أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

المثل الخامس عشر :

البلد الطيّب

يقول الله في مثله الخامس العشر ، في الآية ٥٨ من سورة الاعراف :

(وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإذْنِ رَبِّهِ وَالّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلَّا نَكِداً كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)

تصوير البحث

إنَّ هَذه الآية الشريفة التي جاءت مباشرة بعد المثل الرابع عشر هي في الواقع استمرار لبحث المعاد وجواب عن سؤال مقدّر قد تتداعى معانيه في أذهان البعض ، وسنأتي به في الصفحات المقبلة.

إشارة للمثل السابق

في المثل الرابع عشر (الآية ٥٧ من سورة الاعراف) جاء القرآن في بيان جميل ببرهان على المبدأ وأصل التوحيد ، كما استدل على المعاد وعالم الاخرة.

إنّ حركة الرياح واجتماع الغيوم الثقيلة ونزول المطر وإحياء الأرض بعد مماتها ، وتوفّر الثمار المتنوّعة والأزهار والنباتات والاشجار المختلفة كلها أدلة قاطعة على التوحيد ، وهي أدلة لو لم يكن غيرها لكانت كافية في إثبات المراد.

مِمَّا لا شك فيه أنَّ آثار موت تبدو على البستان كله بحلول فصل الشتاء بحيث تصبح

١٦١

الاشجار وكأنها مهمومة وجرداء من الروح ، لكن بعد فترة من الزمن أي بعد حلول فصل الربيع تبدأ الحياة الجديدة تنبض في البستان ، فتخضرّ الاشجار وتتفتح الزهور وتنمو النباتات المختلفة وتثمر الاشجار فواكه حامضة وحلوة بألوان متنوّعة بحيث تضفي طراوة على روح الإنسان.

هذه الطبيعة المدهشة دليل قاطع على وجود الله القادر المطلق ، واذا ما فكّر الإنسان بورقة خضراء فقط لكان ذلك كافياً لمعرفة الحق.

إنَّ هذه الورقة ـ كما يقول العلماء ـ إذا قصت من العرض فيبدو فيها سبع طبقات ، كل طبقة منها تحضى ببناء خاص ومهام خاصة ، إذا دققنا قليلاً نجد خطوطاً رَفِيعة على هذه الورقة الظريفة وكأنها تشبه تأسيسات الماء في مدينة ، وهي تتكفل بايصال الأغذية والماء إلى الاقسام المختلفة من الورقة. مَن الذي خلق هذه الطبقات الظريفة والجميلة؟! يا له من خالق حكيم صمَّم هذه الشبكة العظيمة والدقيقة. إنَّ الورقة وما فيها يُعدُّ كتاباً لمعرفة الخالق لمن كان أهلاً للعلم المعرفة.

إذن ، صدر الآية يدل على التوحيد ، أما ذيلها (كَذِلك نُخْرِجُ المَوْتَى) فيدل على مسألة المعاد ويرشدنا إليها.

الشرح والتفسير

كما قلنا سابقاً : إنّ الآية الشريفة جواب لسؤال مقدّر يمكن أن يتداعى في ذهن الذي يلتفت إلى الآية السابقة ، وهو : إذا كان الماء واحداً والهواء واحداً والتراب واحداً فلما ذا تنبت الزهور والنباتات في بعض البقاع ، وتنبت الأدغال والأشواك في البعض الآخر؟ وإذا كان وابل الرحمة الإلهية يصبُّ على القلوب جميعاً بشكل متساوٍ ، فكيف أنَّ بعض القلوب تهتدي وتكون مصداقاً للبلد الطيّب وبعضها الآخر يكون مصداقاً للبلد الخبيث ؛ لأنها ظلّت ولم تهتدِ؟

إنّ الآية في صدد الأجابة على هذا السؤال ، حيث تقول : (وَالبَلَدُ الطَّيِّبَ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بإذنِ رَبِّهِ) فإنَّ التربة الطاهرة وغير المالحة تكون مناسبة ولائقة وتُخرج باذن الله نباتات مناسبة وجيّدة ، كذلك القلوب المستعدة والطاهرة ينمو فيها الثمار الحلو من الاخلاص والصفاء ، ذلك كله بوحي من الله.

١٦٢

(والَّذي خَبُثَ لا يَخْرِجُ إلَّا نَكِداً) فإنَّ الأرض غير المناسبة لا تنبت إلّا النكد. والنكد يعني الإنسان البخيل ، ويُطلق على النباتات غير المفيدة التي تنمو في الأراضي المالحة. فكما أنَّ البخيل لا يصل نفعه إلى غيره ، كذلك الأراضي المالحة لا يخرج منها الشيء المفيد ولا ينتفع بها أحد.

(كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي أنا نبيّن آيات الله للناس بعبارات وأمثله بسيطة ليستفيدوا منها ويشكروا ربّهم عليها. وعلى هذا ، فلا اشكال على وابل الرحمة الإلهيّة ولا على الوحي السماوي ؛ وذلك لأنَّ هذين الرحمتين تنزلان على القلوب كلها بشكل متساوٍ ، واذا كان هناك قصور أو تقصير فمن نفس القلوب والأراضي ذاتها ، فإنَّ بعض الأراضي غير مستعدة وغير مؤهّلة لنمّو النباتات فتنمو فيها الأشواك والأدغال فحسب ، كذلك بعض القلوب فإنَّها غير مؤهلة للهداية وترى نفسها في غنى عن الوحي الإلهي.

لِمَن هذا المثل؟

هناك بحث في هذا المجال بين المفسرين ، فالكثير منهم يعتقد أنَّ الآية جاءت في الكفار والمؤمنين ، أي شُبِّه الوحي الإلهي هنا بالغيث ، باعتباره ينزل على جميع القلوب ، لكن لا يفيد منه إلّا ذلك البعض الذي يكون مصداقاً للبلد الطيّب ، أي يحضى بقلب طاهر ، وتكون ثمار هذه الاراضي الطاهرة هي الاخلاق الحسنة والايمان القوي والشوق إلى أولياء الله ، والاخلاص في العمل ، والعمل بما تستدعيه الوظيفة و... وفي مقابل هؤلاء هم الكفّار الذين قلوبهم تشبه الأراضي الملوّثة التي لا تستفيد من المطر شيئاً.

خطابات الآية

١ ـ فاعلية الفاعل وقابلية القابل كلاهما ضروريان

إنَّ الآية الشريفة وكذا آيات أخرى تشير إلى مطلب مهم ، وهو : ضرورة توافر شيئين لبلوغ الكمال :

الف ـ فاعلية الفاعل.

باء ـ قابلية القابل.

١٦٣

لأجل بلوغ الكمال والرقي ينبغي توافر العوامل كما ينبغي توفير الأرضية. وعلى هذا ، ففاعلية الفاعل (الغيث) ليس كافياً ، بل ينبغي أنْ يَكُون القابل قابلاً (استعداد الأرض وشأنها) فإنَّ المطر لو هطل مدة مأة عام على الأرض المالحة لما أنبتت هذه الأرض ولا زهرة واحدة.

إنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما دعى سلمان وأبا ذر والمسلمين الآخرين للإسلام كذلك دعى أبا جهل وأبا لهب وباقي الكفار ، فالقلب الطاهر لسلمان أنبت الإيمان ، لكنّ الدعوة لم تنبت في قلوب أبي جهل وأبي لهب إلَّا البخل والبغض.

٢ ـ مردودات القرآن والوحي على الكافر عكسية

آيات القرآن في بعض الأحيان لا أنها لا تكون هادية فحسب ، بل قد تكون ضالة لأولئك الذين ساءت طينتهم من الكفار ، فإنّهم بسماعهم للآيات يزدادون ضلالة.

إنّ هذا الأمر بيّنته آيات من القرآن ، منها الآية ١٢٤ و ١٢٥ من سورة التوبة : (وإذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ أيُّكُم زَادَتْهُ هذِهِ إيمَاناً فأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فزَادَتْهُم إيْمَاناً وَهُم يَسْتَبْشِرُونَ وأمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُم رِجْسًاً إلى رِجْسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ)

سؤال : كيف يمكن للآيات القرآنية المنيرة أن تكون سبباً لضلال البعض؟

الجواب : أنّ القرآن المجيد بمثابة المصباح الذي اذا وقع بيد أحد العلماء أفاد منه لأجل العلم والاكتشاف والاختراع والتقدّم ، وهو بذاته اذا وقع بيد لصّ أفاد منه لأجل سرقة أشياءٍ ثمينة ، وبذلك تزداد ذنوبه وآثامه.

الإشكال هنا ليس من المصباح ذاته ، بل من قابلية القابل ، كذا الحال بالنسبة للغيث حيث إنتاجه يتوقف على نوعية الأرض ، فاذا كانت جيدة نبتت فيها الزهور والنباتات الصالحة واذا كانت مالحة وغير مؤهلة نبت فيها الأدغال والأشواك.

(فَزَادَتْهُم رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ) فإنَّ الآية اذا نزلت فزعوا للمخالفة والعناد والعداوة ، لذلك لا عجب إذا قلنا : إنَّ آيات القرآن قد تسبب للضالين ضلالة أكثر.

١٦٤

الناس ثلاثة أصناف

لإِيضاح هذا المطلب (الذي يتناول قابليات الناس المختلفة) نأتي بكلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام مخاطباً فيه كميل بن زياد بعد ما دعاه إلى المقبرة ، وعند بلوغهما الصحراء قال الإمام له بعد أن تأوّه : «يا كميل بن زيادٍ إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها».

