أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ١

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ١

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٢

أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥٤)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم برآء من التفاوت ، ومميزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره ، إما على سبيل التقصي كقولهم برئ المريض من مرضه والمديون من دينه ، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إتماما لتوبتكم بالبخع ، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها. وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا. وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة. روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكانت القتلى سبعين ألفا. والفاء الأولى للتسبب ، والثانية للتعقيب.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) من حيث إنه طهرة من الشرك ، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه‌السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم. وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة ، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) للذي يكثر توفيق التوبة ، أو قبولها من المذنبين ، ويبالغ في الإنعام عليهم.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(٥٥)

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لأجل قولك ، أو لن نقر لك.

(حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) عيانا وهي في الأصل مصدر قولك : جهرت بالقراءة ، استعيرت للمعاينة ، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية ، أو الحال من الفاعل ، أو المفعول. وقرئ جهرة بالفتح على أنها مصدر كالغلبة ، أو جمع جاهر كالكتبة فيكون حالا من الفاعل قطعا ، والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه‌السلام للميقات. وقيل عشرة آلاف من قومه. والمؤمن به : إن الله الذي أعطاك التوراة وكلمك ، أو إنك نبي.

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) لفرط العناد والنعت وطلب المستحيل ، فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي ، وهي محال ، بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية ، وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا. قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم. وقيل صيحة. وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة.

(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ما أصابكم بنفسه أو أثره.

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٥٧)

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) بسبب الصاعقة ، وقيد للبعث لأنه قد يكون عن إغماء ، أو نوم كقوله

٨١

تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ).

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البعث ، أو ما كفرتموه لما رأيتم بأس الله بالصاعقة.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه.

(وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) الترنجبين والسماني. قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع ، وتبعث الجنوب عليهم السماني ، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) على إرادة القول.

(وَما ظَلَمُونا) فيه اختصار ، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره.

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)(٥٨)

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) يعني بيت المقدس ، وقيل أريحا أمروا به بعد التيه.

(فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) واسعا ، ونصبه على المصدر ، أو الحال من الواو.

(وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية ، أو القبة التي كانوا يصلون إليها ، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام.

(سُجَّداً) متطامنين مخبتين ، أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه.

(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي مسألتنا ، أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة ، وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، أو على أنه مفعول (قُولُوا) أي قولوا هذه الكلمة. وقيل معناه أمرنا حطة أي : أن نحط في هذه القرية ونقيم بها.

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بالياء وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول. وخطايا أصله خطايىء كخطائع ، فعند سيبويه أنه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف ، واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا ، وكانت الهمزة بين الألفين فأبدلت ياء. وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر.

(وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثوابا ، جعل الامتثال توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسن ، وأخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاما بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله ، فكيف إذا فعله ، وأنه تعالى يفعل لا محالة.

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٥٩)

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) بدلوا بما أمروا به من التوبة والاستغفار بطلب ما يشتهون من أعراض الدنيا.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) كرره مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعارا بأن الإنزال عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه ، أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها.

٨٢

(رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) عذابا مقدرا من السماء بسبب فسقهم ، والرجز في الأصل : ما يعاف عنه ، وكذلك الرجس. وقرئ بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون. روي أنه مات في ساعة أربعة وعشرون ألفا.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٦٠)

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) لما عطشوا في التيه.

(فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجرا طوريا. مكعبا حمله معه ، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين ، تسيل كل عين في جدول إلى سبط ، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا ، أو حجرا أهبطه آدم من الجنة ، ووقع إلى شعيب عليه‌السلام فأعطاه لموسى مع العصا ، أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة ، فأشار إليه جبريل عليه‌السلام بحمله ، أو للجنس وهذا أظهر في الحجة. قيل لم يأمره بأن يضرب حجرا بعينه ، ولكن لما قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها؟ حمل حجرا في مخلاته ، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس ، فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون. وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعا في ذراع ، والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه‌السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة.

(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) متعلق بمحذوف تقديره : فإن ضربت فقد انفجرت ، أو فضرب فانفجرت ، كما مر في قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ). وقرئ «عشرة» بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه.

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) كل سبط. (مَشْرَبَهُمْ) عينهم التي يشربون منها. (كُلُوا وَاشْرَبُوا) على تقدير القول :

(مِنْ رِزْقِ اللهِ) يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون. وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) لا تعتدوا حال إفسادكم ، وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد ، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ، ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر عليه‌السلام الغلام وخرقه السفينة ، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حسا ، ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه ، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد ، لم يمتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض ، أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى. وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل ، كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا تتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد ، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوه. (فَادْعُ لَنا

