أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

والزّمنى (١) فإنّ في هذه الطبقة قانعاً (٢) ومعتراً (٣) واحفظ لله ما استحفظك (٤) من حقه فيهم ، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلّات (٥) صوافي (٦) الإسلام في كل بلد ، فان للاقصى منهم مثل الذي للادنى وكل قد استرعيت حقه ، فلا يشغلنك عنهم بطر (٧) فانك لا تعذر بتضييعك التافه (٨) لاحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك (٩) عنهم ولا تصعر خدك لهم (١٠) وتفقد امور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرغ لاولئك ثقتك». (١١)

ما أحسن هذا. إنَّه حديث جميل حقاً! فهو كالشمس التي لا زالت تضيء رغم مضي أكثر من ألف سنة على عمره وكل يوم يزداد ضياؤه. أحسن قائل هذا الحديث أحسن وأحسن ألف مرة. إنه حديث أهل لأن يكتبه الحكام بماء الذهب ليجعلونه على رأس قائمة اعمالهم.

المدهش هو أنّ اسوة الأخلاق هذه ، شخصية كانت حاكمة ، ورغم ذلك توصي بالناس وبخاصة المستضعفين والمحرومين منهم خيراً. إنَّ رِجَال الدول الغربية حالياً يمثلون قدوة أخرى ونوع آخر من الحكام حيث يرتضون مقتل الالاف من المحرومين لاجل مصالحهم المادية. انظر للمفارقات!

سؤال : قد يتمانع الحفاظ على القيم الأخلاقية مع التنمية الاقتصادية ، فكيف يمكن الجمع بين هذه القيم والتنمية المطلوبة؟

__________________

(١) جمع زمين وهو المصاب بالزمانة ، أي العاهة ، يريد ارباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب.

(٢) السائل.

(٣) المتعرض للعطاء بلا سؤال.

(٤) طلب منك حفظه.

(٥) ثمرات

(٦) أرض الغنيمة.

(٧) طغيان بالنعمة.

(٨) الحقير.

(٩) أي لا تصرف اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم.

(١٠) الامالة اعجاباً وكبراً.

(١١) تفريغ الثقة يعني جعل اشخاص يتفرغون للبحث عنهم لمعرفة احوالهم يكونون ممن تثق بهم.

١٢١

الجواب : إنَّ نظامنا نظام قيمي ، والمهم عندنا هو حفظ هذه القيم الاخلاقية ، ونرى أنَّ الحفاظ على القيم لا يتمانع مع التنمية الاقتصادية ، ومزجهما مع بعض سوف لا يؤدي إلى التخلف ، بل انَّ الإقتصاد الذي لم يعتمد القيم الاخلاقية والذي ساد العالم أدّى إلى أضرار لا يمكن جبرانها.

ألم يكن هذا الاقتصاد غير القيمي هو السبب الاساس في نشوب الحرب العالمية الثانية؟ الحرب التي دمرت بعض الدول بالكامل وأنزلت ببعض اخر اضراراً جسيمة وأودت بحياة ٣٠ مليون شخصاً و ٣٠ مليون معلولاً ، هذا بعض ما خلفته هذه الحرب واودعته في ذاكرتنا. فهل الاقتصاد المتخلف ـ حسب تعبير اتباع المذهب المادي ـ أفضل أم الاقتصاد المتطّور؟!

ينبغي العلم أنَّ العالم لا يعمَّر ولا ينمو الا تحت ظل إقتصاد قيمي.

علي عليه‌السلام والهدية الليلية

بعد ما يذكر الامام علي عليه‌السلام قصة اخيه عقيل عند ما طلب منه شيئاً من بيت المال يقول في الذي أراد إرشائه لاجل قضية حقوقية ما يلي :

«.. وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة (١) في وعائها ومعجونة شنئتها (٢) كأنما عجنت بريق حية أو قيئها ، فقلت : أصلة أم زكاة ، أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال : لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية ، فقلت : هبلتك الهبول! (٣) أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط (٤) أنت ام ذو جنة (٥) ام تهجر ، (٦) والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أنْ اعصي الله في نملة أسلبها جلب (٧) شعيرة ما فعلته وأنَّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة

__________________

(١) نوع من الحلواء اهداها الاشعث بن قيس إلى علي.

(٢) أي كرهتها.

(٣) هبلتك : أي ثكلتك ، والهبول المرأة لا يعيش لها ولد.

(٤) أمختل نظام ادراكك؟

(٥) من اصابه مس من الشيطان.

(٦) أي تهذي بما لا معنى له في مرض ليس بصرع.

(٧) قشرة الشعيرة.

١٢٢

تقضمها. (١) ما لعلي ولنعيم يفنى ، ولذة لا تبقى ، نعوذ بالله من سبات (٢) العقل وقبح الزلل. (٣)

هل يُؤمن حالياً على العالم مع وجود زعماء يضحون بكرامة واعتبار بلدهم مقابل امرأة ملوثة!! يا لها من مفارقات؟ على كل مسلم أنْ يتعلم القيم ويدركها ويدير عنجلات الاقتصاد مع حفظه على تلك القيم في ذات الوقت.

