث ١٢٧٣٣.

٢٩٢

المثل الثاني والثلاثون :

المستكبرون والمستضعفون

إثنى عشر آية من سورة الكهف (وهي الآية ٣٢ إلى ٤٤) تشكِّل المثل الثاني والثلاثين من بحثنا ، يقول الله في هذه الآيات :

(وَاضرِب لَهُم مَثَلاً رَجُلَينِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعْنَابِ وحَفَفْناهُما بِنَخلٍ وجَعلنا بَيْنَهُما زَرْعاً* كلتا الجَنَّتَينِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظلِم مِنْهُ شَيئاً وفجَّرنَا خِلالهُمَا نَهَراً* وكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصَاحِبِه وهَوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أكْثَرُ مِنكَ مَالاً وأَعَزُّ نَفَراً* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفسِه قَالَ مَا أُظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَداً* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً* قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحاورُهُ أكفَرْتَ بالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً* لَّكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَداً* وَلَولَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ إنْ تَرَنِ أَنَا أقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً* فَعَسى رَبِّي أَن يُؤتِيَنِ خَيْراً مِن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسَباناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً* أوْ يُصِبحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طَلَباً* وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقلِّبُ كَفَّيهِ عَلَى مَا أنَفَقَ فِيهَا وهي خَاويةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَداً* وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ ومَا كَانَ مُنتَصِراً* هُنَالِكَ الوَلايةُ لله الحَقِّ هُوَ خيرٌ ثَوَاباً وَخيرٌ عُقْباً)

تصوير البحث

تضمَّنت الآيات الإثنى عشر مثلاً هو من أكبر أمثال القرآن ، وهو مثل المؤمنين والكافرين

٢٩٣

أو المستكبرين والمستضعفين ، فشبَّه الله الطائفتين بشخصين ، أحدهما : ثري ومغرور بماله وثروته ، والآخر : مستضعف لكنه موحِّد. ونهاية هذين الشخصين زوال ثروة الثري وفناءها ، ممَّا أدى إلى استيقاظه من نوم الغفلة. والمثل يستبطن نكات ظريفة ولطيفة نعرض لها تدريجياً.

علاقة آيات المثل بسابقاتها

لماذا طرح الله هذا المثل ضمن هذه السورة؟ وهل هناك علاقة بين آيات المثل والآيات التي سبقتها؟

الجواب : إذا راجعنا الآيات السابقة للمثل وجدنا علاقة بينها وبين آيات المثل ، وبذلك تبدو ضرورة بيان هذا المثل في هذه السورة.

ولأجل ذلك يقول الله في الآية ٢٨ من نفس السورة :

(وَاصْبِر نَفْسَك مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَدَوة والعَشِيِّ يُريدُونَ وَجهَهُ وَلَا تعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَة الحَيَاةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبعَ هَواهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً)

قيل في شأن نزول الآية : إنَّ مجموعة من أثرياء العرب المشركين جاءوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعربوا عن رغبتهم للإلتحاق بدين الرسول ولكنهم قالوا : ما يمنعنا من الالتحاق بركبك وجود فقراء حواليك من أمثال سلمان وأبي ذر وصهيب وخبَّاب ، فلا تناسب بيننا وبينهم فأبعدهم عنك لكي نلتفَّ حولك (١).

ولهذا الشأن نزلت الآية وأوضحت معيار الاسلام الأصيل ومنهجه في هذا المجال ، وأوضحت وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تجاه القضية.

تحطيم القيم الكاذبة من أهداف الأنبياء

من الأهداف المهمة للأنبياء والأولياء وبخاصة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو تحطيم القيم الكاذبة ؛ لأنه كان للمال والثروة أرفع قيمة من وجهة نظر عَبَدَة الأصنام عهد الجاهلية ، ولا

__________________

(١) انظر تفسير الأمثل ٩ : ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

٢٩٤

زالت هذه النظرة تحكم عالمنا اليوم ، ولا تنتظم الحياة الدنيا ما دامت هذه القيم الكاذبة تحكم مجتمعاتنا.

عند ما بُعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنبأ عن دينه الجديد قال بعض مشركي مكة : تعالوا اسمعوا خبراً جديداً ، إنَّ يتيماً فقيراً لا يملك مالاً يدَّعي النبوّة ويبلّغ لرسالة جديدة من الله ، وهل هذا ممكن؟ ولو أراد الله أن يبعث لنا رسولاً فلما ذا لم يبعث واحداً من أثرياء مكة أو الطائف؟

(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١).

سبب تفوّه المشركين بهذا الكلام هو أنهم كانوا يصنّفون المال والثروة في أعلى مرتبة للقيم ، وقد سبقهم في ذلك فرعون ، فعند ما دعاه موسى عليه‌السلام إلى الدين الالهي نظر إلى ظاهره وقال ضاحكاً : وهل يمكن لراعٍ أن يكون نبياً؟ أنا لا أستسلم لراعٍ مع ما أملك من ثروة وسلطة.