٨٣

رَبَّكَ) سله لنا بدعائك إياه (يُخْرِجْ لَنا) يظهر ويوجد ، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة. (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من الإسناد المجازي ، وإقامة القابل مقام الفاعل ، ومن للتبعيض. (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) تفسير وبيان وقع موقع الحال ، وقيل بدل بإعادة الجار. والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل ، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا ، وقيل الثوم وقرئ «قثّائها» بالضم ، وهو لغة فيه. (قالَ) أي الله ، أو موسى عليه‌السلام. (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أقرب منزلة وأدون قدرا. وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة ، وقرئ «أدنأ» من الدناءة. (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي. (اهْبِطُوا مِصْراً) انحدروا إليه من التيه ، يقال هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج منه ، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين ، وقيل أراد به العلم ، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد ، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود. وقيل أصله مصرائيم فعرب. (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصقت بهم ، من ضرب الطين على الحائط ، مجازاة لهم على كفران النعمة. واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين ، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا به ، أو صاروا أحقاء بغضبه ، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به ، وأصل البوء المساواة. (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب. (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) بسبب كفرهم بالمعجزات ، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر ، وإظلال الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وانفجار العيون من الحجر. أو بالكتب المنزلة : كالإنجيل ، والفرقان ، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة ، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم ، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم ، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي: جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات ، وقتل النبيين. فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها ، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها. وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر ، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى. وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل ، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعدا على تأويل ما ذكر ، أو تقدم للاختصار ، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم ، يريد به المتدينين بدين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المخلصين منهم والمنافقين ، وقيل المنافقين لانخراطهم في سلك الكفرة (وَالَّذِينَ هادُوا) تهودوا ، يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، ويهود : إما عربي من هاد إذا تاب ، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل ، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه‌السلام (وَالنَّصارى) جمع نصران كندامى وندمان ، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه‌السلام ، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها ، أو من اسمها. (وَالصَّابِئِينَ) قوم بين النصارى والمجوس. وقيل أصل دينهم دين نوح

٨٤

عليه‌السلام. وقيل هم عبدة الملائكة. وقيل عبدة الكواكب ، وهو إن كان عربيا فمن صبأ إذا خرج. وقرأ نافع وحده بالياء إما لأنه خفف الهمزة وأبدلها ياء ، أو لأنه من صبأ إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم ، أو من الحق إلى الباطل.

(مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ. مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه. وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ، ودخل في الإسلام دخولا صادقا : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الذي وعد لهم على إيمانهم وعملهم. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حين يخاف الكفار من العقاب ، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب. و (مَنْ) مبتدأ خبره (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والجملة خبر إن ، أو بدل من اسم إن وخبرها (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط ، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث إنها لا تدخل الشرطية ، ورد بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ).

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٤)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) باتباع موسى والعمل بالتوراة. (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) حتى أعطيتم الميثاق ، روي أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها ، فأمر جبريل عليه‌السلام فقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا. (خُذُوا) على إرادة القول : (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ادرسوه ولا تنسوه ، أو تفكروا فيه فإنه ذكر بالقلب ، أو اعملوا به. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكي تتقوا المعاصي ، أو رجاء منكم أن تكونوا متقين. ويجوز عند المعتزلة أن يتعلق بالقول المحذوف ، أي : قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه. (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيقكم للتوبة ، أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه. (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) المغبونين بالانهماك في المعاصي ، أو بالخبط والضلال في فترة من الرسل. ولو في الأصل لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فإذا دخل على لا أفاد إثباتا وهو امتناع الشيء لثبوت غيره ، والاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسد الجواب مسده ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٦٦)

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) اللام موطئة لقسم ، والسبت مصدر قولك سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت ، وأصله القطع أمروا بأن يجردوه للعبادة فاعتدى فيه ناس منهم في زمن داود عليه‌السلام ، واشتغلوا بالصيد ، وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على ساحل يقال لها أيلة ، وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه ، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد. (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) جامعين بين صورة القردة والخسوء : وهو الصغار والطرد ، وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن قلوبهم ، فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) وقوله : (كُونُوا) ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه ، وإنما المراد به سرعة التكوين ، وأنهم صاروا كذلك كما أراد بهم ، وقرئ «قردة» بفتح القاف وكسر الراء ، و«خاسين» بغير همزة.

٨٥

(فَجَعَلْناها) أي المسخة ، أو العقوبة. (نَكالاً) عبرة تنكل المعتبر بها ، أي تمنعه. ومنه النكل للقيد. (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذكرت حالهم في زبر الأولين ، واشتهرت قصتهم في الآخرين ، أو لمعاصريهم ومن بعدهم ، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها ، أو لأهل تلك القرية وما حواليها ، أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) من قومهم ، أو لكل متق سمعها.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٦٧)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) أول هذه القصة قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلالها بنوع آخر من مساويهم ، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال. وقصته : أنه كان فيهم شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه ، وطرحوه على باب المدينة ، ثم جاءوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله. (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي مكان هزؤ ، أو أهله ومهزوءا بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء استبعادا لما قاله واستخفافا به ، وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع بالسكون ، وحفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واوا. (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) لأن الهزء في مثل ذلك جهل وسفه ، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان ، وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعا له.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ)(٦٨)

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي ما حالها وصفتها ، وكان حقهم أن يقولوا : أي بقرة هي؟ أو كيف هي؟ لأن (ما) يسأل به عن الجنس غالبا ، لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه ، أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله. (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) لا مسنة ولا فتية ، يقال فرضت البقرة فروضا من الفرض وهو القطع ، كأنها فرضت سنها ، وتركيب البكر للأولية ومن البكرة والباكورة.

(عَوانٌ) نصف. قال شعر : نواعم بين أبكار وعون.

