أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

المثل الحادي والعشرون :

الحق والباطل

من أجمل امثال القرآن هو مثل الحق والباطل ، يقول الله تعالى في بيان هذا المثل ذات المغزى العميق في الآية ١٧ من سورة الرعد :

(أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدَاً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحقَّ والبَاطِلُ فأمَّا الزَّبَدُ فيَذهَبُ جُفَاءً وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ)

تصوير البحث

إنَّ الحديث في هذا المثل عن الحقّ والباطل وسعتهما ومجاليهما وعلائمهما وآثارهما وتعريفهما ، وفي النهاية المواجهة الطويلة والمتواصلة بينهما التي كانت على طول التاريخ.

الشرح والتفسير

(أنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فسالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا) إنَّ نتيجة هطول الامطار على الجبال ونزوله منها هو تجمع المياه في الاودية حسب حجمها ، وجريانه وصيرورته أنهاراً صغاراً ، وإذا التقت صنعت نهراً كبيراً ، واذا تجاوز الماء سعة النهر تبدّل إلى سيول عظيمة ومخرّبة.

(فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً) هذه الانهار كثيراً ما يحصل فيها أمواج تضرب الاحجار والموانع التي تقع في طريقها ، وهذه العملية توجد زبداً في الماء يشبه الزبد الذي يوجده

٢٢١

مسحوق الغسيل ، يتجمّع على سطح النهر يبدو ساكناً ، أمّا النهر فيستمر في حركته تحت الزبد.

(ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِليَةٍ أو مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) هذا الزبد الاجوف والمتكبّر لا يختص بالماء بل قد يحصل للفلزات عند الصهر والذوبان مثل الحديد والنحاس وغيرهما.

ما يلفت النظر هنا هو أنَّ عبارة (مِمَّا يُوْقِدُونَ عَلَيْهِ) أشارت بظاهرها إلى أنَّ النار تُسلّط من الفوق على هذه المعادن رغم أنَّ النار في السابق كانت توقد على الفلزات من تحت أمّا حالياً فمعامل الصهر المتطوّرة تسلّط النار من فوق ومن تحت أي لم تستغن عن تسليط النار على الفلز من الاعلى ، وهو أمر أشار له القرآن منذ ذلك الحين.

(كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ والبَاطِلَ) أي أنَّ الله لأجل إيضاح المواجهة بين الحق والباطل والتي يمتد عمرها إلى طول التاريخ يضرب هذا المثل ، فيشبّه الحق بالماء والباطل بالزبد الأجوف.

(فأمّا الزّبدُ فيَذْهَبُ جُفَاءً) فإنَّ الزبد ، رغم تفوقه على الماء ورغم علوه عليه ، يذهب جفاء وكأنَّه لا شيء. إنّ الأمواج التي توجدها السيول هي السبب في ايجاد هذا الزبد ، وبمجرد أن تصل المياه المتلاطمة إلى سهول تصبح آسنة وسرعان ما يذهب الزبد وتترسب الاوساخ العالقة في الماء ولا يبقى إلَّا الماء الخالص ؛ ذلك لأنّ عمر الباطل قصير ، والهلاك هو نهايته.

(وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) فالذي يبقى هو ما ينفع الناس من الماء الصافي والفلزات الخالصة. فالماء ، إمَّا أن يركد في مكان يستخدم للشرب والسقي وإمَّا أن ينفذ في الأرض ليلتحق بالمياه الجوفية ذخراً للمستقبل ، يستخدم بعد ما يخرج كعيون تلقائياً أو من خلال حفر الآبار.

(كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ) أي يبيّن الله هذه الأمور للناس في صورة أمثال لكي تدرك بشكل أفضل.

خطابات الآية

لقد تناولت الآية قضايا دقيقة جداً ممّا يتعلّق بالحق والباطل باقتضاب ، نقوم هنا بتفصيل هذه القضايا وبيانها.

٢٢٢

١ ـ تعريف الحق والباطل

على أساس هذه الآية ، فإنَّ الحق يعني الحقائق والواقعيات ، وأما الباطل فيعني الاوهام والخيالات التي لا أساس لها.

إنَّ الماء واقع وحقيقةً ، يتطابق ظاهره مع باطنه ، وله آثار واقعية. أمّا الزبد فله ظاهر خادع من دون أن يكون له باطن ، كما هو الحال في الخيالات والاوهام.

لقد جاء في الآيتين ١١٧ و ١١٨ من سورة الاعراف في بيان قصة موسى عليه‌السلام مع السحرة كما يلي : (وأوْحَيْنَا إلى مُوْسَى أنْ ألقِ عَصَاكَ فإذا هِيَ تَلْقَفُ ما تَأفِكُونَ فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

إنّ الحق هو معجزة النبيّ موسى عليه‌السلام ، والباطل هو سحر السحرة ، فالمعجزة حقيقة وواقع ؛ لأنَّ عصا موسى عليه‌السلام تبدلت واقعاً إلى أفعى ولم تكن الحادثة تلك شعوذة ـ نعوذ بالله ـ أمّا أفاعي السحرة فكانت شعوذة خالصة ولم تكن واقعاً ، بل إفكاً ، كما يعبر عنها القرآن.

إنَّ السحرة كانوا قد أعدوا عصياً وحبالاً ملؤوها بالزئبق ، ووضعوها جميعاً في مكان ما ، وكان الناس وفرعون والسحرة وكذا موسى عليه‌السلام جالسين يشاهدون ما يحصل. عند ما سطعت الشمس على هذه الحبال والعصي ارتفعت درجة حرارة الزئبق ، الأمر الذي جعل الحبال والعصي تتحرك وتلتوي على بعضها البعض بحيث تبدوا كانها أفاعي ، ولكنَّها في الواقع خيال لا أكثر.