نعم ، كانت السلطة والثروة تشكّل أعلى مراتب القيم عند هؤلاء الناس ، وكانت بعثة الرُسُل لغرض تحطيم هكذا قيم سقيمة.

في آيات كثيرة من القرآن المجيد عدَّ الله القيم الدنيوية كالمال والبنون لعباً ولهواً (٢) ، كما اعتبر القيمة الحقيقية تتمثّل في التقوى (٣).

من هنا قال الله في الآية ٣٣ من سورة الزخرف :

(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ امَّةً وَاحِدَةً لجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرَّحْمنِ لِبيُوتِهِم سُقُفاً مِنْ فِضَّةِ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرونَ)

وفي الآية ٥٣ من نفس السورة يتحدَّث فرعون عن نبوّة موسى عليه‌السلام ويقول لمن حواليه وللمصريين : (فَلَوْلَا القِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَة مُقْتَرِنِينَ) ويريد بذلك أنَّ على الرسول أن يكون ثرياً.

بُعث الأنبياء لإبطال هذه التوهّمات وتحطيم هذه القيم الكاذبة ، وآية المثل الكريمة تدخل

__________________

(١) الزخرف : ٣١.

(٢) جاء هذا المضمون في آيات عديدة من قبيل : الآية ٣٢ من سورة الأنعام ، والآية ٦٤ من سورة العنكبوت ، والآية ٣٦ من سورة محمّد.

(٣) الحجرات : ١٣.

٢٩٥

في هذا الاطار ، أي أنَّها تريد تحطيم هذه القيم الكاذبة ، حيث قالت :

(واصْبِر نَفْسَكَ مَعَ الَّذِين يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَوة والعَشِيّ يُريدَون وَجْهَهُ) أي عليك يا أيها الرسول أن تكيِّف نفسك مع أمثال سلمان وأبي ذر وبلال وصهيب الذين يدعون ربَّهم دائماً ويتوجّهون إليه رغبة في وجهه الكريم رغم فقرهم وفقدهم للمال والثروة وغيرها من القيم الدنيوية الكاذبة.

(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أغْفَلنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنا) أي لا تتناسهم رغبة في زينة الحياة الدنيا وطاعة لمن غفل قلبه عن ذكرنا ، أي ذكر الله.

(واتَّبَعَ هَواهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطاً) (١) فإن هؤلاء الأثرياء تابعون لأهوائهم ، وأعمالهم لا تخلو عن الإفراط والتفريط.

المستفاد من هذه الآية أن الاسلام للمستضعفين والفقراء لا الأثرياء المغرورين.

كان هذا المنطق والنهج عجيباً للبعض لذلك ضرب لهؤلاء مثلاً أوضح فيه شأن المستضعفين والمستكبرين لكي تتضح من خلال ذلك القضية للجميع.

الشرح والتفسير

(وَاضْرِب لَهُم مَثَلاً رَجُلَيْن)

يطلب الله من الرسول أن يضرب لهم مثل رجلين أخوين أو صديقين.

اختلف المفسرون في أنهما كانا صديقين أو أخوين ، فبعض قال بأنهما كانا أخوين بلغهما ثمانية آلاف درهم كإرث من أبيهما ، أحدهما اشترى بمقدار قليل من الأربعة آلاف درهم وسائل بسيطة يعيش بها وانفق ما تبقى ، أمَّا الآخر فاستهلك سهمه من الإرث كله لأغراضه الشخصية ولم ينفق منه في سبيل الله ولا درهماً ، فأصبح صاحب رأس مال وبستان وحياة مرفّهة ، والآية تشير إلى قصة هذين الأخوين.

__________________

(١) الكهف : ٢٨.

٢٩٦

يرى بعض آخر من المفسرين أنَّ الرجلين كانا صديقين ولا نسبة بينهما (١).

مضمون الآيات يفيد أنَّ النظرية الثانية هي الصحيحة ، أي أن المراد من رجلين هو صديقان لا أخوان.

المطلب الآخر الذي يمكن استفادته من الآيات هو أن الآيات ليس بياناً محضاً لمثلٍ كما ظن البعض ذلك ، بل هي بيان لقصة حقيقية حصلت في الأزمان الماضية بيَّنها الله في صيغة مثل.

(جَعَلْنا لأحَدِهمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنهُما زَرْعَاً كِلْتا الجَنَّتَينِ آتَتْ اكُلَهَا وَلَمْ تَظلِمْ مِنْهُ شَيئاً وَفجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)

المستفاد من عبارة (وَفَجَّرْنَا خِلالَهُما نَهَراً) أن البُستان كان يُسقى من الخارج ، ثم اكتفى ذاتياً من حيث السقي بعد ما فُجرِّ النهر في داخل ارضه.

