أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

المثل السابع والعشرون :

عبيد الأصنام وعباد الله

يقول الله تعالى في المثل السابع والعشرين وفي الآية ٧٥ من سورة النحل ما يلي :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدَاً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ وَمن رَزَقْنَاهُ منّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْرَاً هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)

تصوير البحث

تحدّثت الآية عن عبيد الأصنام والمؤمنين. ويشبّه الله عبدة الأصنام هنا بالعبد المملوك الذي لا يملك شيئاً من المال ، كما أنّه غير حرٍّ في اتخاذ القرار. أمّا المؤمنون فإنّ الله هو رازقهم ، كما أنهم يشركون الاخرين بأرزاقهم ، وذلك بالانفاق سراً وجهراً.

ارتباط آية المثل بسابقاتها

تحدثت الآيات السابقة عن عبادة الأصنام ، وعن سبب عبادة الإنسان لموجودات لا يمكنها حل أي مشكلة من مشاكله ، رغم أنّه عاقل والمفروض بأعماله أن تكون هادفة.

من هنا جاء في الآية ٧٣ من نفس السورة ما يلي : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُم رِزْقاً مِنَ السّمَاوَاتِ والأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ)

دوافع العبادة

للعبادة دوافع عديدة ، ومن دوافع عبادة الله القادر هو قضية" شكر المنعم" ، فالإنسان

٢٦١

عند ما ينظر إلى ذاته وحواليه يرى نفسه غارقة بالنعم العديدة من العين والاذن واليد والرجل والفكر والسماء والأرض والشمس والهواء والاشجار والغابات وأمثال ذلك ، ولهذا يحكم وجدانه بضرورة شكر المنعم وتقديره.

هل يمكن شكر المنعم دون معرفته؟ من هنا كان الشكر سبباً لمعرفة الله.

وعليه ، شكر المنعم هو من دوافع عبادة خالق المخلوقات.

قد يكون المعبود خالياً من التأثير على حياة الإنسان ، لا أنه لا فائدة فيه ، ولا يزوّد عابديه بأي خير ، بل إنّه لا يستطيع الدفاع حتى عن نفسه ، وهو بحاجةٍ إلى حماية الاخرين. وإنّ موجوداً كهذا ليس أهلاً للعبادة ، ولا شك أنّ عقل الإنسان يرفض هذا النوع من العبادة.

بالطبع ، إنَّ عبدة الأصنام لا يعدون أصنامهم هي خالقة المخلوقات ، بل حسب ما ورد في القرآن : لو سألناهم مَن خلق السماوات والأرض لأجابوا : الله هو الذي خلقها (١) لا أصنامهم العاجزة. وهذا يكشف عن أنَّهم لم يكونوا مشركين في الخلق ، كما أنَّهم كانوا يعدّون الله الرازق الوحيد. (٢)

غاية الأمر أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ الاصنام تبتُّ بحل المشاكل بشكل مباشر ومستقل أو كشفعاء عند الله ، لذلك جاءت الآية ٣ من سورة الزمر لتقول : (ألا للهِ الدّينُ الخَالِصُ والّذِين اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِيَاءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إلَى اللهِ زُلْفَى)

لا شك أنَّ كلام المشركين باطل وواضح عدم صحته ، كيف يمكن لأصنام أن تحلّ مشاكل الآخرين رغم أنّها عاجزة عن حلّ مشاكلها ذاتاً.

وفقاً لما جاء في النص القرآني ، فإنَّ إبراهيم عليه‌السلام عند ما حطّم الأصنام (في تلك القصة المعروفة والجميلة) قال : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُم أُفٍّ لَكُم وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَفَلَا تَعْقلُونَ) (٣)

__________________

(١) جاء هذا المضمون في آيات عديدة ، منها : الآية ١٦ من سورة العنكبوت والآية ٢٥ من سورة لقمان والآية ٣٨ من سورة الزمر والآية ٩ و ٨٧ من سورة الزخرف.

(٢) إنّ الآية ٢٤ من سورة سبأ من جملة الآيات التي تدل على هذا المعنى.

(٣) الأنبياء : ٦٦ ـ ٦٧.

٢٦٢

فالإنسان العاقل ـ إذن ـ لا يستسلم ولا يركع أمام أصنامٍ كهذه.

تعقيباً على ما ورد في هذه الآيات من نهي الإنسان عن عبادة الأصنام جاءت آية المثل.

الشرح والتفسير

الآية سعت للتمييز بين المؤمن (عبد الله) والمشرك (عابد الصنم) ، فشبّهت المشرك بالرق الذي لا إرادة له بل إرادته تابعة لمولاه ، كما أنّه لا يملك شيئاً من المال ولا يملك قرار نفسه ، بل إنَّ بعض المالكين يجيزون لأنفسهم قتل عبيدهم في حالة الغضب والضجر ، فهم كانوا يعتقدون أنَّ المالك له الحق في التصرف بأمواله بأي شكل شاء. إنّ المشركين لهم شأن كهذا الرق الذي يفقد الارادة والاختيار.

أمّا المؤمن الموحّد فهو بمثابة الإنسان الحر الذي رزقه على الله هنيئاً مريئاً ، ويشرك الاخرين في هذا الرزق الحسن بالانفاق إليهم في السر والعلانية.

هل يتساوى هذان الاثنان؟ طبعاً لا يتساوون.

إنَّ الذي جرّ هؤلاء المشركين إلى هذا العمل هو جهلهم.