البحوث التكميلية للآية

١ ـ أكل الربا في عصرنا

كان أكل الربا في العصور الماضية محدوداً باشخاص كانوا يسلفون الناس ويرجعون اموالهم بعد فترة من الزمن مع مقدار من الربح ، إلَّا أنَّ الأمر اختلف في عصرنا ، فقد ازداد اكلة الربا ، كما أنَّ رقعته اتسعت لتشمل الدول والشعوب ككل ، فإنَّ الكثير اصبح يمارس هذا العمل القبيح حالياً.

بعض الدول التي تجيز لنفسها اكل الربا اوقعت بعض الدول الفقيرة في مخالبها باعطائها بعض الديون ، وقد باتت هذه الدول تصرف كل ما تجني من أرباح وعوائد وطنية لعلاج هذا المرض المتفاقم. ولأجل ذلك نرى أنَّ الفجوة بين الدول الفقير والغنية تزداد كل يوم ، واذا ما استمر الوضع هكذا فلا يبعد أنْ تعلن هذه الدول عن افلاسها. وكمثال على ما نقول في مجال الربا هو الوضع المرتبك لاقتصاد دول جنوب شرق آسيا (٤) فهو بسبب قضية اكل الربا.

ان اكلة الربا العالميين بسطوا لنا فخاً بعد الحرب المفروضة على ايران ـ التي خرج من امتحانها الشعب الايراني الشجاع مرفوع الرأس ـ وذلك ببذلهم السخي للاموال والديون. ورغم أنَّهم لوثونا بعض الشيء بهذه الديون إلَّا أنَّ المسؤولين بحمد الله سرعان ما التفتوا إلى خطورة هذا السم الفتاك ، وأوقفوا عملية اخذ الديون ودفعوا تدريجياً اقساط الديون لينقذوا

__________________

(١) أي كسرته باطراف أسنانها.

(٢) نوم العقل.

(٣) الزلل هو السقوط في الخطأ.

(٤) حيث حصلت أزمة شديدة في تلك الدول شلت اقتصادها عام ١٤١٨.

١٢٣

بذلك بلدنا من هذا الفخ.

اضافة إلى النوع المذكور من الربا هناك نوع اخر من الربا هو اقبح وأسوأ حالاً من سابقه ، وهو الذي يعتمد رأس مال الناس ، فإنَّ البعض إذا كانوا يبتّون بهذا العمل سابقاً وبأموالهم الشخصية تقوم حالياً البنوك (التي أموالها من الناس) بهذا العمل القبيح وهذا ـ قطعاً ـ يستتبع عذاباً اشد وأقسى من سابقه.

٢ ـ النشاط المصرفي اللاربوي هل هو ممكن؟

يعتقد البعض أنَّ عصرنا يستدعي اقتصاداً ربوياً ولا يمكن فيه أي نشاط من دون ربا ، وحذف الربا عن النشاطات المصرفية يؤدي إلى ركود في العمليات المصرفية وركود في الاقتصاد في النهاية ، وبعبارة أخرى : أنَّ الربا امتزج بالاقتصاد بشكل لا يمكن تفكيكهما.

هذا النوع من التفكير يطرح من قبل المفكرين المغتربين ، باعتبار حاجة الدول الثرية إلى مبلغين لها في الدول الفقيرة ؛ وذلك لأنَّ تفكيراً من هذا النوع يتطابق مع مصالحهم ، رغم سقمه.

إنَّ البنوك الاسلامية لو عملت بالقرارات المصوبة في بلدنا ولو اطلعت الناس على محتويات هذه القرارات وكانوا اوفياء تجاهها فسوف تحل قضية الربا وسوف يفيد أصحاب روؤس الأموال من اموالهم ، كما أنَّ البنوك نفسها ستستفيد وعجلة الإقتصاد ستتحرك.

من العقود الاسلامية ـ التي جاءت في قرارت البنوك ـ هو عقد (المضاربة) ، وهو لا يختص بالتجارة (١) بل يشمل الاستثمارات في قطاع الصناعة والبيطرة والزراعة والخدمات وغير ذلك.

على اساس عقد المضاربة يودع الشخص رأس ماله عند البنك ، والبنك يعين مستوى الربح على اساس العقد ، بالطبع ينبغي ان يكون الربح نسبة من المنفعة لا من رأس المال. والمشتري يمكنه ان يوكل البنك في ان يتصالح على سهمه بنسبة معينة ليقبضه كل شهر. لكن

__________________

(١) يختلف العلماء في هذا المجال ، فبعض يرى اختصاص هذا العقد بالتجارة والآخر يراه شاملاً لجميع القطاعات الاقتصادية.

١٢٤

يحسب مجمل الربح بعد انتهاء العقد ، ثم يوكل البنك وكالة مطلقة لأنْ يستثمر الاموال في أي مجال أراد ، وعلى البنك أنْ يعمل طبقاً للعقد.

وفي هذه الحالة فإنَّ مشكلة الربا منتفية رغم انتفاع صاحب رأس المال وانتفاع البنك اضافة إلى أنَّ عتلة الاقتصاد سوف لا تبقى ساكنة بل تعتمد تجارة سليمة وصحيحة.