(فَقَالَ لِصَاحِبِه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)

عند ما ينال ضيّقو الصدر والمغرورون شيئاً من مال الدنيا ويبلغون مستوى فيها يبدون وكأنَّ الزمان والمكان يدين لهم ، فبعضهم عند ما يبلغ شأناً في المجتمع ينسى صديقه الذي كان إلى جنبه مدَّة سنوات ، وعند ما يلتقيه يتصرَّف وكأنَّه لم يلتقِ به من قبل. إن صاحب البستان الثري الذي تحدَّثت عنه الآية كان من هذا القبيل ، فقد اغترَّ بنفسه عند ما شاهد بستانه والنهر الذي يجري فيه وما انتج من ثمار ، فكان يتفاخر بما حصل وينظر إلى صديقه القديم والفقير نظرة تحقير ويقول : أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً من العمال والمزارعين والحشم والخدم.

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لَنْفسِهِ قَالَ مَا أظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَداً) أي أنه ما كان يظن أن بستانه سيفنى يوماً ما بل سيبقى دون أن يزول بآفة أو ما شابه.

عبارة (وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) تشير إلى أن كل ظالم يبدأ بظلم نفسه في البداية ثم ظلم الآخرين ، كما هو حال المحسنين حيث يفيدون أنفسهم بأعمالهم الصالحة ثمّ يفيد الآخرون بها.

على أي حال ، نسى هذا المغرور ذكر الله الذي خلق له هذه الجنَّة والذي يمكنه أن يفنيها في كل لحظة بحيث لا يبقى لها أثر مذكور.

__________________

(١) أشار الطبرسي قدس‌سره في مجمع البيان ٦ : ٤٦٨ ، إلى كلا النظريتين.

٢٩٧

(وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمةً وَلئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً)

لقد أنكر هذا الرجل يوم القيامة بسبب تفاخره وغروره ونسيانه ربّ العالمين ، وبلغ جحوده مستوى أن قال لصديقه : لا أظن أنَّ هناك قيامة ، ولو كانت هناك قيامة كان ذلك يعني موتي وانفصالي عن أموالي وجنتي وزراعتي ، وأنا لا اريد الانفصال عن الدنيا لذلك أنكر يوم القيامة.

ثمّ قال : على فرض وجود قيامة فإنِّي سأكون من المقرّبين كذلك ، ولو لم أكن من المقرّبين لما أعطاني الله هذا المقدار من المال والثروة ، فكثرة الثروة دليل على قربي إلى الله في عالم الآخرة ـ على فرض وجوده ـ وسأكون هناك أقرب منك إلى ربِّ العالمين.

هذا هو ظن كثير من الأثرياء ، جهلاً منهم بأنَّ ذلك اختبار إلهي وقد يكون بلاءً.

(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أكَفَرْتَ بالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمّ مِن نُطْفَة)

صديقة الفقير صاحب الصدر المشروح يرى رفيقه مريضاً فيهمُّ في علاجه بأساليب نفسانية جميلة لعلاج مرض الغرور فيه ، أي مرضه الأساس الذي سببته كثرة النعم ، ولو عالج مرضه هذا تعالجت باقي أمراضه.

طريقان لمعالجة الغرور

يمكن معالجة الغرور عن طريقين :

الاول : أن نرجع المغرور إلى ماضيه ، إلى طفولته ، حيث كان عاجزاً عن الاحتفاظ بلعاب فمه ، إلى الزمن الذي كان في رحم امّه ، حيث كان جنيناً يتغذّى من الدم ، وما كان أحد غير الله قادراً على مساعدته ، نرجعه إلى حيث كان نطفة قذرة ينفر الانسان من النظر إليها ، ونرجعه إلى حيث كان تراباً فاقداً للقيمة.

الثاني : أن نذكِّره بالمستقبل ونرسمه له ، فنأخذ بيده إلى المقبرة ونقول له : يرقد في هذه المقبرة اناس كانوا مثلنا أقوياء ومتموّلين لكنهم ماتوا في النهاية ، فتلاشت أجسامهم ولم يبق منها إلَّا العظام ، والعظام ستتآكل كذلك بمرور الزمان ولم يبق من الإنسان إلَّا الصخرة التي توضع على قبره ، والصخرة ستزول كذلك ولم يبق من الانسان إلَّا اسماً في التاريخ ، والتاريخ

٢٩٨

سينسى بعد مدَّة من الزمان ، بحيث لم يبق من الانسان شيء يُذكر وكأنَّه لم يلد أبداً.

