أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ١

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ١

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٢

وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(١٧٧)

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْبِرَّ) كل فعل مرض ، والخطاب لأهل الكتاب فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت ، وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد الله تعالى عليهم وقال ؛ ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ ، ولكن البر ما بينه الله واتبعه المؤمنون. وقيل عام لهم وللمسلمين ، أي ليس البر مقصورا بأمر القبلة ، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها ، وقرأ حمزة وحفص البر بالنصب (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) أي ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن بالله ، أو لكن ذا البر من آمن ، ويؤيده قراءة من قرأ ولكن «البار». والأول أوفق وأحسن. والمراد بالكتاب الجنس ، أو القرآن. وقرأ نافع وابن عامر (وَلكِنَ) بالتخفيف ورفع (الْبِرَّ). (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) أي على حب المال ، قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أي الصدقة أفضل قال «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، وتخشى الفقر». وقيل الضمير لله ، أو للمصدر. والجار والمجرور في موضع الحال. (ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى) يريد المحاويج منهم ، ولم يقيد لعدم الالتباس. وقدم ذوي القربى لأن إيتاءهم أفضل كما قال عليه الصلاة والسلام «صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك اثنتان ، صدقة وصلة». (وَالْمَساكِينَ) جمع المسكين وهو الذي أسكنته الخلة ، وأصله دائم السكون كالمسكير للدائم السكر. (وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر ، سمي به لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريق. وقيل الضيف لأن السبيل يرعف به. (وَالسَّائِلِينَ) الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، وقال عليه‌السلام «للسائل حق وإن جاء على فرسه». (وَفِي الرِّقابِ) وفي تخليصها بمعاونة المكاتبين ، أو فك الأسارى ، أو ابتياع الرقاب لعتقها. (وَأَقامَ الصَّلاةَ) المفروضة. (وَآتَى الزَّكاةَ) يحتمل أن يكون المقصود منه ومن قوله : (وَآتَى الْمالَ) الزكاة المفروضة ، ولكن الغرض من الأول بيان مصارفها ، ومن الثاني أداؤها والحث عليها. ويحتمل أن يكون المراد بالأول نوافل الصدقات أو حقوقا كانت في المال سوى الزكاة. وفي الحديث «نسخت الزكاة كل صدقة». (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) عطف على (مَنْ آمَنَ). (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) نصبه على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال. وعن الأزهري : البأساء في الأموال كالفقر ، والضراء في الأنفس كالمرض. (وَحِينَ الْبَأْسِ) وقت مجاهدة العدو. (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في الدين واتباع الحق وطلب البر. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عن الكفر وسائر الرذائل. والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها ، دالة عليها صريحا أو ضمنا ، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحة الاعتقاد ، وحسن المعاشرة ، وتهذيب النفس. وقد أشير إلى الأول بقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) إلى (وَالنَّبِيِّينَ). وإلى الثاني بقوله : (وَآتَى الْمالَ) إلى (وَفِي الرِّقابِ) وإلى الثالث بقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده بالتقوى ، اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق. وإليه أشار بقوله عليه‌السلام «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء ، وكان لأحدهما طول على الآخر ، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد

١٢١

والذكر بالأنثى. فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، وأمرهم أن يتباوءوا. ولا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم وقد بيّنا ما كان الغرض وإنما منع مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما. قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ، لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه : أن رجلا قتل عبده فجلده الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفاه سنة ولم يقده به. وروي عنه أنه قال : من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد ولأن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير. وللقياس على الأطراف ، ومن سلم دلالته فليس له دعوى نسخه بقوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن. واحتجت الحنفية به على أن مقتضى العمد القود وحده ، وهو ضعيف إذ الواجب على التخيير يصدق عليه أنه وجب وكتب ، ولذلك قيل التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخا لوجوبه. وقرئ «كتب» على البناء للفاعل و«القصاص» بالنصب ، وكذلك كل فعل جاء في القرآن. (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي شيء من العفو ، لأن عفا لازم. وفائدته الإشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إسقاط القصاص. وقيل عفا بمعنى ترك ، وشيء مفعول به وهو ضعيف ، إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه. وعفا يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، قال الله تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ) وقال (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ). فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام وعليه ما في الآية كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته من جهة ، أخيه ، يعني ولي الدم. وذكره بلفظ الإخوة الثابتة بينهما من الجنسية والإسلام ليرق له ويعطف عليه. (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي فليكن اتباع ، أو فالأمر اتباع. والمراد به وصية العافي بأن يطلب الدية بالمعروف فلا يعنف ، والمعفو عنه بأن يؤديها بالإحسان : وهو أن لا يمطل ولا يبخس. وفيه دليل على أن الدية أحد مقتضى العمد ، وإلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو. وللشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة قولان. (ذلِكَ) أي الحكم المذكور في العفو والدية. (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) لما فيه من التسهيل والنفع ، قيل كتب على اليهود القصاص وحده ، وعلى النصارى العفو مطلقا. وخيرت هذه الأمة بينهما وبين الدية تيسيرا عليهم وتقديرا للحكم على حسب مراتبهم. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي قتل بعد العفو وأخذ الدية. (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة. وقيل في الدنيا بأن يقتل لا محالة لقوله عليه‌السلام «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية».