(بَيْنَ ذلِكَ) أي بين ما ذكر من الفارض والبكر ولذلك أضيف إليه بين ، فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد ، وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة ، ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب ، ومن أنكر ذلك زعم أن المراد بها بقرة من شق البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ، ويلزمه النسخ قبل الفعل ، فإن التخصيص إبطال للتخيير الثابت بالنص والحق جوازهما ، ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام «لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم». وتقريعهم بالتمادي وزجرهم على المراجعة بقوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) أي ما تؤمرونه ، بمعنى تؤمرون به من قولهم : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ، أو أمركم بمعنى مأموركم.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (٦٩)

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) الفقوع نصوع الصفرة

٨٦

ولذلك تؤكد به ، فيقال : أصفر فاقع كما يقال أسود حالك ، وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء لملابسته بها فضل تأكيد كأنه قيل ؛ صفراء شديدة الصفرة صفرتها ، وعن الحسن سوداء شديدة السواد ، وبه فسر قوله تعالى: (جِمالَتٌ صُفْرٌ). قال الأعشى :

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هن صفر أولادها كالزّبيب

ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنها من مقدماته ، أو لأن سواد الإبل تعلوه صفرة وفيه نظر ، لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تعجبهم ، والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع ، أو توقعه من السر.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ)(٧٠)

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تكرير للسؤال الأول واستكشاف زائد. وقوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) اعتذار عنه ، أي إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا ، وقرئ «إن الباقر» وهو اسم لجماعة البقر والأباقر والبواقر ، ويتشابه وتتشابه بالياء والتاء ، وتشابه ويشابه وتشّابه بطرح التاء وإدغامها في الشين على التذكير والتأنيث ، وتشابهت وتشّابهت مخففا ومشددا ، وتشبّه بمعنى تتشبّه وتشبّه بالتذكير ومتشابه ومتشابهة ومتشبّه ومتشبّهة. (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى المراد ذبحها ، أو إلى القاتل ، وفي الحديث «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد». واحتج به أصحابنا على أن الحوادث بإرادة الله سبحانه وتعالى ، وأن الأمر قد ينفك عن الإرادة وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى. والمعتزلة والكرامية على حدوث الإرادة ، وأجيب بأن التعليق باعتبار التعلق.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٧١)

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي لم تذلل لكراب الأرض وسقي الحرث ، و (لا ذَلُولٌ) صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية ، وقرئ «لا ذلول» بالفتح أي حيث هي ، كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان ، أي حيث هو ، وتسقي من أسقى. (مُسَلَّمَةٌ) سلمها الله تعالى من العيوب ، أو أهلها من العمل ، أو أخلص لونها ، من سلم له كذا إذا خلص له (لا شِيَةَ فِيها) لا لون فيها يخالف لون جلدها ، وهي في الأصل مصدر ، وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لونا آخر. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي بحقيقة وصف البقرة وحققتها لنا ، وقرئ «آلأن» بالمد على الاستفهام ، و«لان» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام. (فَذَبَحُوها) فيه اختصار ، والتقدير : فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها. (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لتطويلهم وكثرة مراجعاتهم ، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل ، أو لغلاء ثمنها. إذ روي : أن شيخا صالحا منهم كان له عجلة ، فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر ، فشبت وكانت وحيدة بتلك الصفات ، فساوموها من اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير. وكاد من أفعال المقاربة وضع لدنو الخبر حصولا ، فإذا دخل عليه النفي قيل معناه الإثبات مطلقا. وقيل ماضيا ، والصحيح أنه كسائر الأفعال ولا ينافي قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) قوله (فَذَبَحُوها) لاختلاف وقتيهما ، إذ المعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم ، وانقطعت تعللاتهم ، ففعلوا كالمضطر الملجأ إلى الفعل.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ

٨٧

الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣)

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) خطابا للجميع لوجود القتل فيهم (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) اختصمتم في شأنها ، إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضا ، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه ، وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) مظهره لا محالة ، وأعمل مخرج لأنه حكاية مستقبل كما أعمل (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) لأنه حكاية حال ماضية.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) عطف على ادارأتم وما بينها اعتراض ، والضمير للنفس والتذكير على تأويل الشخص أو القتيل (بِبَعْضِها) أي بعض كان ، وقيل : بأصغريها ، وقيل بلسانها ، وقيل بفخذها اليمنى ، وقيل بالأذن ، وقيل بالعجب (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) يدل على ما حذف وهو فضربوه فحيي ، والخطاب مع من حضر حياة القتيل ، أو نزول الآية (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائله على كمال قدرته. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي يكمل عقلكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها ، أو تعملوا على قضيته. ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرب وأداء الواجب ، ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل والشفقة على الأولاد ، وأن من حق الطالب أن يقدم قربة ، والمتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالي بثمنه ، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه : أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار. وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى ، والأسباب أمارات لا إثر لها ، وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوه الساعي في إماتته الموت الحقيقي ، فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوة الشهوية حين زال عنها شره الصبا ، ولم يلحقها ضعف الكبر ، وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا ، مسلمة عن دنسها لا سمة بها من مقابحها بحيث يصل أثره إلى نفسه ، فتحيا حياة طيبا ، وتعرب عما به ينكشف الحال ، ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة ، كما في الحجر. وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار ، وثم لاستبعاد القسوة (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) يعني إحياء القتيل ، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب. (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في قسوتها (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) منها ، والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها ، أو أنها مثلها ، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفا على الحجارة ، وإنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة ، والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و (أَوْ) للتخيير ، أو للترديد بمعنى : أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها.

(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) تعليل للتفضيل ، والمعنى : أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء ، وتنفجر منه الأنهار ، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به. وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى. والتفجر التفتح بسعة وكثرة ، والخشية مجاز عن الانقياد ، وقرئ (إِنَ) على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية ، ويهبط بالضم.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد على ذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده ، والباقون بالتاء.

