أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ١

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ١

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٢

ضرار المرأة ونحوه ، بالفيئة التي هي كالتوبة.

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) وإن صمموا قصده (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لطلاقهم. (عَلِيمٌ) بغرضهم فيه ، وقال أبو حنيفة : الإيلاء في أربعة أشهر فما فوقها ، وحكمه أن المولي إن فاء في المدة بالوطء إن قدر ، وبالوعد إن عجز ، صح الفيء ولزم الواطئ أن يكفر وإلا بانت بعدها بطلقة. وعندنا يطالب بعد المدة بأحد الأمرين فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٨)

(وَالْمُطَلَّقاتُ) يريد بها المدخول بهن من ذوات الإقراء لما دلت عليه الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر. (يَتَرَبَّصْنَ) خبر بمعنى الأمر ، وتغيير العبارة للتأكيد والإشعار بأنه مما يجب أن يسار إلى امتثاله ، وكأن المخاطب قصد أن يمتثل الأمر فيخبر عنه كقولك في الدعاء : رحمك الله ، وبناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد. (بِأَنْفُسِهِنَ) تهييج وبعث لهن على التربص ، فإن نفوس النساء طوامح إلى الرجال ، فأمرن بأن يقمعنها ويحملنها على التربص. (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصب على الظرف ، أو المفعول به. أي يتربصن مضيها. و (قُرُوءٍ) جمع قرء وهو يطلق للحيض ، كقوله عليه الصلاة والسلام «دعي الصلاة أيام أقرائك» وللطهر الفاصل بين الحيضتين كقول الأعشى :

مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض ، وهو المراد به في الآية لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض ، كما قاله الحنفية لقوله تعالى ؛ (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي وقت عدتهن. والطلاق المشروع لا يكون في الحيض ، وأما

قوله عليه الصلاة والسلام : «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» فلا يقاوم ما رواه الشيخان في قصة ابن عمر «مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء». وكان القياس أن يذكر بصيغة القلة التي هي الأقراء ، ولكنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ، ولعل الحكم لما عم المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى الكثرة فحسن بناؤها. (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) من الولد ، أو الحيض استعجالا في العدة وإبطالا لحق الرجعة ، وفيه دليل على أن قولها مقبول في ذلك (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ليس المراد منه تقييد نفي الحل بإيمانهن ، بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان ، وأن المؤمن لا يجترئ عليه ولا ينبغي له أن يفعل. (وَبُعُولَتُهُنَ) أي أزواج المطلقات. (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) إلى النكاح والرجعة إليهن ، ولكن إذا كان الطلاق رجعيا للآية التي تتلوها فالضمير أخص من المرجوع إليه ولا امتناع فيه ، كما لو كرر الظاهر وخصصه. والبعولة جمع بعل والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤلة ، أو مصدر من قولك بعل حسن البعولة نعت به ، أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي وأهل بعولتهن ، وأفعل هاهنا بمعنى الفاعل. (فِي ذلِكَ) أي في زمان التربص. (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) بالرجعة لا لإضرار المرأة ، وليس المراد منه شرطية قصد الإصلاح للرجعة بل التحريض عليه والمنع من قصد الضرار. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي ولهن حقوق على الرجال مثل حقوقهم عليهن في الوجوب واستحقاق المطالبة عليها ، لا في الجنس. (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) زيادة في الحق وفضل فيه ، لأن حقوقهم في أنفسهم وحقوقهن المهر والكفاف وترك الضرار ونحوها ، أو شرف وفضيلة لأنهم قوام عليهن وحراس لهن يشاركونهن في غرض الزواج ويخصون بفضيلة الرعاية والإنفاق (وَاللهُ عَزِيزٌ) يقدر على الانتقام ممن خالف الأحكام.

١٤١

(حَكِيمٌ) يشرعها لحكم ومصالح.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩)

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي التطليق الرجعي اثنان لما روي (أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)). وقيل ؛ معناه التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق ، ولذلك قالت الحنفية الجمع بين الطلقتين والثلاث بدعة. (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) بالمراجعة وحسن المعاشرة ، وهو يؤيد المعنى الأول. (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالطلقة الثالثة ، أو بأن لا يراجعها حتى تبين ، وعلى المعنى الأخير حكم مبتدأ وتخيير مطلق عقب به تعليمهم كيفية التطليق. (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي من الصدقات. روي (أن جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله ما أعيبه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ، وما أطيقه بعضا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في جماعة من الرجال ، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. فنزلت فاختلعت منه بحديقة كان أصدقها إياها. والخطاب مع الحكام وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع. وقيل إنه خطاب للأزواج وما بعده خطاب للحكام وهو يشوش النظم على القراءة المشهورة. (إِلَّا أَنْ يَخافا) أي الزوجان. وقرئ «يظنا» وهو يؤيد تفسير الخوف بالظن. (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) يترك إقامة أحكامه من مواجب الزوجية. وقرأ حمزة ويعقوب «يخافا» على البناء للمفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدل الاشتمال. وقرئ «تخافا» و«تقيما» بتاء الخطاب. (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام. (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) على الرجل في أخذ ما افتدت به نفسها واختلعت ، وعلى المرأة في إعطائه. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى ما حد من الأحكام. (فَلا تَعْتَدُوها) فلا تتعدوها بالمخالفة. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تعقيب للنهي بالوعيد مبالغة في التهديد ، واعلم أن ظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق ، ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد ، ويؤيد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس ، فحرام عليها رائحة الجنة». وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لجميلة : «أتردين عليه حديقته؟ فقالت : أردها وأزيد عليها ، فقال عليه الصلاة والسلام أما الزائد فلا». والجمهور استكرهوه ولكن نفذوه فإن المنع عن العقد لا يدل على فساده ، وأنه يصح بلفظ المفاداة ، فإنه تعالى سماه افتداء. واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق هل هو فسخ أو طلاق ، ومن جعله فسخا احتج بقوله :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٢٣٠)

(فَإِنْ طَلَّقَها) فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا. والأظهر أنه طلاق لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض ، وقوله فإن طلقها متعلق بقوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أو تفسير لقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى ، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين. (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) من بعد ذلك الطلاق. (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حتى تتزوج غيره ، والنكاح يستند إلى كل منهما كالتزوج ، وتعلق بظاهره من اقتصر على العقد كابن المسيب واتفق الجمهور على أنه لا بد من الإصابة لما روي : أن امرأة رفاعة قالت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن

١٤٢

رفاعة طلقني فبت طلاقي ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإن ما معه مثل هدبة الثوب. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ قالت : نعم ، قال : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». فالآية مطلقة قيدتها السنة ، ويحتمل أن يفسر النكاح بالإصابة ، ويكون العقد مستفادا من لفظ الزوج. والحكمة في هذا الحكم الردع عن التسرع إلى الطلاق والعود إلى المطلقة ثلاثا والرغبة فيها ، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند الأكثر. وجوزه أبو حنيفة مع الكراهة ، وقد لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحلل والمحلل له. (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أن يرجع كل من المرأة والزوج الأول إلى الآخر بالزواج ، (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) إن كان في ظنهما أنهما يقيمان ما حده الله وشرعه من حقوق الزوجية ، وتفسير الظن بالعلم هاهنا غير سديد لأن عواقب الأمور غيب تظن ولا تعلم ، ولأنه لا يقال علمت أن يقوم زيد لأن أن الناصبة للتوقع وهو ينافي العلم. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي الأحكام المذكورة. (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يفهمون ويعلمون بمقتضى العلم.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٣١)

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي آخر عدتهن ، والأجل يطلق للمدة ولمنتهاها فيقال لعمر الإنسان وللموت الذي به ينتهي قال :

كلّ حيّ مستكمل مدّة العم

ر ومود إذا انتهى أجله

والبلوغ هو الوصول إلى الشيء ، وقد يقال للدنو منه على الاتساع ، وهو المراد في الآية ليصح أو يرتب عليه. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل ، والمعنى فراجعوهن من غير ضرار ، أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن من غير تطويل ، وهو إعادة للحكم في بعض صوره للاهتمام به. (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) ولا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن ، كأن المطلق يترك المعتدة حتى تشارف الأجل ثم يراجعها لتطول العدة عليها ، فنهي عنه بعد الأمر بضده مبالغة. ونصب ضرارا على العلة أو الحال بمعنى مضارين. (لِتَعْتَدُوا) لتظلموهن بالتطويل أو الإلجاء إلى الافتداء ، واللام متعلقة بضرارا إذ المراد تقييده. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها للعقاب. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) بالإعراض عنها والتهاون في العمل بما فيها من قولهم لمن لم يجد في الأمر إنما أنت هازئ ، كأنه نهي عن الهزء وأراد به الأمر بضده. وقيل ؛ (كان الرجل يتزوج ويطلق ويعتق ويقول : كنت ألعب) فنزلت. وعنه عليه الصلاة والسلام : «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد ، الطلاق والنكاح والعتاق» (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) التي من جملتها الهداية ، وبعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشكر والقيام بحقوقها. (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) القرآن والسنة أفردهما بالذكر إظهارا لشرفهما. (يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم. (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تأكيد وتهديد.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢٣٢)

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن ، وعن الشافعي رحمه‌الله تعالى دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين. (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) المخاطب به الأولياء لما روي (أنها

١٤٣

نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جميلاء أن ترجع إلى زوجها الأول بالاستئناف) فيكون دليلا على أن المرأة لا تزوج نفسها ، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى ، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن. وقيل الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضي العدة ولا يتركونهن يتزوجن عدوانا وقسرا ، لأنه جواب قوله (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ). وقيل الأولياء والأزواج. وقيل الناس كلهم ، والمعنى : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر فإنه إذا وجد بينهم وهم راضون به كانوا الفاعلين له. والعضل الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج. (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ) أي الخطاب والنساء وهو ظرف لأنه ينكحن أو لا تعضلوهن. (بِالْمَعْرُوفِ) بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة ، حال من الضمير المرفوع ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي تراضيا كائنا بالمعروف. وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه. (ذلِكَ) إشارة إلى ما مضى ذكره ، والخطاب للجميع على تأويل القبيل ، أو كل واحد ، أو أن الكاف لمجرد الخطاب. والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين ، أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد. (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنه المتعظ به والمنتفع. (ذلِكُمْ) أي العمل بمقتضى ما ذكر. (أَزْكى لَكُمْ) أنفع. (وَأَطْهَرُ) من دنس الآثام. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من النفع والصلاح. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لقصور علمكم.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٣)

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) أمر عبر عنه بالخبر للمبالغة ومعناه الندب ، أو الوجوب فيخص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستئجار. والوالدات يعم المطلقات وغيرهن. وقيل يختص بهن إذ الكلام فيهن. (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أكده بصفة الكمال لأنه مما يتسامح فيه. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بيان للمتوجه إليه الحكم أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة ، أو متعلق بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة ، والأم ترضع له. وهو دليل على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا عبرة به بعدهما وأنه يجوز أن ينقص عنه. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي الذي يولد له يعني الوالد ، فإن الولد يولد له وينسب إليه. وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه. (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) أجرة لهن ، واختلف في استئجار الأم ، فجوزه الشافعي ، ومنعه أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى ما دامت زوجة أو معتدة نكاح. (بِالْمَعْرُوفِ) حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) تعليل لإيجاب المؤمن والتقييد بالمعروف ، ودليل على أنه سبحانه وتعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه وذلك لا يمنع إمكانه. (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) تفصيل له وتقرير ، أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما ليس في وسعه ، ولا يضاره بسبب الولد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (لا تُضَارَّ) بالرفع بدلا من قوله (لا تُكَلَّفُ) ، وأصله على القراءتين تضارر بالكسر على البناء للفاعل أو الفتح على البناء للمفعول ، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضر والباء من صلته أي لا يضر الوالدان بالولد فيفرط في تعهده ويقصر فيما ينبغي له. وقرئ «لا تضار» بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره ، وإضافة الولد إليها تارة وإليه أخرى استعطاف لهما عليه ، وتنبيه على أنه حقيق بأن يتفقا على استصلاحه والإشفاق فلا ينبغي أن يضرا به ، أو أن يتضارا بسببه. (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) عطف على