وكمثال نقول :

إنَّ الناس يختلفون في إفادتهم من المطر ، واحد منهم يفيد من المطر بمقدار بحيرة ماء ، وذلك لسعة ظرفيته والآخر يفيد منه بمقدار كأسٍ صغير ، وذلك لأنه لا يستوعب أكثر من ذلك. وقد يكون هناك شخص لا يفيد من المطر أبداً ، لأنه قد قلب إناءه على ظهره. والمثال يوضح أنَّ الإشكال ليس من جانب الله بل من جانب الأوعية التي تُهيّئ للافادة من ماء المطر .. ثمّ يخاطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كميل قائلاً : «فاحفظ عنّي ما أقول لك النّاس ثلاثة : فعالم ربّاني ومتعلم على سبيل نجاةٍ وهمجٌ رُعاعٌ» أي أنَّ الناس ثلاثة أصناف :

١ ـ الصنف الأول هو صنف العلماء الذين طووا طريق الحق والحقيقة ويسعون لارشاد الناس وتربيتهم.

٢ ـ والثاني هم الذين يفقدون العلم لكنهم يسعون في سبيل تحصيله العلم وكسب المعرفة.

٣ ـ والثالث هم الحمقى من الناس الذين لا يعلمون ولا يسعون لأن يعلموا ولا يسألون أهل الطريق لإرشادهم إليه.

يوضح الإمام خصال الصنف الثالث في أربع :

الف ـ أتباع كلّ ناعق ، أي يتّبعون أصحاب الرايات المختلفة دون علم وبصيرة.

باء ـ يميلون مع كلّ ريح ، فهم كالريح تهزّهم الدعوات المختلفة وتميلهم إلى جنبها ، ومثلهم كمثل الذين قاتلوا تحت راية الرسول في عصره ، وقاتلوا تحت راية معاوية بعد وفاته ، ولو كان الأجل يسمح لهم لقاتلوا تحت راية يزيد كذلك ؛ وذلك كله لأجل أن الريح آنذاك كان بهذا الاتجاه.

جيم ـ لم يستضيئوا بنور العلم ، فهم المستضعفون المحرومون من العلم.

دال ـ لم يلجؤوا إلى رُكن وثيق ، أي لا أنهم يفقدون العلم فحسب ، بل لا يعتمدون على أعمدته المحكمة. (١)

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٤٧.

١٦٥

إنَّ الصنف الثالث وهم ذووا الأوعية الصغيرة أشخاص خطرون ، كما أنَّهم مصداق للآية الشريفة (والَّذي خَبُثَ) ، إلّا أنَّ الصنف الأوّل والثاني مصاديق للآية الشريفة : (البَلَدُ الطيَّبُ)

الفاعلية اكتسابية أم جبرية؟

قابلية القابل ـ التي هي شرط الكمال ـ اكتسابيه أم جبرية؟ وبعبارة أخرى : هل أنّ الله خلق بعضاً بقابلية ضخمة وخلق آخرين مع قابلية ضعيفة؟ إنّ قابلية القابل اكتسابية لا جبريّة ؛ وذلك لأنّ القول بجبريتها يعني عدم ترتب الذنب على الشخص الذي ينبت قلبه الرياء بدل الاخلاص ، وما عليه من عقاب ، كما أنّه لا فائدة في بعثة الأنبياء.

من هنا نقول : إن الإنسان كلّما سعى لكسب التقوى والمعرفة الإلهية أكثر ، كلّما استعدّ قلبه أكثر لقبول الوحي الإلهي والآيات القرآنية.

إنّ القرآن يُوكّد على كون الإنسان مخلوقاً بأفضل شكل وصورة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أحْسَن تَقْوِيمٍ) ، (١) ووفقاً لهذه الآية فانه لا فرق في خلق الناس ، والهداية والضلالة يتوقفان على الإنسان ذاته. وحتى الشيطان لم يُخلق خبيثاً ، ولذلك كان في صفوف الملائكة وعبد الله ستة آلاف عاماً. (٢)

نعم ، انَّ الناس يختلفون عن بعضهم البعض ، ليس بمعنى أنَّ بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر خلق سيئاً ، بل في أن بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر أحسن ، لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الناس معادن كمعان الذهب والفضة». (٣)

في النتيجة لم يخلق إنسان شقياً أو خبيثاً ، وقابلية القابل اكتسابية لا جبرية. إنَّ المطر يهطل شفافاً وزلالاً لكنّه يتسخ عند ما يلتقي بالأرض الوسخة ، لكنه يبقى نظيفاً عند ما يقع على الأرضي النظيفة ، فيبقى على فطرته وطهارته.

__________________

(١) سورة التين الآية ٤.

(٢) ميزان الحكمة ، الباب ٢٠٠٥ ، الحديث ٩٣٦٥.