٨٨

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٥)

(أَفَتَطْمَعُونَ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أن يصدقوكم ، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم. يعني اليهود. (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طائفة من أسلافهم (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) يعني التوراة. (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) كنعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآية الرجم. أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون. وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه‌السلام بالطور ، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا. (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم مفترون مبطلون ، ومعنى الآية : أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم ، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٧)

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني منافقيهم. (قالُوا آمَنَّا) بأنكم على الحق ، وإن رسولكم هو المبشر به في التوراة (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا) أي الذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافق. (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الذين نافقوا لأعقابهم إظهارا للتصلب في اليهودية ، ومنعا لهم عن إبداء ما وجدوا في كتابهم ، فينافقون الفريقين. فالاستفهام على الأول تقريع وعلى الثاني إنكار ونهي (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، جعلوا محاجتهم بكتاب الله وحكمه محاجة عنده كما يقال عند الله كذا ، ويراد به أنه جاء في كتابه وحكمه ، وقيل عند ذكر ربكم ، أو بين يدي رسول ربكم. وقيل عند ربكم في القيامة وفيه نظر إذ الإخفاء لا يدفعه. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إما من تمام كلام اللائمين وتقديره : أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم به فيحجونكم ، أو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ) ، والمعنى : أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم في إيمانهم.

(أَوَلا يَعْلَمُونَ) يعني هؤلاء المنافقين ، أو اللائمين ، أو كليهما ، أو إياهم والمحرفين. (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ومن جملتهما إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان ، وإخفاء ما فتح الله عليهم ، وإظهار غيره ، وتحريف الكلم عن مواضعه ومعانيه.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ، ويتحققوا ما فيها. أو التوراة (إِلَّا أَمانِيَ) استثناء منقطع. والأماني : جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ، ولذلك تطلق ، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرفين أو مواعيد فارغة. سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل إلا ما يقرءون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله :

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

تمني داود الزبور على رسل

٨٩

وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم ، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع ، وإن جزم به صاحبه : كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة.

(فَوَيْلٌ) أي تحسر وهلك. ومن قال إنه واد أو جبل في جهنم فمعناه : أن فيها موضعا يتبوأ فيه من جعل له الويل ، ولعله سماه بذلك مجازا. وهو في الأصل مصدر لا فعل له وإنما ساغ الابتداء به نكرة لأنه دعاء. (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) يعني المحرفين ، ولعله أراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة. (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد كقولك : كتبته بيميني (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كي يحصلوا به عرضا من أعراض الدنيا ، فإنه وإن جعل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدائم. (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني المحرف. (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) يريد به الرشى.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨٠)

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) المس اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة به ، واللمس كالطلب له ولذلك يقال ألمسه فلا أجده. (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) محصورة قليلة ، روي أن بعضهم قالوا نعذب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوما ، وبعضهم قالوا مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) خبرا أو وعد بما تزعمون. وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال. والباقون بإدغامه (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) جواب شرط مقدر أي : إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ، وفيه دليل على أن الخلف في خبره محال.

(أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أم معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي الأمرين كائن ، على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما ، أو منقطعة بمعنى : بل أتقولون ، على التقرير والتقريع.

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨٢)

(بَلى) إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زمانا مديدا ودهرا طويلا على وجه أعم ، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم ، وتختص بجواب النفي (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) قبيحة ، والفرق بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات ، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ ، والكسب : استجلاب النفع. وتعليقه بالسيئة على طريق قوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

(وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أي استولت عليه ، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه ، وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به ، ولذلك فسرها السلف بالكفر. وتحقيق ذلك : أن من أذنب ذنبا ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه ، حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلا إلى المعاصي ، مستحسنا إياها معتقدا أن لا لذة سواها ، مبغضا لمن يمنعه عنها مكذبا لمن ينصحه فيها ، كما قال الله تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ). وقرأ نافع خطيئاته. وقرئ «خطيته» و«خطياته» على القلب والإدغام فيهما. (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون ، أو لابثون لبثا طويلا. والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة وكذا التي قبلها.

٩٠

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده ، لترجى رحمته ويخشى عذابه ، وعطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) إخبار في معنى النهي كقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه ويعضده قراءة : «لا تعبدوا». وعطف (قُولُوا) عليه فيكون على إرادة القول. وقيل : تقديره أن لا يعبدوا فلما حذف أن رفع كقوله :

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

ويدل عليه قراءة : «ألا تعبدوا» ، فيكون بدلا عن الميثاق ، أو معمولا له بحذف الجار. وقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قال : وحلفناهم لا يعبدون. وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء حكاية لما خوطبوا به ، والباقون بالياء لأنهم غيب (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) تعلق بمضمر تقديره : وتحسنون ، أو أحسنوا (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) عطف على الوالدين. (وَالْيَتامى) جمع يتيم كنديم وندامى وهو قليل. ومسكين مفعيل من السكون ، كأن الفقر أسكنه (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي قولا حسنا ، وسماه (حُسْناً) للمبالغة. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب (حُسْناً) بفتحتين. وقرئ «حسنا» بضمتين وهو لغة أهل الحجاز ، وحسنى على المصدر كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) على طريقة الالتفات ، ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قبلهم على التغليب ، أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) يريد به من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ، ومن أسلم منهم (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء والطاعة. وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(٨٤)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) على نحو ما سبق والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والإجلاء عن الوطن. وإنما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه ، لاتصاله به نسبا. أو دينا ، أو لأنه يوجبه قصاصا. وقيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم ، أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ، ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم ، فإنه الجلاء الحقيقي (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بالميثاق واعترفتم بلزومه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) توكيد كقولك.