١٤٤

قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ، وما بينهما تعليل معترض. والمراد بالوارث وارث الأب وهو الصبي أي مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب. وقيل الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام «واجعله الوارث منا» ، وكلا القولين يوافق مذهب الشافعي رحمه‌الله تعالى إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولادة. وقيل وارث الطفل وإليه ذهب ابن أبي ليلى. وقيل وارثه المحرم منه ، وهو مذهب أبي حنيفة. وقيل عصباته وبه قال أبو زيد وذلك إشارة إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة. (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) أي فصالا صادرا عن التراضي منهما والتشاور بينهما قبل الحولين ، والتشاور والمشاورة والمشورة والمشورة استخراج الرأي ، من شرت العسل إذا استخرجته. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل ، وحذرا أن يقدم أحدهما على ما يضرّ به لغرض أو غيره. (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) أي تسترضعوا المراضع لأولادكم ، يقال أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه ، كقولك أنجح الله حاجتي واستنجحته إياها ، فحذف المفعول الأول للاستغناء عنه. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فيه وإطلاقه يدل على أن للزوج أن يسترضع الولد ويمنع الزوجة من الإرضاع. (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المراضع. (ما آتَيْتُمْ) ما أردتم إيتاءه كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وقراءة ابن كثير (ما آتَيْتُمْ) ، من أتى إحسانا إذا فعله. وقرئ «أوتيتم» أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة. (بِالْمَعْرُوفِ) صلة سلمتم ، أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا. وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل. (وَاتَّقُوا اللهَ) مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) حث وتهديد.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٢٣٤)

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي أزواج الذين ، أو والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم ، كقولهم السمن منوان بدرهم. وقرئ «يتوفّون» بفتح الياء أي يستوفون آجالهم ، وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام ، ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قط ذهابا إلى الأيام حتى إنهم يقولون صمت عشرا ويشهد له قوله تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ولعل المقتضى لهذا التقدير أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ، ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين ، وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها ، وعموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية فيه ، كما قاله الشافعي والحرة والأمة كما قاله الأصم ، والحامل وغيرها ، لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة ، والإجماع خص الحامل منه لقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا. (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة أو المسلمون جميعا. (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من التعرض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدة. (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي لا ينكره الشرع ، ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفوهن ، فإن قصروا فعليهم الجناح. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم عليه.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٣٥).

١٤٥

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) التعريض والتلويح إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ، كقول السائل جئتك لأسلم عليك ، والكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه وروادفه ، كقولك الطويل النجاد للطويل ، وكثير الرماد للمضياف. والخطبة بالضم والكسر اسم الحالة ، غير أن المضمومة خصت بالموعظة والمكسورة بطلب المرأة ، والمراد بالنساء المعتدات للوفاة ، وتعريض خطبتها أن يقول لها إنك جميلة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك. (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أو أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحا ولا تعريضا. (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن الرغبة فيهن وفيه نوع توبيخ. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك على محذوف دل عليه ستذكرونهن أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحا أو جماعا ، عبر بالسر عن الوطء لأنه مما يسر ثم عن العقد لأنه سبب فيه. وقيل معناه لا تواعدوهن في السر على أن المعنى بالمواعدة في السر المواعدة بما يستهجن. (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا والمستثنى منه محذوف أي : لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة ، أو إلا مواعدة بقول معروف. وقيل إنه استثناء منقطع من سرا وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض ، وهو غير موعود. وفيه دليل حرمة تصريح خطبة المعتدة وجواز تعريضها إن كانت معتدة وفاة. واختلف في معتدة الفراق البائن والأظهر جوازه. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد ، أي ولا تعزموا عقد عقدة النكاح. وقيل معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح فإن أصل العزم القطع. (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) حتى ينتهي ما كتب من العدة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على ما لا يجوز. (فَاحْذَرُوهُ) ولا تعزموا. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن عزم ولم يفعل خشية من الله سبحانه وتعالى. (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)(٢٣٦)

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا تبعة من مهر. وقيل من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس. وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر النهي عن الطرق فظن أن فيه حرجا فنفى (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) أي تجامعوهن. وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء ومد الميم في جميع القرآن. (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلا أن تفرضوا ، أو حتى تفرضوا أو وتفرضوا. والفرض تسمية المهر ، وفريضة نصب على المفعول به ، فعيلة بمعنى مفعول. والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية ، ويحتمل المصدر. والمعنى أنه لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولكن يسم لها مهرا ، إذ لو كانت ممسوسة فعليه المسمى ، أو مهر المثل. ولو كانت غير ممسوسة ولكن سمي لها فلها نصف المسمى ، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى ، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين. (وَمَتِّعُوهُنَ) عطف على مقدر أي فطلقوهن ومتعوهن ، والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق ، وتقديرها مفوض إلى رأي الحاكم ويؤيده قوله : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أي على كل من الذي له سعة ، والمقتر الضيق الحال ما يطيقه ويليق به ، ويدل عليه قوله عليه‌السلام لأنصاري طلق امرأته المفوضة قبل أن يمسها «متعها بقلنسوتك». وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : هي درع وملحفة وخمار حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل ، ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوضة التي لم يمسها الزوج ، وألحق بها الشافعي رحمه‌الله تعالى في أحد قوليه الممسوسة المفوضة وغيرها قياسا ، وهو مقدم على المفهوم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان بفتح الدال (مَتاعاً) تمتيعا. (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي يستحسنه الشرع والمروءة. (حَقًّا) صفة لمتاعا ، أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا. (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) الذي يحسنون إلى

١٤٦

أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال ، أو إلى المطلقات بالتمتيع وسماهم محسنين قبل الفعل للمشارفة ترغيبا وتحريضا.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٧)

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) لما ذكر حكم المفوضة أتبعه حكم قسيمها. (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي فلهن ، أو فالواجب نصف ما فرضتم لهن ، وهو دليل على أن الجناح المنفي ثم تبعه المهر وأن لا متعة مع التشطير لأنه قسيمها (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي المطلقات فلا يأخذن شيئا ، والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث ، والفرق أن الواو في الأول ضمير والنون علامة الرفع وفي الثاني لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم يؤثر فيه أن هاهنا ونصب المعطوف عليه. (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي الزوج المالك لعقده وحله عما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها كاملا ، وهو مشعر بأن الطلاق قبل المسيس مخير للزوج غير مشطر بنفسه ، وإليه ذهب بعض أصحابنا والحنفية. وقيل الولي الذي يلي عقد نكاحهن وذلك إذا كانت المرأة صغيرة ، وهو قول قديم للشافعي رحمه‌الله تعالى. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) يؤيد الوجه الأول وعفو الزوج على وجه التخيير ظاهر وعلى الوجه الآخر عبارة عن الزيادة على الحق ، وتسميتها عفوا إما على المشاكلة وإما لأنهم يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج ، فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فإذا لم يسترده فقد عفا عنه. وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو. (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض. (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يضيع تفضلكم وإحسانكم.