(٣) بحار الأنوار ٥٨ : ٦٥.

١٦٦

إنّ البيئة الموبوئة والكتب المنحرفة والمفاهيم الفاسدة والأصدقاء السيئين والعائلة غير السليمة هذه كلها بمثابة الأرض الملوّثة ، تلوّث قلب الإنسان الطاهر وفطرته النقية.

أيُّها الشباب الاعزة! يا أمل الإسلام والثورة والوطن!

إن الله خلقكم كقطرة المطر الشفافة الطاهرة ، إسعوا للحفاظ على هذه الطهارة ، واحذروا معاشرة صديق السوء ، لأن هذا الصديق قد يغيّر مستقبل الإنسان بالكامل.

من وجهة نظر الإسلام ، ليس أداء الذنب لوحده معصية ، بل الحضور في مجلس يرتكب فيه الذنب يُعدُّ محرماً ومعصية. أي إذا حضر الإنسان في مجلس يُعصى فيه الله فإنَّ حضوره في هذا المجلس يُعدُّ معصية كذلك ، رغم أنّه لم يفعل الذنب الذي اقترف في المجلس ، وذلك لأنَّ المحيط الملوّث يؤدي إلى التلوث تدريجياً ، ويفقد الذنب آنذاك قبحه تدريجياً الأمر الذي قد يؤدي إلى اقتراف الذنب في المستقبل. إنَّ المتعاطين للمخدرات تعاطوها بهذا الشكل وبهذا الاسلوب.

وعلى هذا ، ينبغي السعي لأجل الحفاظ على نقاء الباطن ، وتهيئة أرض القلب وإعدادها للافادة من وابل الرحمة اقصى إفادة.

١٦٧
١٦٨

المثل السادس عشر :

العالم المنحرف

يقول الله تعالى في الآيات ١٧٥ و ١٧٦ و ١٧٧ من سورة الأعراف في مثله السادس عشر :

(واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَع هويَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلك مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ)

تصوير البحث

الحديث في الآيات الثلاث عن العالم الذي كان في الطريق الصواب والصحيح وبلغ في هذا الطريق مقامات رفيعة ، إلّا أنّه تدريجياً انحرف وطُرد من الساحة الربانية ، فيشبّه الله هذا العالم بالكلب ليعتبر الآخرين منه.

شأن نزول الآية

هناك بحث وخلاف بين المفسرين حول المراد من هذا العالم الذي تحدثت عنه الآية. وأكثر المفسرين يعتقد أنَّه (بلعم بن باعورا) فهو من علماء بني اسرائيل وقد نال بعبادته مقامات عليا إلى مستوى انه حصل على اسم الله الأعظم ، وأصبح مستجاب الدعوة. وعند ما بعث موسى (على نبينا وآله وعليه‌السلام) نبيّاً ونال هذا المقام الشامخ ، كانت بعثته قد اثارت حسد بلعم ،

١٦٩

وقد كان الحسد يزداد كل يوم ، ويأكل حسناته شيئاً فشيئاً ، كما أنَّ هذا الحسد من جهة ، وحب الدنيا من جهة اخرى بلغا به إلى مستوى أن لجأ إلى فرعون وبلاطه ليصبح من وعّاظ السلاطين. ففقد بذلك كل افتخاراته وكانت عاقبته السوء. فبيّن القرآن قصة هذا العالم المنحرف ليكون عبرة للآخرين.

يعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم في الآيات هو (أمية بن الصلت) فهو من الشعراء المعروفين في عهد الجاهلية ، أسلم في البداية ، لكنه بعد ذلك شاكس وخالف ؛ حسداً للرسول ومقام نبوّته.

ويعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم هنا هو (أبو عامر النصراني) فقد كان راهباً مسيحياً أسلم ثم التحق بركب المنافقين ، ثم سافر إلى الروم للتحالف مع سلطانه ، ثمّ رجع إلى المدينة والتحقق بدينه بعض المنافقين ، وبنى مسجد (ضرار) المعروف.

إنَّ القول الأوّل هو أصح الثلاثة ، والآخران مستبعدان من حيث أنَّ صدر الآية (واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الّذي ...) قرينة على حكاية قصة تتعلق بالأقوام السالفة. (١)

الشرح والتفسير

(واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الَّذي آتَينَاهُ آياتِنَا) يطلب الله من الرسول أن يحكي للأصحاب قصة ذاك العالم.

المراد من الآيات هو أحكام التوراة ومواعظها ، فإنَّ هذا العالم كان عالماً باحكام التوراة ومواعظها ، كما كان عاملاً بها. ويعتقد البعض أنَّ المراد من الآيات هو الاسم الأعظم ، ولهذا كان بلعم بن باعورا مستجاب الدعوة وكان صاحب نفوذٍ وجاه رفيع في المجتمع.