عاقبة الانسان المغرور

لم يكن ولن يكون عاقبة حسنة للمغرور أبداً. كان وزير عهد حكومة رضا خان الظالم يُدعى تيمور تاش وكان مغروراً وجباراً وخطراً وصاحب صلاحيات وسلطة واسعة بحيث يُعدُّ المحور الأساس للسلطة.

في يوم كان علماء طهران قد اجتمعوا في مجلس فبلغهم أن تيمور تاش وزير البلاط يقصد المجيء إليهم ، فدخل هذا الرجل الذي يعيش سكرة الغرور وقال : «أنتم تقولون : للكون ربٌّ؟! يمكنني أن أبرهن على عدم وجود الربّ بألف دليل».

نظر العلماء إليه وما كان أحدهم يتجرّأ بالتفوّه بشيء ، كما أنَّهم يعلمون ما من شيء يؤثِّر فيه ولا يرونه أهلاً للإجابة. وعلى كل حال ختم المجلس وذهب تيمور تاش.

لكن رياح الزمان لا تجري دائماً بما تشتهيه السفن ، فلم يمضِ زمن طويل حتى أصبح تيمور تاش موضع غضب الشاه فادع السجن الانفرادي ثم حكم عليه بالإعدام.

عند ما كان في السجن ذهب أحد العلماء لزيارته فوجده يدور في زنزانته مردداً أبيات عرفانية للشاعر مولوي (١) تقرُّ بالله.

يقول هذا العالم : تعجبّت من ذلك واقتربت منه وقلت له : هل تعرفني؟ قال : نعم ، قلت :

جئتُ لُابطل ألف دليل ادعيت وجودها بدليل واحد ، وهو : إن الله هو الذي أسقط تيمور تاش المغرور من قمة السلطة ليضعه في سجن. فهزَّ رأسه معرباً عن أسفه.

نعم ، هذا هو شأن ضيقي الصدر والمغرورين ، أما واسعو الصدر فيكونون متواضعين ، كالامام علي عليه‌السلام ، حيث لم يختلف شأنه أثناء ٢٥ سنة من سكوته مع شأنه أثناء ٥ سنوات من حكومته.

__________________

(١) شاعر إيراني شهير.

٢٩٩

يقول الامام علي عليه‌السلام : «سُكْر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سُكر الخمور» (١) ؛ وذلك لأنَّ الانسان يفيق من سكرة الخمر بعد لحظات أمَّا سكرة الغرور فلا يفيق منها الانسان حتى الموت أحياناً ولا يوقظه منها إلَّا صفعة الموت والأجل ، حيث لا وقت للتدارك والجبران.

وفي رواية اخرَى يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بينكم وبين الموعظة حجاب من الغِرَّة» (٢).

إذن ، علينا التوقّي من الابتلاء بالغرور من خلال استذكار الماضي والتفكّر في المستقبل ، وخاصة بما بعد الموت.

(ثُمَّ سَوَّاك رَجُلاً)

أي صَنَع منك رجلاً بعد اجتياز مراحل الجنين المختلفة ، والتي تشكّل كلٌّ منها اعجوبة فريدة من نوعها ، ومن خلال برنامج منتظم ومتكامل يخلق إنسان كامل لا ينقصه شيء ، ولو طرأ أقل تغيير في هذا البرنامج لولد الطفل أعمى أو أصم أو معتوه أو توأم متلاصق وما شابه.

من فلسفة وجود ولادة الأطفال المشوهين وناقصي الخلقة هو الاطلاع على هذه المرحلة المهمَّة من الخلقة ، ولكي يتذكّر الانسان بعد ما يصبح متموِّلاً وصاحب سلطة ، ولكي لا يغتر ، ولكي يكون شاكراً لنعم الله ولولي نعمته دائماً.

ولأجل ذلك لا يسأل النزيهون عن جنس الطفل عند ولادته بل عن سلامته ؛ لأن الذكورة والانوثة كلاهما من نعم الله تعالى ، والمهم هو سلامة الطفل.

(لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا اشْرِكُ بِرَبّي أَحَدَاً)

بعد ما بيَّن القرآن منطق ذلك الصديق الثري الغافل عن الله بدأ ببيان منطق الصديق الفقير المؤمن الذي نصح الثري ولم تؤثر نصيحته في صديقه.

استخدام الآية لمفردة الربّ دون باقي أسماء الله يحضى بأهمية قصوى ، فهو استخدام دقيق ويعني أنَّ الله ربّاني منذ أن كنت نطفة إلى آخر عمري ، ولو لم تكن تربية الربّ القادر لم أكن شيئاً يُذكر ، فهو ولي نعمتي وصاحبي ومالكي ، وهل يمكن جعل شريك لربٍّ يملك كل ما لدي؟!

(وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةِ إلَّابالله)

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٣٠٣٩ ، الحديث ١٤٥٣١.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحديث ٢٨٢.

٣٠٠