أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ١

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ١

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٢

(وَقالُوا) عطف على (وَدَّ) ، والضمير لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) لف بين قولي الفريقين كما في قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) ثقة بفهم السامع ، وهود جمع هائد كعوذ وعائذ ، وتوحيد الاسم المضمر في كان ، وجمع الخبر لاعتبار اللفظ والمعنى. (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) إشارة إلى الأماني المذكورة ، وهي أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأن يردوهم كفارا ، وأن لا يدخل الجنة غيرهم ، أو إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، والجملة اعتراض والأمنية أفعولة من التمني كالأضحوكة والأعجوبة. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على اختصاصكم بدخول الجنة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم فإن كل قول لا دليل عليه غير ثابت.

(بَلى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص له نفسه ، أو قصده ، وأصله العضو (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذي وعد له على عمله (عِنْدَ رَبِّهِ) ثابتا عن ربه لا يضيع ولا ينقص ، والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة. والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط فيكون الرد بقوله : بلى وحده ، ويحسن الوقف عليه. ويجوز أن يكون من أسلم فاعل فعل مقدر مثل بلى يدخلها من أسلم (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون) في الآخرة.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١١٣)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) أي على أمر يصح ويعتد به. نزلت لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأتاهم أحبار اليهود فتناظروا وتقاولوا بذلك. (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الواو للحال ، والكتاب للجنس أي : قالوا ذلك وهم من أهل العلم والكتاب. (كَذلِكَ) مثل ذلك (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) كعبدة الأصنام ، والمعطلة. وبخهم على المكابرة والتشبه بالجهال. فإن قيل : لم وبخهم وقد صدقوا ، فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء؟. قلت : لم يقصدوا ذلك ، وإنما قصد به كل فريق إبطال دين الآخر من أصله ، والكفر بنبيه وكتابه مع أن ما لم ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل به (فَاللهُ يَحْكُمُ) يفصل (بَيْنَهُمْ) بين الفريقين (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العقاب. وقيل حكمه بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١٤)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) عام لكل من خرب مسجدا ، أو سعى في تعطيل مكان مرشح للصلاة. وإن نزل في الروم لما غزوا بيت المقدس وخربوه وقتلوا أهله. أو في المشركين لما منعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ثاني مفعولي منع (وَسَعى فِي خَرابِها) بالهدم ، أو التعطيل (أُولئِكَ) أي المانعون (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخشوع فضلا عن أن يجترئوا على تخريبها ، أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا عن أن يمنعوهم منها ، أو ما كان لهم في علم الله وقضائه ، فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص المساجد منهم وقد أنجز وعده. وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول في المسجد ، واختلف الأئمة فيه فجوز أبو حنيفة ومنع مالك ، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قتل وسبي ، أو ذلة بضرب الجزية (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) بكفرهم وظلمهم.

١٠١

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)(١١٥)

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) يريد بهما ناحيتي الأرض ، أي له الأرض كلها لا يختص به مكان ، دون مكان ، فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام ، أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا. (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي جهته التي أمر بها فإن إمكان التولية لا يختص بمسجد أو مكان. أو (فَثَمَ) ذاته : أي هو عالم مطلع بما يفعل فيه (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) بإحاطته بالأشياء. أو برحمته يريد التوسعة على عباده (عَلِيمٌ) بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنها أنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة : وقيل : في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم ، وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك. وقيل ؛ هي توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)(١١٦)