(فانْسَلَخَ مِنْهَا فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِيْنَ)» إنَّ مادة السلخ تعني نزع جلد الحيوان ، ولذلك قيل لمن ينزع جلد الخروف سلّاخاً. إلّا أنَّ كلمة (فاتبعه) لها معنيان :

__________________

(١) مما لا شك فيه أنّ الآية تعني كل شخص يحمل نفس المواصفات المذكورة في الآية ، وشأنها شأن باقي الآيات حيث نزلت في مورد خاص لكن شأنها يعم ... وبخاصة بالنسبة للآيات هذه فإنَّ هناك حديثاً للإمام يقول فيه : ((إنَّ الآية تعم جميع أهل القبلة)). للمزيد راجع الأمثل ج ٥ ذيل الآية ١٧٥.

١٧٠

الف ـ تعني تبع ولحق ، أي أنَّ الشيطان جعل العالم تبعاً له.

باء ـ أنَّ الفعل استخدم هنا بمعناه لو كان ثلاثياً مجرداً بحيث يكون المعنى أنّ الشيطان اتّبع هذا العالم ، بعبارة اخرى : أنّه سبق الشيطان في الضلالة ، وتجاوزه مهارة في هذا المجال. مثله مثل ذلك الشخص الذي كان يفعل عملاً قبيحاً جداً بطريقة جديدة وكان يلعن الشيطان دائماً على فعله هذا ، فظهر له الشيطان وقال : اللعن عليك لا عليَّ ، لأني رغم مهارتي في الشيطنة ما كنت أعلم بهذه الطريقة ، بل انت الذي علمتني إياها.

وعلى هذا ، فالآية تعني أنّ بلعم بن باعورا خُلِّي من آيات الله ، وانسلخت هذه الآيات عنه رغم أنَّه كان يحيط بها جميعاً ، لكنها انسلخت واتّبع الشيطان ، أو أنَّ الشيطان اتّبعه ، وكانت عاقبته الشر والشقاء فكان في عداد الاشقياء والضالين.

(وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ واتّبَعَ هَوَاهُ) أي أنا لو أردنا إجباره على البقاء على الحق لفعلنا لكنّا تركناه لنرى ما يفعل باختياره وإرادته ، وذلك لأنَّ في الإسلام الاختيار لا الاجبار ، (إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًاً وإمَّا كَفُورَاً) (١) فالله يستطيع أن يجعل جميع الاعمال من قبيل الحج والصوم والصلاة جزءاً من غرائز الإنسان ، كما جعل الأكل والشرب ، لكنّه لم يفعل ذلك ، بل خلق الإنسان حراً ومختاراً ليكون هناك هداية وتكامل وتقدّم واختبار وثواب وعقاب و... ولكي لا تفقد هذه المفاهيم معانيها.

وفي النهاية يكون معنى الآية هو : أنّا تركنا بلعم بن باعورا إلى نفسه ، إلّا أنَّ هذا العالم المنحرف ـ الذي سبق وأن كان مبلغاً قوياً لموسى عليه‌السلام ـ تبع الهوى والهوس حباً للدنيا وحسداً من موسى عليه‌السلام وانجذاباً بوعود فرعون ، وكان عاقبته الطرد من الساحة الربانية. وعلى هذا ، فإنَّ شيئين كانا سبباً لسقوط بلعم بن باعورا هما : أوّلاً : حبّ الدنيا والميل إلى فرعون. وثانياً : الهوى واتباع الشيطان.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، إنَّ الكلاب عادة ذات منفعة متعارفة يفيد منها الإنسان ولذلك يصح اجراء معاملة عليها في الفقه الإسلامي ، إلّا أنَّ بعض

__________________

(١) الإنسان : ٣.

١٧١

الكلاب تكون مسعورة دائماً إثر ابتلائها بداء الكَلَب ، وهو مرض يجعلها تلهث دائماً وتصيح ، وتفرز سماً ، وإذا عضت الإنسان يمكن أن تؤدي هذه العضة إلى موته أو ابتلاءه بالجنون. والكلاب تُعد حينئذ فاقدة للقيمة لا تُجرى معاملة عليها ؛ لأنَّها تفقد الفائدة اضافة إلى ما فيها من مضايقة للآخرين. علائم هذا المرض في الكلاب هو أنَّها تفتح فمها وتحرك لسانها دائماً ؛ وذلك لتخفِّف من الحرارة الداخلية التي تشعر بها ، وحركة اللسان عندها بمثابة المروحة التي تدفع بالهواء لتبرّد الجسم. ومن علائمه أيضاً العطش الدائم ... وعلى كل حال يكون هذا الكلب مهاجماً.

والقرآن بمثله الجميل هذا يشبِّه العالم المنحرف بالكلب الذي يفقد القيمة ويحمل أخطاراً كثيرة ... فحب الدنيا والهوى والهوس يُحرف العالم ويفقده البصر والبصيرة بحيث يصبح لا يميز صديقه عن عدوّه.