٢ ـ علائم الحق والباطل

مما يستفاد من الآية هو أنَّ علامة الحق كونه مفيداً للناس ، وعلامة الباطل كونه مضراً لهم ، فالماء مفيد وله تأثير ، والزبد مضر ولا فائدة تتوخى منه ؛ وذلك لأن الزبد لا يروي ضمأ العطشان ولا يسقي الزرع ولا يُنميه ولا يولّد شيئاً من الطاقة ، ولا يُشغّل طاحونة أو دولاباً.

ومن العلائم الاخرى للحق والباطل هو كون الحق خاضعاً ومتواضعاً ، أما الباطل فمتكبر.

فالحق هو الماء المتواضع تحت الزبد ، وأما الباطل فهو الزبد العالي والمتكبّر.

العلامة الثالثة للحق والباطل هو أنَّ الباطل ضوضائي ، أما الحق فهاديء وساكن. فالماء

٢٢٣

هادئ وساكن ، أمّا الزبد فصارخ وصاخب ، ولا يمكنه العيش دون هذا الضوضاء والصراخ والصخب.

٣ ـ سعة الحق والباطل

إنَّ سعة الحق والباطل بسعة مفاهيم الحياة. فالحق والباطل لا ينحصران في جانب من الحياة ، بل يعمان جميع شؤونها ويشملانها ، من السياسة والثقافة والصحافة وغير ذلك. وبعبارة اخرى : يشمل جميع الجوانب المادية والمعنوية للحياة. وهذا المعنى يستفاد من القرآن المجيد ومن آية المثل ذاتها ، فكما أنَّ الزبد لا يختص بالماء كذلك الباطل لا يختص في شيءٍ ما.

٤ ـ عاقبة المواجهة بين الحق والباطل

في هذه المواجهة يبقى الحق ويزهق الباطل ويمحق ، إلّا أنَّ انتصار الحق على شكلين مؤقت وزمني وآخر نهائي. إن أنصار الحقّ إذا استقاموا ولم ينحرفوا فسينتصرون في أزمنة مختلفة ما داموا مستقيمين غير منحرفين ، أمّا النصر النهائي فلا يحصل إلّا بظهور صاحب العصر والزمان بقية الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه) ، وحينئذٍ سيتغير وجه الدنيا وستحكم الدنيا حكومة عالمية حقة.

من الآيات التي فسرت في الحجة بن الحسن العسكري عليه‌السلام هي هذه الآية ، حيث فسِّر الماء في المثل بوجود الحجة المبارك ، والزبد بالظلم والجور والانتهاز والاستعمار فانها ستزول يوماً ما.

٥ ـ المواجهة بين الحق والباطل دائمة

كما أشرنا سابقاً ، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل بدأت منذ بداية الخلق ، والعصور جميعها ضمت هذين الظاهرتين ، وستضم العصور المقبلة هذين الظاهرتين وستستمر هذه المواجهة

٢٢٤

حتى النهاية. لقد كان لكل نبي شيطان ، (١) فقبال آدم عليه‌السلام كان ابليس ، وقبال الأنبياء الآخرين شياطين اخرون ، كما تكشف الآية التالية عن هذا الأمر : (وَكَذَلك جَعَلْنَا لُكِلِّ نبىٍّ عَدُّواً شَيَاطِينَ الأنْسِ والجِنِ) (٢)

المستفاد من الآية الشريفة هو أنَّ الشيطان ليس شيئاً خفياً دائماً ، بل قد يكون من الناس أنفسهم ، وقد يكون هذا هو سبب تقديم الآية شياطين الانس على الجنّ.

وعلى هذا ، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل لا زالت مستمرة حتى استقرار حكومة الحق وبسط سيطرتها على بقاع الأرض جميعاً ، وتتحقق الآية الشريفة التالية : (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوْقاً) (٣) في ظل ظهور المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ، والمواجهة قبل ذلك متواصلة.

٦ ـ كيفية تبلور الباطل

كيف نشأ الباطل وتبلور؟ هل الله تعالى هو الذي خلق بعض الموجودات الباطلة رغم أنَّه حق بل ابرز وأرفع حق؟

إنَّ الباطل موجود عدمي وهو وهم وخيال قد تلبّس ثوب الحق ، مثل الزبد الأجوف ، ذات الظاهر الخلاب والخادع.

الجميل هنا هو أنَّ الباطل اذا عمل على إبطال نفسه فذلك ببركة الحق. إنَّ المزيفين ـ الذين يعتمدون الزيف كمهنة لهم ـ إذا لم يتقمّصوا قمصان ذوي الشأن والاعتبار سوف لا يتوفقون في عملهم الباطل هذا ، كذلك الكذّابين فإنَّهم إذا لم يتمسكوا بالحق ولم يتظاهروا بالصدق لما صدّقهم أحد. والمنافق إذا لم يرتدِ ثوب الإنسان الصالح ، والعدو إذا لم يتقمص قميص الصديق ،

__________________

(١) للشيطان معنيان ، الف : هو من مادة (شطن) وتعني (بعد) ، ولذلك كان (بئر شطون) يعني بئراً عميقاً ، فالشيطان حسب هذا التفسير موجود بعيد عن رحمة الله. ب : قد يكون من مادة (شاط) ويعني (احترق) و (هلك) ، وعلى هذا الشيطان يعني الموجود الذي يهلك ويحترق هو وأتباعه.