ينبغي الالتفات إلى أنّه ينبغي تنفيذ العقود الشرعية. وانزالها على الورق دون العمل بها لا يغير شيئاً من الواقع وتبقى مشكلة الربا معضلة بلا حل.

حذف الربا من المصارف أمر ممكن بدليل أنَّ الربا كان رائجاً في صدر الإسلام وحرم بعد ظهوره رغم ذلك لم يحصل ركود اقتصادي واشكالات من هذا القبيل.

٣ ـ حكم الايداعات والسلف

هل يحل للناس ايداع أموالهم في البنوك وأخذ الأرباح التي تترتب عليها؟ وما حكم السلف التي يمنحها البنوك لزبائنه ويأخذ عليها ارباحاً نسبية؟

من المناسب قبل الاجابة على السؤالين ان نقدم مقدمة نطرح فيها فلسفة هذا النوع من الايداع والسلف.

كثير من الناس يملك رأس مال وصله عن طريق الارث أو العمل أو شيء من هذا القبيل ، لكن لا يستطيع توظيف رأس المال هذا في المجال الاقتصادي ، من جانب آخر هناك الكثير ممن له طاقة على توظيف الاموال ويحضى بقدرة ادارية جيدة مثل خريجي الجامعات من الشباب ذوي الطاقة والحوافز الجيدة.

يأتي هنا دور البنوك حيث يمكنها أنْ تلعب دوراً فاعلاً ، بأنْ تجمع بين رأس المال والطاقات والكوادر ، فتأخذ الاموال من اصحابها وتسلفها للكوادر لتوظيفها في سبيل دفع عجلة الاقتصاد وتطلب من الاخيرين ارجاع الاموال من خلال اقساط. وفي هذا المجال تنال البنوك جزءاً من العوائد والارباح.

من جانب آخر تتمكن البنوك أخذ رؤوس اموال فاقدي القدرة على توظيفها ، لتشترك في توظيفها واستثمارها ، وترجع مقداراً من ارباحها إلى اصحاب روؤس الأموال.

١٢٥

وعليه ، إذا تمت هذه المشاركة على أساس عقود شرعية فلا اشكال في شرعيتها.

ولأجل التحقق من هذا الأمر نوصي بالامور التالية :

١ ـ تعليم موظفي البنوك الاحكام والعقود الشرعية المتعلقة بالبنوك والزامهم بتنفيذ القوانين الخاصة في هذا المجال.

٢ ـ أن يقوم العلماء ومن له باع في الاحكام الشرعية الخاصة بالبنوك بتبيين المسائل الشرعية الخاصة بالبنوك وايضاحها إلى الناس بلغة بسيطة ويذكروا اخطار الربا ومواقف الإسلام الشديدة تجاهه.

٣ ـ من المناسب أنْ توازن البنوك بين ارباح الإيداعات والسلف ، ولا ينبغي أن تكون ارباح السلف اكثر من ارباح الايداعات. كما أنّ عليها أن تحيي السنة الحسنة للاقراض وان تخطو في هذا المجال خطوات مؤثرة.

٤ ـ آيات أخرى عن الربا

لأجل تكميل البحث نشير هنا إلى ثلاث آيات تعرضت لجزئيات الربا واحكامه :

الف ـ يقول الله في الآية ٢٧٨ من سورة البقرة :

(يَا أيُّها الَّذينَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُم مُؤْمِنِينَ)

إنّ بداية الآية خطاب للمؤمنين ونهايتها مشروط بالايمان ، ومعنى حسن المطلع وحسن الختام في الآية هو أنّ أكل الربا لا يتفق وروح الايمان وأنَّ آكل الربا ليس مؤمناً.

شأن نزول الآية

بعض الاغنياء من المسلمين كانت لهم مطالبات ربوية ممن كانوا قد استلفوا منهم ، ومن اولئك كان العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد. وعند ما نزلت آية تحريم الربا تساءل هؤلاء البعض عن مصير اموالهم وأرباحها ، فنزلت الآية محددة الحكم هنا في أنَّ لهم الحق في إرجاع أصل رأس المال دون ربحه ورباه. وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما نزلت آية تحريم الربا :

١٢٦

«ألا أنَّ كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأوّل ربا اضعه ربا العباس بن عبد المطلب» ، (١) وهذا يكشف عن أنَّ الإسلام لا يرى قيمة للعلاقة السببية والنسبية مقابل القوانين والضوابط.

باء ـ يقول الله في الآية الاخرى من نفس السورة البقرة (٢٧٩) : (فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِه وإنْ تُبْتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أمْوَالِكُم لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ) (٢)

ينبغي الالتفات هنا إلى أنَّ صدر الآية يشير إلى اعلان الحرب من قبل الله ورسوله لا من قبل آكلي الربا ؛ وذلك لأنَّ (فأذنوا) تعني فاعلموا أو فأيقنوا ، إلَّا أنَّ الكلمة إذا قرئت (فآذنوا) ـ كما قرأها البعض ، وهي قراءة غير معروفة ـ فانّ اعلان الحرب سيكون من قبل آكلي الربا.