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧٩)

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده ، وعرف القصاص ونكر الحياة ، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما ، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل ، فيكون سبب حياة نفسين. ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم. فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم. وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثاني تخصيص. وقيل : المراد بها الحياة الأخروية ، فإن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة. (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ) يحتمل أن يكونا خيرين لحياة وأن يكون أحدهما خبرا والآخر صلة له ، أو حالا من الضمير المستكن فيه. وقرئ في «القصص» أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة ، أو في القرآن حياة للقلوب. (يا أُولِي الْأَلْبابِ) ذوي العقول الكاملة. ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له ، أو عن القصاص فتكفوا عن القتل.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى

١٢٢

الْمُتَّقِينَ)(١٨٠)

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي حضرت أسبابه وظهرت أماراته. (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا. وقيل مالا كثيرا ، لما روي عن على رضي الله تعالى عنه : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم ، فمنعه وقال قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير هو المال الكثير. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : أن رجلا أراد أن يوصي فسألته كم مالك ، فقال : ثلاثة آلاف فقالت : كم عيالك قال : أربعة قالت : إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك. (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مرفوع بكتب ، وتذكير فعلها للفصل ، أو على تأويل أن يوصي ، أو الإيصاء ولذلك ذكر الراجع في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ). والعامل في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدمه عليها. وقيل مبتدأ خبره (لِلْوالِدَيْنِ) ، والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كقوله :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّر عند الله مثلان

وردّ بأنه إن صح فمن ضرورات الشعر. وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث». وفيه نظر : لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا ، والحديث من الآحاد ، وتلقي الأمة له بالقبول لا يحلقه بالمتواتر. ولعله احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين بقوله (يُوصِيكُمُ اللهُ). أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله عليهم (بِالْمَعْرُوفِ) بالعدل فلا يفضل الغنى ، ولا يتجاوز الثلث. (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا.

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨٢)

(فَمَنْ بَدَّلَهُ) غيره من الأوصياء والشهود. (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي وصل إليه وتحقق عنده ، (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل ، إلا على مبدليه لأنهم الذين خافوا وخالفوا الشرع. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد للمبدل بغير حق.

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ) أي توقع وعلم ، من قولهم أخاف أن ترسل السماء. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر (مُوصٍ) مشددا. (جَنَفاً) ميلا بالخطإ في الوصية. (أَوْ إِثْماً) تعمدا للحيف. (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في هذا التبديل ، لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد للمصلح ، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه‌السلام ، وفيه توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطييب على النفس. والصوم في اللغة : الإمساك عما تنازع إليه النفس ، وفي الشرع : الإمساك عن المفطرات بياض النهار ، فإنها معظم ما تشتهيه النفس. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة والسلام «فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء» أو الإخلال بأدائه لأصالته وقدمه.

١٢٣

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٤)

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) مؤقتات بعدد معلوم ، أو قلائل. فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا ، ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما بل بإضمار صوموا لدلالة الصيام عليه ، والمراد بها رمضان أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به ، وهو عاشوراء أو ثلاثة أيام من كل شهر ، أو بكما كتب على الظرفية ، أو على أنه مفعول ثان ل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) على السعة. وقيل معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام ، لما روي : أن رمضان كتب على النصارى ، فوقع في برد أو حر شديد فحولوه إلى الربيع وزادوا عليه عشرين كفارة لتحويله. وقيل زادوا ذلك لموتان ـ أصابهم. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا يضره الصوم أو يعسر معه. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أو راكب سفر ، وفيه إيماء إلى أن من سافر أثناء اليوم لم يفطر. (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فعليه صوم عدد أيام المرض ، أو السفر من أيام أخر إن أفطر ، فحذف الشرط والمضاف والمضاف إليه للعلم بها. وقرئ بالنصب أي فليصم عدة ، وهذا على سبيل الرخصة. وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا. (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند فقهاء العراق ، ومد عند فقهاء الحجاز. رخص لهم في ذلك أول الأمر لما أمروا بالصوم فاشتد عليهم لأنهم لم يتعودوه ، ثم نسخ. وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع «المساكين». وقرأ ابن عامر برواية هشام «مساكين» بغير إضافة الفدية إلى الطعام ، والباقون بغير إضافة وتوحيد مسكين ، وقرئ «يطوقونه» أي يكلفونه ويقلدونه في الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ويتطوقونه أي يتكلفونه ، أو يتقلدونه ويطوقونه بالإدغام ، و«يطيقونه» و«يطيقونه» على أن أصلهما يطيوقونه ويتطوقونه من فيعل وتفعيل بمعنى يطوقونه ويتطوقونه ، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانيا وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده. وهم الشيوخ والعجائز. في الإفطار والفدية ، فيكون ثابتا وقد أول به القراءة المشهورة ، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم. (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد في الفدية. (فَهُوَ) فالتطوع أو الخير. (خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون ، أو المطوقون وجهدتم طاقتكم. أو المرخصون في الإفطار ليندرج تحته المريض والمسافر. (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية أو تطوع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله أي اخترتموه. وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٨٥)

(شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ خبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان ، أو بدل من الصيام على حذف المضاف أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان. وقرئ بالنصب على إضمار صوموا ، أو على أنه مفعول ، (وَأَنْ تَصُومُوا) وفيه ضعف ، أو بدل من أيام معدودات. والشهر : من الشهرة ، ورمضان : مصدر رمض إذا احترق ؛ فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون ، كما منع دأية في ابن دأية علما للغراب للعلمية والتأنيث ، وقوله عليه الصلاة والسلام «من صام رمضان» فعلى حذف المضاف لأمن الالتباس ، وإنما سموه بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش ، أو لارتماض الذنوب فيه ، أو لوقوعه أيام رمض الحر حين ما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة. (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ

١٢٤

الْقُرْآنُ) أي ابتدئ فيه إنزاله ، وكان ذلك ليلة القدر ، أو أنزل فيه جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض ، أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزلت صحف إبراهيم عليه‌السلام أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين» والموصول بصلته خبر المبتدأ أو صفته والخبر فمن شهد ، والفاء لوصف المبتدأ بما تضمن معنى الشرط. وفيه إشعار بأن الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم. (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) حالان من القرآن ، أن أنزل وهو هداية للناس بإعجازه وآيات واضحات مما يهدي إلى الحق ، ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام. (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه ، والأصل فمن شهد فيه فليصم فيه ، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأول للتعظيم ، ونصب على الظرف وحذف الجار ونصب الضمير الثاني على الاتساع. وقيل : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ) هلال الشهر فليصمه ، على أنه مفعول به كقولك : شهدت الجمعة أي صلاتها فيكون (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مخصصا له ، لأن المسافر والمريض ممن شهد الشهر ولعل تكريره لذلك ، أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه. (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر عليكم ، فلذلك أباح الفطر في السفر والمرض. (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علل لفعل محذوف دل عليه ما سبق ، أي وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر والمرخص بالقضاء ومراعاة عدة ما أفطر فيه ، والترخيص (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) إلى آخرها على سبيل اللف ، فإن قوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) علة الأمر بمراعاة العدة ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير. أو الأفعال كل لفعله ، أو معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم ، أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا العدة ، ويجوز أن يعطف على اليسر أي ويريد بكم لتكملوا كقوله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ). والمعنى بالتكبير تعظيم الله بالحمد والثناء عليه ، ولذلك عدي بعلى. وقيل تكبير يوم الفطر ، وقيل التكبير عند الإهلال وما يحتمل المصدر ، والخبر أي الذي هداكم إليه وعن عاصم برواية أبي بكر (وَلِتُكْمِلُوا) بالتشديد.

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(١٨٦)

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي فقل لهم إني قريب ، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم ، روي : أن أعرابيا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) تقرير للقرب. ووعد للداعي بالإجابة. (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمر بالثبات والمداومة عليه. (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) راجين إصابة الرشد وهو إصابة الحق. وقرئ بفتح الشين وكسرها. واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة ، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم ، مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ، ثم بين أحكام الصوم فقال :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ

١٢٥

وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(١٨٧)

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) روي أن المسلمين كانوا إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الآخرة أو يرقدوا ، ثم : إن عمر رضي الله عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتذر إليه ، فقام رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت وليلة الصيام : الليلة التي تصبح منها صائما ، والرفث : كناية عن الجماع ، لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ، وإيثاره هاهنا لتقبيح ما ارتكبوه ولذلك سماه خيانة. وقرئ «الرفوث» (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) استئناف يبين سبب الإحلال وهو قلة الصبر عنهن ، وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة ، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس قال الجعدي :

إذا ما الضجيع ثنّى عطفها

تثنّت فكانت عليه لباسا

أو لأن كل واحد منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور. (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) تظلمونها بتعريضها للعقاب ، وتنقيص حظها من الثواب ، والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) لما تبتم مما اقترفتموه. (وَعَفا عَنْكُمْ) ومحا عنكم أثره. (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) لما نسخ عنكم التحريم وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن ، والمباشرة : إلزاق البشرة كني به عن الجماع. (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) واطلبوا ما قدره لكم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد ، والمعنى أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة من خلق الشهوة. وشرع النكاح لا قضاء الوطر ، وقيل النهي عن العزل ، وقيل عن غير المأتي. والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل ، بخيطين أبيض وأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله (مِنَ الْفَجْرِ) عن بيان (الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ، لدلالته عليه. وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل. ويجوز أن تكون من للتبعيض ، فإن ما يبدو بعض الفجر. وما روي أنها نزلت ولم ينزل من الفجر ، فعمد رجال إلى خيطين أسود وأبيض ولا يزالون يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت ، إن صح فلعله كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائزة ، أو أكتفي أولا باشتهارهما في ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفي تجويز المباشرة إلى الصبح الدلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم المصبح جنبا (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) بيان لآخر وقته ، الليل عنه فينفي صوم الوصال (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) معتكفون فيها والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد القربة. والمراد بالمباشرة : الوطء. وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك. وفي دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد ولا يختص بمسجد دون مسجد. وأن الوطء يحرم فيه ويفسده لأن النهي في العبادات يوجب الفساد. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي الأحكام التي ذكرت. (فَلا تَقْرَبُوها) نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، فضلا عن أن يتخطى عنه. كما قال عليه الصلاة والسلام «إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه». وهو أبلغ من قوله (فَلا تَعْتَدُوها) ، ويجوز أن يريد ب (حُدُودُ اللهِ) محارمه ومناهيه. (كَذلِكَ) مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) مخالفة الأوامر والنواهي.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ

١٢٦

بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٨)

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي ولا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى. وبين نصب على الظرف ، أو الحال من الأموال. (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على المنهي ، أو نصب بإضمار أن والإدلاء الإلقاء ، أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام. (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم. (فَرِيقاً) طائفة. (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بما يوجب إثما ، كشهادة الزور واليمين الكاذبة ، أو ملتبسين بالإثم. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم مبطلون ، فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح. روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض ولم يكن له بينة ، فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحلف امرؤ القيس ، فهم به فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية. فارتدع عن اليمين ، وسلم الأرض إلى عبدان ، فنزلت. وفيه دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي. ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من ناره».