(٢) الأنعام : ١١٢.

(٣) الاسراء : ٨١.

٢٢٥

والزبد إذا لم يطفو على الماء ، وبالجملة ما لم يجتمع الباطل بمختلف مصاديقه إلى جنب الحق فلا تكون هناك مواجهة. وعليه فالباطل عدمي ووجوده يتوقف على الحق. أمّا الحق ، فأمر وجودي وهو مصدر البركات والمنافع وذا آثار كثيرة للإنسان.

الحق والباطل من وجهة نظر الآيات والروايات

بما أنَّ أهم بحث في حياة الإنسان هو قضية (الحق والباطل) ، وهي تحضى بموقع خاص عند جميع البشر بمختلف توجهاتهم الفكرية ، لذلك كان من المناسب دراسة هذه القضية من وجهة نظر الآيات والروايات :

لقد تحدث القرآن عن الحق والباطل بمقدار كثير ، وتكررت مفردة الحق ٢٤٤ مرة ، مع أنَّ مفردة الباطل تكررت ٢٦ مرة فقط.

وهذه النسبة تكشف عن أنَّ القرآن المجيد ذاته من مصاديق الحق.

ما هي مصاديق الحق؟

لقد ذكر في القرآن مصاديق مختلفة للحق نشير إلى بعض منها هنا :

١ ـ أبرز وأرفع مصداق للحق هو ذات الله القدسية ، وهي في الحقيقة جامعة لجميع مصاديق الحق ، وهي عين الواقع والوجود المطلق.

من هنا صرّح الله في الآية الكريمة ٦٢ من سورة الأنعام ما يلي : (ثُمّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلَيهُم الحَقِّ ألا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الحَاسِبِيْنَ) فعلى أساس هذه الآية ، إنَّ الله الذي لا مثيل له هو الحقّ.

٢ ـ النموذج الآخر وهو من أبرز مصاديق الحقّ عبارة عن خلق السموات والأرض أو الكون أجمع.

تقول الآية الشريفة ٢٢ من سورة الجاثية : (وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ بالحَقِّ)

٣ ـ المصداق الثالث للحق هو القرآن نفسه ؛ وذلك لأن الآية ٤٨ من سورة المائدة عند بيانها لهذا المطلب تقول : (وأنْزَلْنَا إليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ)

٢٢٦

٤ ـ الدين المبين والمنقذ للبشرية ، أي الإسلام ، وهو مصداق واضح آخر من مصاديق الحق. لذلك يقول الله تعالى في الآية ٢٨ من سورة الفتح : (هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِيْنَ الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ) (١)

وخلاصةً ، كل وجود هو منبع لخير البشر وسعادتهم يُعدّ حقاً ، لذلك كان الله الحق المطلق ؛ لأنَّه منبع جميع البركات والسعادات ، كما أن السماوات والأرض والقرآن المجيد ودين الإسلام والتوحيد ، باعتبارها جميعاً منشأ للهداية والبركة ، عدّت حقاً.

وكل شيء هو منبع ومصدر للشقاء فهو باطل ، مثل الشيطان والأصنام وعبادتهما والرياء والتظاهر والنفاق وامثال ذلك.

جولة الباطل ودولة الحق

المستفاد من الروايات هو أنَّ الباطل قد يكون له جولة وصراخ وصخب إلّا أنَّ عمره مهما كان فهو قصير ومؤقّت : «للباطل جولةٌ وللحقّ دولة» (٢) والدولة هي الثبات والبقاء والخلود ، والجولة هي النفاق والخداع المؤقت.

كن مع الحق دائماً

حسب ما ورد في الروايات الإسلامية ، على المسلم في كل حال أن يكون مع الحقّ والحقيقة. إذا أردت التسلّح بسلاح النصر أمام الأعداء ، فعليك التمسك بسيف الحقّ الصارم ، كما قال الإمام علي عليه‌السلام : «الحق سيف قاطع». (٣)

إذا أردت أن تكون من أهل النجاة في مقام العمل ، وأن تكون صاحب حجة وبرهان في مقام الكلام ، فعليك بالتوجّه نحو الحقّ ، كما يقول الإمام علي عليه‌السلام : «الحقّ منجاة لكل عاملٍ

__________________

(١) وقد تكررت الآية ذاتها في سورة الصف الآية ٩.

(٢) غرر الحكم : ٦٨ و ٧١ ، طبع مركز البحث والتحقيق للعلوم الإسلامية.

(٣) ميزان الحكمة ، الباب ٨٨٥ ، الحديث ٤٠٨٢.

٢٢٧

وحجّة لكلِّ قايلٍ». (١)

إذا أردت من الاخرين قبول كلامك ، واذا ابتغيت النصر ، فقل الحقّ والتزمه. وإذا أردت مركبا هادئاً يوصلك إلى غايتك فكن مع الحقّ. يقول الإمام علي عليه‌السلام : «ألا وإنّ الحق مطايا ذلل ، ركبها أهلها ، وأعطوا أزّمتها ، فسارت بهم الهوينا حتى أتت ظلًّا ظليلاً». (٢)

الحق مرُّ والباطل حلوٌ

تقترن مع الحق والدفاع عنه مشاكل ؛ وذلك لأنّه مرُّ والباطل حلو.