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(٢٣٨)

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) بالأداء لوقتها والمداومة عليها ، ولعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها. (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أي الوسطى بينها ، أو الفضلى منها خصوصا وهي صلاة العصر لقوله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم نارا». وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها ، واجتماع الملائكة. وقيل صلاة الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام «أفضل العبادات أحمزها». وقيل صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار والليل والواقعة في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودة. وقيل المغرب لأنها المتوسطة بالعدد ووتر النهار. وقيل العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي الليل. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ : «والصلاة الوسطى صلاة العصر» ، فتكون صلاة من الأربع خصت بالذكر مع العصر لانفرادهما بالفضل. وقرئ بالنصب على الاختصاص والمدح. (وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة. (قانِتِينَ) ذاكرين له في القيام ، والقنوت الذكر فيه. وقيل خاشعين ، وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(٢٣٩)

(فَإِنْ خِفْتُمْ) من عدو أو غيره. (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) فصلوا راجلين أو راكبين ورجالا جمع راجل أو

١٤٧

رجل بمعناه كقائم وقيام ، وفيه دليل على وجوب الصلاة حال المسايفة وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى لا يصلى حال المشي والمسايفة ما لم يكن الوقوف. (فَإِذا أَمِنْتُمْ) وزال خوفكم. (فَاذْكُرُوا اللهَ) صلوا صلاة الأمن أو اشكروه على الأمن (كَما عَلَّمَكُمْ) ذكرا مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي الخوف والأمن. أو شكرا يوازيه وما مصدرية أو موصولة. (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) مفعول علمكم.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٤٠)

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قرأها بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم على تقدير والذين يتوفون منكم يوصون وصية ، أو ليوصوا وصية ، أو كتب الله عليهم وصية ، أو ألزم الذين يتوفون وصية. ويؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول مكانه. وقرأ الباقون بالرفع على تقدير ووصية الذين يتوفون ، أو وحكمهم وصية ، أو والذين يتوفون أهل وصية ، أو كتب عليهم وصية ، أو عليهم وصية وقرئ «متاع» بدلها. (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) نصب بيوصون إن أضمرت وإلا فبالوصية وبمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع. (غَيْرَ إِخْراجٍ) بدل منه ، أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول ، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات ، والمعنى : أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالسكنى والنفقة ، وكان ذلك في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول ، وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن ، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه‌الله. (فَإِنْ خَرَجْنَ) عن منزل الأزواج. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة. (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) كالتطيب وترك الإحداد. (مِنْ مَعْرُوفٍ) مما لم ينكره الشرع ، وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها. (وَاللهُ عَزِيزٌ) ينتقم ممن خالفه منهم. (حَكِيمٌ) يراعي مصالحهم.

(وَلِلْمُطَلَّقا(٢٤٢) تِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أثبت المتعة للمطلقات جميعا بعد ما أوجبها لواحدة منهن ، وإفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم ولذلك أوجبها ابن جبير لكل مطلقة ، وأول غيره بما يعم التمتيع الواجب والمستحب. وقال قوم المراد بالمتاع نفقة العدة ، ويجوز أن تكون اللام للعهد والتكرير للتأكيد أو لتكرر القضية (كَذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدة. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشا ومعادا. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لعلكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٢٤٣)

(أَلَمْ تَرَ) تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ ، وقد يخاطب به من لم ير ومن لم يسمع فإنه صار مثلا في التعجيب. (إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يريد أهل داوردان قرية قبل

١٤٨

واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره. أو قوما من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم. (وَهُمْ أُلُوفٌ) أي ألوف كثيرة. قيل عشرة. وقيل ثلاثون. وقيل سبعون وقيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد وقعود والواو للحال. (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له. (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة ، بأمر الله تعالى ومشيئته. وقيل ناداهم به ملك وإنما أسند إلى الله تعالى تخويفا وتهويلا. (ثُمَّ أَحْياهُمْ) قيل مر حزقيل عليه‌السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى ، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليهم حالهم ليستبصروا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يشكرونه كما ينبغي ، ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٤٥)

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لما بين أن الفرار من الموت غير مخلص منه وأن المقدر لا محالة واقع ، أمرهم بالقتال إذ لو جاء أجلهم في سبيل الله وإلا فالنصر والثواب. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يقوله المتخلف والسابق. (عَلِيمٌ) بما يضمرانه وهو من وراء الجزاء.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ مَنْ) استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء ، و (ذَا) خبره ، و (الَّذِي) صفة ذا أو بدله ، وإقراض الله سبحانه وتعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه. (قَرْضاً حَسَناً) إقراضا حسنا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا. وقيل : القرض الحسن بالمجاهدة والإنفاق في سبيل الله (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) فيضاعف جزاءه ، أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة ، وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى ، فإن (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) في معنى أيقرض الله أحد. وقرأ ابن كثير «فيضعفه» بالرفع والتشديد وابن عامر ويعقوب بالنصب. (أَضْعافاً كَثِيرَةً) كثرة لا يقدرها إلا الله سبحانه وتعالى. وقيل الواحد بسبعمائة ، و«أضعافا» جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب ، أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمعه للتنويع. (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقتر على بعض ويوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم. وقرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر بالصاد ومثله في الأعراف في قوله تعالى : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً)(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على حسب ما قدمتم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٢٤٦)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْمَلَإِ) جماعة يجتمعون للتشاور ، ولا واحد له كالقوم ومن للتبعيض. (مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي من بعد وفاته ومن للابتداء. (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو يوشع ، أو شمعون ، أو

