أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

ما أحسن السعادة التي ينالها الإنسان

من النتائج المستوحاة من هذا المثل هي أن هناك جنة (علاوة على الجنة الموعودة في الاخرة) في الدنيا ، وهي جنة قلب الإنسان المؤمن المملوءة بالأشجار والثمار ، أي الصفات والفضائل الاخلاقية لروح الإنسان وصفائها من التلوث ، والإنسان لا يمكنه ادراك هذه الجنة ولا يمكنه الشعور بها إلَّا أنْ تكون أعماله جميعها خالصة لوجه الله وابتغاءً لمرضاته ، ولا يكون فيها ذرة من الرياء. والجملة الاخيرة للاية تشير إلى هذا الموضوع : (واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ) فإنَّ الله يرى الاعمال ويرى نواياها ويرى كل ما يطرأ على النوايا من اغراض غير إلهية.

موضوع الشرك في العمل الذي يصطلح عليه (الرياء) تعرضت له الايات والروايات على مستوى واسع.

يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث نقل عنه : «إنَّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء». (١)

وحسب هذه الرواية ؛ فإنَّ الشرك اخفى من حركة نملة سوداء على صخرة سوداء في ليلة ظلماء.

الإنسان بعد سنوات من العبادة قد يدرك عدم خلوصه في كثير من العبادات ، إنَّ هكذا انسان سيكون سعيداً إذا ما تاب وبت في الجبران.

وتباً للإنسان الذي يدرك عدم خلوصه لكن ادراكه يكون متأخراً ، يقول الله تعالى (... كَلَّا انَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ...) (٢)

ننهي بحثنا عن الشرك بذكرى عن مرجع عالم الإسلام آية الله العظمى السيد البروجردي رضوان الله تعالى عليه.

كان السيد قد ذهب لقرية بشنوة (في ضواحي مدينة قم) لاجل الاستراحة ، وفي احد

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ١٩٩٤ ، الحديث ٩٣١٦.

(٢) المؤمنون الآية ١٠٠.

١٠١

الايام هناك كان قد فرش سجادة قرب قنال هو مع مرافقيه ، وقد شاهد المرافقون انذاك أنَّ السيد قد غاص في التفكير كثيراً فسألوه عن علة ذلك فأجاب : (كنت افكر في أنَّه هل كان لي عمل خالص لوجه الله وابتغاء مرضاته من دون أنْ يشوبه شائبة ام لم يكن؟).

فقالوا له : مولانا! الحمد لله ، إنّ لك خدمات كثيرة قدمتها للحوزة العلمية والمسلمين ، (١) فلا مجال للقلق. فهز السيد رأسه وقرأ الحديث «إخلص العمل فإنَّ الناقد بصير». (٢)

الناقد هو الذي يميز السكك الخالصة عن المزورة ، إنَّ نسبة التزوير إذا كانت كبيرة فقد يستطيع الناس عموماً تشخيصها أمّا إذا كانت نسبة الغش والتزوير قليلة جداً فذلك أمر لا يشخصه الا الناقد. وحسب هذه الرواية ، فإنَّ الله هو الناقد لنوايا الإنسان ويمكنه تشخيص الخالص عن غيره ، فهو بصير وعليم ويشخص حتى اقل مقدار من الغش وعدم الخلوص.

وعلى هذا ، ما علينا إلَّا أنْ نسعى بأنْ لا يكون أي جزء ولو بسيط من عدم الخلوص في اعمالنا واقوالنا وافكارنا ، وذلك لاجل التقرب إلى الله تعالى.

آداب الانفاق

ندرس هنا بعض آداب الانفاق واصوله :

١ ـ الإنفاق ممَّا تحبون

إذا انفق شخص ما كان لديه من اغذية زائدة وألبسة رثة فلا اشكال في ذلك وهذا اقل مرتبة للانفاق وادنى حد له ، إلَّا أنَّ على الإنسان أن ينفق ما يحب لاجل بلوغ اعلى مراتب

__________________

(١) حقاً ان خدمات السيد جبارة ، وهي من قبيل : احياء الحوزة العلمية الشيعية وبناء ما يقرب من الف مسجد وترميم ابنية دينية واعادة طبع كتب قديمة قيمة كانت قد نسيت ومبادرته الذكية في ارسال مبعوث عنه إلى جامعة الازهر في مصر واعلام هذا المركز اثر ذلك عن أنَّ التشيع مذهب كبقية المذاهب الاسلامية وأنَّ المسلمين يمكنهم التمسك به والعمل حسب تعاليمه وخدمات مهمة وكثيرة أخرى.

(٢) بحار الانوار ١٣ : ٤٣٢.

١٠٢

الإنفاق : (لَنْ تَنَالُوا البرَّ حَتى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١)

وقد قيل في الزهراء عليها‌السلام : انها عند ما ذهبت إلى بيت زوجها للعرس صادفت في الطريق محتاجاً سألها الاعانة ، فبذلت له ثوب عرسها رغم انها كانت تحمل ملابس رثة وزائدة. (٢) لا يمكن العثور في كل التاريخ على انفاق خالص مثل ما صدر من الزهراء عليها‌السلام فهي شابة في مقتبل العمر تنفق ملابس عرسها رغم ان بامكانها انفاق ما كان عندها من ملابس زائدة أخرى. وذلك مصداق حقاً للاية الشريفة السابقة.