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا : (ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ، ثم يزيد حتى يستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا) (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره ، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم ، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها. وخصوصا الحج فإن الوقت مراعي فيه أداء وقضاء. والمواقيت : جمع ميقات ، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان : أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها. والزمان : مدة مقسومة ، والوقت : الزمان المفروض لأمر. (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) وقرأ أبو عمرو وو ورش وحفص بضم الباء ، والباقون بالكسر. (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف (وَلكِنَ) ، ورفع البر. كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه ، وإنما يدخلون من نقب أو فرجة وراءه ، ويعدون ذلك برا ، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر : برّ من اتقى المحارم والشهوات ، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين. أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضا من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، أو أنهم لما سألوا عمّا لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها ، أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه. والمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر بر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله. (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها. (وَاتَّقُوا اللهَ) في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تظفروا بالهدى والبر.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١٩٠)

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه. (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) قيل : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين. وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده. ويؤيد الأول ما روى : أن المشركين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من

١٢٧

قابل فيخلوا له مكة. شرفها الله. ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم. أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت (وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء القتال ، أو بقتال المعاهد ، أو المفاجأة به من غير دعوة ، أو المثلة ، أو قتل من نهيتم عن قتله. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لا يريد بهم الخير.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)(١٩١)

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) حيث وجدتموهم في حل أو حرم. وأصل الثقف : الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا. فهو يتضمن معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال :

فأمّا تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من مكة ، وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح. (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي المحنة التي يفتتن بها الإنسان ، كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. وقيل : معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه. (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد الحرام. (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) فلا تبالوا بقتالهم ثم فإنهم الذين هتكوا حرمته. وقرأ حمزة والكسائي (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ). والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم قتلنا بنو أسد. (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) مثل ذلك جزاؤهم يفعل بهم مثل ما فعلوا.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)(١٩٣)

(فَإِنِ انْتَهَوْا) عن القتال والكفر (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما قد سلف (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب. (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك. (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فلا تعتدوا على المنتهين إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم ، فوضع العلة موضع الحكم. وسمي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة كقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر عليكم ، والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به. (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) احتجاج عليه ، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص. فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم. كما قال : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وهو فذلكة التقرير. (وَاتَّقُوا اللهَ) في الأنصار ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فيحرسهم ويصلح شأنهم.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٩٥).

١٢٨

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ولا تمسكوا كل الإمساك. (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالإسراف وتضييع وجه المعاش ، أو بالكف عن الغزو والإنفاق فيه ، فإن ذلك يقوي العدو ويسلطهم على إهلاككم. ويؤيده ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال : لما أعز الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت ، أو بالإمساك وحب المال فإنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد ، ولذلك سمي البخل هلاكا وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد ، والإلقاء : طرح الشيء ، وعدى بإلى لتضمن معنى الانتهاء ، والباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس ، والتهلكة والهلاك والهلك واحد فهي مصدر كالتضرة والتسرة ، أي لا توقعوا أنفسكم في الهلاك وقيل : معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها فحذف المفعول. (وَأَحْسِنُوا) أعمالكم وأخلاقكم ، أو تفضلوا على المحاويج. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١٩٦)

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى ، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ وأقيموا الحج والعمرة لله ، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه «أنه قيل يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج ، فقال : لا ولكن إن تعتمر خير لك» فمعارض بما روى «أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه ، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا ، فقال : هديت لسنة نبيك» ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما ، لأنه رتب الإهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس. وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، أو أن تفرد لكل منهما سفرا ، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي ، أو أن تكون النفقة حلالا. (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) منعتم ، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي ، مثل صده وأصده ، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمها الله تعالى لقوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ولنزوله في الحديبية ، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام «من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل» وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير «حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني» (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر. أو فاهدوا ما استيسر. والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه ، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر. لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلا كان أو حرما ، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى يجب القضاء ، والمحل. بالكسر. يطلق على المكان والزمان. والهدي : جمع هدية كجدي وجدية ، وقرئ من «الهدى» جمع هدية كمطى في مطية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا يحوجه إلى الحلق. (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كجراحة وقمل. (فَفِدْيَةٌ) فعلية فدية إن حلق. (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) بيان لجنس الفدية ، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة «لعلك آذاك هوامك ، قال :

١٢٩

نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة» والفرق ثلاثة آصع (فَإِذا أَمِنْتُمْ) الإحصار. أو كنتم في حال سعة وأمن. (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره. وقيل : فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج. (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فعليه دم استيسره بسبب التمتع ، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى ، إنه ندم نسك فهو كالأضحية (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي الهدي. (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل. قال أبو حنيفة رحمه‌الله في أشهره بين الإحرامين ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه. ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين. (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى. وقرئ «سبعة» بالنصب عطفا على محل (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ). (تِلْكَ عَشَرَةٌ) فذلكة الحساب ، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو ، كقولك جالس الحسن وابن سيرين. وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب ، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما (كامِلَةٌ) صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد ، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها ، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي. (ذلِكَ) إشارة إلى الحكم المذكور عندنا. والتمتع عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى لأنه لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده ، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية. (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا ، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم ، أو في حكمه. ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك. (وَاتَّقُوا اللهَ) في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصا في الحج (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لم يتقه كي يصدكم العلم به عن العصيان.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٧)