إنّ مرارة الحقّ كمرارة الدواء الذي فيه شفاء ، وحلاوة الباطل كحلاوة السم القاتل ، لذلك قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحق ثقيل مرٌّ ، والباطل خفيف حلوٌ ، ورُبَّ شهوة ساعةٍ تورث حزناً طويلاً». (٣)

نعم ، انَّ الحقّ ثقيل ومرّ ؛ لأنَّه لا يكون في صالح الإنسان دائماً بل قد يضره ، وقد يكون عكس ما تروق له النفس والشهوات الإنسانية ، وقد يتزامن مع لوم الاخرين وعتابهم ومع مشاكل جمّة يثقل على الإنسان تحّملها ، أما الباطل فخفيف وحلو ، لكنه كالسم القاتل ، لذلك قد يؤدي إلى ندمٍ يرافق الإنسان حتى موته ، كما لو ارتكب الإنسان ذنباً لم يستغرق فترة طويلة ، لكن عقابه الحبس المؤبد ، فذلك يعني كفارة ساعة من الذنب عمر في الحبس والسجن.

الباطل يتقمّص قميص الحق دائماً

المهم هنا هو أنّ الباطل لا يظهر بثوبه الحقيقي دائماً ؛ وذلك لأنَّ اتضاح واقعه يعني عدم تمكّنه من الخداع ، بل إنّه يظهر بمظهر الحق لكي يغرَّ ويخدع الكثير.

يقول الإمام علي عليه‌السلام في هذا المجال في الخطبة رقم خمسين من نهج البلاغة : «يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهناك يستولي الشيطان على أوليائه».

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٨٨٥ ، الحديث ٤٠٨٤.

(٢) ميزان الحكمة ، الباب ٨٨٥ ، الحديث ٤٠٨٩.

(٣) ميزان الحكمة ، الباب ٨٨٨ ، الحديث ٤١٠٠ ، وقد جاءت روايات أُخرى في نفس الباب تضمنت المعنى ذاته.

٢٢٨

أي بما أنَّه لا زبون للباطل المحض ، لذلك يمزجه أتباعه مع شيء من الحق ليبدو وكأنه حقّ ، فعندئذٍ يأتي دور الشيطان ليستولي على أوليائه وأصحابه.

لذلك علينا أن لا ننخدع بالظاهر ، إذا أردنا شراء كتاب مثلاً فما علينا أن ننخدع بغلافه الجميل أو يغرّنا عنوانه الخلّاب وشعاراته ؛ وذلك لأنّ أهل الباطل قد يستخدمون هذه الخدع لترويج سمومهم وأباطيلهم. وهذا الأمر نفسه صادق بالنسبة للافلام والمسرحيات والجرائد والمجلات والاساتذة والمعلمين والجيران والأحزاب و...

إنَّ أهل المعرفة والبصيرة هم الذين يميزون الباطل عن الحقّ ، وذلك لما أعطاهم الله من (فرقان) منحةً لتقواهم.

علي عليه‌السلام محور الحقّ

هناك الكثير من المطالب المدونة عن فضائل الإمام علي عليه‌السلام وشخصيته وردت في كتب السنة والشيعة ، ومن جملة ما اتفق الفريقان على نقله هو الحديث العجيب واللطيف القائل : «علي مع الحقّ والحقّ معه وعلى لسانه ، والحقّ يدور حيثما دار عليّ» (١) وهو حديث منقول عن الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنّ هذا الحديث مقياس معتبر لتمييز الحقّ عن الباطل ؛ ولذلك أفادت بعض الروايات أنَّ المسلمين في صدر الإسلام عند ما يتشابه عليهم المسلمون والمنافقون والمتظاهرون بالإسلام ويصعب تمييز ذلك ، أفادوا من هذا المقياس واعتبروا المسلمين هم المحبون لعلي وأتباعه ، المنافقون هم الذين يكنّون العداء والبغض له. (٢)

إنَّ الشيعة تفتخر بأن لها زعيماً عظيماً ومحقاً ما كان يمنعه شيء عن احقاق الحقوق ، ما كان يتحمل الانحراف عن جادة الحقّ ولو كان صادراً من صحابي أو أحد أقربائه ، وكان يأمر بالجبران بمجرد حصوله.

__________________

(١) بحار الانوار ٣٨ : ٨٢ ، الملفت هنا هو أنَّ مضمون هذه الرواية عنوان لباب مفصّل ، والرواية الواردة هنا نموذج من روايات ذلك الباب.

(٢) لقد جاء حديث بهذا المضمون في ميزان الحكمة الباب ٣٩٣٢ ، الحديث ٢٠٢٩٢.

٢٢٩

من جملة مصاديق هذا الكلام هو قصة قنبر غلام علي الوفي وعضده التنفيذي في حكومته ، لقد أُمر هذا الغلام بإِجراء حدِّ الجلد ، إلّا أنه أخطا في التنفيذ وزاد على الحدّ ثلاث جلدات على المجرم ، فأمر هذا القائد المحق قنبر أن يعدّ نفسه لأجل اقتصاص المجرم منه. (١)

ونقرأ في قضية عقيل أنه ما وافق منحه شيئاً زائداً على ما منحه للمسلمين ، بل أحمى حديدة وقرّبها من يد عقيل ، فصاح عقيل من شدّة الحرارة. (٢)

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٨١ ، أبواب مقدمات الحدود ، الباب ٣ ، الحديث ٣.

(٢) تقدم بيان هذه القصة في البحوث السابقة.