خطابات الآية

١ ـ العبيد في الإسلام

هل امتلاك العبيد أمر مطلوب؟

هل يسمح الوجدان البشري بممارسة العبودية؟

لماذا لم يحرر الإسلام العبيد عند ظهوره؟ ولما ذا لم يلغ هذه الظاهرة بالكامل؟

لماذا هناك احكام خاصة في الفقه تتعلق بالعبيد؟

لماذا لم يتساو العبيد والاحرار في حقوقهم الإنسانية؟

وآخر سؤال هو : هل تتفق روحية العبودية مع الإسلام الذي هو دين فطري؟

إنَّ جواب الاسئلة الماضية نجدها في كتاب مستقل يحمل عنوان (الإسلام وتحرير

٢٦٣

العبيد) (١) وكذلك في محال متعددة من تفسير الأمثل ، رغم ذلك نشير إلى الاجابات بشكل مختصر هنا :

إنَّ تحرير العبيد من الأهداف المهمة لدين الإسلام ، وقد تحقق هذا الهدف تدريجياً وبمرور الزمان. وينبغي الالتفات هنا إلى أنَّ ظاهرة سيئة ما إذا تجذّرت في المجتمع فلا يمكن اقتلاعها في فترة قصيرة ، بل ينبغي اتخاذ اجراءات ابتدائية خاصة لأجل اجتثاثها من المجتمع ، وفي غير هذه الحالة ، فان مشاكل جمة ستواجه المجتمع والقائمين على اصلاح سلوكياته.

لو بتَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ البداية بإلغاء هذه الممارسة مباشرة ، وقام المسلمون بتحرير عبيدهم (الذين يفقدون رأس المال) وبإخراجهم من بيوتهم ، لأدى ذلك إلى مشاكل عديدة ومفاسد اجتماعية من قبيل السرقة والزنا واللواط ، وهم في النتيجة سيهدمون أساس المجتمع ، لذلك كان تحريرهم المفاجيء أمراً غير صحيح.

من هنا وضع الإسلام منهجاً تدريجياً خاصاً لتحرير العبيد ولضمهم إلى المجتمع الحر ومن دون حصول هذه المشاكل المحتملة.

عمل الإسلام في البداية على قطع مناشىء التعبيد في المستقبل ، لكي لا يُرقّ إنسان فيما بعد ، ولم يبق إلّا طريق واحد وهو الإسترقاق عن طريق الحرب ، وذلك عند أسر الأعداء ، رغم ذلك جعل الإسلام بديلاً لذلك حيث منح المسلمين الحق في تحرير الاسرى أو تبديلهم بفدية ، ومن جانب آخر أكد على استحباب تحرير العبيد وفرض لذلك ثواباً عظيماً (٢) لكي يتشجّع المسلمون على تحرير عبيدهم.

وقد ورد في بعض الروايات أن عليّاً أعتق ألف عبدٍ من كدّ يده. (٣)

كما قد جاء في رواية أن الإمام الحسن عليه‌السلام حرّر جارية له بمجرد أن أهدت له يوماً زهرة ، وقال لها : «أنتِ حرة لوجه الله» ، وبعد تعجب أحد أصحابه على عمله هذا ، قال له : «أدّبنا الله تعالى». (٤)

__________________

(١) الكتاب بالفارسية ، وفى هذا المجال كتب عربية اخرَى ، منها ما ورد فى الهامش اللاحق.

(٢) راجع كتاب وسائل الشيعة ، ج ٦١ ، أبواب العتق ، الباب الأوّل.

(٣) بحار الأنوار ١٤ : ٤٣.

(٤) مسند الإمام المجتبى عليه‌السلام : ٧٠٢.

٢٦٤

وتمشياً مع مبدأ التحرير المطلق للعبيد ، فرض الإسلام تحرير الرقّ ككفارة لكثير من الذنوب.

إنَّ الشخص إذا أفطر في شهر رمضان عمداً ، فعليه ـ اضافة إلى القضاء ـ الكفارة ، وأحد خيارات الكفارة المفروضة هو تحرير عبدٍ ، وكذا الحال بالنسبة إلى حنث اليمين والعهد والنذر فإنَّ تحرير عبد هو أحد الخيارات المفروضة هنا.

وبهذا المنهج الدقيق للإسلام تحقق التحرير التدريجي للعبيد ، قبل أن تُعلن الدنيا عن قرار تحرير العبيد بمئات السنين.

٢ ـ العبودية المتطوّرة

يعتبر القرآن المجيد المؤمنين أحراراً والمشركين عبيداً. ومن هنا ندرك أنَّ مصطلح (العبيد) لا ينحصر في معناه المتعارف ، بل هناك أنواع اخرى للعبودية ، وهي عبودية الشهوة والهوى والهوس والمال والثروة والجاه والمقام وأصناف اخرى للعبودية المتطوّرة.

يقول ابن عباس : «إنَّ أول درهمٍ ودينارٍ ضرباً في الأرض نظر إليها إبليس فلمّا عاينهما أخذهما فوضعهما على عينيه ، ثمّ ضمّهما إلى صدره ، ثمّ صرخ ثم ضمهما إلى صدره ثمّ قال : أنتما قرة عيني ، وثمر فؤادي ، ما ابالي من بني آدم إذا أحبّوكما أن لا يعبدوا وثناً ، حسبي من بني أدم أن يحبّوكما». (١)

أي أن صنم المال والثروة وعبودية المال والدنيا هي أخطر من العبودية المتعارفة.

العالم اليوم الذي أعلن عن تحرير العبيد ، هو في الحقيقة غيّر نوعية العبودية ولم يزلها بالكامل.