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ) أي وقته. كقولك البرد شهران. (مَعْلُوماتٌ) معروفات وهي : شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة بليلة النحر عندنا ، والعشر عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى. وذي الحجة كله عند مالك. وبناء على الخلاف على أن المراد بوقته وقت إحرامه ، أو وقت أعماله ومناسكه ، أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا ، فإن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة. وأبو حنيفة رحمه‌الله وإن صحح الإحرام به قبل شوال فقد استكرهه. وإنما سمي شهران وبعض شهر أشهرا إقامة للبعض مقام الكل ، أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن عندنا ، أو بالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى وهو دليل على ما ذهب إليه الشافعي رحمه‌الله تعالى وأن من أحرم بالحج لزمه الإتمام. (فَلا رَفَثَ) فلا جماع ، أو فلا فحش من الكلام. (وَلا فُسُوقَ) ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات. (وَلا جِدالَ) ولا مراء مع الخدم والرفقة. (فِي الْحَجِ) في أيامه ، نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح كلبسة الحرير في الصلاة. والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأولين بالرفع على معنى : لا يكونن رفث ولا فسوق. والثالث بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج ، وذلك أن قريشا كانت تحالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، فارتفع الخلاف بأن أمروا أن يقعوا أيضا بعرفة. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) حث على الخير

١٣٠

عقب به النهي عن الشر ليستبدل به ويستعمل مكانه. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) وتزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد ، وقيل : نزلت في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس ، فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإبرام في السؤال والتثقيل على الناس. (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) فإن قضية اللب خشية الله وتقواه ، حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه ، وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)(١٩٨)

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا) أي في أن تبتغوا أي تطلبوا. (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) عطاء ورزقا منه ، يريد الربح بالتجارة ، وقيل : كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يقيمونها مواسم الحج ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت. (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) دفعتم منها بكثرة ، من أفضت الماء إذا صببته بكثرة. وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في دفعت من البصرة. و (عَرَفاتٍ) جمع سمي به كأذرعات ، وإنما نون وكسر وفيه العلمية والتأنيث لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكين ولذلك يجمع مع اللام ، وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف ، وهنا ليس كذلك. أو لأن التأنيث إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث. وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، أو بتاء مقدرة كما في سعاد ولا يصح تقديرها لأن المذكورة تمنعه من حيث إنها كالبدل لها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت ، وإنما سمي الموقف عرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه‌السلام كان يدور به في المشاعر فلما أراه إياه قال قد عرفت ، أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا. أو لأن الناس يتعارفون فيه. وعرفات للمبالغة في ذلك وهي من الأسماء المرتجلة إلا أن يجعل جمع عارف ، وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا) أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب بل مستحب. وعلى تقدير أنه واجب فهو واجب مقيد لا واجب مطلق حتى تجب مقدمته والأمر به غير مطلق. (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والتهليل والدعاء. وقيل : بصلاة العشاءين. (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) جبل يقف عليه الإمام ويسمى «قزح». وقيل : ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر ، ويؤيد الأول ما روي جابر : أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الفجر ـ يعني بالمزدلفة بغلس ـ ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر وإنما سمي مشعرا لأنه معلم العبادة ، ووصف بالحرام لحرمته : ومعنى عند المشعر الحرام : مما يليه ويقرب منه فإنه أفضل ، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر. (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) كما علمكم ، أو اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها. وما مصدرية أو كافة. (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي الهدى. (لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين بالإيمان والطاعة ، وأن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. وقيل : إن نافية واللام بمعنى إلا ، كقوله تعالى : (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ).

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٩٩)

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من عرفة لا من المزدلفة ، والخطاب مع قريش كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعا عليهم ، فأمروا بأن يساووهم. وثم لتفاوت ما بين الإفاضتين كما في قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم. وقيل : من مزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها والخطاب عام. وقرئ «الناس» بالكسر أي الناسي يريد آدم من قوله سبحانه وتعالى : (فَنَسِيَ) والمعنى

١٣١

أن الإفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه.

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(٢٠٠)

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) فإذا قضيتم العبادات الحجية وفرغتم منها. (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) فأكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة. وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم. (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ. أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا. وإما منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آباءكم. أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره : أو كونوا أشد ذكرا لله منكم لآبائكم. (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب به خير الدارين ، والمراد الحث على الإكثار والإرشاد إليه. (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي نصيب وحظ لأن همه مقصور بالدنيا ، أو من طلب خلاق.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢٠٢)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) يعني الصحة والكفاف وتوفيق الخير. (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) يعني الثواب والرحمة. (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بالعفو والمغفرة ، وقول علي رضي الله تعالى عنه : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء. وعذاب النار المرأة السوء وقول الحسن : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة ، وفي الآخرة الجنة. وقنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب والمؤدية إلى النار أمثلة للمراد بها.

(أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الثاني. وقيل إليهما. (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي من جنسه وهو جزاؤه ، أو من أجله كقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه فسمي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة ، أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتسبوا الحسنات.