٢٣٠

المثل الثاني والعشرون :

التقوى جواز دخول الجنة

يقول الله تعالى في الآية ٣٥ من سورة الرعد :

(مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقوا وعُقبى الكَافِرِيْنَ النَّارُ)

تصوير البحث

الآية السابقة ، رغم بساطة ظاهرها ، تعدّ من أعقد الأمثال القرآنية ، إنها بتّت بتشبيه الجنة ـ التي هي مأوى المتقين ـ وذكرت لها ثلاث خصال.

الشرح والتفسير

إنَّ التشبيه المستخدم في الآية يبدو تشبيهاً بسيطاً ، إلّا أنَّه في الواقع ـ كما قلنا سابقاً ـ من أعقد التشابيه المستخدمة في القرآن المجيد.

يعتقد المفسّرون أنَّ في الآية شيئاً محذوفاً ، وهو جملة يجب تقديرها إمَّا في بداية الآية لكي تتلقى الآية خبراً للمبتدأ المحذوف ، أو أن نقول بأنَّ صدر الآية مبتدأ ، وخبرها محذوف.

نعتقد نحن أنَّ خبر الآية محذوف ، ولأجل اتضاح الأمر نقدّم مقدمة :

المراحل الأربع قبل الولادة

إن الإنسان يجتاز أربع مراحل ليكتمل ويكون إنساناً.

٢٣١

في البداية يكون الإنسان عبارة عن تراب تنمو فيه نبتة أو شجرة ، فيصبح هذا التراب جزءاً من النبات ، يأكل حيوان ما هذا النبات ليصبح جزاءاً من بدنه ، يتناول الإنسان لحم هذا الحيوان فيصبح لحم الحيوان هذا جزءاً من بدن الإنسان.

يمكن بيان المراحل الأربع هذه بشكل آخر بأن نقول : إن الإنسان كان تراباً في يوم من الإيام (المرحلة الأولى) ومن الطبيعي أن الإنسان لا يمكنه تناول التراب مباشرة بل ما تبدّل منه إلى نبات أو حيوان (المرحلة الثانية) في (المرحلة الثالثة) يتبدل النبات أو الحيوان إلى نطفة إنسانية. الجنين في مراحله الأولى ينمو نمواً نباتياً ؛ لأنه يفقد الحس والحركة ، فهو ينمو فقط ، وبعد الشهر الرابع حيث يكون قادراً على الحركة والحس ، وعندها تبدأ (المرحلة الرابعة) ، وهي تستمر حتى تعلّق الروح بالجنين.

إنّ لهذه المراحل الأربع عجائب كثيرة ، والمرحلة الجنينية من أعجبها.

عجائب من عالم الجنين

استطاع العلماء اليوم إعداد صورٍ حيّة عن الجنين ، وصنع فيلمٍ مدّته نصف ساعة يصوّر المراحل الجنينية جميعها ، وهذا الفيلم بمثابة هدية عجيبة قدّمت للإنسانية في عصرنا الحالي.

كيف استطاع الله خلق هذه العجائب كلها؟ نلفت انتباهكم إلى نموذجين من هذه العجائب.

١ ـ نطفة الإنسان تبدأ من خلية واحدة ، ثم تنتصف هذه الخلية لتصبح اثنين ، وكلٌّ من هذين الخليتين ينتصفان كذلك لتصبح الخلايا أربعاً ، ويستمر الانقسام هكذا بشكل تصاعدي. إنّ هذا التكاثر في الخلايا يستمر حتى تتكون خلايا متشابهة بالكامل وتنقسم حيندئذٍ إلى مجاميع. بعض منها يتكفل بخلق رأس الإنسان وبعض يؤمر بخلق العين أو اليد أو الرجل أو غير ذلك.

إنَّ هذه الخلايا جميعاً متشابهة لكن كيف حصل أن تخصصت البعض في صنع اليد والبعض الآخر بصنع الرجل؟ من أمر هذه الخلايا بالصنع المختلف رغم التشابه الموجود فيها؟ كيف تلهم هذه الخلايا؟ ومن الذي ألهمها هذه القابلية؟! لم يستطع أحد الكشف عن هذه الأسرار بعد.

٢٣٢

٢ ـ إنَّ الجنين في بطن أمه يسبح في كيس خاص مليء بسائل غليظ وزنه يعادل وزن الطفل تقريباً. وعلى هذا ، فالجنين لا يضغط بشكل مباشر على جسم الأم ، كما أنَّ الأُم لا تحمّل الطفل ضغطاً مباشراً. يا ترى ما يحدث لو لم يكن ذلك الكيس؟

كيف يمكن للجنين أن يحافظ على نفسه ويستمر في حياته رغم ظرافته ونعومته ورغم ما يتعّرض له من ضربات تنشأ عن الجلسة الخاصة للأُم أو نومها في اتجاهات مختلفة؟

أعدَّ الله العالم القادر محيطاً وبيئة للجنين تشبه حالة الإنسان عند فقدان الجاذبية ، بحيث لا يتأثر بالضغط إذا تعرض له مهما كان اتجاهه ، ولهذا عند ما يلد يشعر بالوزن ، الأمر الذي يحرّضه على الصراخ والصياح.

إنَّ كيس السائل هو أفضل مكان للجنين. فإنَّ هذا الكيس يصدّ الضربات من أي اتجاه وردت ، كما أنَّه يعدّل درجة الحرارة ، بحيث إنَّ الام اذا تعرّضت للحرارة الشديدة أو البرودة الشديدة سوف لا تنتقل هذه الحرارة أو البرودة إلى الجنين مباشرة ، بل ينتقلان إلى الجنين بعد مرورهما بالسائل الموجودة في الكيس ودور السائل هنا هو تعديل درجة الحرارة ونقلها بعد ذلك لجسم الجنين.