(ذَلك مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١) أي أنَّ هذا مثل المجتمعات التي كذّبت بآيات الله فاقصص ـ أيها النبيّ ـ على الناس وبخاصة اليهود والنصارى هذه القصص ليعتبروا منها ، ولكي يعلموا أنَّهم إذا كذّبوا بايات الله فإنَّ مصيرهم سيكون كمصير بلعم بن باعورا.

خطابات الآية

خطر العلماء المنحرفين

لقد سقط بلعم بن باعورا من مقامه الرفيع من جراء حبه للدنيا وتبعيته للشيطان ، وقد كان سقوطه بدرجه أن شبّهه القرآن بالكلب المتوحش الذي لا يرحم شخصاً وكأنّه مجنون. إنّ حب الدنيا والهوى والتبعية للشيطان أجنّت عالماً كان قد حصل على الاسم الأعظم ، وكان جنونه بشكل يبدو عطشاناً للدنيا دائماً ولا يبدو مرتوياً منها أبداً ، إنَّ عالماً مثل هذا يحمل معه

__________________

(١) إنّ هذا الجزء من الآية يدل على حكايتها للعصور السالفة لا عصر النبيّ ، لذا كانت الآية تدل على بلعم بن باعورا لا غيره.

١٧٢

أخطاراً جمّة نشير إلى بعض منها هنا :

الف ـ أنَّ عالماً كهذا يكون في خدمة الظلمة ، كما هو الحال بالنسبة إلى وعّاظ السلاطين الذين كانوا في خدمة أهل الجور من الحكام والملوك. ومن الواضح أنَّ خطر علماءٍ كهذا لا يقل عن خطر الظلمة ذاتهم.

أراد سلطان في العصور الماضية أن ينفذ مشروعاً خاصاً ، فطلب أحد علماء البلاد يسأله عن رأي الشارع في المشروع ، فأجابه العالم : (إن رأي الشارع متسع ، والأمر يتوقف على إرادة السلطان) أي يمكنه أن يجعل مخرجاً شرعياً لكل ما يريد السلطان.

نعم ، انَّ علماء كهذا يمكنهم أن يبرروا ظلم السلاطين الظلمة!

هؤلاء هم الذين يحكّمون أسس الظلم ، ويصرفون الناس عن أي رد فعل تجاه الظلم. إن علماء كهؤلاء ، استطاعوا فترة حكومة بني امية وبني العباس أن يزوّروا أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ويمتدحوا في بعضها سلاطين ظلمة من سلسلة بني العباس وبني امية!

باء ـ أنّ علماء كهذا يمكنهم أن يزلزوا الأسس الاعتقادية للناس ؛ فإنَّ الناس العوام ، عند ما يشاهدون عالماً غير عامل ، يتزلزل اعتقادهم في الدين ، بل قد يترددون في حقائق من قبيل الجنة والنار ويوم الحساب والقيامة فيقولون لأنفسهم : (إذا كانت هناك قيامة فالآمرين بالدين والتدين أولى بأن يعملوا لذلك اليوم).

وعلى هذا ، فالسلاطين إذا أظلموا على الناس دنياهم ، فالعلماء المنحرفون يُظلمون على الناس أُخراهم.

جيم ـ العالم المنحرف يجرُّ الناس نحو الذنب. إنَّ الدول المخالفة للإسلام أسسوا في القرن الأخير ـ لأجل مواجهة الإسلام ـ فرقة ضالة ، ولأجل تقوية هذه الفرقة ربُّوا في أحضانهم عالماً منحرفاً استطاع تأليف كتاب أيّد فيه الفرقة واستفاد في تأييده للفرقة من الآيات ، وكان كتابه بدرجة من الضلالة بحيث عدّت خدمته للفرقة أكثر من خدمة مؤسسها لها.

من هنا على متعلمي المعارف الإلهية أن يعلموا أن سبب هكذا انحراف هو عدم الإخلاص ، فإنَّ بعض الطلاب يبغي العلوم لا لوجه الله تعالى بل لأغراض دنيوية مثل الهوى والهوس وحب الدنيا ، وبهذه الأغراض تتهدم آخرته لتصبح جحيماً.

١٧٣

الإنسان مهما بلغ من مقام ، عليه أن لا يرى نفسه في أمان من وساوس الشيطان ، فإنَّ هذا الاحساس هو بداية الانحراف والسقوط ، بل على الإنسان أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء ، الخوف من الهوى والهوس والوساوس الشيطانية ، والرجاء والأمل برحمة الله ولطفه ، فهو أرحم الراحمين.