١٤٩

شمويل عليهم‌السلام. (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أقم لنا أميرا ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه ، وجزم نقاتل على الجواب. وقرئ بالرفع على أنه حال أي ابعثه لنا مقدرين القتال ، ويقاتل بالياء مجزوما ومرفوعا على الجواب والوصف لملكا. (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) فصل بين عسى وخبره بالشرط ، والمعنى أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم ، فأدخل هل على فعل التوقع مستفهما عما هو المتوقع عنده تقريرا وتثبيتا. وقرأ نافع (عَسَيْتُمْ) بكسر السين. (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أي أي غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان والإفراد عن الأولاد ، وذلك أن جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء الملوك أربعمائة وأربعين. (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٤٧)

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) طالوت علم عبري كداود وجعله فعلوتا من الطول تعسف يدفعه منع صرفه ، روي أن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا الله أن يملكهم أتى بعضا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) من أين يكون له ذلك ويستأهل. (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) والحال أنا أحق بالملك منه وراثة ومكنة وإنه فقير لا مال له يعتضد به ، وإنما قالوا ذلك لأن طالوت كان فقيرا راعيا أو سقاء أو دباغا من أولاد بنيامين ولم تكن فيهم النبوة والملك ، وإنما كانت النبوة في أولاد لاوى بن يعقوب والملك في أولاد يهوذا وكان فيهم من السبطين خلق. (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك. أولا بأن العمدة فيه اصطفاه الله سبحانه وتعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ، وثانيا بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية ، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب ، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب ، لا ما ذكرتم. وقد زاده الله فيهما وكان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه ، وثالثا بأن الله تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء ، ورابعا أنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه عليم بمن يليق بالملك من النسيب وغيره.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٤٨)

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) لما طلبوا منه حجة على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم. (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) الصندوق فعلوت من التوب ، وهو الرجوع فإنه لا يزال يرجع إلى ما يخرج منه ، وليس بفاعول لقلة نحو سلس وقلق ، ومن قرأه بالهاء فلعله أبدله منه كما أبدل من تاء التأنيث لاشتراكهما في الهمس والزيادة ، ويريد به صندوق التوراة وكان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الضمير للإتيان أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة ، أو للتابوت أي مودع فيه

١٥٠

ما تسكنون إليه وهو التوراة. وكان موسى عليه الصلاة والسلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون. وقيل صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. وقيل صورة الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام. وقيل التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وإتيانه مصير قلبه مقرا للعلم والوقار بعد أن لم يكن. (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون ، وآلهما أبناؤهما أو أنفسهما. والآل مقحم لتفخيم شأنهما ، أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما. (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قيل رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه وقيل كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه ، وكان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي عليه‌السلام وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه وتعالى.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢٤٩)

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة ، وأصله فصل نفسه عنه ولكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم. روي : أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا ، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة وسألوه أن يجري الله لهم نهرا. (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه. (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) فليس من أشياعي ، أو ليس بمتحد معي. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا قال الشاعر :

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبيا كما قيل ، أو بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام. (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) استثناء من قوله فمن شرب منه ، وإنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم والصائبون على الخبر في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير ، وقرأ ابن عامر والكوفيون (غُرْفَةً) بضم الغين. (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط ، وتعميم الأول ليتصل الاستثناء ، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم. وقرئ بالرفع حملا على المعنى فإن قوله (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معنى فلم يطيعوه والقليل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وقيل ثلاثة آلاف. وقيل : ألفا. روي أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه وإداوته ، ومن لم يقتصر غلب عليه واسودت شفته ولم يقدر أن يمضي وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة. (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي القليل الذين لم يخالفوه. (قالُوا) أي بعضهم لبعض. (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) لكثرتهم وقوتهم. (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء الله وتوقعوا ثوابه ، أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى. وقيل : هم القليل الذين ثبتوا معه ، والضمير في (قالُوا) للكثير المنخذلين عنه اعتذارا في التخلف وتخذيلا للقليل ، وكأنهم تقاولوا به والنهر بينهما. (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ

١٥١

اللهِ) بحكمه وتيسيره ، و (كَمْ) تحتمل الخبر والاستفهام ، و (مَنْ) مبينة أو مزيدة. والفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته ، أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). بالنصر والإثابة.

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(٢٥١)

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي ظهروا لهم ودنوا منهم. (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) التجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء ، وفيه ترتيب بليغ إذ سألوا أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر ، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه ، ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالبا.

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) فكسروهم بنصره ، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم. (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) قيل : كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت له : إنك بنا تقتل جالوت ، فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته. (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي ملك بني إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك. (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة. (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كالسرد وكلام الدواب والطير. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) ولولا أنه سبحانه وتعالى يدفع بعض الناس ببعض وينصر المسلمين على الكفار ويكف بهم فسادهم ، لغلبوا وأفسدوا في الأرض ، أو لفسدت الأرض بشؤمهم. وقرأ نافع هنا وفي الحج «دفاع الله».

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢)

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) إشارة إلى ما قص من حديث الألوف وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام الجبابرة وقتل داود جالوت (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ. (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لما أخبرت بها من غير تعرف واستماع.

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣)

(تِلْكَ الرُّسُلُ) إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة ، أو المعلومة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو جماعة الرسل واللام للاستغراق. (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره. (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) تفضيل له ، وهو موسى عليه الصلاة والسلام. وقيل : موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، كلم الله موسى ليلة الحيرة وفي الطور ، ومحمدا عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد ، وقرئ «كلم الله» و«كالم الله» بالنصب ، فإنه كلم الله كما أن الله كلمه ولذلك قيل كليم الله بمعنى مكالمه. (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) بأن فضله على غيره من وجوه متعددة ، أو بمراتب متباعدة. وهو محمد