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) نزلت لما قال اليهود : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ، والنصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ، ومشركوا العرب : الملائكة بنات الله ، وعطفه على قالت اليهود ، أو منع ، أو مفهوم قوله تعالى ومن أظلم. وقرأ ابن عامر بغير واو (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن ذلك ، فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء ، ألا ترى أن الأجرام الفلكية. مع إمكانها وفنائها. لما كانت باقية ما دام العالم ، لم تتخذ ما يكون لها كالولد اتخاذ الحيوان والنبات ، اختيارا أو طبعا. (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) رد لما قالوه ، واستدلال على فساده ، والمعنى أنه تعالى خالق ما في السموات والأرض ، الذي من جملته الملائكة وعزير والمسيح (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه ، وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته : فلا يكون له ولد ، لأن من حق الولد أن يجانس والده ، وإنما جاء بما الذي لغير أولي العلم ، وقال قانتون على تغليب أولي العلم تحقيرا لشأنهم ، وتنوين كل عوض عن المضاف إليه ، أي كل ما فيهما. ويجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعون مقرون بالعبودية ، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة ، والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه ، واحتج بها الفقهاء على أن من ملك ولده عتق عليه ، لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك ، وذلك يقتضي تنافيهما.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧)

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما ، ونظيره السميع في قوله :

أمن ريحانة الداعي السّميع

يؤرّقني وأصحابي هجوع

أو بديع سماواته وأرضه ، من بدع فهو بديع ، وهو حجة رابعة. وتقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه ، والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها ، فاعل على الإطلاق ، منزه عن الانفعال ، فلا يكون والدا. والإبداع : اختراع الشيء لا عن الشيء دفعة ، وهو أليق بهذا الموضوع من الصنع الذي هو : تركيب الصور لا بالعنصر ، والتكوين الذي يكون بتغيير وفي زمان غالبا. وقرئ بديع مجرورا على البدل من الضمير في له. وبديع منصوبا على المدح.

(وَإِذا قَضى أَمْراً) أي أراد شيئا ، وأصل القضاء إتمام الشيء قوة كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ) ، أو فعلا كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ). وأطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث إنه يوجبه. (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من كان التامة بمعنى أحدث فيحدث ، وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال ، بل

١٠٢

تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وفيه تقرير لمعنى الإبداع ، وإيماء إلى حجة خامسة وهي : أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة ، وفعله تعالى مستغن عن ذلك. وقرأ ابن عامر «فيكون» بفتح النون. واعلم أن السبب في هذه الضلالة ، أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى باعتبار أنه السبب الأول ، حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر ، والله سبحانه وتعالى هو الرب الأكبر ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فاعتقدوا ذلك تقليدا ، ولذلك كفّر قائله ومنع منه مطلقا حسما لمادة الفساد.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨)

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي جهلة المشركين ، أو المتجاهلون من أهل الكتاب. (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة ، أو يوحي إلينا بأنك رسوله. (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حجة على صدقك ، والأول استكبار والثاني جحود ، لأن ما أتاهم آيات الله استهانة به وعنادا ، (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً). (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)(تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد. وقرئ بتشديد الشين. (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون اليقين ، أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد اليقين ، وإنما قالوه عتوا وعنادا.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٢٠)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) متلبسا مؤيدا به. (بَشِيراً وَنَذِيراً) فلا عليك إن أصروا وكابروا. (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت. وقرأ نافع ويعقوب : (لا تُسْئَلُ) ، على أنه نهي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السؤال عن حال أبويه. أو تعظيم لعقوبة الكفار كأنها لفظاعتها لا يقدر أن يخبر عنها ، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال. والجحيم : المتأجج من النار.

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) مبالغة في إقناط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إسلامهم ، فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، فكيف يتبعون ملته. ولعلهم قالوا مثل ذلك فحكى الله عنهم ولذلك قال : (قُلْ) تعليما للجواب. (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى إلى الحق ، لا ما تدعون إليه. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) آراءهم الزائفة. والملة ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه ، من أمللت الكتاب إذا أمليته ، والهوى : رأي يتبع الشهوة (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي الوحي ، أو الدين المعلوم صحته. (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنك عقابه وهو جواب لئن.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٢١)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد به مؤمني أهل الكتاب (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه ، وهو حال مقدرة والخبر ما بعده ، أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا

١٠٣

أهل الكتاب (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) بكتابهم دون المحرفين. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) بالتحريف والكفر بما يصدقه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١٢٣)

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعم ، والقيام بحقوقها ، والحذر من إضاعتها ، والخوف من الساعة وأهوالها ، كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح ، وإيذانا بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة.