عالم الدين من وجهة نظر الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام

ينقل الفقيه الشيخ الأعظم الأنصاري ـ رضوان الله عليه ـ في كتابه القيّم (فرائد الأصول) حديثاً جميلاً من التفسير الجليل المنسوب للإمام الحسن العسكري عليه‌السلام نأتي به هنا :

(ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه‌السلام في قوله تعالى : (وِمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ ...) الآية من أنَّه قال رجل للصادق عليه‌السلام : فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعون ، ومن علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلدون علمائهم؟ فإنْ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال عليه‌السلام : «بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة. أمّا من حيث استووا فإنَّ الله تعالى ذمَّ عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علمائهم. واما من حيث افترقوا فلا».

قال : بيّن لي يا بن رسول الله!

قال : «إن عوام اليهود قد عرفوا علمائهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشاء وتغيير الاحكام عن وجهها ... فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بها بما يؤديه إليهم عمّن لا يشاهدوه. ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة ... فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم. فأمّا من

١٧٤

ركب من القبائح ... وآخرون يتعمدون الكذب علينا ... فضلوا أو أضلوا اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد (لعنة الله عليه) على الحسين بن علي عليه‌السلام». (١)

سؤال : لماذا كان العلماء المنحرفون أسوأ حالاً من جنود يزيد؟

الجواب : إنَّ جند يزيد أعلنوا بصراحة عدائهم ، إلَّا أنَّ علماء السوء بمثابة الذئاب الذين تقمصوا قمصان الرعاة وهم يكيدون بالدين باسم الدين. وواضح أنَّ خطر هؤلاء أشدّ من خطر من أعلن عدائه بصراحة.

إنَّ ما يفتخر به الشيعة هو أنّهم خلال العصور الماضية كانوا تبعاً للمراجع والعلماء الذين اجتمعت فيهم شرائط الزعامة حسب ما أراده الأئمّة عليهم‌السلام ، وأنَّهم كانوا ولا زالوا تحت مضلّة وألطاف هؤلاء العظماء.

ولا شكّ أن تقليد علماء زهّاد ذوي بصيرةٍ لا أنّه غير مذموم فحسب بل واجب حسب ما نستشفه من آيات القرآن وروايات أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٥٨ ، طبعة المجلد الواحد ، رغم أنَّ هناك بحثاً في سند الرواية ، لكنها ـ كما قال الشيخ الأعظم ـ من حيث النص بدرجة من الاستحكام والجمال حيث تجعلنا نطمئن بمصدرها ، كما هو الحال بالنسبة لمضمون نهج البلاغة والصحيفة السجادية ، فان مضامينها تكشف عن صحة مصادرها.

١٧٥
١٧٦

المثل السابع عشر :

مسجد ضرار

يقول الله تعالى في الآيات (١٠٧ ـ ١٠٩) من سورة التوبة :

(والّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْراً وَتَفْرِيْقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحلِفُنَّ إنْ أرَدْنَا إلَّا الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فيه أبَدَاً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ أحَقُ أنْ تَقُومَ فيهِ فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ أفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه على تَقَوى مِنَ اللهِ ورِضْوَانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ أسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)

تصوير البحث

إنَّ الآيات الثلاث التي تعتبر المثل السابع عشر للقرآن تحدثت عن مسجد ضرار الذي اسّسه أعداء الدين لأجل مواجهة الدين الجديد واعتبروه متراساً ومرصداً محكماً لهم لمواجهة الدين بالدين.

شأن النزول

أشار أكثر المفسرين إلى شأن نزول الآية ، (١) ونحن هنا نذكر شأن النزول أيضاً :

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ٩ : ٣٩١ ، وكذا تفسير مجمع البيان ٥ : ٧٢.

١٧٧

إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا ، وبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا : نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، وقيل : خمسة عشر رجلاً ، منهم : ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير ونبتل بن الحارث فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا.

فلّما بنوه أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية ، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا وتدعو بالبركة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه» ، فلمّا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

الشرح والتفسير

(والّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل). نعم إنّ جبرئيل عليه‌السلام نزل على الرسول مانعاً إياه عن الصلاة في هذا المسجد ؛ وذلك رغم أنَّ ظاهره للعبادة ، لكن واقعه معبد للأصنام ومركز للتآمر ضدّ المسلمين ، فالآية هنا بيّنت أربعة أهداف من وراء بناء هذا المسجد.

١ ـ (ضِرَارَاً) إي أنَّ مؤسسي هذا المجسد كانوا يستهدفون الإضرار بالمسلمين من خلاله وذلك بجعله متراساً لأعداء الإسلام.

٢ ـ (كُفْراً) إنّ الهدف الآخر لهم من وراء بناء هذا المسجد هو تقوية أسس الكفر ، والمسجد دوره هنا كمركز لدعم الشرك والكفر.