١٥٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه خصه بالدعوة العامة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرة ، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر. والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين. وقيل : إبراهيم عليه‌السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب. وقيل : إدريس عليه‌السلام لقوله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا). وقيل : أولو العزم من الرسل. (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه ، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي هدى الناس جميعا. (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد الرسل. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي المعجزات الواضحة لاختلافهم في الدين ، وتضليل بعضهم بعضا. (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضلا. (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) لإعراضه عنه بخذلانه. (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرره للتأكيد. (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فيوفق من يشاء فضلا ، ويخذل من يشاء عدلا. والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفاوتة الأقدام ، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض ، ولكن بقاطع لأن اعتبار الظن فيما يتعلق بالعمل وأن الحوادث بيد الله سبحانه وتعالى تابعة لمشيئته خيرا كان أو شرا إيمانا أو كفرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ما أوجبت عليكم إنفاقه. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم ، والخلاص من عذابه إذ لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه ، أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يعينكم عليه أخلاؤكم أو يسامحوكم به ولا شفاعة (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم ، وإنما رفعت ثلاثتها مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب : هل فيه بيع؟ أو خلة؟ أو شفاعة؟ وقد فتحها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب على الأصل. (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يريد والتاركون للزكاة هم ظالمون الذين ظلموا أنفسهم ، أو وضعوا المال في غيره موضعه وصرفوه على غير وجهه ، فوضع الكافرون موضعه تغليظا لهم وتهديدا كقوله : و (مَنْ كَفَرَ) مكان ومن لم يحج وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار لقوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ).

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥)

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غيره. وللنحاة خلاف في أنه هل يضمر للأخير مثل في الوجود أو يصح أن يوجد. (الْحَيُ) الذي يصح أن يعلم ويقدر وكل ما يصح له فهو واجب لا يزول لامتناعه عن القوة والإمكان. (الْقَيُّومُ) الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيعول من قام بالأمر إذا حفظه ، وقرئ «القيام» و«القيم». (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) السنة فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع:

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم

والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود ، والجملة

١٥٣

نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حيا قيوما ، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان مؤف الحياة قاصرا في الحفظ والتدبير ، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لقيوميته واحتجاج به على تفرده في الألوهية ، والمراد بما فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو أبلغ من قوله: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) ، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) بيان لكبرياء شأنه سبحانه وتعالى ، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة أي مخاصمة. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما قبلهم وما بعدهم ، أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي ، أو أمور الدنيا وأمور الآخرة ، أو عكسه ، أو ما يحسونه وما يعقلونه ، أو ما يدركونه وما لا يدركونه ، والضمير لما في السموات والأرض ، لأن فيهما العقلاء ، أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) من معلوماته. (إِلَّا بِما شاءَ) أن يعلموه ، وعطفه على ما قبله لأن مجموعهما يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته سبحانه وتعالى. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) تصوير لعظمته وتمثيل مجرد كقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ولا كرسي في الحقيقة ، ولا قاعد. وقيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه ، مأخوذ من كرسي العالم والملك. وقيل جسم بين يدي العرش ولذلك سمي كرسيا محيط بالسموات السبع ، لقوله عليه الصلاة والسلام «ما السموات السبع والأرضون السبع من الكرسي ، إلا كحلقة في فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» ولعله الفلك المشهور بفلك البروج ، وهو في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد ، وكأنه منسوب إلى الكرسي وهو الملبد. (وَلا يَؤُدُهُ) أي ولا يثقله ، مأخوذ من الأود وهو الاعوجاج. (حِفْظُهُما) أي حفظه السموات والأرض ، فحذف الفاعل وأضاف المصدر إلى المفعول. (وَهُوَ الْعَلِيُ) المتعالي عن الأنداد والأشباه. (الْعَظِيمُ) المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه.

وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية ، فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية ، متصف بالحياة ، واجب الوجود لذاته موجد لغيره ، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره ، منزه عن التحيز والحلول ، مبرأ عن التغير والفتور ، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح ، مالك الملك والملكوت ، ومبدع الأصول والفروع ، ذو البطش الشديد ، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له عالم الأشياء كلها ، جليها وخفيها ، كليها وجزئيها ، واسع الملك والقدرة ، كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه ، لا يؤده شاق ، ولا يشغله شأن ، متعال عما يدركه ، وهو عظيم لا يحيط به فهم ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي ، من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته ، ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة». وقال «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله».

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٥٦)

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) إذ الإكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه ، ولكن (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء. وقبل إخبار في معنى النهي ، أي لا تكرهوا في الدين ، وهو إما عام منسوخ بقوله ؛ (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ، أو خاص بأهل

١٥٤

الكتاب لما روي (أن أنصاريا كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعقبي النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما). (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) بالشيطان ، أو الأصنام ، أو كل ما عبد من دون الله ، أو صد عن عبادة الله تعالى. فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه. (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) بالتوحيد وتصديق الرسل. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) طلب الإمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق ، وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم. (لَا انْفِصامَ لَها) لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته. (وَاللهُ سَمِيعٌ) بالأقوال (عَلِيمٌ) بالنيات ، ولعله تهديد على النفاق.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥٧)

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) محبهم ، أو متولي أمورهم ، والمراد بهم من أراد إيمانه وثبت في علمه أنه يؤمن. (يُخْرِجُهُمْ) بهدايته وتوفيقه. (مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الجهل واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدية إلى الكفر. (إِلَى النُّورِ) إلى الهدى الموصل إلى الإيمان ، والجملة خبر بعد خبر ، أو حال من المستكن في الخبر ، أو من الموصول ، أو منهما ، أو استئناف مبين ، أو مقرر للولاية. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي الشياطين ، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما. (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) من النور الذي منحوه بالفطرة ، إلى الكفر وفساد الاستعداد والانهماك في الشهوات ، أو من نور البينات إلى ظلمات الشكوك والشبهات. وقيل : نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام ، وإسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته به. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وعيد وتحذير ، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) تعجيب من محاجة نمروذ وحماقته. (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجة ، أو حاج لأجله شكرا له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجة على من منع إيتاء الله الملك الكافر من المعتزلة. (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ظرف ل «حاجّ» ، أو بدل من (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) على الوجه الثاني. (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بخلق الحياة والموت في الأجساد. وقرأ حمزة «رب» بحذف الياء. (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) بالعفو عن القتل والقتل. وقرأ نافع «أنا» بلا ألف. (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أعرض إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه دفعا للمشاغبة ، وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره ، لا عن حجة إلى أخرى. ولعل نمروذ زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله الله فنقضه إبراهيم بذلك ، وإنما حمله عليه بطر الملك وحماقته ، أو اعتقاد الحلول. وقيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام سجنه أياما ثم أخرجه ليحرقه ، فقال له من ربك الذي تدعو إليه وحاجه فيه. (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) فصار مبهوتا. وقرئ «فبهت» أي فغلب إبراهيم الكافر. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