يمكننا العثور على انفاق من هذا القبيل صدر من المعصومين عليهم‌السلام ، فإنَّ الإمام علي عليه‌السلام انفق خاتمه لفقير وهو راكع في صلاته ، وقد نزلت في هذا الشأن الآية ٥٥ من سورة المائدة. (٣)

وفي حال الامام علي عليه‌السلام ينقل انه كان يشتري قميصين ، ويخير قنبر غلامه في انتخاب احدهما ويترك الاخر له. (٤)

وقد قال الامام الصادق عليه‌السلام في رواية له : «ما من شيء إلّا وكِّل به ملك إلَّا الصدقة فانها تقع في يد الله تعالى». (٥)

وهل من المناسب واللائق للانسان ان يبذل اموالاً لا يحبها تصل مباشرة بيد الله؟!

٢ ـ الانفاق في غاية الادب

إنَّ الأدب ضروري عند البذل والانفاق ، وينبغي السعي آنذاك لاجل حفظ ماء وجه وشخصية المحتاج ، يقول القرآن المجيد : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أذَىً ...) (٦)

__________________

(١) آل عمران : ٩٢.

(٢) النقل بالمضمون وليس بالنص وهو عن احقاق الحق ١٠ : ٤٠١ ، نقلا عن كتاب (مظهر ولايت) ص ٢٦٩.

(٣) تفصيل القصة في ذيل الآية في المجلد الرابع من الأمثل الصصحفة ٤٥ ـ ٤٦.

(٤) بحار الانوار ٤ : ٣٢٤ طبع بيروت.

(٥) وسائل الشيعة ٦ : ٣٠٣.

(٦) البقرة : ٢٦٣.

١٠٣

إذا راجعك محتاج وسألك شيئاً واجبته بهذا : (أعتذر ، لا يمكنني اعانتك) أي ترده باحترام فذلك افضل من أن تنفق له مع أذية ومنة بأن تقول له : (لا اراك بعد هذا) أو (خذ هذا لتريحني من شرك).

إنَّ هذه الأخلاقية الرفيعة في الإنفاق تلاحظ عند المعصومين بشكل واضح ، فقد قيل في الإمام السجاد عليه‌السلام : إذا اعطى السائل قبَّل يده ، فقيل له لِمَ تفعل ذلك؟ قال : «لانها تقع في يد الله قبل يد العبد». (١)

كم هو الفرق بين الانفاق المخلص والمتزامن مع الأدب والاحترام الوافر ، والانفاق الذي يتم عن رياء وتحقير.

٣ ـ التعجيل في دفع الصدقة

لا ينبغي التأني والتواني الوافر والوسوسة عند دفع الصدقة تقرباً لله تعالى ؛ لأنّ الشيطان في ذلك الزمن يسعى كثيراً لمنع الإنسان من دفع الصدقة ، يقول الله تعالى في الآية ٢٦٨ من سورة البقرة : (الشَيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ واللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ)

إنَّ الشيطان يوسوس للانسان بشتى الطرق ، فهو يقول مثلاً : (فكِّر بمستقبل أطفالك ، وبأيام شيبك وحافظ على أموالك لذلك الحين). هذا لأجل صرف الإنسان عن الانفاق ، بينما الله يعد بالمغفرة وبارجاع المال المنفق.

وقد تعارف بين الناس أنَّ الشيطان يتعلق بيد الإنسان عند ما يريد الاخير بذل المال ؛ وذلك لمنعه عن البذل. وهذا اشارة أخرى إلى الآية الشريفة.

ومن المثير أنَّ القرآن لم يستخدم كلمة (الفقر) (٢) الا في هذه الآية ، وقد نسبه إلى الشيطان.

مَن كان يرزقك عند ما كنت جنيناً في ظلمات ثلاث؟ الله هو الرازق ، وهو بنفسه سيكون

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣٠٣.

(٢) أمّا مشتقات هذه الكلمة فقد استخدمت اربعة عشر مرة في القرآن.

١٠٤

رازقاً لك ولأولادك عند الشيخوخة والعجز.

هناك قول جميل لأحد العظماء يقول فيه : (لا أعمل شيئاً لمستقبل أولادي ؛ لأنهم إنْ كَانُوا من أولياء الله فالله لا يكلّ وليه لنفسه ، وإنْ كَانوا أعداء لله ، فما لي أعينهم؟!).

٤ ـ صدقات السر والعلانية

المستفاد من الروايات هو أنَّ الصدقة عملٌ الأفضل إتيانه سراً ، إلَّا أنَّه في بعض الأحيان يستدعي الأمر العلانية في التصدق ، وذلك لعنوان ثانوي طارئ. (١)

إنَّ هذا الأمر قد بُيّن بوضوح في الآية الشريفة ٢٧١ من سورة البقرة : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَات فَنِعِمَّا هِي وإنْ تُخْفُوهَا وَتُؤتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبَيْرٌ)

٥ ـ الأولوية للمساكين المتسترين

القرآن المجيد يعتبر المساكين والمتسترين على فقرهم هم المحتاجون الحقيقيون كما هم أولى باستلام هذه الاعانات والصدقات ، الآية ٢٧٣ من سورة البقرة تحكي هذا المضمون : (لِلفُقَرَاءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبَاً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيْمَاهُم لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

من الفقراء ذو عزة نفس عالية ومثل هؤلاء هم اهل لهذه الصدقات وأولى بها ، وبخاصة أنَّ هذا الشهر شهر مبارك والأعمال العادية فيه تعدّ عبادة ، فكيف بطاعة ذات قيمة عالية مثل التصدق؟ كما أنَّ من فلسفة الصيام هو الاحساس بالآم المحتاجين للبتّ في رفع احتياجاتهم. (٢)

__________________

(١) من المفضل في الموارد التالي ذكرها ان يكون التصدق علانية : لتشجيع الاخرين على التصدق ، لاحياء سنة التصدق الاسلامية ، هذا إذا ما كان كل المسلمين يتصدقون سراً ، فان التصدق سراً هنا قد يؤدي إلى تهمة ترك الانفاق ، وكذا التصدق لتعظيم الشعائر الدينية.