جيم ـ الآية ٢٨٠ من سورة البقرة : (وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٌ وأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُم إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ)

أي على اصحاب رؤوس الاموال ان يمهلوا المعسرين والمحتاجين ولا يطالبوا بأموالهم .. وإن كان حالهم متأزم فالأفضل أن يعتبروا اموالهم صدقة بذلوها لمستحقها.

من مجموع الآيات المذكورة يستشف أنَّ الربا عند الله اثم عظيم وخطر ، وقد استخدم له القرآن تعابير لم يستخدمها في أيٍّ من الذنوب.

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٣٩٢.

(٢) يبدو من الآية ان آكلي الربا لا يجتنبون عن هذه الممارسة بالارشاد والتبليغ لذلك كان على الحكومة الإسلامية ان تجبرهم على الامتناع عنها.

١٢٧
١٢٨

المثل العاشر :

الخَلْق المدهش لعيسى بن مريم عليه‌السلام

يقول الله تعالى في الآية ٥٩ من سورة آل عمران :

(إنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

على هذه الآية ، فإنَّ ولادة عيسى دون أب لا يدل على الوهيته.

الشرح والتفسير

يقول الله في هذه الآية : إنَّ خَلْق عيسى عليه‌السلام يشبه خَلْقْ آدم عليه‌السلام في أنَّه خلق من تراب دون دخالة أب وأم في ذلك ، بل وجد بمجرد ان قال له الله : كُن.

تحدث القرآن المجيد في الايات ٤٥ إلى ٥٩ من سورة آل عمران عن عيسى بن مريم عليه‌السلام وحكى مراحل حياته المختلفة من قبيل كيفية الولادة والتربية ونموه وبعثته ورسالته وكراماته ومعاجزه وعروجه إلى السماء ، وقد سعى القرآن خلال هذه الآيات أنْ يرفع الشبهة المثارة حوله.

سؤال : كيف يمكن أنْ يولد انسان من أم فقط دون أب؟ أو كيف يمكن أو يولد إنسان من دون تركيب بين الأسبرم والبويضة؟

هل الآية في صدد الاجابة على هذه الشبهة ، بحيث تقول : ألم نخلق آدم دون دخالة أب؟ أي كأنها تريد القول بأنَّ خلق آدم اصعب من خلق عيسى ؛ لأنَّ في خلق عيسى توسطت الام ، أمّا في خلق آدم فلا واسطة ، من قبيل أُم أو أب ، فكان أصعب خلقاً من عيسى عليه‌السلام.

١٢٩

إنَّ أفعالاً من هذا القبيل ليست صعبة بالنسبة لله ؛ فإنَّ الله ما إن قال لشيء (كُنْ فَيَكُونُ) (١) إنَّ الخلق عند الله لا يفرق فيه بين الصغير والكبير والصعب والسهل.

إنَّ الله إذا اراد أنْ يَخلق عالماً كعالمنا الحالي بمجراته ونجومه ـ الذي كشفت الاحصائيات والاكتشافات العلمية عن سعته وعظمته ـ فإنَّه سينخلق بمجرد أنْ يأمر.

إنّ الإنسان عند الصلاة إذا تصور امامه خالقاً بهذه القدرة والعظمة وشعر بأنَّه (لا شيء) يتحدث مع (كل شيء) لكانت صلاته وحالاته فيها تختلف بالكامل.

قدرة الله في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام

تحدث الامام علي عليه‌السلام في الخطبة ١٨٥ من نهج البلاغة عن قدرة الله وأشار اليها بجمل جميلة كما نرى هنا : «لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه واتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ..» ، ثم يتعرض إلى خلق النملة وظرافة ما تحتويه هذه الخلقة.

من الحجب التي تحول دون التفات الإنسان إلى عجيب الخلقة ، هو حجاب العادة ، وذلك لأنَّ العادة تنسي الإنسان عظمة الشيء. فالنملة ، مثلاً ، اصبحت عادية باعتبار كثرتها وتعوّدنا على رؤيتها ، الأمر الذي يجعل الإنسان غافلاً عن عظمة خلقها ، وهي إذا قيست مع أهم صناعات الإنسان لاتضحت عظمتها.

إنَّ صناعة الطائرة صناعة تعتمد تقنية متقدمة جداً ، فهي تحمل في الفضاء أناساً وسلعاً ، ولها اجزاء مختلفة تشبه المدينة الصغيرة.

وهذه الطائرة ـ التي تكشف عن ذورة التقنية والصناعة البشرية ـ إذا قيست بالنملة ـ التي هي من اصغر صناعات قدرة الله اللامتناهية ـ لكانت النملة اكثر عظمة من الطائرة ؛ وذلك لأنَّ النملة تضم كل شيء رغم جثتها الصغيرة والنحيفة ، ففيها أجهزة من قبيل : الباصرة

__________________

(١) تكرر مضمون هذه الآية في ثمان آيات من القرآن.

١٣٠

والسامعة والرجل واليد وجهاز الهضم والدفع والتناسل وتعلم بهندسة بناء البيت وتهيئة الاغذية وخزنها بشكل يحول دون فسادها و.. ويا ترى كيف يمكن لموجود صغير أن يضم هذه الاجهزة جميعها؟!