وعلى هذا الأساس ، يقول الله في الآية السادسة من سورة الزمر : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وأنْزَلَ لَكُم مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذلِكُم اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَا إلهَ إلّا هُوَ فأنَّى تُصْرَفُونَ) (١)

مراحل كمال الإنسان الأربع

لاجل بلوغ الكمال ، على الإنسان أن يطوي أربع مراحل أو عوالم :

١ ـ عالم رحم الام. ٢ ـ عالم الدنيا. ٣ ـ عالم البرزخ. ٤ ـ عالم القيامة.

والمدهش هنا أنَّ الإنسان يجتاز كل مرحلة ، وهو لا يعلم بالضبط بما تضمّ وتؤول إليه المرحلة اللاحقة. إنَّ الطفل في رحم الام لا يمكنه تصوّر مفاهيم الدنيا ، حتى لو كان له عقل

__________________

(١) وقد أشارت الآية ١٤ من سورة المؤمنون إلى نفس المضمون.

٢٣٣

وذكاء كذكاء وفهم ابو علي ابن سيناء ، وحتى لو استطاع أن يتواصل مع امه لتحكي له عن القمر والشمس والليل والنهار والنجوم والاشجار والأزهار والنباتات ، وقد استطاعت أن تبيّن له هذه الأمور بأفصح بيان وأبلغه ، رغم ذلك فهو سوف لا يفهم شيئاً. إنَّ مثلنا نحن بالنسبة إلى البرزخ كمثل هذا الطفل بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، نحن سمعنا بوجود عالم باسم البرزخ قطعاً ، لكن ما هي الف باء تلك الحياة؟ ما معنى أنّ الشهداء هناك أحياء؟ كيف أنهم يرزقون في ذلك العالم؟ كيف يعذّب الله الروح أو ينعم عليها؟

نحن لا ندرك أياً من هذه الامور. إنّ بعض اولياء الله استطاع أن يتصل بعالم البرزخ فسأل أهل البرزخ عن ذلك العالم فأجابوه لا يمكننا وصف هذا العالم بالألفاظ والمفاهيم التي تدركونها انتم في الحياة الدنيا. إنّ مثل مفاهيم البرزخ وألفاظ الدنيا كمثل المصفاة والماء ، وهل يتوقف الماء في المصفاة؟!

إنَّ موقف البرزخيين تجاه مفاهيم القيامة كموقفنا تجاه البرزخ لا يمكنهم استيعاب نعم الجنة ، كما لا يمكنهم استيعاب أنواع العذاب في جهنّم.

وعلى هذا الأساس ، تقول الآية الشريفة ١٧ من سورة السجدة : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

إذا أخذنا مفردة (نفس) باطلاقها كانت شاملة للأنبياء والائمة ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وذلك يعني هؤلاء أيضاً لا يعلمون ما أُعدَّ للمؤمنين من نعم في الجنة.

جاء في حديث قدسي ما يلي : «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشرٍ». (١)

أي أنَّها نعم لم ترَ في المنام ولا في اليقظة ولا في عالم الخيال ولا التصور ، وذلك لأنّ عالم القيامة لا يمكن استيعابه.

وعلى هذا ، فمن جهةٍ أنَّ مفاهيم عالم القيامة مفاهيم لا يمكن استيعابها وإدراكها ، ومن جهة أخرى ينبغي بيان نعم الجنة وعذاب الآخرة بشكل يسوق البشر نحو الأعمال الحسنة ويبعدهم عن الأعمال السيئة.

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٥٤٦ ، الحديث ٢٥٢٩.

٢٣٤

من هنا كان توصيف وبيان هذه الحالات والأعمال بالالفاظ الدنيوية أمراً مستحيلاً ولا يمكن بيانها بوضوح ، لذلك كان علينا مزاولة هذا العمل باستخدام المفاهيم الدنيوية المشابهة لتلك المفاهيم والألفاظ الأقرب لهذا البيان ، لترتسم بذلك صور قريبة لواقع النعم والعذاب الاخروي.

كمثال على ذلك ، عند ما يقال بأنَّ في الجنة أشجاراً ، فإنّه لا يمكن القياس والمقارنة بين فوائد الأشجار في العالمين. وبالنسبة إلى تفسير الآية ٥٤ من سورة الرحمن (وَجَنَى الجَنّتَيْنِ دَانٍ) فيقال : إنَّ ثمار أشجار الجنة قريبة غير بعيدة بحيث تكون سهلة الوصول. وفي تفسير الآية ٤٨ من السورة المذكورة (ذَوَاتَا أفْنَانٍ) يقال : إنّ الغصن الواحد يضمّ ثماراً مختلفة ، لكن لا يعرف أنَّ الثمار هناك هي نفسها التي هنا.

أو أنَّ أصحاب الجنة إذا ما أرادوا الاصغاء إلى الأنغام والموسيقى ، أخذت غصون الاشجار تتلاطم وتخرج من نفسها أصواتاً وأنغاماً.

وعلى هذا ، فنحن ندرك وجوه الشبه بين أشجار الدنيا والآخرة ، لكنا لا ندرك ولا نشعر بها ولا بما يتولد من أنغام وموسيقى وثمار.