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١٢٤)

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) كلفه بأوامر ونواه ، والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء ، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفهما ، والضمير لإبراهيم ، وحسن لتقدمه لفظا وإن تأخر رتبة ، لأن الشرط أحد المتقدمين ، والكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة في قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) إلى آخر الآية ، وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) كما فسرت بها في قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) وبالعشر التي هي من سننه ، وبمناسك الحج ؛ وبالكواكب ، والقمرين ، والختان ، وذبح الولد ، والنار ، والهجرة. على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن وبما تضمنته الآيات التي بعدها. وقرئ «إبراهيم ربه» على أنه دعا ربه بكلمات مثل (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). و (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ليرى هل يجيبه. وقرأ ابن عامر إبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة. (فَأَتَمَّهُنَ) فأداهن كملا وقام بهن حق القيام ، لقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وفي القراءة الأخيرة الضمير لربه ، أي أعطاه جميع ما دعاه. (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) استئناف إن أضمرت ناصب إذ كأنه قيل : فماذا قال ربه حين أتمهن ، فأجيب بذلك. أو بيان لقوله ابتلى فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع قواعده ، والإسلام. وإن نصبته يقال فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها ، أو جاعل من جعل الذي له مفعولان ، والإمام اسم لمن يؤتم به وإمامته عامة مؤبدة ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه. (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف أي وبعض ذريتي ، كما تقول : وزيدا ، في جواب : سأكرمك ، والذرية نسل الرجل ، فعلية أو فعولة قلبت راؤها الثانية ياء كما في تقضيت. من الذر بمعنى التفريق ، أو فعولة أو فعلية قلبت همزتها من الذرة بمعنى الخلق. وقرئ «ذريتي» بالكسر وهي لغة. (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) إجابة إلى ملتمسه ، وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة ، وأنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من الله تعالى وعهد ، والظالم لا يصلح لها ، وإنما ينالها البررة الأتقياء منهم. وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة ، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة. وقرئ «الظالمون» والمعنى واحد إذ كل ما نالك فقد نلته.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١٢٥)

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أي الكعبة ، غلب عليها كالنجم على الثريا. (مَثابَةً لِلنَّاسِ) مرجعا يثوب إليه أعيان

١٠٤

الزوار أو أمثالهم ، أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره. وقرئ : «مثابات» أي لأنه مثابة كل أحد. (وَأَمْناً) وموضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى : (حَرَماً آمِناً). ويتخطف الناس من حولهم ، أو يأمن حاجّه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله ، أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج ، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) على إرادة القول ، أو عطف على المقدر عاملا لإذ ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه واتخذوا ، على أن الخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أمر استحباب ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه ، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ، أو رفع بناء البيت وهو موضعه اليوم. روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه وقال : «هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ، فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت» وقيل المراد به الأمر بركعتي الطواف ، لما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام : لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين وقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وللشافعي رحمه‌الله تعالى في وجوبهما قولان. وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله. وقيل مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعي فيها ، ويتقرب إلى الله تعالى. وقرأ نافع وابن عامر (وَاتَّخِذُوا) بلفظ الماضي عطفا على (جَعَلْنَا) ، أي : واتخذوا الناس مقامه الموسوم به ، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها. (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أمرناهما. (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) بأن طهرا بيتي ويجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول ، يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به ، أو أخلصاه. (لِلطَّائِفِينَ) حوله. (وَالْعاكِفِينَ) المقيمين عنده ، أو المعتكفين فيه (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). أي المصلين ، جمع راكع وساجد.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٢٦)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) يريد به البلد ، أو المكان. (بَلَداً آمِناً) ذا أمن كقوله تعالى ؛ (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). أو آمنا أهله كقولك : ليل نائم (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أبدل من (مَنْ آمَنَ أَهْلَهُ) بدل البعض للتخصيص (قالَ وَمَنْ كَفَرَ) عطف على (آمَنَ) والمعنى وارزق من كفر ، قاس إبراهيم عليه الصلاة والسلام الرزق على الإمامة ، فنبه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر ، بخلاف الإمامة والتقدم في الدين. أو مبتدأ متضمن معنى الشرط (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) خبره ، والكفر وإن لم يكن سببا للتمتيع لكنه سبب لتقليله ، بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب ، ولذلك عطف عليه (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) أي ألزه إليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعته به من النعم ، وقليلا نصب على المصدر ، أو الظرف. وقرئ بلفظ الأمر فيهما على أنه من دعاء إبراهيم وفي قال ضميره. وقرأ ابن عامر (فَأُمَتِّعُهُ) من أمتع. وقرئ «فنمتعه» ثم نضطره ، و«اضطره» بكسر الهمزة على لغة من يكسر حروف المضارعة ، و«أطره» بإدغام الضاد وهو ضعيف لأن حروف (ضم شفر) يدغم فيها ما يجاورها دون العكس.