(٢) وسائل الشيعة ج ٦ ، ابواب الصوم ، الباب ١ ، الحديث ١ و ٣ و ٤ و ٥.

١٠٥
١٠٦

المثل الثامن :

عاقبة الامور

يقول الله تعالى في ثامن مثل من أمثال القرآن في الآية ٢٦٦ من سورة البقرة :

(أيَوَدُّ أحَدَكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيْلٍ وَأعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَةٌ ضُعَفَاءُ فأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيْهِ نَارٌ فاحْتَرَقَت كَذلك يُبَيِّن اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)

تصوير البحث

كيف يكون أحدكم راغباً في ان يبتلى بمصير الشخص الذي له بستان فيه نخيل وأشجار مثمرة وفيه أنهار بعد ما بلغ هذا الشخص سن الكبر ، وكان قد جمع حوله ذرية واطفالاً ضعفاء ، حينئذ يواجه البستان إعصاراً متزامناً مع نار ملتهبة تلتهم بستانه وما فيه ليصبح ذليلاً بعد عمر من العز.

الشرح والتفسير

للمفسرين أقوال في هذه الآية :

يعتقد بعض المفسرين أنَّ هذا المثل يحكي عاقبة الإنسان الذي يحرق محاصيل انفاقه وبذله بنار الرياء ، لتذهب بذلك أعماله الصالحة وعباداته سُدى.

قد يقوم البعض باعمال كثيرة من قبيل الحج والصلاة والصيام والجهاد واعانة المساجد

١٠٧

وبناء المستشفيات واعانة الايتام ، وقد يقضي عمراً طويلاً في هذه الأعمال إلَّا أنه قد يحرقها ويُذهب بها مع الريح ليمحو آثارها وذلك بأن يتراءى بها. (١)

ويرى البعض أنَّ آية المثل لا تختص بالرياء ، بل تشمل جميع الذنوب ، فإنَّ الآية تحذّر المسلمين ليراقبوا أعمالهم وعباداتهم ، ويحفظوها مما قد يدمرها ويحرقها من الذنوب.

وحسب هذه الاية ، فانّ الإنسان إذا لم يراقب أعماله قد يبتلي بمصير هذا الشيخ الذي تضرر هو مع عياله وأولاده وأوقع مستقبل اطفاله بخطر. (٢)

وبعبارة أخرى : يا إنسان! حافظ على أعمالك وعباداتك دائماً وبشكل مناسب وفكر بعاقبة امرك ؛ وأنَّ حفظ العمل اصعب من اداء نفس العمل.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قال لا إله الا الله ، غرس الله بها شجرة في الجنة» ، والحديث يعني أنَّ الإنسان كلما نطق بهذه الكلمة غرست له شجرة في الجنة.

والمستفاد من هذه الرواية هو أنَّ الجنة وكذا جهنم تبنى بواسطة أعمالنا ، فهي ليست مبنية من ذي قبل.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قال : سبحان الله غرس الله بها شجرة في الجنة. ومن قال : الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة. ومن قال : لا اله الا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة.

ومن قال : الله اكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة».

فقال رجل من قريش : يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنة لكثير ، قال : «نعم ، ولكن إيَّاكم أنْ ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها وذلك أنَّ الله عزوجل يقول : (يَا أيُّهَا الّذِيْنَ آمَنُوا أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُم) (٣)

ويقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث آخر : «العلماء كلهم هلكى إلَّا العاملون ، والعاملون كلهم هلكى إلَّا المخلصون ، والمخلصون على خطر». (٤)

__________________

(١) انظر الأمثل ٢ : ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٢) انظر مجمع البيان ٢ : ٣٧٩.

(٣) بحار الأنوار ٩٠ : ١٦٨.

(٤) ميزان الحكمة ، الباب ١٠٣٢ ، الحديث ٤٧٦٨.

١٠٨

وفي هذا الحديث تحذير آخر للانسان بان لا يذهب باعماله الخالصة الماضية بذنوبه المقبلة.

(أيَوَدُّ أحَدَكُم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيْلٍ وَأعْنَابٍ) إنَّ الإشارة إلى فاكهة العنب والتمر دون غيرهما يفيد أنهما أهم أغذية للبشر ، أما الأهم منها فمعدم أو قليل.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَمَرَاتِ) البستان قد يحتوي على بركة أو قنال يسقى منها ، والأخير قد يستدعي بذل المال مقابل الماء. وفي كلا الحالتين ، إنَّ السقي بهما يستلزم متاعب وزحمات جمة. إلَّا أنَّ البستان الذي تحدثت عنه الآية يقع في مسير نهر ، وهذا يعني أنَّ السقي لهذا البستان مريح جداً ولا يستدعي تحمل زحمات وافرة. اضافة إلى هذا ؛ فإنَّ في هذا البستان فواكه من قبيل التمر والعنب.

(وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءٌ) أي أنَّ صاحب هذا البستان أصبح شيخاً كبيراً.

وضعف الذرية اشارة إلى عدم امكانهم اعانته على شؤون البستان ، بل انَّ عبء هؤلاء الأطفال واقع جميعاً على عاتق هذا الشيخ ، وهذا البستان لا يحتاج إلى عناية كبيرة ومستمرة فيمكنهم التمتع بمحاصيله وثماره.

(فَأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيْهِ نَارٌ فاحْتَرَقَتْ) أي في الوقت الذي يكون فيه الشيخ بأمسِّ الحاجة إلى هذا البستان يأتي إعصار من نار يحرق هذا البستان ويبدله إلى تل من الرماد ثم يذهب هذا الرماد مع الريح متناثراً بحيث لا يبقى أي اثر منه.

الإعصار يحصل اثر اصطدام ريحين قادمين من اتجاهين مختلفين ، وهو يحضى بقدرة عجيبة إذا حصل في مكان فانه يذهب معه كل ما يكون هناك من اشياء ، فقد يذهب بماء حوض مع اسماكه ويسقطها في مكان اخر بحيث يتصور البعض انّ الاسماك جاءت من السماء ، وقد يرفع انساناً من مكانه ويلقيه في مكان آخر.

سؤال : كيف يحصل النار ويتزامن مع هذا الاعصار؟

هناك إجابات عديدة لهذا السؤال :

الف ـ يعتقد البعض أنَّ الاعصار خالٍ من النار ، والنار تقدم من الصواعق فالصاعقة تحرق البستان ثم يأتي الاعصار ليذهب برماد البستان وينقله إلى مكان آخر.

١٠٩

باء ـ إنَّ الاعصار قد يتلاقى مع نار مستعرة فياخذ منها ويلقيه على البستان فيحترق البستان ويتبدل رماداً.

جيم ـ هذه الأعصار ليست اعصاراً متعارفة ، بل هي اعصار يطلق عليها (سموم) تهب غالباً في السعودية والذين يقعون في طريقها يتقنعون وينبطحون إلى أنْ تَتجاوزهم ، وهذه الأعصار عند ما تلاقي البستان تحرقه وتدمره.

(كَذَلك يُبَيِّن اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرُونَ) يعتبر الله الهدف من هذا المثل هو التفكّر والتعقل. ووفقاً لهذه الآية الشريفة ، فإنَّ على الإنسان أن يودع نفسه بيد الله ويعتقد أنَّ كل ما يقوم به من أعمال وطاعات وعبادات هي قليلة في حق الله وأنَّ ما يصله من الله تعالى من نعيم هو بلطفه وإحسانه لا لعمل وعبادة استحق بهما الإنسان تلك النعم.

من المؤسف أنَّ هذا الإنسان الضعيف قد لا يفكر جيداً ويغتر بما جاء به من ركعات صلاة وأيام من الصوم فيعد نفسه ـ لأجل ذلك ـ من أصحاب الجنة. بل يعد الجنة ، واجبة له ، ونفس هذا الإنسان قد يرى نفسه ميتاً خلو الإيمان.

اللهم اجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين.

إنّ السوء كان عاقبة هذا الشخص

في زمن الطاغوت البهلوي كان طالب حوزة متدينٌ جداً ومتقٍ ، وكان يواضب على اعماله كثيراً ، وقد كان متذمراً من اخيه ولا يعاشره لاجل انه كان لا يدفع الخمس والزكاة. في يوم من الأيام مرض هذا الطالب مرضاً شديداً فاخذه اخوه إلى بيته ليعتني به وأثناء تواجده عند أخيه ذهب احد الاساتذة لعيادته وعند الدخول قال للاستاذ : لا تجلس على السجادة لانها مغصوبة .. لكن الزمان غيّر هذا الطالب ولم يبقه على ما كان ، بل حوّله إلى درجة أنّه ما كان يجلس على مأدبة طعام خالية من المسكر.

يقول الإمام علي عليه‌السلام في الخطبة القاصعة (١) التي تعرض في جزء منها إلى آثار التكبر

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢.

١١٠

والعجب : «فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس إذ احبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستة الاف سنة ، لا يدري أمن سني الدنيا ام من سني الاخرة عن كبر ساعة واحدة» ، فإنَّ ساعة من العناد والتكبر احبطت اعماله وورطته بمصير لا يحمد.

وعلى هذا ، فلا ينبغي ان يغتر الإنسان ابداً بطاعاته واعماله ، بل عليه ان يتطلع دائماً إلى عفو الله ورحمته.

اللهم اجعل عاقبة أمرنا خيراً.

خطابات آية المثل هي الاحباط والتكفير

من البحوث المطروحة في علم الكلام هي مسألة الاحباط والتكفير وقد أشارت اليهما الآية.

إنَّ الاحباط عبارة عن أعمال وذنوب ، الاتيان بها يؤدي إلى ذهاب حسنات الإنسان وعباداته. أمّا التكفير فهو عبارة عن اعمال ، اداؤها يؤول إلى ذهاب الذنوب ومحوها. وعلى سبيل المثال ، فإنَّ تكبر الشيطان وحسده ولجه سبب في احباط اعماله التي أدَّاها خلال ست الاف سنة ، أمّا توبة الحر بن يزيد الرياحي عند الامام الحسين عليه‌السلام فقد كانت تكفيراً لذنوبه التي ارتكبها.