أقر فلان شاهدا على نفسه. وقيل وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم ، فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ

٩١

وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٨٥)

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار به والشهادة عليه. وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقصون ، كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا ، نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات ، وعدهم باعتبار ما أسند إليهم حضورا وباعتبار ما سيحكي عنهم غيبا. وقوله تعالى : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) إما حال والعامل فيها معنى الإشارة ، أو بيان لهذه الجملة. وقيل : هؤلاء تأكيد ، والخبر هو الجملة. وقيل بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر ، وقرئ «تقتّلون» على التكثير. (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) حال من فاعل تخرجون ، أو من مفعوله ، أو كليهما. والتظاهر التعاون من الظهر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بحذف إحدى التاءين. وقرئ بإظهارها ، وتظهرون بمعنى تتظهرون (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها ، وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه. وقيل معناه إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ). وقرأ حمزة أسرى وهو جمع أسير كجريح وجرحى ، وأسارى جمعه كسكرى وسكارى. وقيل هو أيضا جمع أسير ، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر «تفدوهم» (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) متعلق بقوله (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) ، وما بينهما اعتراض ، والضمير للشأن ، أو مبهم ويفسره إخراجهم ، أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر. وإخراجهم بدل أو بيان (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) يعني الفداء.

(وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) يعني حرمة المقاتلة والإجلاء. (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كقتل قريظة وسبيهم. وإجلاء بني النضير ، وضرب الجزية على غيرهم. وأصل الخزي ذل يستحيا منه ، ولذلك يستعمل في كل منهما. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) لأن عصيانهم أشد. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تأكيد للوعيد ، أي الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم. وقرأ عاصم في رواية المفضل ، «تردون» على الخطاب لقوله (مِنْكُمْ). وابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ، وخلف ويعقوب «يعملون» على أن الضمير لمن.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٨٦)

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) آثروا الحياة الدنيا على الآخرة. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) بنقض الجزية في الدنيا ، والتعذيب في الآخرة. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) بدفعهما عنهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٨٧)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي أرسلنا على أثره الرسل ، كقوله سبحانه وتعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا). يقال قفاه إذا تبعه ، وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا ، نحو ذنبه من الذنب (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، والإخبار بالمغيبات. أو الإنجيل ، وعيسى بالعبرية أبشوع. ومريم بمعنى الخادم ، وهو بالعربية من النساء كالزير من الرجال ، قال رؤبة : قلت لزير لم تصله مريمه. ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل (وَأَيَّدْناهُ) وقويناه ،

٩٢

وقرئ «آيدناه» بالمد (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالروح المقدسة كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق ، وأراد به جبريل. وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان ، أو لكرامته على الله سبحانه وتعالى ولذلك أضافه إلى نفسه تعالى ، أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، أو الإنجيل ، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ، وقرأ ابن كثير (الْقُدُسِ) بالإسكان في جميع القرآن (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) بما لا تحبه. يقال هوي بالكسر هوى إذا أحب وهوى بالفتح هويا بالضم إذا سقط. ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا وتعجيبا من شأنهم ، ويحتمل أن يكون استئنافا والفاء للعطف على مقدر ، (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان واتباع الرسل. (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) كموسى وعيسى عليهما‌السلام ، والفاء للسببية أو للتفصيل (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى عليهما‌السلام ، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس ، فإن الأمر فظيع. أو مراعاة للفواصل ، أو للدلالة على أنكم بعد فيه فإنكم تحومون حول قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لولا أني أعصمه منكم ، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٨٨)

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) مغشاة بأغطية خلقية لا يصل إليها ما جئت به ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن وقيل أصله غلف جمع غلاف فخفف ، والمعنى أنها أوعية للعلم لا تسمع علما إلا وعته ، ولا تعي ما تقول. أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره. (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) رد لما قالوه ، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، ولكن الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم ، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لخلل فيه ، بل لأن الله تعالى خذلهم بكفرهم كما قال تعالى : (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ، أو هم كفرة ملعونون ، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك؟ (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) فإيمانا قليلا يؤمنون ، وما مزيده للمبالغة في التقليل ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب. وقيل : أراد بالقلة العدم.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٨٩)

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعني القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من كتابهم ، وقرئ بالنصب على الحال من كتاب لتخصصه بالوصف ، وجواب لما ، محذوف دل عليه جواب لما الثانية. (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يستنصرون على المشركين ويقولون : اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت ، في التوراة. أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم ، وقد قرب زمانه ، والسين للمبالغة والإشعار أن الفاعل يسأل ذلك عن نفسه (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من الحق. (كَفَرُوا بِهِ) حسدا وخوفا على الرياسة. (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي عليهم ، وأتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم ، فتكون اللام للعهد ، ويجوز أن تكون للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيهم.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٩٠)

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ما نكرة بمعنى شيء مميزة لفاعل بئس المستكن ، واشتروا صفته ومعناه باعوا ، أو اشتروا بحسب ظنهم ، فإنهم ظنوا أنهم خلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا. (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) هو المخصوص بالذم (بَغْياً) طلبا لما ليس لهم وحسدا ، وهو علة (أَنْ يَكْفُرُوا) دون (اشْتَرَوْا)

٩٣

للفصل. (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) لأن ينزل ، أي حسدوه على أن ينزل الله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب بالتخفيف. (مِنْ فَضْلِهِ) يعني الوحي. (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) على من اختاره للرسالة (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) للكفر والحسد على من هو أفضل الخلق. وقيل : لكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد عيسى عليه‌السلام ، أو بعد قولهم عزير ابن الله (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) يراد به إذلالهم ، بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) يعم الكتب المنزلة بأسرها. (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي بالتوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) حال من الضمير في قالوا ، ووراء في الأصل جعل ظرفا ، ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه ، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه ، ولذلك عد من الأضداد. (وَهُوَ الْحَقُ) الضمير لما وراءه ، والمراد به القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) حال مؤكدة تتضمن رد مقالهم ، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغه ، وإنما أسنده إليهم لأنه فعل آبائهم ، وأنهم راضون به عازمون عليه. وقرأ نافع وحده (أَنْبِياءَ اللهِ) مهموزا في جميع القرآن.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)(٩٢)