إيضاح

مع الالتفات إلى المقدمة ، فإنَّ الآية من جملة الآيات التي هي في صدد عرض تشابيه للجنة ، وبيان أو ترسيم موقع المتقين فيها. من هنا كان خبر الآية محذوفاً ، أي أنَّ الآية كانت بهذا الشكل : (مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كجنةٍ تجْرِي ...) أي أنَّ في الجنة بساتين ليست مثل بساتين دنيانا ؛ لأنّه أولاً : أن منابع المياه فيها ذاتية وتلقائية ، وتوجد عين قرب كل شجرة ولا حاجة لتأمين المياه من الخارج. ثانياً : أنَّ ثمار الجنة دائمية وفي جميع الفصول. ثالثاً : أنَّ ظل الاشجار هناك دائمي وخالد ، أي أنَّ أوراق الاشجار لا تتساقط أبداً.

الخطابات المهمة للآية

المستفاد من الآيات العديدة هو كون التقوى هو مقياس الثواب الإلهي في الآخرة.

٢٣٥

في مجال التقوى دوّنت البحوث الكثيرة ، ولأجل الاستيعاب الأكثر لهذا المضمون ، الذي هو جواز دخول الجنة وميزان قيمة الإنسان وزاده في الآخرة نشير إلى روايتين وردتا هنا :

١ ـ يقول الرسول في حديث مختصر وذات مغزى عميق في نفس الوقت : «تمام التقوى أن تتعلّم ما جهلت وتعمل بما علمت». (١)

بناءً على هذه الرواية ، لا يُعدُّ الجهل عذراً ، بل على الإنسان أن يتعلّم ما يجهل ليعمل بما علم ويُعاتب الذين يبرّرون أعمالهم بأنهم جهال ، ويقال لهم : لماذا لم تتعلموا؟ (٢)

٢ ـ يقول الإمام علي عليه‌السلام في حديث مختصر ومميّز : «من ملك شهوته كان تقياً». (٣)

إنَّ الإنسان بتقواه يتمالك غضبه وشهوته وحب الجاه والمقام وحب الشهرة والتطرّف و... فهو سيتحكم بهذه الامور جميعاً.

إنَّ هذين الروايتين يعرضان تعريفاً جميلاً وجامعاً ومفهوماً للتقوى ، ينبغي السعي والعمل لأجل تحقيق ما ورد في هذين الروايتين الشريفتين وبخاصة في شهر رمضان المبارك ؛ باعتبار أنَّ التقوى هي جواز دخول الجنّة وزاد الآخرة.

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٤١٧٣ ، الحديث ٢٢١٧٩.

(٢) بحار الانوار ٢ : ٢٩ و ١٨٠ ، ٧ : ٢٨٥.

(٣) ميزان الحكمة ، الباب ٤١٧٣ ، الحديث ٢٢١٧٤.

٢٣٦

المثل الثالث والعشرون :

أعمال الكفّار

يقول القرآن في الآية ١٨ من سورة إبراهيم :

(مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم أعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيءٍ ذَلك هُوَ الضَّلال البَعِيْدُ)

تصوير البحث

تناولت الآية بيان أعمال الكفار الصالحة ، وتلمّح بأنَّ أعمالهم بسبب كفرهم غير مقبولة. من هنا كان احتمال حساب أعمالهم الصالحة بمعزلٍ عن كفرهم أمراً مرفوضاً.

ارتباط آية المثل بسابقاتها

الآيات السابقة تناولت دراسة من اصطلحت عليه (جَبَّارٍ عَنِيْدٍ) وهو الشقي الذي يأس من ألطاف الله ورحمته ، وأنَّ جهنم ستتطلع إلى أمثال هذا ، وسيسقى من ماء متعفن ، نتنة رائحته. وهنا يطرح سؤال وهو : هل سيُتغاضى عن أعمال الكفار الصالحة؟

المتعارف أنَّ الأعمال الصالحة قد تصدر من هؤلاء الاشقياء ، فيقال عن فرعون مثلاً : كان له مطبخ واسع يغذي به بيوت المدينة ، وكان يستفيد الجميع من هذا المطبخ ومن طعامه ، من الفقراء والمرضى والحوامل وغيرهم.

قد تنجز أعمال خيرية مهمة على يد حكامٍ ظلمة ، وهناك الكثير من المساجد التاريخية

٢٣٧

الفخمة التي بنيت على يد هؤلاء الظلمة. إن العتبات المقدسة للائمة المعصومين وغيرهم عليه‌السلام كثيراً ما بُنيت أو عمّرت ووسعت على يد الظلمة ، وكمثال على ذلك المسجد الحرام ومسجد النبيّ حيث وسِّعا من قبل زمرة آل سعود الظالمة ، كما أن كثيراً من المستشفيات المهمة والجامعات الضخمة والمستوصفات والمدارس العلمية وما شابه ذلك بنيت على يد أمثال هؤلاء الظلمة وبأمرٍ منهم ، لكن يا ترى هل أنَّ هذه الأعمال الصالحة والعظيمة تفقد الأثر ولا تفيد صاحبها شيئاً في الآخرة؟ ألا تتغمّد هؤلاء الطاف الله ورحمته بسبب هذه الأعمال الكبيرة؟

إنَّ آية المثل التي سنقبل على شرحها وتفسيرها في الاسطر المقبلة هي بصدد الاجابة على هذا السؤال المقدر الذي قد يخطر في ذهن القارئ للآيات التي سبقتها.

الشرح والتفسير

(مَثَلُ الّذِيْنَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم) إنَّ أمثال القرآن على قسمين : قسم يُضرب على أعمال الإنسان ، وآية المثل هذه من هذا القسم حيث تناولت دراسة أعمال الكفار.