١٥٥

الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية. وقيل لا يهديهم محجة الاحتجاج أو سبيل النجاة ، أو طريق الجنة يوم القيامة.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩)

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) تقديره أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه ، وتخصيصه بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى ، بخلاف مدعي الربوبية ، وقيل الكاف مزيدة وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو الذي مر. وقيل إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : ألم تر كالذي حاج ، أو كالذي مر. وقيل : إنه من كلام إبراهيم ذكره جوابا لمعارضته وتقديره أو إن كنت تحيي فأحيي كإحياء الله تعالى الذي مر على قرية. وهو عزير بن شرحيا. أو الخضر ، أو كافر بالبعث. ويؤيده نظمه مع نمروذ. والقرية بيت المقدس حين خربه بختنصر. وقيل القرية التي خرج منها الألوف. وقيل غيرهما واشتقاقها من القرى وهو الجمع. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) خالية ساقطة حيطانها على سقوفها. (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظاما لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمنا ، واستبعادا إن كان كافرا. و (أَنَّى) في موضع نصب على الظرف بمعنى متى أو على الحال بمعنى كيف. (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) فألبثه ميتا مائة عام ، أو أماته الله فلبث ميتا مائة عام. (ثُمَّ بَعَثَهُ) بالإحياء. (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) القائل هو الله وساغ أن يكلمه وإن كان كافرا لأنه آمن بعد البعث أو شارف الإيمان. وقيل ملك أو نبي. (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) كقول الظان. وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوما ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض يوم على الإضراب. (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتغير بمرور الزمان ، واشتقاقه من السنة. والهاء أصلية إن قدرت لام السنة هاء وهاء سكت إن قدرت واوا. وقيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة كتقضي البازي ، وإنما أفرد الضمير لأن الطعام والشراب كالجنس الواحد. وقيل كان طعامه تينا وعنبا وشرابه عصيرا أو لبنا وكان الكل على حاله. وقرأ حمزة والكسائي «لم يتسن» بغير الهاء في الوصل. (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف تفرقت عظامه ، أو انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب من التغير ، والأول أدل على الحال وأوفق لما بعده. (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي وفعلنا ذلك لنجعلك آية. روي أنه أتى قومه على حماره وقال أنا عزير فكذبوه ، فقرأ التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله فعرفوه بذلك ، وقالوا هو ابن الله. وقيل لما رجع إلى منزله كان شابا وأولاده شيوخا فإذا حدثهم بحديث قالوا حديث مائة سنة. (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) يعني عظام الحمار ، أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم. (كَيْفَ نُنْشِزُها) كيف نحييها ، أو نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه ، وكيف منصوب بنشزها والجملة حال من العظام أي : انظر إليها محياة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب «ننشرها» من أنشر الله الموتى ، وقرئ «ننشرها» من نشر بمعنى أنشر. (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) فاعل تبين مضمر يفسره ما بعده تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير. (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، أو يفسره ما قبله أي فلما تبين له ما أشكل عليه. وقرأ حمزة والكسائي (قالَ أَعْلَمُ) على الأمر والأمر مخاطبة ، أو هو نفسه خاطبها به على طريق التبكيت.

١٥٦

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) إنما سأل ذلك ليصير علمه عيانا ، وقيل لما قال نمروذ أنا أحيى وأميت قال له : إن إحياء الله تعالى برد الروح إلى بدنها ، فقال نمروذ : هل عاينته فلم يقدر أن يقول نعم. وانتقل إلى تقرير آخر ، ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرة أخرى. (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة ، قال له ذلك وقد علم أنه أغرق الناس في الإيمان ليجيب بما أجاب به فيعلم السامعون غرضه. (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي بلى آمنت ولكن سألت ذلك لأزيد بصيرة وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي أو الاستدلال. (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قيل طاوسا وديكا وغرابا وحمامة ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاوس ، والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل المتصف بهما الغراب ، والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام. وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان والطير مصدر سمي به أو جمع كصحب. (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) فأملهن واضممهن إليك لتتأملها وتعرف شياتها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء. وقرأ حمزة ويعقوب (فَصُرْهُنَ) بالكسر وهما لغتان قال :

وما صيد الأعناق فيهم جبلة

ولكن أطراف الرّماح تصورها

وقال :

وفرع يصير الجيد وحف كأنه

على اللّيث قنوان الكروم الدّوالح

وقرئ «فصرهن» بضم الصاد وكسرها وهما لغتان ، مشددة الراء من صره يصره ويصره إذا جمعه وفصرهن من التصرية وهي الجمع أيضا. (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك. قيل كانت أربعة. وقيل سبعة. وقرأ أبو بكر «جزءوا» و«جزؤ» بضم الزاي حيث وقع. (ثُمَّ ادْعُهُنَ) قل لهن تعالين بإذن الله تعالى. (يَأْتِينَكَ سَعْياً) ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا. روي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها فيمسك رؤوسها ، ويخلط سائر أجزائها ويوزعها على الجبال ، ثم يناديهن. ففعل ذلك فجعل كل جزء يطير إلى آخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن. وفيه إشارة إلى أن من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية ، فعليه أن يقبل على القوى البدنية فيقتلها ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها ، فيطاوعنه مسرعات متى دعاهن بدعاية العقل أو الشرع. وكفى لك شاهدا على فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال ، إنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه ، وأراه عزيرا بعد أن أماته مائة عام. (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجز عما يريده. (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله ويذره.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٦١)

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) أي مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة على حذف المضاف. (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أسند الإنبات إلى الحبة لما كانت من الأسباب ، كما يسند إلى الأرض والماء ، والمنبت على الحقيقة هو الله تعالى والمعنى : أنه يخرج منها ساق