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٠٣)

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) كبروه في أدبار الصلاة وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها في أيام التشريق. (فَمَنْ تَعَجَّلَ) فمن استعجل النفر. (فِي يَوْمَيْنِ) يوم القر والذي بعده ، أي فمن نفر في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار عندنا ، وقبل طلوع الفجر عند أبي حنيفة. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) باستعجاله. (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ومن تأخر في النفر حتى رمى في اليوم الثالث بعد الزوال ، وقال أبو حنيفة : يجوز تقديم رميه على الزوال. ومعنى نفي الإثم بالتعجيل والتأخير التخيير بينهما والرد على أهل الجاهلية فإن منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر. (لِمَنِ اتَّقى) أي الذي ذكر من التخيير ، أو من الأحكام لمن اتقى لأنه

١٣٢

الحاج على الحقيقة والمنتفع به ، أو لأجله حتى لا يتضرر بترك ما يهمه منهما. (وَاتَّقُوا اللهَ) في مجامع أموركم ليعبأ بكم. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء بعد الإحياء. وأصل الحشر الجمع وضم المتفرق.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢٠٤)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) يروقك ويعظم في نفسك ، والتعجب : حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه. (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق بالقول ، أي ما يقوله في أمور الدنيا وأسباب المعاش ، أو في معنى الدنيا فإنها مراد من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان ، أو يعجبك أي يعجبك قوله في الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة والحبسة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام. (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) يحلف ويستشهد الله على أن ما في قلبه موافق لكلامه. (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) شديد العداوة والجدال للمسلمين ، والخصام المخاصمة ويجوز أن يكون جمع خصم كصعب وصعاب بمعنى أشد الخصوم خصومة. قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعي الإسلام. وقيل في المنافقين كلهم.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)(٢٠٦)

(وَإِذا تَوَلَّى) أدبر وانصرف عنك. وقيل : إذا غلب وصار واليا. (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم ، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف ، أو بالظلم حتى يمنع الله بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الإثم الذي يؤمر باتقانه لجاجا ، من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه. (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) كفته جزاء وعذابا ، و (جَهَنَّمُ). علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار. وقيل معرب. (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به ، والمهاد الفراش. وقيل ما يوطأ للجنب.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢٠٧)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيعها أي يبذلها في الجهاد ، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) طلبا لرضاه. قيل : إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال : إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة. (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٠٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السِّلْمِ) بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة ، ولذلك يطلق في الصلح والإسلام. فتحه ابن كثير ونافع والكسائي وكسره الباقون. وكافة اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء

١٣٣

من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب قال :

السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا ، والخطاب للمنافقين ، أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره. والخطاب لمؤمني أهل الكتاب ، فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإبل وألبانها ، أو في شرائع الله كلها بالإيمان بالأنبياء والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب ، أو في شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا تخلوا بشيء والخطاب للمسلمين. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بالتفرق والتفريق. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) عن الدخول في السلم. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الآيات والحجج الشاهدة على أنه الحق. (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه الانتقام. (حَكِيمٌ) لا ينتقم إلا بحق.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٢١٠)

(هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام في معنى النفي ولذلك جاء بعده. (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أي يأتيهم أمره أو بأسه كقوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فَجاءَها بَأْسُنا) أو يأتيهم الله ببأسه فحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة كقلة وقلل وهي ما أظلك ، وقرئ «ظلال» كقلال. (مِنَ الْغَمامِ) السحاب الأبيض وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة ، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير. (وَالْمَلائِكَةُ) فإنهم الواسطة في إتيان أمره ، أو الآتون على الحقيقة ببأسه. وقرئ بالجر عطفا على (ظُلَلٍ) أو (الْغَمامِ). (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه ، وضع الماضي موضع المستقبل لدنوه وتيقن وقوعه. وقرئ و«قضاء الأمر» عطفا على الملائكة. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم على البناء للمفعول على أنه من الراجع ، وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع ، وقرئ أيضا بالتذكير وبناء المفعول.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢١١)

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد والمراد بهذا السؤال تقريعهم. (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) معجزة ظاهرة ، أو آية في الكتب شاهدة على الحق والصواب على أيدي الأنبياء ، و (كَمْ) خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر إلى المبتدأ. وآية مميزها. ومن للفصل. (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) أي آيات الله فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم ، يجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس ، أو بالتحريف والتأويل الزائغ. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها ، وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ولذلك قيل تقديرها فبدلوها (وَمَنْ يُبَدِّلْ). (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢)

١٣٤

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها ، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو فاعله ، ويدل عليه قراءة «زيّن» على البناء للفاعل ، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلقه الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض.

(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب ، أي يسترذلونهم ويستهزئون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ، ومن للابتداء كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم في عليين وهم في أسفل السافلين ، أو لأنهم في كرامة وهم في مذلة ، أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، وإنما قال والذين اتقوا بعد قوله من الذين آمنوا ، ليدل على أنهم متقون وأن استعلاءهم للتقوى. (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) في الدارين. (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢١٣)

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان ، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة إدريس أو نوح. (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي فاختلفوا فبعث الله ، وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه. وعن كعب (الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون). (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه ، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم ، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم. (بِالْحَقِ) حال من الكتاب ، أي ملتبسا بالحق شاهدا به. (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) أي الله ، أو النبي المبعوث ، أو كتابه. (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) في الحق الذي اختلفوا فيه ، أو فيما التبس عليهم. (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) في الحق ، أو الكتاب. (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا. (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف. (مِنَ الْحَقِ) بيان لما اختلفوا فيه. (بِإِذْنِهِ) بأمره أو بإرادته ولطفه. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا يضل سالكه.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤)

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) خاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على الأنبياء بعد مجيء الآيات ، تشجيعا لهم على الثبات مع مخالفتهم. و (أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) ولم يأتكم ، وأصل (لَمَّا) لم زيدت عليها ما وفيها توقع ولذلك جعلت مقابل قد. (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) حالهم التي هي مثل في الشدة. (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) بيان له على الاستئناف. (وَزُلْزِلُوا) وأزعجوا إزعاجا شديدا بما أصابهم من الشدائد. (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر. وقرأ نافع يقول بالرفع على أنه حكاية حال ماضية كقولك مرض حتى لا يرجونه. (مَتى نَصْرُ اللهِ) استبطاء له لتأخره. (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) استئناف على إرادة القول أي

١٣٥

فقيل لهم ذلك إسعافا لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر ، وفيه إشارة إلى أن الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ، ومكابدة الشدائد والرياضات كما قال عليه الصلاة والسلام «حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات».