أمّا الطائرة فاضافة إلى أنَّها تفقد الكثير من هذه الاجهزة مثل جهاز التناسل وغيره ، فهي بنفسها غير قادرة على تحريك نفسها ، وتستعين لأجل الحركة بطاقم من التقنيين والمهندسين.

نعم ، إن الإنسان سيهتدي ولا يتعجب من خلق إنسان بلا أب إذا فكر في خلق الله وتدبّر فيه. ينبغي السجود لربٍّ قادرٍ مثل هذا ، كما ينبغي الصلاة والسلام على الإنسان الكامل (الإمام علي عليه‌السلام) حيث استطاع توصيف هذه القدرة اللامتناهية وبشكل بديع ورائع.

قصة خلق الإنسان

هناك نظريتان رئيسيتان في خلق الإنسان :

١ ـ (تنوع الأنواع) ، يعتقد أصحاب هذه النظرية أن الإنسان خلق مستقلاً كما خلقت الحيوانات الاخرى. وقد يُسمى هذا التصور وهذه النظرية (ثبوت الانواع).

٢ ـ (تبدّل الانواع) ، وهي النظرية المشتهرة بين علماء الطبيعة والقائلة بأنَّ الخلقة بدأت بموجود أحادي الخلية كان يسبح في البحار ، نمى هذا الموجود بشكل تدريجي ليتبدل إلى سمكة ، تكاثرت هذه السمكة ، ثم ألقت أمواج البحر ببيض من أفراد فصيلتها خارج البحر ، لتتبدل تدريجياً إلى حيوانات بريّة ومنها القرد ، ثم تكاملت بعض أصناف القرد لتتبدل إلى إنسان.

هل يمتلك أصحاب نظرية (تبدل الانواع) أدلة قاطعة على كلامهم؟

كلا ؛ وذلك لأنّ كلامهم يرجع إلى ملايين من السنوات الغابرة ، إلى زمن لم يكن فيه إنسان أبداً ، إلى زمن لم تصلنا عنه معلومات دقيقة ، وما لدينا من تلك العهود هو شواهد وقرائن أثرية جمعت من قبل منقبي الآثار.

١٣١

الاختلاف بين (الفرضية) و (القانون)

إنّ مجموعة القضايا التي يسعها المختبر ويمكن أن تُحلل وتقع في طريق التجربة العلمية تتبدل إلى قانون إذا ثبتت صحتها ، كالقضية القائلة بأنَّ سرعة الضوء ٠٠٠ / ٣٠٠ كيلومتر في الثانية. أما مجموعة القواعد التي لا يمكن اخضاعها للتجربة ، ويُتمسك لأجل إثباتها بالعقل من خلال القرائن والشواهد الموجودة فهي فرضية.

وعلى هذا ؛ فإنَّ (تبدّل الانواع) فرضية لا قانون. ومن خصائص الفرضية أنَّها تحتمل التبدّل والتغيير والبطلان ، كالفرضية القائلة بأنَّ الإنسان قبل أربعين ألف سنة يختلف عن الإنسان الحالي ، فإنَّ علماء الآثار وجدوا جماجم تتعلق بمليوني سنة قبل عصرنا هذا كشفت عن شباهة الإنسان في ذلك العصر مع الإنسان الحالي ، وبهذا بطلت الفرضية السابقة.

رأي القرآن في خلق الإنسان

إنّ نظرية (تنوّع الانواع) هي المستفادة من القرآن المجيد ، ويبدو أنَّ القرآن يؤيد هذا الرأي وهذه النظرية ، أمَّا (تبدّل الانواع) فلا يمكن النظر إليها كقانون ثابت يستحيل الخدش فيه.

على أي حال ، سواء كانت النظرية الأولى صحيحة أم الثانية ، فإنَّ تفسير الآية لا يتغير ، وحتى لو قلنا بتبدّل الأنواع فإنَّا سنقول :

إنّ الذي استطاع أن يخلق الموجود أحادي الخلية يستطيع أن يخلق عيسى عليه‌السلام دون حاجة إلى أب وأُم. هذا اضافة إلى أنَّ العلماء عثروا على موجودات يمكنها التكاثر دون حاجة إلى التلاقح ، وهي حيوانات تستطيع الانثى منها التكاثر دون حاجة إلى لقاح من الذكر. وإذا كان عالم كهذا ممكناً فان ولادة عيسى عليه‌السلام لا أنّه أمر غير عجيب فحسب ، بل قد حصل ما هو أعجب منه.

١٣٢

المثل الحادي عشر :

إنفاق الكفار

يقول الله في الآية ١١٧ من سورة آل عمران :

(مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيا كَمَثلِ رِيْحٍ فِيْهَا صِرّ أصَابَتْ حَرْث قَوْمٍ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فَأهْلكَتْهُ ومَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ولَكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

تصوير البحث

في هذه الآية يمثّل القرآن بذل الكفار بزراعة كافر في أرض خصبة ، فهو ينثر فيها البذر ، إلَّا أن مجيء ريح بارد وجاف يجفّف ما زرعه وأنبته هذا الكافر في هذه الأرض.