١٥٧

يتشعب لكل منه سبع شعب ، لكل منها سنبلة فيها مائة حبة. وهو تمثيل لا يقتضي وقوعه وقد يكون في الذرة والدخن في البر في الأراضي المغلة. (وَاللهُ يُضاعِفُ) تلك المضاعفة. (لِمَنْ يَشاءُ) بفضله وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ، ومن أجل ذلك تفاوتت الأعمال في مقادير الثواب. (وَاللهُ واسِعٌ) لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة. (عَلِيمٌ) بنية المنفق وقدر إنفاقه.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)(٢٦٣)

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) نزلت في عثمان رضي الله تعالى عنه فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها. وعبد الرحمن بن عوف فإنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة. والمن أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه. والأذى أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه ، وثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لعله لم يدخل الفاء فيه وقد تضمن ما أسند إليه معنى الشرط إيهاما بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) رد جميل. (وَمَغْفِرَةٌ) وتجاوز عن السائل والحاجة ، أو نيل المغفرة من الله بالرد الجميل ، أو عفو من السائل بأن يعذر ويغتفر رده. (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) خبر عنهما ، وإنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن إنفاق بمن وإيذاء. (حَلِيمٌ) عن معاجلة من يمن ويؤذي بالعقوبة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢٦٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما. (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) كإبطال المنافق الذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضا الله تعالى ولا ثواب الآخرة ، أو مماثلين الذي ينفق رئاء الناس ، والكاف في محل النصب على المصدر أو الحال ، و (رِئاءَ) نصب على المفعول له أو الحال بمعنى مرائيا أو المصدر أي إنفاق (رِئاءَ). (فَمَثَلُهُ) أي فمثل المرائي في إنفاقه. (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) كمثل حجر أملس. (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) مطر عظيم القطر. (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أملس نقيا من التراب. (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا ، والضمير للذي ينفق باعتبار المعنى لأن المراد به الجنس ، أو الجمع كما في قوله :

إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الخير والرشاد ، وفيه تعريض بأن الرئاء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٦٥)

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وتثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان ، فإن

١٥٨

المال شقيق الروح ، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها ، أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم ، وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال. (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة ، كمثل بستان بموضع مرتفع ، فإن شجرة يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا. وقرأ ابن عامر وعاصم (بِرَبْوَةٍ) بالفتح وقرئ بالكسر وثلاثتها لغات فيها. (أَصابَها وابِلٌ) مطر عظيم القطر. (فَآتَتْ أُكُلَها) ثمرتها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالسكون للتخفيف. (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) وقيل : أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفا. (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل ، أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها. وهو المطر الصغير القطر ، والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله ، ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة والقليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل والطل. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير عن الرئاء وترغيب في الإخلاص.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦)

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) الهمزة فيه للإنكار. (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغليبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ، ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار ، ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع. (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي كبر السن ، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب ، والواو للحال أو للعطف حملا على المعنى ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر. (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) صغار لا قدرة لهم على الكسب. (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) عطف على أصابه ، أو تكون باعتبار المعنى. والإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود ، والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف ، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه ، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٢٦٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) من حلاله أو جياده. (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمرات والمعادن ، فحذف المضاف لتقدم ذكره. (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ) أي ولا تقصدوا الرديء منه أي من المال ، أو مما أخرجنا لكم. وتخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر ، وقرئ «ولا تؤمموا» «ولا تيمموا» بضم التاء. (تُنْفِقُونَ) حال مقدرة من فاعل تيمموا ، ويجوز أن يتعلق به منه ويكون الضمير للخبيث والجملة حالا منه. (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم لرداءته. (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) إلا أن تتسامحوا فيه ، مجاز من أغمض بصره إذا غضه. وقرئ

١٥٩

«تغمضوا» أي تحملوا على الإغماض ، أو توجدوا مغمضين. وعن ابن عباس رضي الله عنه : كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن إنفاقكم ، وإنما يأمركم به لانتفاعكم. (حَمِيدٌ) بقبوله وإثابته.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦٨)

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) في الإنفاق ، والوعد في الأصل شائع في الخير والشر. وقرئ (الْفَقْرَ) بالضم والسكون وبضمتين وفتحتين. (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) ويغريكم على البخل ، والعرب تسمي البخيل فاحشا. وقيل المعاصي (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي يعدكم في الإنفاق مغفرة لذنوبكم. (وَفَضْلاً) خلفا أفضل مما أنفقتم في الدنيا ، أو في الآخرة. (وَاللهُ واسِعٌ) أي واسع الفضل لمن أنفق. (عَلِيمٌ) بإنفاقه.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩)

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) تحقيق العلم وإتقان العلم. (مَنْ يَشاءُ) مفعول أول أخر للاهتمام بالمفعول الثاني (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بناؤه للمفعول لأنه المقصود. وقرأ يعقوب بالكسر أي ومن يؤته الله الحكمة. (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أي : أيّ خير كثير؟ إذ حيز له خير الدارين. (وَما يَذَّكَّرُ) وما يتعظ بما قص من الآيات ، أو ما يتفكر ، فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع الله في قلبه من العلوم بالقوة. (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٢٧٢)

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) قليلة أو كثيرة ، سرا أو علانية ، في حق أو باطل. (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) بشرط أو بغير شرط ، في طاعة أو معصية. (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) فيجازيكم عليه. (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين ينفقون في المعاصي وينذرون فيها ، أو يمنعون الصدقات ولا يوفون بالنذر. (مِنْ أَنْصارٍ) من ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) فنعم شيئا إبداؤها. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل. وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وقالون بكسر النون وسكون العين ، وروي عنهم بكسر النون وإخفاء حركة العين وهو أقيس. (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) أي تعطوها مع الإخفاء. (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فالإخفاء خير لكم ، وهذا في التطوع ولمن لم يعرف بالمال فإن إبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة عنه. عن ابن عباس رضي الله عنهما (صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا). (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالياء أي والله يكفر أو الإخفاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ويعقوب بالنون مرفوعا على أنه جملة فعلية مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي : ونحن نكفر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي به مجزوما على محل الفاء وما بعده. وقرئ بالتاء مرفوعا ومجزوما والفعل للصدقات. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ترغيب في الإسرار.

١٦٠