ان التوبة تطفي نار الذنوب ، وعلى المسلمين ان يتوبوا وينيبوا إلى الله دائماً بالدعاء والمناجاة والتوسل بالأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

اضافة إلى الايات ، فإن ادعية العشرة الثالثة من شهر رمضان أشارت إلى مسألة الاحباط والتكفير ، فنقرأ في دعاء ليلة القدر مثلاً : «وان كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني من السعداء» (١) فان القسم الاول من الدعاء يشير إلى مسألة الاحباط والقسم الثاني إلى مسألة التكفير.

__________________

(١) مصباح الكفعمي ، أعمال ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك اضافة الى هذا فان جملة (ان تجعل اسمي في هذه الليلة في السعداء) نجدها في جميع ادعية الليالي العشر الاخيرة من شهر رمضان.

١١١

الاستدلال على وجود الاحباط والتكفير

رغم أنَّ بعض العلماء المسلمين لا يعتقد بالاحباط والتكفير ولا يرى تأثيراً لاحدهما على الاخر أي أنَّ الأعمال الحسنة لا تؤثر على السيئة والسيئة لا تؤثر على الحسنة ، لكن القرآن يصرح في بعض الآيات بالاحباط والتكفير.

ونختار من ذلك بعض النماذج :

الف ـ يقول الله في الآية ١١٤ من سورة هود : (وَأَقِمِ الصَّلوةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلْفاً مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلك ذِكْرَى للذّاكِرِينَ)

باء ـ يتحدث القرآن المجيد عن الاحباط في الآية ٥ من سورة المائدة : (وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَة مِنَ الْخَاسِرِينَ) (١)

وعلى هذا ، فأصل الإحباط والتكفير قد بُيِّنَ في الآيات ، إلّا أنها لم توضح أي نوع من الذنوب توجب الاحباط وأي نوع من الاعمال توجب التكفير ، وعلينا استفادة ذلك من الروايات.

ما ينبغي علينا إلّا مُراقبة أعمالنا خوف أنْ يصدر منّا عمل يحبط اعمالاً قيّمة كثيرة. وإذا ما اذنبنا فعلينا طلب الاعانة من الله بالبكاء والنواح لكي يتوافر بذلك بحر من الماء يطفئ نار الذنوب. وإذا كانت شخصية مثل الإمام علي (عليه‌السلام) يسجد ويقول خضوعاً : «آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبعد السفر ...» (٢) فكيف بنا نحن انا وأنت؟!

__________________

(١) وهناك آيات أخرى من القرآن الكريم دلت على الاحباط والتكفير ، للمزيد راجع تفسير الأمثل ٢ : ٦٧ ـ ٩٦ ، ومحال أُخرى من الكتاب نفسه متناثرة في باقي مجلداته ، منها في سورة هود ومنها في سورة الحجرات وغيرهما من السور.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٧٧.

١١٢

المثل التاسع :

أكل الربا

يقول الله تعالى في الآية ٢٧٥ من سورة البقرة :

(الّذِيْنَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبَطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذلك بِأنَّهُم قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إلى اللهِ وَمَنْ عَادَ فأُولئِكَ أصْحَابُ النِّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ)

تصوير البحث

إنّ آكلي الربا على أساس هذه الآية عند ما يدخلون المحشر يوم القيامة يدخلون كالسكارى أو المجانين أو المصروعين ، لا يتمالكون على انفسهم ولا يستطيعون حفظ تعادلهم فيقعون ويقومون بين الحين والآخر. وهذا المنظر المرعب يلفت انظار اهل المحشر ويجعلهم يدركون أنَّ هؤلاء هم آكلو الربا.

علاقة الآية بما قبلها

الايات السابقة تحدثت عن الصدقة والانفاق في سبيل الله ، وهذه الآية ترتبط بشكل وآخر بالصدقة ؛ وذلك لأن الصدقة على قسمين :

١ ـ الصدقة دون عوض وهو الانفاق والبذل للمحتاجين.

٢ ـ الصدقة مع العوض وهو الدين أو القرض الحسن.

١١٣

إنّ الدين إذا لم يكن مع عوض وربح كان قرضاً حسناً والّا عُدَّ رباً وحراماً. وقد جاء في الروايات أنَّ الصدقة والبذل من دون عوض اجرها عشرة اضعاف ، أمّا إلاقراض أو الصدقة مع العوض فاجره ثمانية عشر ضعف ، (١) وسبب ذلك واضح من حيث أنَّ المقترضين محتاجون حقاً ، وهم ذوى اعتبار وماء وجه.

وعلى هذا ، فإنَّ شيئين يتوخى من القرض هما : أولاً ـ رفع حاجة المحتاجين. ثانياً ـ الحفاظ على حيثية واعتبار المحتاج.

وعلى أساس الآية الشريفة : (مَنْ جَاءَ بالحَسَنةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا) (٢) فإنّ كلاً منها له عشر حسنات والمجموع هو عشرون ، ولكن باعتبار انّ القرض يسترجع بعد فترة من الزمن فتنقص منه حسنتان ليكون المجموع ثمانية عشر.

الشرح والتفسير

(الّذينَ يأكُلُونَ الرِّبَا ...) أي أنَّ آكلي الربا سيبتلون يوم المحشر بعدم التعادل والتوازن في المشي ويبدون كأنهم مصروعون أو مجانين.