أرباب القوى العظمى عند تبريرهم للجرائم التي يرتكبونها يقولون بصراحة : إنَّ هذه الجرائم تقتضيها مصالحنا ، فإنَّه لو لم يكن هناك حرب وإهراق للدماء وقتل واختلاف وتفرقة ، فإنَّ معامل الاسلحة ستتعطّل. ألم يكن هذا شركاً وعبادة للأصنام؟!

__________________

(١) بحار الأنوار ٧ : ١٣٧.

٢٦٥

أليس هؤلاء أسرى أموالهم وثرواتهم وعبيداً لها؟!

هناك بعض يغتمون كثيراً ويقيمون العزاء لأجل حرمانهم من تجمّلات الدنيا وزخرفها! إن هؤلاء أسرى حقيقيون.

يوسف عليه‌السلام إنسان حرٌّ

المستفاد من القرآن المجيد هو أنَّ زليخا (زوجة عزيز مصر) لم تكن الوحيدة التي دعته لتنفيذ رغباتها وشهواتها الشيطانية ، بل إنَّ كثيراً من نساء اشراف مصر وكبارها كنَّ يشجّعن يوسف عليه‌السلام على إطاعة زليخا والقيام بهذا العمل الشيطاني ، لذلك جاء في كلام يوسف عليه‌السلام : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلي مِمَّا يَدْعُونَنِي إليْهِ) (١)

هناك احتمالات في مضمون الكلام المستخدم لتشجيع يوسف عليه‌السلام ، فقد يكون مضمون الكلام هو : (يوسف! أنت شاب وزليخا إمرأة جميلة فلما ذا لا تستسلم لها)؟ وقد يكون : (إذا لم تهو جمال زليخا وحسنها ، فلا أقل فكّر في مقامها وجاهها ، فانك قد ترتقي مقاماً من خلالها) ، وقد يكون : (إذا لم تكن من أهل الجمال والجاه والمقام ، فخف انتقام زليخا وطعنها بك).

أما يوسف الحر فقد قاوم هذه الوساوس التي تقمّصت ثياباً جميلة وجذابة ورجّح عبودية الله على أي شيء آخر وقال : (رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَى مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)

إلهي! إنَّ هذه النسوة الملوّثات يدعنني لتحمّل أسر الهوى والهوس ، وأنا أبغي الحرية وأحبها رغم أنّها قد لا تحصل إلّا في الزنزانات والسجون ، وذلك أحب إلي من أسر النفس الأمارة ، يا إلهي العظيم!

إنّ هذه المحنة عصيبة جداً وأنا غير قادر عليها لوحدي فلا تتركني دون عناية منك ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.

انَّ الله أعان يوسف الحر وجعله يعيش الحرية في سجون العزيز ، التي اقترنت مع رفعة رأس وافتخار ، كما أنها كانت مقدمة لحكومته وسلطانه وإثبات نزاهته وطهارته.

__________________

(١) يوسف : ٣٣.

٢٦٦

إنَّ يوسف عليه‌السلام لو لم يذهب إلى السجن لما توافرت له فرصة تعبير المنام ، وتعبير المنام لو لم تتوافر فرصته لما تبرّء من الاتهامات ولما اقترب من السلطان ولما حكم في النهاية.

إلهي! نحن جميعاً أسارى الهوى والهوس نوعاً ما ، لكن نحب أن تنقذنا من أسرنا ، فأعنّا على ذلك.

علي عليه‌السلام حرٌّ آخر

من التفاسير الواردة في تفسير المؤمن الذي ورد في آية المثل هو الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام. (١) نعم إنّه كان حرّاً من عبودية الهوى والهوس والمال والثروة. كان ينفق كل ما عنده من ثروة في سبيل الله حتى في اثناء الصلاة.

نال الحكومة الظاهرية بعد سكوت وقعود في البيت ومظلومية تحّملها مدة سنوات ، وقد أصبح آنذاك حاكماً وذا سلطة ، رغم ذلك ما كان يجرؤ على التلاعب في بيت المال وإنفاقه بما تروق له نفسه. وقصته مع أخيه عقيل خير شاهد على هذا ، ولنقرأ القصة على لسان أخيه هنا ، وقد مرّت على لسان الإمام علي عليه‌السلام فيما سبق :

«أقويت (أي افتقرت) وأصابتني مخمصة شديدة ، فسألته فلم تند صفاته (التعبير كناية عن بخل الإمام) فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم. فقال : (ائتني عشية لأدفع إليك شيئاً) ، فجئته يقودني أحد ولدي ، فأمره بالتنحي ثم قال : (ألا فدونك) ، فأهويت حريصاً قد غلبني الجشع (الحرص الشديد) أظنها صرّة ، فوضعت يدي على حديد تلتهب ناراً ، فلمّا قبضتها نبذتها وخرت كما يخور (أي يصيح) الثور تحت جازره ، فقال لي : (ثكلتك امّك هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا ، فكيف بك وبي غداً إن سلكنا في سلاسل جهنّم)؟ ثم قرأ : (إِذْ الأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِم وَالسَلَاسِلُ يُسْحَبُونَ) (٢) ثم قال : (ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلّا ما ترى) فانصرف إلى أهلك». (٣)

__________________

(١) منهج الصادقين ٥ : ٢١٢.

(٢) المؤمن : ٧١.

(٣) بحار الانوار ٤٢ : ١١٨

٢٦٧

إنَّ عقيل قام ليخرج بعد ما رأى في هذا الحاكم الصلابة وعدم استعداده للعدول عن طريق العدالة ولو للحظة واحدة.