الشرح والتفسير

(مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعتقد بعض المفسرين أنّ كلمة النية أو الدافع مقدرة هنا ، وهي توضّح هذا الجزء من الآية. وبهذا التقدير يصبح معنى الآية كالتالي : أنّ نية هكذا إنفاق ودافعه كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ، فكما أنَّ هذا الريح يدمر الحرث ، كذلك النية هذه فانّها تدّمر هذا الانفاق.

(كَمَثَلِ رِيْحٍ فِيْهَا صِرٌّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم فأهْلَكَتْهُ) إنَّ مفردة الصر بالعربية

١٣٣

تعني ريحاً شديد البرد ، أو ريحاً شديد الصوت. (١)

على أي حال ، المراد من هذه الكلمة هو الريح الشديد الذي يحرق حتى بعض الغابات الكبرى أحياناً.

وسبب هذا الحريق ـ كما نسمع من المختصين ـ هو الصواعق والرعد والبرق ، وقد يكون هناك إعصار شديد تحتك بسببه بعض الاشجار اليابسة ـ التي تدّخر في نفسها طاقة ـ فتتولد قدحة تشعل النار ، فيحصل الحريق. وعلى هذا ، فإنَّ مثل انفاق الكفّار كمثل المزرعة التي تواجه ريحاً شديدة تُضرم النار فيها.

(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ولكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وذلك لأنّ ما يترتب على فعلهم لم يكن ظلماً من الله بل كان ذلك كله بسبب سوء نواياهم وعدم صدقها.

إنَّ المزارع الذي يتعمّد الزرع في أراضٍ تقع في مسير الرياح الشديدة والباردة ، إذا تلفت زراعته إثر هبوب الرياح فذلك ظلم أورده بنفسه على نفسه.

خطابات الآية

١ ـ المراد من الإنفاق في آية المثل

أي نوع من الانفاق شُبِّه بالريح الصر في الآية الشريفة؟ إنّ في ذلك احتمالات ثلاثة نشير إليها هنا.

الف ـ المراد منه الانفاق الذي يُصرف في غير سبيل الله ، مثل الانفاق والبذل الذي كان يصدر من أبي سفيان الكافر والمنافق ـ فهو لم يُسلم قلبياً وضلّ كافراً إلى آخر عمره ـ في سبيل عظمة الأصنام ولأجل إسقاط الإسلام.

إنَّ القرآن المجيد يقول : إنّ إنفاقاً من هذا القبيل مثل الأرض التي تعدُّ للزراعة ، ودوافع هؤلاء المنفقين ـ وهي الشرك وعبادة الأصنام ـ مثل الريح الصر.

__________________

(١) الصر من نفس المادة وتعني الضجة ، ومفردة (الصُرّة) التي من نفس المادة كذلك تعني الكيس الذي أغلقت فوهته بشدة. وعلى هذا ، فإنَّ الشدة متضمنة في جميع معاني هذه المادة ومشتقاتها ، الريح الشديد والصوت الشديد والكيس الذي أغلقت فوهته بشدة.

١٣٤

باء ـ المراد من ذلك هو الانفاق والبذل الذي يصدر من المسلمين المترائين لأجل بناء المساجد والحسينيات والمستشفيات والمستوصفات والجسور والطرق وما شابه ذلك ، فهي إنفاقات ذات دوافع غير إلهية ، وتنمُّ عن دوافع مثل المباهاة وجلب رضاء الناس لأجل الفائدة الأكبر في المستقبل. إنَّ إنفاق هؤلاء مثل الأرض الزراعية الخصبة ، ونية المنفقين غير الخالصة مثل الريح الصر.

جيم ـ المراد منه هو الانفاق الذي يقترن مع المنِّ والإيذاء ، فهو في الظاهر إنفاق وفي الواقع إذهاب لماء وجه الآخرين وسلب اعتبارهم. فالإنفاق آنذاك كالأرض الزراعية ، أما المن والأذى فبمثابة الريح الصر فأنها تُبطل الانفاق ، كما أن لها أضراراً دنيوية ، وذلك لأنّه فقد ماله اضافة إلى انّه ارتكب ذنباً عليه عقاب. (١)

٢ ـ الإنتقام من كافر النعمة

يستفاد من الآية وآيات اخرى من القرآن المجيد أن الله ينتقم في كثير من الحالات من الذين يكفرون بنعمه ويطغون ، فيجعل النعم وسيلة لعذابهم ويبدّلها إلى نِقمٍ (أي الموت في قلب الحياة).

كمثال على ذلك ، الله أباد قوم نوح بواسطة المطر والطوفان ، مع أنّ المطر قطرات تمنح الحياة لمن تصله ، وهو من أكبر نعم الله تعالى على هذا القوم.

إنّ الغيث إذا لم ينزل ينتهي كل شيء على وجه الأرض ، فهو نعمة لكنه تبدّل إلى مصيبة على قوم نوح!

تحدّثت سورة سبأ عن قوم سبأ ، والحكاية واقع وعبرة في نفس الوقت. إنّ هذا البلد يقع في مسير المياه الحاصلة من المطر ، ولأجل الحدّ من أضرار الأمطار الغزيرة بنى هذا القوم سداً ترابياً لجمع المياه الزائدة والافادة منها عند الحاجة ، وشقوا قنوات وسواقي من هذا السدّ إلى

__________________

(١) رغم أنَّ الاحتمالات الثلاثة غير متمانعة مع مضمون الآية الشريفة ، إلّا أنّه باعتبار الآية السابقة لها فإنَّ الأول هو الأصح ، وذلك لأن الآية السابقة (١١٦ من سورة آل عمران) تصرّح بموضوعها ، أي الكفّار.