٣ ـ (تَفْرِيقَاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ) الهدف الآخر لهم وهو من أخطر الاهداف عبارة عن إيجاد الفرقة بين المسلمين ، واستهلاك الطاقة الموحدة التي يمتلكونها ، في النزاعات فيما بينهم ، الأمر الذي يُضرّ بالاطراف الإسلامية المتنازعة أكثر من اضراره في شيء آخر ، وهذا مبدأ يحكم جميع الاختلافات.

٤ ـ (إرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل) إي إعداد مركز للاعداء في قلب الدولة الإسلامية ، الأعداء الذين يكنون العداء لله ورسوله من ذي قبل.

١٧٨

أبو عامر النصراني العدّو اللدود للإسلام

عن (مجمع البيان) : «إنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبي المسوح فلمّا قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة حسده ، وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف. فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، وخرج إلى الروم وتنصر وهو أحد المسبيبين والموقدين لحرب أحد.

وسمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا عامر (الفاسق) ، وكان قد أرسل إلى المنافقين ان استعدوا وابنوا مسجداً فإني أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود ، وأخرج محمداً من المدينة ، فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم». (١)

وبعد هذا طلب هؤلاء من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يفتتح المسجد ، لكن جبرائيل نزل ونهاه عن ذلك بهذا الخطاب :

(وَلَا تَقُمْ فِيهِ أبَدَاً) والرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يقم فيه ولم يصلّ فيه أبداً.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيْهِ) أي أنَّ مسجد ضرار ليس محلاً مناسباً لعبادة الله الواحد ، والمسجد المؤهل لذلك يتسم بالسمات التالية :

١ ـ أن يكون أساس تأسيسه هو الإيمان والتقوى ، وهذا القسم من الآية يعلمنا أن يكون أساس تأسيس مراكز مثل الحسينيات والمدارس الدينية والسياسية والاقتصادية والادارية هو الايمان والتقوى ، فهما روح الأعمال.

٢ ـ السمة الاخرى هي أن يكون الحضور من المتقين والطاهرين ؛ وذلك لأن المصلين في المسجد يعدون معرّفاً للمسجد.

إن السمتين حاصلتان في مسجد قبا ، فقد كان أساس تأسيسه الإيمان والتقوى ، كما أنّ مصليه كانوا من المؤمنين عكس ما كان في مسجد ضرار فلا أساسه كان يعتمد الإيمان والتقوى ولا حضوره كانوا من المؤمنين.

الأمر بتخريب مسجد ضرار

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتف بعدم افتتاح المسجد والصلاة فيه ، بل أمر المسلمين بإحراقه ثم

__________________

(١) تفسير الأمثل ٦ : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

١٧٩

تخريب جدرانه وتهيئته ليكون مرمى للنفايات.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرْفٍ هَارٍ)

(الشفا) يعني الطرف من كلّ شيء ، واطلقت هذه المفردة على شفاه الفهم لأجل ذلك.

(الجرف) يعني الجنب فجرف الشيء أي ما يجانبه ولذلك اطلق على شاطئ النهر جرف.

(هارٍ) يطلق على الشيء الآخذ بالسقوط. إنَّ النهر قد يفرغ جرفه من الداخل ليصبح الجرف أجوف ، والإنسان الذي لا يعلم بذلك قد يقدم على المشي على هذا الجرف فيسقط فيه ويغرق.

الله تعالى يشبّه بناء مسجد ضرار ببناءٍ على جرف نهر ، والجرف لا يشرف على ماء النهر ، فانّ ذلك قد لا يؤدي بالإنسان إلى موته وهلاكه الحتمي لانه قد يكون عارفاً بالسباحة ، بل إنَّ هذا الجرف مشرف على جهنّم ذاتها بحيث إذا سقط إنسان فيه فذلك يعني هلاكه الكامل وانتفاء احتمال نجاته ...

وهل الإنسان إذا كان عاقلاً يرضى باقامة بنيانه في أرضٍ رخوة كهذا الجرف ويتحمل ما فيه من مخاطر؟

نعم ؛ إنَّ المسجد الذي أساسه التقوى ورضاء الله فبناؤه يكون محكماً جداً ولا يؤدي بالإنسان إلّا إلى النجاة ، أمَّا المسجد الذي يؤسّس على أساس الكفر والشرك ويكون مقراً للأعداء فهو بدرجة كبيرة من الخطورة ويؤدي بالإنسان إلى السقوط. وحسب ما تذكر الآية إنه سقوط في جهنّم.

هل يمكن العثور على تعبير أجمل ومَثَلٍ أوضح لمصادر الشرك والنفاق مثل التعبير الذي تضمنته الآية الكريمة؟!

خطابات الآية

١ ـ إنّ المستفاد من الآية هو ضرورة مراقبة المسلمين أعمالهم ، وأنَّ الأعداء قد يواجهون الدين بالدين نفسه وبآلياته ذاتها ... ولهذا عند ما نقرأ تاريخ الإسلام نعثر على الكثير من الفرق

١٨٠