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢١٥)

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما(أن عمرو بن الجموح الأنصاري كان شيخا هما ذا مال عظيم ، فقال يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت)

(قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) سئل عن المنفق فأجيب ببيان المصرف لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره ، ولأنه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكورا في الآية ، واقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) في معنى الشرط. (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) جوابه أي إن تفعلوا خيرا فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه ، وليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢١٦)

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) شاق عليكم مكروه طبعا ، وهو مصدر نعت به للمبالغة ، أو فعل بمعنى مفعول كالخبز. وقرئ بالفتح على أنه لغة فيه كالضعف والضعف ، أو بمعنى الإكراه على المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته كقوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً). (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وهو جميع ما كلفوا به ، فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم وسبب فلاحهم. (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وهو جميع ما نهوا عنه ، فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى ، وإنما ذكر (عَسى) لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما هو خير لكم. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، وفيه دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة وإن لم يعرف عينها.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢١٧)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) روي (أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة. قبل بدر بشهرين. ليترصّد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف ، وكان ذلك غرة رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ، وينذعر فيه الناس إلى معايشهم. وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، ورد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير والأسارى). وعن ابن عباس رضي الله عنهما(لما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام) والسائلون هم المشركون كتبوا إليه في ذلك تشنيعا وتعييرا وقيل أصحاب السرية. (قِتالٍ فِيهِ) بدل اشتمال من الشهر الحرام. وقرئ «عن قتال» بتكرير العامل. (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي ذنب كبير ، والأكثر أنه

١٣٦

منسوخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) خلافا لعطاء وهو نسخ الخاص بالعام وفيه خلاف ، والأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام مطلقا فإن قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا يعم. (وَصَدٌّ) صرف ومنع. (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الإسلام ، أو ما يوصل العبد إلى الله سبحانه وتعالى من الطاعات. (وَكُفْرٌ بِهِ) أي بالله. (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) على إرادة المضاف أي وصد المسجد الحرام كقول أبي دؤاد :

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقد باللّيل نارا

ولا يحسن عطفه على (سَبِيلِ اللهِ) لأن عطف قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ) على (وَصَدٌّ) مانع منه إذ لا يتقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ولا على الهاء في (بِهِ) ، فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار. (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أهل المسجد الحرام وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون. (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) مما فعلته السرية خطأ وبناء على الظن ، وهو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة من كبائر قريش. وأفعل مما يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي ما ترتكبونه من الإخراج والشرك أفظع مما ارتكبوه من قتل الحضرمي. (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم وإنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم ، وحتى للتعليل كقولك أعبد الله حتى أدخل الجنة. (إِنِ اسْتَطاعُوا) وهو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بقوته على قرنه : إن ظفرت بي فلا تبق علي ، وإيذان بأنهم لا يردونهم. (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال كما هو مذهب الشافعي رحمه‌الله تعالى ، والمراد بها الأعمال النافعة. وقرئ «حبطت» بالفتح وهي لغة فيه. (فِي الدُّنْيا) لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد الدنيوية. (وَالْآخِرَةِ) بسقوط الثواب. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) كسائر الكفرة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢١٨)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت أيضا في أصحاب السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) كرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) ثوابه ، أثبت لهم الرجاء إشعارا بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة سيما والعبرة بالخواتيم. (وَاللهُ غَفُورٌ) لما فعلوا خطأ وقلة احتياط. (رَحِيمٌ) بإجزال الأجر والثواب.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(٢١٩)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) روي (أنه نزل بمكة قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) فأخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا ، فأم أحدهم فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) فنزلت (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب. والخمر في الأصل مصدر خمره إذا

١٣٧

ستره ، سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل ، كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجزه ، وهي حرام مطلقا وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر. (وَالْمَيْسِرِ) أيضا مصدر كالموعد ، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى : (قُلْ فِيهِما) أي في تعاطيهما. (إِثْمٌ كَبِيرٌ) من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور ، وارتكاب المحظور. وقرأ حمزة والكسائي «كثير» بالثاء. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة. (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما. ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة. (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) قيل سائله أيضا عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف ، ثم سأل عن كيفية الإنفاق. (قُلِ الْعَفْوَ) العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة ، وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد.

قال :

خذي العفو منّي تستديمي مودّتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وروي أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عليه الصلاة والسلام عنه حتى كرر عليه مرارا فقال : هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال : «يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى». وقرأ أبو عمرو برفع (الْعَفْوَ). (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد ، أو ما ذكر من الأحكام ، والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبيينا مثل هذا التبيين ، وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع ، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في الدلائل والأحكام.