١٣٥

أراضيهم ، فأصبحت أراضيهم بذلك قطعة من الخضار لكثرة التشجير والمزارع والبساتين ، وما كان الله يريد من هذا القوم إلّا شكر الرب على نعمه الوافرة ، كما يصرّح القرآن بذلك في الآية ١٥ من سورة سبأ : (كُلوا مِنْ رِزْقِ ربّكُمْ واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طيِّبةٌ وربٌّ غَفُورٌ) لكن باعتبار أنَّ الإنسان ينسى الله عند ما يغرق في نعمه ، فكذا قوم سبأ كانوا قد نسوا الله وأصابهم الغرور والطغيان وكفران النعمة ، وهذه من صفات الإنسان إذا كان ضيق الصدر ، حيث ينسى كل شيء عند ما يبلغ مستوى الرخاء.

إنّ القرآن يصف العذاب والنقمة التي أصابتهم كالتالي : (فَأَعْرَضُوا فأرْسَلْنَا عَلَيْهِم سَيْلَ العَرِم وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَتَيْهِم جَنَّتِيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأثْلٍ وَشَيءٍ مِنْ سِدْرٍ قَليلٍ) (١)

نعم ؛ إنّ كفران النعمة هو الذي بدّل نعمة السد الترابي إلى نقمة وعذاب. وقد توفرت مقدمات العذاب ، بعد ما أوحى الله لفئران أن تثقب السدّ ، فكان الماء يخرج من الثقوب شيئاً فشيئاً إلى أن توسعت الثقوب لتصل إلى مستوى استطاعت أن تدمّر السدّ ، فتدفّق الماء بشدة ودمّر قصور القوم وبساتينهم وأنعامهم ، وبدّل مزارعهم إلى أراض جرداء.

وفي النتيجة تبدّل هذا السدّ ـ إثر إعراضهم عن الله ـ إلى عذاب ليكون عبرة لمن بعدهم ، ولكي لا يطغى الإنسان أمام الله.

النموذج الآخر ، هو عذاب الله الذي نزل على قوم شعيب من خلال الصيحة (كما يعبر عنها القرآن في الآية ٩٤ من سورة هود) أو الصاعقة ، وهي من جهتين تعتبر عذاباً ، الأولى : أنَّها تحرق كل ما تصطدم به. والثانية : أنّ أمواجها الصوتية تذهب بالسمع.

ويُذكر هنا أنَّ هذه الصاعقة كانت نعمة لهم ؛ لأنها تسبب هطول الامطار ، تلك النعمة التي يدين لها جميع الأحياء على الكرة الأرضية.

وحسب ما ذكر في الآية ١٦ من سورة هود ، أنّ الاستئصال كان نتيجة طغيانهم وكفرانهم لنعم الله ، وتبدّلت بذلك الأرض التي هي مهد الإنسان ومسكنه إلى وسيلة عذاب يتعذبون بها.

__________________

(١) سبأ : ١٦.

١٣٦

إنّ اهتزاز الأرض دمر جميع مدنهم ، وقد أنزل الله وابلاً من الأحجار عليهم بحيث لم يبق من آثارهم شيءٌ أبداً.

أشرنا سابقاً إلى أن الريح من نعم الله العظمى للمزارعين ، كما أنَّه إذا لم يهب فانَّ عملية لقاح الاشجار سوف لا تتمُّ ، كما أنَّ الهواء إذا لم يتغير فسوف يستهلك الاوكسجين فيه ، وفي النهاية سوف لا تثمر الاشجار والنباتات من جراء ذلك.

٣ ـ فلسفة الكوارث الطبيعية

منذ القدم كانت المسألة التالي ذكرها أحد مسائل بحث العدل الإلهي ، وهي : إذا كان الله عادلاً فما فلسفه الكوارث والحوادث المؤلمة من قبيل الأمراض والسيول والطوفانات والزلازل والامطار الشديدة والاعصار المخيفة؟

هل تتلاءم هذه الامور المؤلمة للإنسان أو المدمّرة له مع عدالة الله؟

لا نعرف التاريخ الدقيق لطرح هذه الشبهة ، وقد يرجع تاريخها إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه‌السلام. وقد دوِّنت في هذا المجال البحوث والكتب الكثيرة ، وهممنا في كتاب (خمسين درساً عقائدياً) بالاجابة على هذه الشبهة.