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) يعني الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ)(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي إلها (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد مجيء موسى ، أو ذهابه إلى الطور (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) حال ، بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته ، أو بالإخلال بآيات الله تعالى ، أو اعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم. ومساق الآية أيضا لإبطال قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والتنبيه على أن طريقتهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى عليهما الصلاة والسلام ، لا لتكرير القصة وكذا ما بعدها.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩٣)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) أي قلنا لهم : خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد واسمعوا سماع طاعة. (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) تداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته ، لفرط شغفهم به ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، والشراب أعماق البدن. وفي قلوبهم : بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)(بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم وذلك لأنهم كانوا مجسمة ، أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه ، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي بالتوراة ، والمخصوص بالذم محذوف نحو هذا الأمر ، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقرير للقدح. في دعواهم الإيمان بالتوراة ، وتقديره إن كنتم مؤمنين بها لم يأمركم بهذه القبائح ولا يرخص لكم فيها إيمانكم بها ، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها ، لأن المؤمن ينبغي أن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه ، لكن الإيمان بها لا يأمر به ، فإذا لستم بمؤمنين.

٩٤

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٩٥)

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) خاصة بكم كما قلتم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) ونصبها على الحال من الدار. (مِنْ دُونِ النَّاسِ) سائرهم ، واللام للجنس ، أو المسلمين واللام للعهد (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاقها ، وأحب التخلص إليها من الدار ذات الشوائب ، كما قال على رضي الله تعالى عنه : (لا أبالي سقطت على الموت ، أو سقط الموت علي). وقال عمار رضي الله تعالى عنه بصفين : (الآن ألاقي الأحبة محمدا وحزبه). وقال حذيفة رضي الله عنه حين احتضر : (جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم) أي : على التمني ، سيما إذا علم أنها سالمة له لا يشاركه فيها غيره.

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من موجبات النار ، كالكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن ، وتحريف التوراة. ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان ، آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه ، عبر بها عن النفس تارة والقدرة أخرى ، وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر ، لأنهم لو تمنوا لنقل واشتهر ، فإن التمني ليس من عمل القلب ليخفى ، بل هو أن يقول : ليت لي كذا ، ولو كان بالقلب لقالوا : تمنينا. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه ، وما بقي على وجه الأرض يهودي» (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن هو لهم.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) من وجد بعقله الجاري مجرى علم ، ومفعولاه هم وأحرص الناس ، وتنكير حياة لأنه أريد بها فرد من أفرادها وهي : الحياة المتطاولة ، وقرئ باللام. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) محمول على المعنى وكأنه قال : أحرص من الناس على الحياة ومن الذين أشركوا. وإفراده بالذكر للمبالغة ، فإن حرصهم شديد إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة ، والزيادة في التوبيخ والتقريع ، فإنهم لما زاد حرصهم. وهم مقرون بالجزاء على حرص المنكرين. دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار ، ويجوز أن يراد وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة الأول عليه ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف صفته (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) على أنه أريد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ، أي : ومنهم ناس يود أحدهم ، وهو على الأولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف. (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) حكاية لودادتهم ، ولو بمعنى ليت وكان أصله : لو أعمر ، فأجرى على الغيبة لقوله : يود ، كقولك حلف بالله ليفعلن (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) الضمير لأحدهم ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره ، أو لما دل عليه يعمر. وأن يعمر بدل منه. أو مبهم ، وأن يعمر موضحه وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات. وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون ، والزحزحة التبعيد (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(٩٧)

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) نزل في عبد الله بن صوريا ، سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن ينزل عليه بالوحي؟

٩٥

فقال : جبريل ، فقال : ذاك عدونا عادانا مرارا ، وأشدّها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر ، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل فدفع عنه جبريل. وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه؟. وقيل : دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدارس اليهود يوما ، فسألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسلام ، فقال : وما منزلتهما من الله؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة ، فقال ؛ لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدو أحدهما فهو عدو الله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال عليه الصلاة والسلام «لقد وافقك ربك يا عمر». وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن أربع في : المشهور جبرئل كسلسبيل قراءة حمزة والكسائي ، و«جبريل» بكسر الراء وحذف الهمزة قراءة ابن كثير ، و«جبرئل» كجحمرش قراءة عاصم برواية أبي بكر ، و«جبريل» كقنديل قراءة الباقين. وأربع في الشواذ : جبرئل و«جبرائيل» كجبراعيل ، و«جبريل» وجبرين ومنع صرفه للعجمة ، والتعريف ، ومعناه عبد الله. (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) البارز الأول لجبريل ، والثاني للقرآن ، وإضماره غير مذكور يدل على فخامة شأنه كأنه لتعينه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره. (عَلى قَلْبِكَ) فإنه القابل الأول للوحي ، ومحل الفهم والحفظ ، وكان حقه على قلبي لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى كأنه قال : قل ما تكلمت به. (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره ، أو تيسيره حال من فاعله نزله. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أحوال من مفعوله ، والظاهر أن جواب الشرط (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) ، والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقه الإنصاف ، أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي ، لأنه نزول كتابا مصدقا للكتب المتقدمة ، فحذف الجواب وأقيم علته مقامه ، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزله عليك. وقيل محذوف مثل : فليمت غيظا ، أو فهو عدو لي وأنا عدو له.