هل نعلم على طول التاريخ حاكماً قادراً يعامل أخاه هذه المعاملة ، التزاماً بالعدالة؟

إلهي! وفّق مسؤولينا للعمل كما كان يعمل الامراء الاحرار ، لكي يقدموا الضوابط والقوانين على العلاقات.

٢٦٨

المثل الثامن والعشرون :

المؤمن والمشرك

يقارن الله في الآية ٧٦ من سورة النحل بين المشرك والمؤمن ويقول :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُمَا أَبْكَمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَولَيهُ أيْنَمَا يُوَجِّهَهُ لَا يَأتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَويَ هُوَ وَمَنْ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ)

تصوير البحث

عنت الآية بالمقارنة بين الإنسان المؤمن والإنسان المشرك ، وقد قارنت الآية بين الاثنين بمثل جميل ودقيق بحيث لا يمكن إثره انكار الفوارق بين الإنسانين ، وبخاصة إذا لاحظنا الصفات التي ذكرت للمشرك في الآية ، فانَّ ملاحظتها يفرض علينا القول بعدم امكانية المقارنة بينهما لشدة الاختلاف في هذه الصفات.

الشرح والتفسير

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) في هذا المثل قارن الله بين شخصين الأوّل وهو المشرك يحمل الصفات الخمس التالية :

١ ـ (أَحَدُهُمَا أبْكَمٌ) أي أنّه أخرس. وأبكم مفردة اخرى للاخرس ، والفرق بينهما أن الأخرس هو الذي عرضت له هذه الحالة أثناء حياته ، ولم يكن أخرس منذ الولادة. أمّا الأبْكَم فهو الذي يلد على هذه الحالة.

٢٦٩

وقد أضاف بعض من أهل اللغة أن الابكم هو الذي يكون على هذه الحالة منذ الولادة ، والسبب عقلي أي الضعف في قواه العقلية ، فهو يعاني من تخلف عقلي. وعلى هذا فإلّا بكم صاحب دماغ ضعيف وسقيم ، ويشبّه الله المشرك بهذا الذي يلد ضعيف العقل.

٢ ـ (لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ) الخصلة الثانية لهذا الإنسان هي أنّه غير قادر على عمل شيء ، فهو ضعيف روحياً وجسمياً.

٣ ـ (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَولَيهُ) الخصيصة الاخرى لهذا الإنسان أنّه كلٌّ أو ثقل على الآخرين ، أي أنّ هذا العبد ثقل على مولاه.

المتعارف أنَّ الناس يقتنون العبيد لأجل حلِّ مشاكلهم ، إلّا أن العبد هذا ، لا أنه لم ينجز عملاً انتاجياً أو خدمة ما فحسب ، بل هو مستهلك بحت ولذلك كان كلاً على مولاه.

٤ ـ نستفيد من العبارة الماضية أن هذا الشخص عبد وليس حراً ، بعبارة اخرى انه ملك لغيره لا لنفسه ولا يملك إرادة نفسه.

٥ ـ (أيْنَمَا يُوجّههُ لَا يَأتِ بِخَيْرٍ) آخر خصلة له أنه لا يتوفّق في أي عمل يقدم عليه ، ويرجع منتكس الرأس كلّما ارسل لقضاء حاجة.

وعلى هذا ، فإنَّ المشرك يبدو شخصاً يحمل الصفات التالية :

١ ـ عبد يفقد الارادة.

٢ ـ أبكم منذ الولادة.

٣ ـ لا يستطيع انجاز عملٍ ما.

٤ ـ كَلُّ على مولاه.

٥ ـ فاشل في جميع أعماله.

(هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ ...) أي هل يستوي هذا الإنسان الحامل لهذه الصفات مع إنسان ستأتي صفاته؟

الإنسان الآخر (المؤمن) الذي سنبتُّ بتوصيفه يحمل خصلتين ممتازتين وبارزتين :

١ ـ (يَأمُرُ بِالعَدْلِ) أول خصائصه أنّه يأمر بالعدل والقسط ، أي أنَّه عادل ويعمل طبقاً لما تستلزمه العدالة. وأمره بالعدالة يكشف عن شخصيته القيادية والادارية.

٢٧٠

٢ ـ (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فهذا الإنسان اضافة إلى عدالته وأمره بها ، يحضى بخصيصة اخرى ، وهي أنَّه يخطو على الصراط المستقيم.

قد يكون البعض من طلّاب العدالة والقسط في المجتمع ، لكن بما أنّ مساعيهم لم تنشأ ولم تصب في الطريق الصواب والصحيح فهي كثيراً ما تنتهي إلى الظلم والجور. وقد نجد شخصيات من الشيوعيين يطالبون بالعدالة حقاً ، لكنهم سلكوا طريقاً غير صائب لاجل تحقيق العدالة ، فانتهى أمرهم إلى جرائم كثيرة وبشعة اقترفوها خلال سبعين عاماً من حكومتهم.

إذن ، مثل المؤمن مثل الإنسان العادل والطالب للعدالة الذي يسير على طريق الحق والصواب ، أما مثل الكافر فمثل العبد الابكم الذي لا إرادة له و....

وهل يتساوى (مع هذه المفارقة) المشرك والمؤمن؟ لا شك أنه لا يوجد من ينكر المفارقة هذه.