وقد تصدَّى القرآن في بعض آياته للاجابة على هذه الشبهة ، نشير إلى نماذج من تلك الآيات :

١ ـ تعتبر بعض الآيات التنبّه واليقظة من أهداف هذه البلايا والكوارث ، كما هو كذلك في الآية ٤١ من سورة الروم : (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيدِي النَّاسِ ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلوُا لَعلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

على أساس هذه الآية ، تعدُّ الكوارث لطفاُ من الله للغافلين من الناس ، فإنَّها قد تفيق الغافلين عن غفلتهم لعلهم يرجعون إلى الله ، مثلما ابتلى الله الناس في زماننا هذا بمرض الايدز لكثرة فسادهم لعلهم بهذا الابتلاء يرجعون عن فسادهم وينتبهون إلى أنفسهم ، أو مثلما يبتلي شعوب العالم حالياً بالحروب والاختلاف الطبقي الفاحش والانقلابات والسقوط وتدمّر الحضارات البشرية وذلك لتفشي أمراض مثل أكل الربا فيهم. فهذه الابتلاءات تحلُّ بالناس

١٣٧

لعلّها تنبههم وترجعهم إلى الطريق الصواب وتفيقهم من غفلتهم هذه.

إذن ، الابتلاءات هذه مواهب إلهية في الواقع.

ولأجل اتضاح هذه الفلسفة بشكل أفضل التفتوا إلى هذا المثال :

نشاهد في بعض الشوارع الطويلة والمستوية بعض العقبات والعكر تعَّمد إيجادها المعنيوّن. إذا ما سألنا عن سبب ذلك قالوا : إن شوراع من هذا القبيل قد تؤدي إلى غفوة السائق وغفلته الأمر الذي قد يودي ، بحياته وحياة الآخرين ، ولأجل الحيلولة دون غفوة السائق نتعمد إيجاد هذه العكر ليبقى السائق منتبهاً دائماً.

إنّ حياة الإنسان إذا خلت من هذه العقبات قد تؤدي إلى غفلة الإنسان وغفوته وسقوطه في الهاوية في نهاية الأمر ، لكن وجود هذه العقبات تحول دون غفلته وتنجيه من السقوط رغم أنها تؤذيه ولا تريحه.

٢ ـ الفلسفة الاخرى المستفادة من الآيات هي أنَّ بعض هذه البلاءات والحوادث نتيجة عمل الإنسان نفسه ، وبتعبير آية المثل : أنَّ الإنسان يظلم نفسه وأنَّ الله لا يظلم أحداً.

على سبيل المثال ، الأبوان اللذان لا يكترثان بسوء أو حسن تربية الاطفال ، ولا يهتمان بتعليمهم المسائل الدينية ، ولا يرشدونهم إلى الاماكن الدينية مثل المساجد والحسينيات ولا يعوّدونهم على التردد على هذه الأماكن ، فان النتيجة ستكون اطفالاً غير مهذبين أو متعاطين للمخدرات ، الأمر الذي يعود بأضراره لا على نفسيهما فحسب بل على جميع المجتمع ، لكن يا ترى من كان السبّاق والناثر للبذرة الأولى لهذا الشذوذ وهذا الظلم؟ لا أحد غير الأبوين.

إعتبروا

قبل مدة جاء شخص محترم لمكتبنا لغرض دفع ما عليه من واجبات مالية ، فقضى الموظفون حاجته وأدى ما عليه ، ثم رحل.

بعد فترة من الزمن جاء نفس الشخص مع صديق له ، وهو يحمل معه الكثير من الهمّ والغمّ ، ورأيته يبكي ، فسألته عن سبب بكائه؟ فأجابني : أنَّ إطفالي صادروا جميع ما جمعت من المال خلال السنوات الماضية من عمري ، وقد طردوني من البيت ، وأنا الآن أنام في كل ليلة في بيت

١٣٨

من بيوت المعارف. ثم أشار إلى صديقه وقال : إنّ الطريق الذي سلكه صديقي كان طريقاً صحيحاً ، فهو سعى منذ البداية في تربية أولاده وتعاليمهم والاحكام الإسلامية وأرشدهم منذ الصغر إلى المساجد والحسينيات ، وأولاده حالياً كالعصى بيد والديهم يحترمونهما ويؤدون واجباتهم تجاههما ، إلّا اني أخطأت منذ أن فكّرت في إرسالهم للخارج وتعليمهم العلوم من دون الاكتراث بما قد يسيء ذلك إلى تربيتهم. وحالياً عند ما رجعوا إلينا وجدناهم لا يفكرون إلّا بأنفسهم ومصالحهم المادية ، فلا يهتمون بشيء غير المال (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١)

إنّ لطف الله ورحمته على العباد مثل الغيث الذي يهطل على الأراضي ، ففي بعضها تنبت الزهور والنباتات ، وفي بعضها الآخر تنبت الأدغال ، والاشكال ليس في المطر بل في ذات الأرض. كما أنه لا اشكال في أنوار الهداية الإلهيّة ، بل الاشكال في قلوب الناس. وعلى هذا ، فإنَّ الفلسفة الاخرى لهذه الابتلاءات هي أنَّها ردود فعل لأفعالنا نحن. بالطبع هناك فلسفات اخرى لهذه الظواهر ، نحن نكتفي هنا بالموردين السابقين.

__________________

(١) جاءت آيات كثيرة بهذا المضمون ، منها الآية ٥٧ من سورة البقرة ، والآية ١١٧ من سورة آل عمران والآية ٩ و ١٦ و ١٦٢ و ١٧٧ من سورة الاعراف ، والآية ٧٠ من سورة التوبة والآية ٤٤ من سورة يونس.

١٣٩
١٤٠