كما قال :

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)(٩٨)

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أراد بعداوة الله مخالفته عنادا ، أو معاداة المقربين من عباده ، وصدر الكلام بذكره تفخيما لشأنهم كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ). وأفرد الملكين بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر ، والتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وأن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ، إذ الموجب لعداوتهم ومحبتهم على الحقيقة واحد ، ولأن المحاجة كانت فيهما. ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر. وقرأ نافع (مِيكالَ) كميكاعل ، وأبو عمرو ويعقوب وعاصم برواية حفص (مِيكالَ) كميعاد ، والباقون (مِيكالَ) بالهمزة والياء بعدها. وقرئ «ميكئل» كميكعل ، و«ميكئيل» كميكعيل ، وميكايل.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠٠)

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أي المتمردون من الكفرة ، والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمه كأنه متجاوز عن حده. نزل في ابن صوريا حين قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية فنتبعك.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا ، وقرئ بسكون الواو على أن التقدير إلا الذين فسقوا ، (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) ، وقرئ «عوهدوا» و

٩٦

«عهدوا». (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) نقضه ، وأصل النبذ الطرح ، لكنه يغلب فيما ينسى ، وإنما قال فريق لأن بعضهم لم ينقض (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) رد لما يتوهم من أن الفريق هم الأقلون ، أو أن من لم ينبذ جهارا فهم مؤمنون به خفاء.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٠١)

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ) يعني التوراة ، لأن كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدقه ، ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات. وقيل ما مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو القرآن.

(وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مثل لإعراضهم عنه رأسا ، بالإعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه. (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه كتاب الله ، يعني أن علمهم به رصين ولكن يتجاهلون عنادا. واعلم أنه تعالى دل بالآيتين على أن جيل اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمردا وفسوقا ، وهم المعنيون بقوله : (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ). وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوا لجهلهم بها وهم الأكثرون. وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية عالمين بالحال ، بغيا وعنادا وهم المتجاهلون.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٢)

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) عطف على نبذ ، أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرؤها ، أو تتبعها الشياطين من الجن ، أو الإنس ، أو منهما. (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي عهده ، وتتلو حكاية حال ماضية ، قيل : كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ، ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمون الناس ، وفشا ذلك في عهد سليمان عليه‌السلام حتى قيل : إن الجن يعلمون الغيب ، وأن ملك سليمان تمّ بهذا العلم ، وأنه تسخّر به الجن والإنس والريح له. (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تكذيب لمن زعم ذلك ، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبيا كان معصوما منه. (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) باستعماله ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي و«لكن» بالتخفيف ، ورفع (الشَّياطِينُ). (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إغواء وإضلالا ، والجملة حال من الضمير ، والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان ، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس. فإن التناسب شرط في التضام والتعاون ، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي ، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم ، وتسميته سحرا عمل التجوز ، أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه. (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على السحر والمراد بهما واحد ، والعطف لتغاير الاعتبار ، أو المراد به نوع أقوى منه ، أو على ما تتلو. وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس ، وتمييزا بينه وبين المعجزة. وما روي أنهما مثلا بشرين ، وركب فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها : زهرة ،

٩٧

فحملتهما على المعاصي والشرك ، ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكي عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفي على ذوي البصائر. وقيل : رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما ، ويؤيده قراءة «الملكين» بالكسر. وقيل : ما أنزل نفي معطوف على ما كفر سليمان تكذيب لليهود في هذه القصة. (بِبابِلَ) ظرف ، أو حال من الملكين ، أو الضمير في أنزل والمشهور أنه بلد من سواد الكوفة. «هاروت وماروت» عطف بيان للملكين ، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة ، ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى الكسر لانصرفا. ومن جعل ما نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض ، وما بينهما اعتراض. وقرئ بالرفع على هما «هاروت وماروت». (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فمعناه على الأول ما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله ، فمن تعلم منا وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به. وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور ، وإنما المنع من اتباعه والعمل به. وعلى الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا. (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) الضمير لما دل عليه من أحد. (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي من السحر ما يكون سبب تفريقهما. (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنه وغيره من الأسباب غير مؤثرة بالذات ، بل بأمره تعالى وجعله. قرئ «بضاري» على الإضافة إلى أحد ، وجعل الجار جزء منه والفصل بالظرف. (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) لأنهم يقصدون به العمل ، أو لأن العلم يجر إلى العمل غالبا (وَلا يَنْفَعُهُمْ) إذ مجرد العلم به غير مقصود ولا نافع في الدارين. وفيه أن التحرز عنه أولى (وَلَقَدْ عَلِمُوا) أي اليهود. (لَمَنِ اشْتَراهُ) أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى ، والأظهر أن اللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) نصيب (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يحتمل المعنيين على ما مر. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يتفكرون فيه ، أو يعلمون قبحه على التعيين ، أو حقية ما يتبعه من العذاب ، والمثبت لهم أولا على التوكيد القسمي العقل الغريزي أو العلم الإجمالي يقبح الفعل ، أو ترتب العقاب من غير تحقيق وقيل : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم ، فإن من لم يعمل بما علم فهو كمن لم يعلم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٣)