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٠)

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في أمور الدارين فتأخذوا بالأصلح والأنفع فيهما ، وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم ، أو يضركم أكثر مما ينفعكم. (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية اعتزلوا اليتامى ومخالطتهم والاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي مداخلتهم لإصلاحهم ، أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم. (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) حث على المخالطة ، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ. وقيل المراد بالمخالطة المصاهرة. (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح ، أي يعلم أمره فيجازيه عليه. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم ، أي كلفكم ما يشق عليكم ، من العنت وهي المشقة ولم يجوز لكم مداخلتكم. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب يقدر على الإعنات. (حَكِيمٌ) يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة.

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٢٢١).

١٣٨

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) أي ولا تتزوجوهن. وقرئ بالضم أي ولا تزوجوهن من المسلمين ، والمشركات تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله : (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ولكنها خصت عنها بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) روي (أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثدا الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناسا من المسلمين ، فأتته عناق وكان يهواها في الجاهلية فقالت : ألا تخلو. فقال : إن الإسلام حال بيننا فقالت : هل لك أن تتزوج بي فقال نعم ولكن استأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأمره) فنزلت (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) أي ولامرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة ، فإن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه. (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) بحسنها وشمائلها ، والواو للحال ولو بمعنى إن وهو كثير. (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) ولا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا ، وهو على عمومه. (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) تعليل للنهي عن مواصلتهم ، وترغيب في مواصلة المؤمنين. (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات. (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي الكفر المؤدي إلى النار فلا يليق موالاتهم ومصاهرتهم. (وَاللهُ) أي وأولياؤه يعني المؤمنين حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه تفخيما لشأنهم. (يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي إلى الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما فهم الأحقاء بالمواصلة. (بِإِذْنِهِ) أي بتوفيق الله تعالى وتيسيره ، أو بقضائه وإرادته. (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لكي يتذكروا ، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر لما ركز في العقول من ميل الخير ومخالفة الهوى.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٢٢٢)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) روي (أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيّض ولا يؤاكلونها ، كفعل اليهود والمجوس ، واستمر ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك فنزلت). والمحيض مصدر كالمجيء والمبيت ، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر يسألونك بغير واو ثلاثا ثم بها ثلاثا ، لأن السؤالات الأول كانت في أوقات متفرقة والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بحرف الجمع. (قُلْ هُوَ أَذىً) أي الحيض شيء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه. (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) فاجتنبوا مجامعتهم لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم». وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود ، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض. وإنما وصفه بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء إشعارا بأنه العلة. (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) تأكيد للحكم وبيان لغايته ، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عباس (يَطْهُرْنَ) أي يتطهرن بمعنى يغتسلن والتزاما لقوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) فإنه يقتضي تأخير جواز الإتيان عن الغسل. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا طهرت لأكثر الحيض جاز قربانها قبل الغسل. (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الذنوب. (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار ، كمجامعة الحائض والإتيان في غير المأتى.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(٢٢٣)

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) مواضع حرث لكم. شبهن بها تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي فائتوهن كما تأتون المحارث ، وهو كالبيان لقوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)

١٣٩

(أَنَّى شِئْتُمْ) من أي جهة شئتم ، روي (أن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته من دبرها في قبلها كان ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت). (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) ما يدخر لكم من الثواب. وقيل هو طلب الولد. وقيل التسمية عند الوطء. (وَاتَّقُوا اللهَ) بالاجتناب عن معاصيه. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) فتزودوا ما لا تفتضحون به. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الكاملين في الإيمان بالكرامة والنعيم الدائم. أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم.

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٤)

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنها ، أو في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان ولا يصلح بينه وبين أخته. والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة تطلق لما يعرض دون الشيء وللمعرض للأمر ، ومعنى الآية على الأول ولا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه من أنواع الخير ، فيكون المراد بالإيمان الأمور المحلوف عليها ، كقوله عليه الصلاة والسلام لابن سمرة «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك». وأن مع صلتها عطف بيان لها ، واللام صلة عرضة لما فيها من معنى الاعتراض ، ويجوز أن تكون للتعليل ويتعلق أن بالفعل أو بعرضة أي ولا تجعلوا الله عرضة لأن تبروا لأجل إيمانكم به ، وعلى الثاني ولا تجعلوه معرضا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم الحلاف بقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) و (أَنْ تَبَرُّوا) علة للنهي أي أنهاكم عنه إرادة بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس ، فإن الحلّاف مجترئ على الله تعالى ، والمجترئ عليه لا يكون برا متقيا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأيمانكم. (عَلِيمٌ) بنياتكم.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٢٥)

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ، ولغو اليمين مالا عقد معه كما سبق به اللسان ، أو تكلم به جاهلا لمعناه كقول العرب : لا والله وبلى والله ، لمجرد التأكيد لقوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) والمعنى لا يؤاخذكم الله بعقوبة ولا كفارة بما لا قصد معه ، ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم. وقال أبو حنيفة : اللغو أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب ، والمعنى لا يعاقبكم بما أخطأتم فيه من الأيمان ، ولكن يعاقبكم بما تعمدتم الكذب فيه. (وَاللهُ غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذ باللغو (حَلِيمٌ) حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصا للتوبة.

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٧)

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أي يحلفون على أن لا يجامعوهن. والإيلاء : الحلف ، وتعديته بعلى ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن. (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) مبتدأ وما قبله خبره ، أو فاعل الظرف على خلاف سبق ، والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع ، أي للمولي حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ، ولا طلاق ، ولذلك قال الشافعي : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ويؤيده (فَإِنْ فاؤُ) رجعوا في اليمين بالحنث ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمولى إثم حنثه إذا كفر ، أو ما توخى بالإيلاء من

١٤٠