(ذَلك بِأنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) إنّ سبب ابتلاء هؤلاء بهذا المصير هو أنَّهم إضافة إلى اكلهم الربا كانوا يسعون في تبرير عملهم بالقول : إنَّ البيع مثل الربا ، كما الاول حلال كذلك الثاني.

(أحَلَّ اللهُ البيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) حلية البيع والمعاملة لأجل وجود مصلحة في ذلك عكس الربا ، ففيه مفسدة اضافة إلى أنه يفقد المصلحة. ففي المعاملة تارة يكون ربح واخرى يكون

__________________

(١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : ((رأيت مكتوباً على باب الجنة (الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر) فقلت : يا جبرئيل وَلِمَ ذلك والذي يتصدق لا يريد الرجوع والذي يقرض يعطي لان يرجعه؟ فقال : نعم ، هو كذلك ولكن ما كل ما يأخذ الصدقة له بها حاجة والذي يستقرض لا يكون الا عن حاجة فالصدقة قد تصل إلى غير المستحق والقرض لا يصل إلّا إلى المستحق ، ولذا صار القرض افضل من الصدقة)).

مستدرك الوسائل ١٣ : ٣٩٥ ، ابواب الدين والقرض الباب ٦ الحديث ٣.

(٢) الأنعام الآية ١٦٠.

١١٤

خسارة إلّا أنَّ الأمر في الربا يختلف ، فآكل الربا يحصل على الربح دائماً ولا يتضرر ابداً والخسارة يتحملها المقترض فقط ، ولذلك عدت امواله حاصلة بلا تعب.

اضافة إلى هذا ، فإنَّ أكل الربا سبب في ايجاد الفجوة بين طبقات المجتمع ، وذلك لأنَّ ظاهرة الربا إذا تفشت في المجتمع اجتمعت ثروات الناس وأموالهم عند آكلي الربا بعد فترة وجيزة من الزمن ، أمّا الاخرون فتتردى اوضاعهم إلى أسوأ ما يمكن.

(فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إلى اللهِ) في بداية الاعلان عن هذا الحكم يصرح الله بشمول العفو والمغفرة لاولئك الذين كانوا يمارسون الربا قبل هذه الآية فلا خوف عليهم.

وعليه ، فالذين كانت لهم اموال عند الناس وتعاقدوا معهم على ان يكون لهم فيها ربا ، فإنَّ هذه المعاملة تبطل واصحاب الاموال من الان فما بعد باتوا لا يملكون الا رؤوس اموالهم فحسب ولا حق لهم في استلام اكثر من ذلك.

(وَمَنْ عَادَ فأُولئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ) يهدد الله في هذه الآية اولئك الذين يعاودوا ممارسة هذا العمل بعد هذه الآية ويقول بأنَّهم إذا فعلوا هذا مرة أخرى ـ وهو عمل عد في بعض الروايات كممارسة الفاحشة مع المحارم (١) ـ فإنَّ جهنم تنتظرهم وسيكونون مخلدين فيها.

سؤال : إنّ الخلود في جهنم خاص بالكفار فما يعني الخلود بالنسبة لآكلي الربا من المسلمين؟

الجواب : من التفاسير التي ذكرت في هذا المجال هو أنَّ آكلي الربا يموتون غير مؤمنين بسبب عملهم القبيح هذا ، ومن الواضح أنَّ غير المؤمنين يخلدون في جهنم. (٢)

__________________

(١) شبه الربا بالزنا في كثير من الروايات ، وللمزيد يمكنك مراجعة وسائل الشيعة ج ١٢ أبواب الربا ، الباب الاول ، الروايات ١ و ٥ و ٦ و ١٨ و ١٩ و ٢١ و ٢٢.

(٢) والاحتمال الاخر هو أنه يراد من الخلود هنا الزمن الطويل لا معناه المتعارف.

١١٥

خطابات الآية

عقاب آكلي الربا في الدنيا والآخرة

هناك بحث بين المفسرين في هل أنَّ التَشبيه لآكلي الربا في الآية تشبيه لمصيرهم في الدنيا؟

ام أنّ ذلك نوع من العقاب والعذاب الأُخروي؟

يستفاد من الروايات أنّ هذا النوع من المصير يتعلق بكلا العالمين. وقد نقلت رواية في تفسير (نور الثقلين) عن الامام الصادق عليه‌السلام يقول فيها : «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان» ، (١) والعبارة الأخيرة تعني الجنون.

وفي رواية أخرى حكت موضوع المعراج (٢) أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«لما أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أنْ يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه ، قال : قلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا». (٣)

نسبة الجنون إلى الشيطان

لماذا نسب الجنون إلى الشيطان في آية المثل؟

المستفاد من ظاهر الآية هو أنَّ الشيطان سبب الجنون عند الإنسان.

لكن الأبحاث العلمية أثبتت وجود أسباب أخرى للجنون لا علاقة لها بالشيطان ، ومن هنا كانت للمفسرين آراء مختلفة في تفسير الآية ، نشير إلى بعضها هنا.

الف ـ القرآن يخاطب الناس بما يتماشى مع عقائدهم ؛ فإنّ الناس عصر النزول (العرب آنذاك) كانوا يعتقدون أنَّ الجنون من الشيطان ، أو أنَّ الشيطان ينفذ في جسم الإنسان فيجن ، ولهذا كان هذا التعبير القرآني كناية عن الجنون.