خطاب الآية

الشرك وعبادة الأصنام في القرن العشرين

يتصور البعض أنّ عهد الشرك وعبادة الأصنام قد ولّى ولا يوجد مشرك حالياً ، مع أنّ الواقع ليس كذلك ، فهناك مشركون وعبدة للأصنام ؛ وذلك لأنَّ للشرك (ذلك البلاء المهلك) أنواعاً وأقساماً كثيرة. من هنا قال القرآن : (وَمَا يُؤمِنُ أكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلّا وَهُم مُشْرِكُونَ) (١)

نعم ، إنَّ أكثر الذين يدّعون الايمان نجد في معتقداتهم عروقاً من الشرك تصب في قلوبهم.

لو قيل للذي ادّخر مالاً وأعدّ لنفسه ثروة ضخمة : انَّ هذه الثروة ليست لك ، وأنت مجرد أمين عليها ، فاعط المحتاجين كما نصّت الآية على ذلك : (وَأَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيْهِ) (٢)

__________________

(١) يوسف الآية ١٠٦. وقد وردت رواية جميلة عن الباقر عليه‌السلام في ذيل هذه الآية يقول فيها : ((هو قول الرجل : لو لا فلان لهلكت ، ولو لا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولو لا فلان لضاع عيالي ، ألا ترى أنّه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه))؟ قال الراوي قلت : فيقول : لو لا أنّ الله منَّ عليّ بفلان لهلكت؟ قال : ((لا بأس)) ، ميزان الحكمة ، الباب ١٩٩٢ ، الحديث ٩٣٠٩.

(٢) الحديد : ٧.

٢٧١

لأجاب : لي أولاد وبنات وهم مقبلون على الزواج وعلى دخول الجامعات ، ومصارفهم كثيرة وثقيلة ... إنّ هذا المسلم مشرك في الحقيقة ؛ وذلك لأنَّه غير مقتنع برازقية الله بشكل كامل ، وتوحيد رازقية الله عنده ناقص ، وإلّا فإنَّ الله الذي كان قادراً على حفظ هؤلاء الأطفال في أرحام امهاتهم قادر على إعانتهم في الدنيا إلى نهاية عمرهم.

إنّ المترائين الذين يتظاهرون بعبادة الله أمام الناس ، لأجل كسب العزة والجاه عند الناس ، هم في الحقيقة يمارسون الشرك بتظاهرهم هذا ؛ لأنَّ الآية ٢٦ من سورة آل عمران نصّت على أنّ الذل والعز بيد الله تعالى لا بيد هؤلاء الناس الفقراء إلى ربّهم (قُلِ اللهُمَّ مَالك المُلْكِ تُؤْتِيَ المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشَاءُ ...)

إنّ المشرك ضعيف وفاشل ووحيد دائماً ، أما المؤمن الموحّد والآمر بالعدل والسائر في الطريق الصواب فإنَّ الله معه دائماً.

لذلك يقول الله تعالى في الآية ٥١ من سورة غافر : (إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا والّذِيْنَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُومُ الأشْهَادُ)

كما قال الله في الآية ٣٠ من سورة فصلت المباركة : (إنّ الّذينَ قَالُوا ربّنا اللهُ ثُمّ استَقَامُوا تتنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكةُ ألّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بالجَنّةِ الّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) حسب ما صرّحت به هذه الآية ، فإنّ الله يعين المؤمنين من خلال إرسال الملائكة إليهم.

وعلى هذا ، فإنَّ الشرك (الذي هو منشأ كثيرٍ من المفاسد) لا زال موجوداً في عالمنا اليوم ، وله أقسام عديدة على المؤمنين أن يتبرؤوا منها.

من الآيات التي فُسّرت في الإمام علي عليه‌السلام هي هذه الآية (آية المثل) ، وحسب ما جاء في رواية وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام : أنَّ المُرَاد من (مَنْ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الإمام علي والائمّة المعصومون عليهم‌السلام. (١)

بالطبع هذا لا يعني عدم شمول الآية للآخرين ، بل الرواية تعني أنَّ علياً والائمة عليهم‌السلام هم

__________________

(١) انظر تفسير الأمثل ذيل الآية.

٢٧٢

أبرز مصاديق هذه الآية. (١) نعم ، إنّ عدالة علي عليه‌السلام بمستوى جعلته يستحوذ لا على قلوب المسلمين فحسب ، بل على قلوب جميع الأحرار في العالم.

من هنا يقول الكاتب المسيحي (ميخائيل نعيمة) : لا يختص علي بالمسلمين فحسب ، بل نحن المسيحيون كذلك نحب علياً.

حقاً كما قال ، ولو كان الإمام علي عليه‌السلام مختصاً بالمسلمين فحسب لما كتب الكاتب المسيحي المعروف (جورج جرداق) كتاباً في علي عليه‌السلام أسماه : (صوت العدالة الإنسانية) ، حيث تعامل فيه مع علي عليه‌السلام كمعاملة عاشق له ، عاشق لفكره ، عاشق لعدالته ، عاشق لقلمه ، عاشق لسلوكه واخلاقياته ، عاشق لتقواه. ويبدو أنَّ هذا الشخص ذاته الذي قال في علي عليه‌السلام : يا دنيا! مالك لو تستنفري جميع قواك ليكون لك رجل كعلي في كل قرن ، لكن أسفاً أن الدنيا غير قادرة على ذلك.

هناك مطالب كثيرة وردت في عدالته ، إلّا أنّ بعضها باعتبار شهرتها لم تنل الاهتمام الدقيق والكافي.

إنَّ كثيراً من خطبه ورسائله في نهج البلاغة تحكي عن عدالته ، منها قصته المعروفة مع أخيه عقيل التي قد أشرنا لها في البحوث الماضية مراراً ، وهي تشكل قصة لا مثيل لها في التاريخ أبداً.