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) بالرسول والكتاب. (وَاتَّقَوْا) بترك المعاصي ، كنبذ كتاب الله واتباع السحر (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) جواب لو ، وأصله لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم ، فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية لتدل على ثبات المثوبة والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ، وتنكير المثوبة لأن المعنى لشيء من الثواب خير ، وقيل : لو للتمني ، و«لمثوبة» كلام مبتدأ. وقرئ «لمثوبة» كمشورة ، وإنما سمي الجزاء ثوابا ومثوبة لأن المحسن يثوب إليه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أن ثواب الله خير مما هم فيه ، وقد علموا لكنه جهلهم لترك التدبر ، أو العمل بالعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٠٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) الرعي حفظ الغير لمصلحته ، وكان المسلمون يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام راعنا أي راقبنا وتأن بنا فيما تلقننا حتى نفهمه ، وسمع اليهود فافترصوه وخاطبوه به مريدين نسبته إلى الرعن ، أو سبه بالكلمة العبرانية التي كانوا يتسابون بها وهي راعينا ، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما يفيد تلك الفائدة ولا يقبل التلبيس ، وهو انظرنا بمعنى انظر إلينا. أو انتظرنا من نظره إذا انتظره. وقرئ «أنظرنا» من الإنظار أي أمهلنا لنحفظ. وقرئ «راعونا» على لفظ الجمع للتوقير ، وراعنا بالتنوين أي قولا ذا رعن نسبة إلى الرعن وهو الهوج ، لما شابه قولهم راعينا وتسبب للسب. (وَاسْمَعُوا) وأحسنوا

٩٨

الاستماع حتى لا تفتقروا إلى طلب المراعاة ، أو واسمعوا سماع قبول لا كسماع اليهود ، أو واسمعوا ما أمرتم به بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني الذين تهاونوا بالرسول عليه‌السلام وسبوه.

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير. والود : محبة الشيء مع تمنيه ، ولذلك يستعمل في كل منهما ، ومن للتبيين كما في قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ)(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) مفعول يود ، ومن الأولى مزيدة للاستغراق ، والثانية للابتداء ، وفسر الخير بالوحي. والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه وبالعلم وبالنصرة ، ولعل المراد به ما يعم ذلك (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) يستنبئه ويعلمه الحكمة وينصره لا يجب عليه شيء ، وليس لأحد عليه حق (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إشعار بأن النبوة من الفضل ، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله ، بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٠٧)

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه. والنسخ في اللغة : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره ، كنسخ الظل للشمس والنقل ، ومنه التناسخ. ثم استعمل لكل واحد منهما كقولك : نسخت الريح الأثر ، ونسخت الكتاب.

ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها ، أو الحكم المستفاد منها ، أو بهما جميعا. وإنساؤها إذهابها عن القلوب ، وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية. وقرأ ابن عامر ما ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها ، أو نجدها منسوخة. وابن كثير وأبو عمرو «ننسأها» أي نؤخرها من النسء. وقرئ «ننسها» أي ننس أحدا إياها ، و«ننسها» أي أنت ، و«تنسها» على البناء للمفعول ، و«ننسكها» بإضمار المفعولين (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) أي بما هو خير للعباد في النفع والثواب ، أو مثلها في الثواب. وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا. (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ ، أو بما هو خير منه. والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة ، وذلك لأن الأحكام شرعت ، والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا من الله ورحمة ، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص ، كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في عصر غيره. واحتج بها من منع النسخ بلا بدل ، أو ببدل أثقل. ونسخ الكتاب بالسنة ، فإن الناسخ هو المأتي به بدلا والسنة ليست كذلك والكل ضعيف ، إذ قد يكون عدم الحكم ، أو الأثقل أصلح. والنسخ قد يعرف بغيره ، والسنة مما أتى به الله تعالى ، وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ. والمعتزلة على حدوث القرآن فإن التغير والتفاوت من لوازمه. وأجيب : بأنهما من عوارض الأمور المتعلقة بالمعنى القائم بالذات القديم.

(أَلَمْ تَعْلَمْ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد هو وأمته ، لقوله : (وَما لَكُمْ) وإنما أفرده لأنه أعلمهم ، ومبدأ علمهم. (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو كالدليل على قوله: (أَنَّ اللهَ

٩٩

عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أو على جواز النسخ ولذلك ترك العاطف. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) وإنما هو الذي يملك أموركم ويجريها على ما يصلحكم ، والفرق بين الولي والنصير. أن الولي قد يضعف عن النصرة ، والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور فيكون بينهما عموم من وجه.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١٠٨)

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أم معادلة للهمزة في (أَلَمْ تَعْلَمْ) أي: ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد ، أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه‌السلام. أو منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة به وترك الاقتراح عليه. قيل : نزلت في أهل الكتاب حين سألوا أن ينزل الله عليهم كتابا من السماء. وقيل : في المشركين لما قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ)(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ومن ترك الثقة بالآيات البينات وشك فيها واقترح غيرها ، فقد ضل الطريق المستقيم حتى وقع في الكفر بعد الإيمان. ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ، ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان. وقرئ «يبدل» من أبدل.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٠)

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني أحبارهم. (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) أن يردوكم ، فإن لو تنوب عن أن في المعنى دون اللفظ : (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) مرتدين ، وهو حال من ضمير المخاطبين (حَسَداً) علة ود. (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يتعلق بود ، أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم وتشهيهم ، لا من قبل التدين والميل مع الحق. أو بحسدا أي حسدا بالغا منبعثا من أصل نفوسهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة. (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) العفو ترك عقوبة المذنب ، والصفح ترك تثريبه. (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الذي هو الإذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم ، أو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه منسوخ بآية السيف ، وفيه نظر إذ الأمر غير مطلق (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الانتقام منهم.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على فاعفوا كأنه أمرهم بالصبر والمخالفة واللجأ إلى الله تعالى بالعبادة والبر (وَما «تُقَدِّمُوا» لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كصلاة وصدقة. وقرئ «تقدموا» من أقدم (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي ثوابه.

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يضيع عنده عمل. وقرئ بالياء فيكون وعيدا.

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١١٢)

١٠٠