باء ـ المعنى الحقيقي للجملة هو المراد لا المعنى الكنائي ، ونسبة الجنون للشيطان من حيث

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٩١.

(٢) إنَّ مسألة المعراج تعد من عقائد المسلمين ، وقد عرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء عدة مرات ، وللمزيد راجع تفسير الامثل ٨ : ٣٤٣ ـ ٣٥٤ ، ومما يذكر هنا أنَّ جهنم والجنة التي شاهدهما الرسول كانتا برزخيتين.

(٣) وسائل الشيعة ج ١٢ ، ابواب الربا ، الباب الاول ، الحديث ١٦.

١١٦

إنَّ الله جعل عقاب هؤلاء المذنبين تسلط الشيطان عليهم وهذا التسلط هو الذي يسبب القلق والجنون.

التناسب بين الجناية والعقاب

يعتقد بعض المفسرين أنَّ العقاب الذي يعينه القرآن لذنب ما يتناسب مع ذلك الذنب ، فبين العقاب الذي عُيِّن لآكلي الربا وبين الجنون تناسب ، وبين هذا الذنب وذلك العقاب علاقة وارتباط ، فبما أنّ آكل الربا يقوم من خلال عمله القبيح بتدمير اقتصاد المجتمع ويخرجه عن حالة التعادل ويحول دون حركة العجلة الاقتصادية كذلك هو ذاته فإنَّه سيبتلي بمصير من هذا القبيل في الاخرة.

في رواية للامام الباقر عليه‌السلام يقول فيها : «الظلم في الدنيا هو الظلمات في الاخرة». (١)

فإنّ العقاب في هذه الرواية يتناسب مع الذنب ، ذلك أنَّ الظالم يُظلم الدنيا والعالم في عينيي المظلوم وعلى هذا الاساس تظلم الاخرة في عينيي هذا الظالم.

فلسفة تحريم الربا

كما أنَّ الربا وآكله يُوجب مفاسد عديدة فإنَّ تحريمه ينمّ عن فلسفات مختلفة نشير إلى بعضها هنا :

الف ـ إنَّ الظلم المشار اليه في الآية ٢٧٩ من سورة البقرة هو فلسفة تحريم الربا.

باء ـ الفلسفة الاخرى للتحريم هي تثبيت سنة (القرض) في المجتمع ، وقد جاء هذا المطلب في روايات عديدة ، منها رواية سماعة عن الامام الصادق عليه‌السلام حيث يسأل فيها : إني رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرره؟ قال عليه‌السلام : «أوتدري لم ذلك؟» قلت : لا. قال عليه‌السلام : «لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف». (٢)

__________________

(١) ميزان الحكمة ، الباب ٢٤٤٨ ، الحديث ١١١٠٨ ، وهناك روايات أخرى في نفس الباب تدل على المضمون ذاته.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٢ ، ابواب الربا الباب ١ ، الحديث ٣ والروايات ٤ و ٩ و ١٠ و ١١ كلها تدل على نفس المضمون ، كما أنه قد فسر صنائع المعروف في الحديث (١١) من نفس المصدر بالقرض.

١١٧

أي أنّ الربا إذا تفشى فسيترك الناس سنة القرض وتموت من جراء ذلك العواطف الانسانية ليحل محلها الانتهاز والربح. ولهذا كان الربا محرما في الشريعة الاسلامية المقدسة. (١)

الإرتباط بين الإخلاق والاقتصاد في الإسلام

بين الاقتصاد الاسلامي والاقتصاد المادي بون شاسع ، واهم مفارقة بينهما هو أنّ الاقتصاد الاسلامي يعد مزيجاً من الاخلاق والاصول والمبادئ الانسانية ، بينما الاقتصاد المادي لا أنه خال من الأخلاق والعاطفة فحسب ، بل إنَّ المصلحة المادية تعدّ المبدأ الحاكم على هذا الاقتصاد. وعلى هذا ، فكل شيء يتعارض ويتضاد مع ذلك يُضحّى به لأجل المصالح المادية.

إنَّ إنتاج المخدرات وعوائدها ـ الذي يعد امراً يتمانع مع المبادئ الإنسانية ـ يعد امراً ليس مهماً عند كثير من الدول وحتى تلك الدول التي تدعي مكافحتها لهذه الظاهرة وتعقد بين الحين والآخر مؤتمرات في هذا المجال ، لها نصيب ليس قليلاً في تجارة هذه المواد.

إنَّ مؤيدي ودعاة الاقتصاد المادي لا يكترثون من فساد جيل الشباب وتزلزل المبادئ الاخلاقية وتفكك العوائل وما يهمهم هو مصالحهم الذاتية.

إنَّ المتاجرة بالانسان وبيع الاطفال رغم تمانعه مع جميع المبادئ الانسانية يعد جائزاً عند دعاة حقوق البشر المزيفين ويعترفون بذلك بشكل غير علني.

مَن الذي وفَّر للعراق أسلحة الدمار الشامل والقنابل الكيمياوية والميكروبية والصواريخ بعيدة المدى والقنابل

العنقودية وامثالها ، وذلك ليرتكب بواسطتها ابشع الجرائم في ايران الاسلامية؟ لماذا سكت دعاة حقوق البشر ولم يعترضوا على ذلك؟ لكنّهم رفعوا هتافات الإعتراض بمجرد أنْ هجم العراق على الكويت وحكموا عليه بضرورة نزع السلاح.