وفي نفس الخطبة التي جاءت فيها قصة عقيل جاءت قصته مع الأشعث بن قيس المنافق الذي كان سبباً لكثير من الاختلافات والاستفزازات والمؤمرات في عصر حكومة الإمام علي عليه‌السلام. إنَّ هذا المنافق تخاصم مع مسلم على قطعة أرض وقد وقعت اضبارة الاثنين بيد علي القدوة في العدالة. وفي ليلة أراد الاشعث إرشاء علي عليه‌السلام بإهداء حلوى له فكان جواب علي هو النفي والتأنيب ، فهي إمّا رشوة أو صدقة أو زكاة ، وكلها حرام ، فالرشوة حرام على جميع القضاة ، وأمّا الزكاة والصدقة فهي حرام على آل الرسول جميعاً. (٢)

__________________

(١) ولأجل ذلك جاء في تفسير مجمع البيان ٦ : ٥٣٧ ، أنّ المراد هو حمزة وعثمان بن مظعون.

(٢) علماً أنَّ الصدقات الواجبة (أي زكاة المال والفطرة) فقط تحرم على السادة ، أما المستحبة فهي غير محرمة عليهم.

٢٧٣

أراد الأشعث المنافق أن يكسب الموقف ولو بطلي الباطل صبغة الحقّ ، حيث قال : إن هذه هدية ، وهي لا تدخل في العناوين السابقة ، ولكل مسلم الحقّ بأن يهدي ، وردّها غير صحيح. (١)

فاجابه : «هبلتك الهبول! أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت أم ذو جنّةٍ ، أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها ، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جُلب شعيرة ما فعلته ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمُها».

نعم ، الدنيا التي تُقترف الجرائم لأجل كسب مقدار قليل من زينتها هي أهون من ورقة شجرة في فم جرادة.

علينا نحن الشيعة أن ندرس أنفسنا ونراجع لنعرف إلى أي مدى نتحلى بالعدالة العلوية؟ وأي مقدار فهمنا من دروس عدالة علي؟ وهل يا ترى خطونا الخطوات الكافية لأجل ذلك ، أم أنّا شيعة في القول واللسان فقط دون العمل؟ لا شك إذا كنا نبحث عن السعادة والنجاة ، فلا مفرّ من العبور من صراط علي ، كما علينا التزام حبه وعشقه دائماً ، لأنَّ السعي لا يجدي نفعاً إذا لم يقترن بالحب.

__________________

(١) وردت روايات كثيرة حبذت على قبول الهدية مهما كانت قليلة. راجع ميزان الحكمة ، الباب ٤٠٠٩.

٢٧٤

المثل التاسع والعشرون :

حديثو العهد بالإسلام

يقول الله في الآية ٩٢ من سورة النحل :

(وَلَا تَكُونُوا كَالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أيْمَانَكُم دَخَلاً بَيْنَكُمْ أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أمَّةٍ إنَّمَا يَبْلُوَكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبينّنّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُونَ)

تصوير البحث

كان المسلمون في صدر الإسلام أقلية والمشركون يشكلون الأكثرية. وتلك الثلة من الشباب ، الذين عشقوا الرسول وآمنوا به ، كانوا يواجهون ضغوطاً من قبل عوائلهم وأصدقائهم والمجتمع المشرك عموماً ، (١) فبعض منهم مثل أبي ذر وبلال وعمار قاوموا جميع الضغوط وثبتوا على عقيدتهم وضحّوا لأجلها وماتوا وهم مسلمون ، إلّا أنّ البعض الآخر لم يطق ملامة المحيطين به (وهم الاكثرية) واعتراضاتهم ، وارتدّوا بعد ما اجتازوا مراحل الإسلام والايمان الصعبة ، والآية هذه تعرضت للثلة الاخيرة من المسلمين المتزلزل إيمانهم.

الشرح والتفسير

(وَلَا تَكُونُوا كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكَاثَاً) يخاطب الله في هذه الآية حديثي العهد بالإسلام الذين تحمّلوا مشاق الإسلام والايمان وتخطّوا مشاكل هذه المرحلة وتتوجوا

__________________

(١) نحن الآن نعيش في نعمة كبيرة حيث ولدنا من أبوين مسلمين وفي مجتمع مسلم ، لذلك علينا شكر الله أولاً والأبوين ثانياً وما جرّبنا معاناة تلك الثلة المؤمنة.

٢٧٥

بالإسلام أفضل دين سماوي ، ويحذّرهم دون أن يكونوا كتلك التي نقضت غزلها بعد أن تحملت مشاق ومتاعب الغزل والحياكة. فإنَّ مثل الذي يرتد عن الإسلام والايمان إلى الشرك كمثل تلك السفيهة أو البلهاء.

اختلف العلماء في اسم تلك السفيهة ، فبعض قال : انها رائطة ، وبعض قال : انها ربطة ، وبعض آخر قال : إنّها رابطة. المهم أنها امرأة كانت تعيش في عهد الجاهلية ولشدة غبائها وبلهها كانوا يسمونها حمقاء.

إنَّ ما كانت تعمله هذه الحمقاء المتموّلة هو أنّها في صباح كل يوم كانت تعدُّ صوفاً وتأمر جارياتها بغزل الصوف ، ثم تأمر الجاريات عصر ذلك اليوم بارجاع الغزل إلى الصوف ، أي تأمر بنقض الغزل. وعملها هذا كان يتكرر كل يومٍ.