القسم الآخر هو الامثال التي تضرب على الشخصيات ذاتها بأن يشبّه الاشخاص أنفسهم بشيء ما مثل ما مرّ في الآية الشريفة ٢٦١ من سورة البقرة ، حيث شبّهت المنفق بحبة الحنطة التي تنتج سبعمائة حبّة.

على أي حال ، الآية الشريفة تناولت اولئك الذين كفروا بربهم ، لكن الملفت في الآية هنا هو أنَّها استخدمت مفردة (رب) بدل مفردة (الله) ، وكأنها تريد الاشارة إلى الآثار الربوبية في كل مكان ورحمة الله وبركاته على جميع أعضاء جسم الإنسان وفي جميع اللحظات ، فهي تريد القول للإنسان : إنَّك تفيد من نعم الله ـ التي يكفي واحدة منها لشكر الله ـ كل يوم وعلى طول العمر ، رغم ذلك تكفر وتجحد به ، مع أنَّ على الإنسان أن يكون شاكراً لله على نعمه دائماً.

(أعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) الآية شبَّهت أعمال الكفار الصالحة بالرماد ، ولم تتطرق الآية إلى أعمال الكفار السيئة ، وذلك لأنَّها دون القيمة التي تستدعي التطرّق لها وبحثها.

٢٣٨

فوائد الرماد

نشير هنا إلى بعض من فوائد الرماد وآثاره :

١ ـ إذا خلط الرماد بالتربة سينتج سماداً مفيداً جداً ، ولهذا نرى البعض يحرق ما تبقى من المزارع بعد الحصاد بغية تبديله إلى سماد جيد.

٢ ـ إنَّ الرماد ينظف الاشياء الوسخة ويذهب بصدئها ويصقلها ، وفي الازمنة السابقة كان الناس يصقلون بعض الصفائح الفلزية بالرماد لكي يصنعوا منها مرآة شفافة.

٣ ـ الفائدة الاخرى للرماد أنّه يحافظ على النار وحرارته ، بحيث إذا ألقينا التراب على النار أنطفأت النار ، لكن إذا ألقينا رماداً عليها ضلّت النار تحافظ على نفسها وما انطفأت إلّا في زمن متأخر.

(اشْتَدّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ على شيءٍ مِمّا كَسَبُوا) من الواضح أنَّ اليوم اذا كان عاصفاً أخذ الريح معه كل ما كان خفيفاً ودقيقاً ، وكلما كان ذلك الشيء أدق كلّما صعب جمعه ، أما اذا كان رماداً فاستحال الجمع ؛ وذلك لصغر الأجزاء المكونة للرماد وتلوّنها بلون البيئة التي تسقط فيه. وإذا اجتمع اهالي المدينة كلهم ـ لا صاحب الرماد فحسب ـ ما استطاعوا أن يجمعوا شيئاً مما فقدوه من الرماد ولو بمقدار مثقال.

إنّ عاصفة الكفر والجحود تعمل بأعمال الكافر كما تعمل العاصفة الطبيعية بالرماد ، بحيث لا يبقى شيء من ذلك العمل للكافر يتمتع به.

(ذَلك هُوَ الضّلَالُ البَعِيْدُ) إنَّ انحراف هؤلاء عن الصراط المستقيم كالانحراف والضلال البعيد عن الطريق الذي يصعب جبرانه والرجوع عنه نحو الطريق الصواب.

خطابات الآية

١ ـ الايمان شرط صحة الأعمال

رصيد الأعمال الحسنة والصالحة هو الايمان ، فاذا لم يقترن العمل بالايمان فانه سيفقد قيمته.

ذكر الفقهاء : أنّ الايمان هو شرط قبول العبادة ، بل شرط صحتها ، أي أنَّ الصلاة والصوم

٢٣٩

والحج والانفاق وإعانة المحتاجين وغير ذلك من الاعمال تكون فاقدة للقيمة إذا لم تتزامن مع الإيمان.

ولقد طرح نفس البحث في قضية (الولاية) فاعتقد البعض أنَّ الولاية شرط قبول الأعمال ، أي رغم أنَّ الأعمال ـ من وجهة نظر شيعية ـ صحيحة إلّا أنَّ الله لا يقبلها إذا لم تقترن بالاعتقاد بالولاية. وقد يعتقد البعض أنَّها شرط القبول والصحة أي لا يسقط التكليف من ذمة من لا يعتقد بها وإن جاء به.

في هذا المجال وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة نأتي بنموذج واحدٍ منها :

يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : «لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقُّ في ثوابه أبداً». (١)

إنّ هذه الآية طرحت ذات البحث في أصل الايمان بالله ولمحت بأنّ الذي لا ايمان له لا ثواب له رغم اتيانه بأفضل الأعمال ، وقد طرح هذا البحث في آيات عديدة أُخرى نشير إلى بعضٍ منها :

الف ـ لقد جاء في الآية ٢٦٤ من سورة البقرة التي مرّ الحديث عنها ما يلي :

(... كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمّا كَسَبُوا واللهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِينَ)

باء ـ جاء في الآية ٣٩ من سورة النور :

(وَالّذِيْنَ كَفَرُوا أعْمَالُهُم كَسَرَابٍ بَقِيْعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتّى إذا جآءَه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَه فَوَفّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ)

جيم ـ ويقول الله في الآية ٢٣ من سورة الفرقان :

(وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورَاً) وهذه الآية كغيرها لم تمنح أي قيمة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٩١.

٢٤٠