إنَّ سرّ هذه الإزدواجية واضح ؛ فإنَّ مصالح الدول الاستكبارية قد اقتضت يوماً أنْ

__________________

(١) للمزيد راجع (ربا وبانكداري اسلامي) من سلسلة دروس سماحة اية الله مكارم الشيرازي في مجال البنك الإسلامي (بالفارسية).

١١٨

يتسلح العراق باحدث الاسلحة واشدها فتكاً ، وهذه المصالح ذاتها اقتضت يوماً أنْ يُنزع العراق أسلحته ليضمنوا بذلك مصالحهم. والملاك في كل ذلك هو مصالحهم المادية ، أمّا المبادئ الإنسانية فمغلوب على أمرها.

المبدأ الحاكم على الاقتصاد الاسلامي هو الأخلاق ، وينبغي أنْ تتم عملية كسب المصالح المادية تحت ضلّ حفظ القيم الاخلاقية ، وعلى هذا الاساس حرّم الإسلام المعاملة التي تعد منشأً للفساد. وعلى سبيل المثال أنّ الإسلام إذا منع تأسيس مراكز للفحشاء أو حرّم بيع الشراب ولعب القمار أو تأسيس مصرف ربوي وغيرها فذلك لأجل أنَّ أموراً من هذا القبيل تعدّ منشأ للفساد الكثير ، الامر الذي لا يتناسب مع الأخلاق الإسلامية.

إنَّ القِيَم الأخلاقية التي تحكم الاقتصاد الاسلامي لها مبادئ عديدة نشير إلى بعض منها هنا :

الف ـ من المبادئ التي تحكم الاقتصاد الاسلامي هي خطاب الآية الشريفة : (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) أي أنَّ المُعَامَلاتِ الاقتصادية ينبغي أنْ تنظم بشكل يخلو من الظلم لكلا الجانبين البائع والمشتري.

باء ـ كسب النفع ودفع الضرر العام ؛ وعلى أساس هذا المبدأ ، فإنَّ المصلحة الشخصية تكون ضحية المصلحة العامة. والبتّ بالأعمال التي يحتاجها المجتمع يعد واجباً ، فاذا كان المجتمع بحاجة إلى معلمين ، فعلى كل من يستطيع أن يبادر بهذا العمل.

ومن جانب آخر ، أنّ الأعمال التي تضر المجتمع تعد محرمة في الإسلام رغم ما قد يكون فيها من مصلحة ومنافع شخصية ، فبيع المسكر مثلاً ، وكذا النشاطات المتعلقة بهذا النشاط ، محرم وممنوع ولهذا جاء في الروايات أنَّ غرس شجرة العنب لاجل صنع المسكر من ثمارها ، وكذا سقيها وقطف ثمارها وحمله و.. هذا كله حرام. (١)

ويذكر هنا أنَّ المبادئ الاخلاقية لا تنحصر في الواجبات والمحرمات ، بل تشمل حتى المستحبات والمكروهات. ومن هنا كان (تلقي الركبان) مكروها في الفقه الإسلامي. والمراد من

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢١ ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٥٥ ، الحديث ٣ و ٤ و ٥.

١١٩

تلقي الركبان هو انتظار القوافل خارج المدينة أو القرية والمباشرة بشراء بضاعة القوافل قبل معرفة أصحابها بقيمها في اسواق القرية أو المدينة.

وقد اعتبر بعض الفقهاء هذا العمل حراماً ، إلَّا أنَّ بعضهم الاخر اعتبره مكروها ، (١) كما أنَّ اعمالاً مثل بيع الكفن مكروهة ، وذلك لأنَّ القائم بها يتطلع إلى موت الاخرين دائماً ، وهذا أمر يسبب قسوة في القلب.

جيم ـ توجيه الرأسمال نحو الآخرة ، وهذا المبدأ يستفاد من الآية ٧٧ من سورة القصص ، حيث قال الله تعالى : (وابْتَغِ فِيْمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللهُ إليْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إنّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ)

وفقاً لهذه الآية ، فإنَّ رأس المال يكون قيماً إذا ما صبّ في طريق الاخرة ، وبتعبير آخر : المال الذي يسد الحاجة الدنيوية والحاجة الاخروية. وفي النهاية : أنَّ القِيَم الأخلاقية هي الحاكمة على الاقتصاد الاسلامي ، بينما يفقد الاقتصاد المادي هذه القيم ويضحِّي أتْبَاع هذا المذهب كلَّ شيء لاجل المصالح الذاتية.

الاسوة في القيم الاخلاقية

يُوصِي الإمام علي عليه‌السلام في عهده لمالك الاشتر (٢) بطبقات المجتمع من العسكريين والقضاة والعلماء والتجار والمزارعين والوزراء والمسئولين الحكوميين وغيرهم إلّا أنَّه عند ما يصل إلى الطبقة المحرومة يستخدم في حقهم تعابير لم يستخدمها في حق غيرهم ، حيث يقول : «ثمّ الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى (٣)

__________________

(١) شرح اللمعة ١ : ٣٣١.

(٢) الرسالة ٥٣ من نهج البلاغة شرح صبحي الصالح ؛ ويذكر أنَّ هذه الرسالة من اطول العهود ، وتعد اوامر جامعة صدرت من الامام علي عليه‌السلام خطاباً لا لمالك فحسب بل لجميع الرؤساء في الحكومات بلا قيد الزمان والمكان ، وذلك لما تحضى به من حكمة وطراوة دائمة.

(٣) شدة الفقر.

١٢٠