يحذّر القرآن الكريم حديثي العهد بالإسلام أن لا يعملوا بايمانهم واسلامهم كما كانت تعمل هذه المرأة الحمقاء بغزلها.

(تَتَّخِذُونَ أيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي لا تتخذوا قسمكم ذريعة للخيانة والفساد ولا تتماطلوا في بيعتكم مع الله.

(أنْ تكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أمَّةٍ) أي لا تتخذوا قلتكم وكثرة المشركين ذريعة لنقض بيعتكم مع الله ورسوله ، فإنَّ القلة والكثرة ليستا إلّا ذرائع وتبريرات.

(إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي أنَّ هذه القلة في العدد هي امتحان لكم ، وما عليكم إلّا السعي لأجل اجتيازه بنجاح.

(وَلَيُبَيِّننَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُونَ) لا شك أنّ الله سيبّين للجميع يوم القيامة ما كان يختلف فيه الناس ، وآنذاك سيندم الكفار والمشركون على عدم إيمانهم.

هذا المثل جميل وبليغ وجذّاب جداً ، كما أنَّه تحذير للمسلمين على أن يغزلوا حبال إيمانهم باستحكام وقوة خوف النقض بعد هذه المشاق والمتاعب وخوف الوقوع في الشرك تارة اخرى.

خطابات الآية

١ ـ إنَّ الصوف إذا لم يُفتل فلا فائدة فيه ، ولا يمكن صناعة شيء منه ، أما عند ما يُغزل ، فاذا

٢٧٦

كان غزله رفيعاً ودقيقاً تبدل إلى خيوط تصلح لصناعة الاقمشة والسجاد ، وإذا كان سميكاً تبدل إلى حبال وأمكن صناعة خيام صحراوية منه.

إنَّ المجتمع المتشتت والمتفرق كالصوف غير المفتول لا يصلح لشيء ، أما إذا اتحد وتلاحم ، فانّ ذلك سيكون منشأ لخيرات وبركات كثيرة.

٢ ـ إنَّ الصوف في الحالات الاعتيادية ضعيف وهش ويذهب به الريح حتّى لو كان نسيماً ، ولا قدرة له على المقاومة ، رغم ذلك فإنَّه لو افتل وغُزل باستحكام فقد نتمكن حمل أثقل السلع بواسطته ، بل قد يتحكمون ويسيطرون على السفن الكبيرة من خلال ربط خطاف السفينة به.

٣ ـ إنّ السبب الوحيد لاستحكام هذا الصوف هو اتحاد وتلاحم فتائله. نعم ؛ إنَّ اتحاد هذه الفتائل والتنسيق والتعاضد فيما بينها وترك الاختلاف والتشتت هو منشأ لخيرات كثيرة. وهذا يعلّم الإنسان أن في ذاته قابليات كثيرة تكمن وتوجد فيه بالقوة ، وهي قابليات إذا فتلت واستحكم غزلها فستثمر محاصيل جديدة اخرى مثل الارادة ووحدة الكلمة والايمان والتوكّل على الله.

من هنا خاطب القرآن المسلمين بأنهم فُتلوا بالايمان ، وعلى العاقل أن لا يفتح فتائل الايمان هذه.

لقد ورد في خطبة زينب (عليها‌السلام) عند ما وصلت بوابة الكوفة وخاطبت الناس هناك : «إنّما مثلكم كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة ...». (١) والواقع كذلك حيث بايعوا علياً في عهده وبايعوا سفير الحسين مسلم بن عقيل بعد ذلك. وهذا أمر أحكم غزلهم لكنهم نقضوا هذا الغزل إثر وعد ووعيد وتهديدات. وبذلك يثبت أنّ دعوتهم للإمام الحسين عليه‌السلام وإعلانهم عن الوفاء له لم تكن إلّا خدعة ، وهم الآن يبكون ويقيمون المآتم عليه!

إنَّ الذي له باع في الأدب العربي وطالع خطبة زينب (عليها‌السلام) يدرك قيمة هذه الخطبة. ونحن نعتقد أنَّ زينب (عليها‌السلام) بعملها هذا هزت عرش حكومة الشام ، وكانت المقدمة لسقوط بني أمُيَّة والثورات والحركات التي حصلت بعد ذلك الحين.

__________________

(١) نقلاً عن كتاب (الإمام الحسن والحسين) للعلامة السيد محسن الأمين العاملي : ٢٥٦.

٢٧٧

أهمية الوفاء بالعهد

هناك الكثير من الروايات أكّدت على أهمية الوفاء بالعهد ، نشير إلى ثلاث منها :

١ ـ في حديث قصير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لا دين لمن لا عهد له». (١)

هذا الحديث المهم يعني أنَّ الذي لا يلتزم بعهده يتساوى مع الذي لا دين له أبداً. والذي يعاهد اليوم وينقضه غداً هو إنسان دون دين ، فإنَّ الإنسان الذي لا يفي بعهده أمام خلق الله سوف لا يفي بعهده أمام الله كذلك.

٢ ـ يقول الإمام علي عليه‌السلام في عهده لمالك الاشتر : (٢)

«وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت ، فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدُّ عليه اجتماعاً ، مع تفرّق أهوائهم ، وتشتُّت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهودِ».

إنّ العالم اليوم يفي بالعهود وأكثر الدول تلتزم بما تعهدت به ، وكذا الناس في عهد الجاهلية وعهد عبادة الاصنام ، فإنّها سنة لم تختص بالقرآن والمسلمين فحسب بل عامة ، ومما ينبغي على المسلمين هو وفاؤهم بعهودهم مع الله ومع خلقه.

٣ ـ يقول الإمام الباقر عليه‌السلام في حديث جميل له : «ثلاث لم يجعل الله عزوجل لأحد فيهنّ رخصة أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر والوَفاء بالعهد للبرّ والفاجر وبرّ الوالدين بَرين كانا أو فاجرين». (٣)

على ما قرأنا في الآيات والروايات ، فإنَّ الوفاء بالعهد يقع في صدر قائمة أعمالنا. وإذا أراد عبد أن يستجيب الله لدعوته وطلباته عليه أن يفي بعهوده مع الله.

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٢٩٦٤ ، الحديث ١٤١٢٤.

(٢) رغم مضي أكثر من ألف سنة على هذا العهد ، إلّا أنا لا زلنا نلمس طراوته ، وكأنه لا يعتق أبداً ، مع أنَّ ما يقوله أو يكتبه البشر يعتق بعد حين من الزمن حتى لو ترشح عن افكار النوابغ أمثال ابن سيناء. وكأنَّ السبب في طراوة كلام علي عليه‌السلام هو نشوؤه من علم متصل بالعلم الإلهي ، وبما أنَّ العلم الالهي لا يعتق كذلك كلام علي عليه‌السلام.

(٣) أصول الكافي كتاب الايمان والكفر ، باب برّ الوالدين ، الحديث ١٥.

٢٧٨

المثل الثلاثون :

كفران النعمة

يقول الله تعالى في الآيتين ١١٢ و ١١٣ من سورة النحل :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأتِيْهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فَأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَائَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُم العَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)

تصوير البحث

تعرّضت الايتان إلى مصير اولئك الذين لا يشكرون نعمَ الله بل يكفرون بها ، ولأجل ذلك استحقوا العذاب الشديد من الله.

الشرح والتفسير

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) شبّه القرآن المجيد الكافرين بنعم الله والمنكرين لها بالقرية (١) المعمورة التي تحضى ـ بسبب عمرانها المادي والمعنوي ـ بالمواصفات الأربع التالية :

١ ـ (آمنة) ، إنَّ الأمان هو أوّل صفة لهذه القرية ، وباعتبار أنَّ نعمة الأمان أهم النعم

__________________

(١) إنَّ القرية في الاصطلاح القرآني لا تعني ما يقابل المدينة ، بل تعني كل مكان معمور سواء كان قرية بالمعني المتعارف أو مدينة صغيرة أو كبيرة ، وقد اطلق هذا المصطلح على عاصمة مصر في عهد يوسف عليه‌السلام.

٢٧٩

الإلهية لذلك قدّمها على غيرها من النعم على ما يبدو.

في الحقيقة ، الامان إذا كان مفقوداً في مكان ما فإنَّ المكان سيفقد الإقتصاد السليم ، كما أنَّه سيفقد امكانية التعليم والصناعة والتقنية الحديثة ، وامكانية العبادة وأداء الشعائر الدينية ، وخلاصة سوف لا يُنجز عمل بشكله الصحيح إذا لم يقترن بالأمان.

إنَّ شعب ايران الأبي سوف لا ينسى أنه كان يواجه مشاكل أثناء الدفاع المقدس (١) حتى في مجال العبادة ، فقد يكون البعض في أثناء صلاته ويسمع صفارة الأنذار ، الأمر الذي يوقع المصلي في حرج ومازقٍ روحي يجعله يشك في كيفية أداء عبادته. وعلى هذا ، فإنَّ قضية الأمن تحضى بأهمية كبيرة تؤثر حتى على العبادة وكيفية أدائها.

عند ما وطأت قدما إبراهيم الخليل عليه‌السلام أرض مكة الجرداء ، وبنى بين الجبال بيت الله الحرام ، دعى لأهل تلك المدينة دعاءً ينقله الله في الآية ١٢٦ من سورة البقرة كما يلي : (رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدَاً آمِنَاً وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخَرِ)

في هذه الآيات النورانية نقرأ أنَّ أوّل دعاء دعى به إبراهيم لأهل المدينة هو الأمن.

إنَّ عقوبات اولئك الذين يخلّون بأمن البلد والمجتمع هي من أشدّ العقوبات في دين الإسلام المقدس ، ولذلك فرضت على" المحارب" عقوبات شديدة قد تصل إلى مستوى الإعدام.

إنّ السّراق المسلحين ـ سواء بالاسلحة النارية أو غير النارية ـ يُعدُّون محاربين وينبغي عقابهم بأشد العقوبات ، كما أنَّ الذين يخلّون بأمن منطقة واسعة يعدون (مفسدين في الأرض) وعقابهم الإعدام. (٢)

٢ ـ (مُطْمَئِنَّةً) قد تحضى المدينة بأمان ، لكنَّ أمانها متزلزل وغير ثابت ، وقد تحضى بأمان ثابت وغير متزلزل ، والامان الذي أشارت إليه الآية هو الأمان المتواصل والثابت.

٣ ـ (يَأتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدَاً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) كما مضى فإنَّ الأمان يجلب كل شيء حتى الإقتصاد السليم والقوي. في هذا البلد الذي أمن من السوء تأتي الناس أرزاقهم من كل مكان وصوب ،

__________________

(١) إن هذه الحرب التي فرضها نظام البعث في العراق بدأت بعد الثورة عام ١٩٨٠ وانتهت عام ١٩٨٨.

(٢) تفاصيل الحدود الشرعية المفروضة على المحاربين والمفسدين في الأرض تجدها في جواهر الكلام ٤١ : ٥٦٤ فما بعدها.

٢٨٠