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف ، وهو العذاب.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٢٧)

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) حكاية حال ماضية ، و (الْقَواعِدَ) جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود ، بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك الله ، ورفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع

١٠٥

فوقه ويرفعها بناؤها. وقيل المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ، ودعاء الناس إلى حجه. وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم لشأنها. (وَإِسْماعِيلُ) كان يناوله الحجارة ، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه. وقيل: كانا يبنيان في طرفين ، أو على التناوب. (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يقولان ربنا تقبل منا ، وقد قرئ به والجملة حال منهما. (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعاتنا (الْعَلِيمُ) بنياتنا.

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٢٩)

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) مخلصين لك ، من أسلم وجهه ، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد ، والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان ، أو الثبات عليه. وقرئ «مسلمين» على أن المراد أنفسهما وهاجر. أو أن التثنية من مراتب الجمع. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي واجعل بعض ذريتنا ، وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ، وخصا بعضهم لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة ، وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى ، فإنه مما يشوش المعاش ، ولذلك قيل : لو لا الحمقى لخربت الدنيا ، وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجوز أن تكون من للتبيين كقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) قدم على المبين وفصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ). (وَأَرِنا) من رأى بمعنى أبصر ، أو عرف ، ولذلك لم يتجاوز مفعولين (مَناسِكَنا) متعبداتنا في الحج ، أو مذابحنا. والنسك في الأصل غاية العبادة ، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة. وقرأ ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو ويعقوب (أَرِنا) ، قياسا على فخذ في فخذ ، وفيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها. وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس (وَتُبْ عَلَيْنا) استتابة لذريتهما ، أو عما فرط منهما سهوا. ولعلهما قالا هضما لأنفسهما وإرشاد لذريتهما (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) لمن تاب.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) في الأمة المسلمة (رَسُولاً مِنْهُمْ) ولم يبعث من ذريتهما غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة والسلام «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي». (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل التوحيد والنبوة. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) القرآن. (وَالْحِكْمَةَ) ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام. (وَيُزَكِّيهِمْ) عن الشرك والمعاصي (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد (الْحَكِيمُ) المحكم له.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١٣٠)

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) استبعاد وإنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء ، أي لا يرغب أحد من ملته. (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) إلا من استمهنها وأذلها واستخف بها. قال المبرد وثعلب سفه بالكسر متعد وبالضم لازم ، ويشهد له ما جاء في الحديث «الكبر أن تسفه الحق ، وتغمص الناس». وقيل : أصله سفه نفسه على الرفع ، فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه ، وقول جرير :

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجب الظّهر ليس له سنام

أو سفه في نفسه ، فنصب بنزع الخافض. والمستثنى في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في

١٠٦

يرغب لأنه في معنى النفي. (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) حجة وبيان لذلك ، فإن من كان صفوة العباد في الدنيا مشهودا له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة ، كان حقيقا بالاتباع له لا يرغب عنه إلا سفيه ، أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر.

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(١٣١)

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ظرف ل (اصْطَفَيْناهُ) ، أو تعليل له ، أو منصوب بإضمار اذكر. كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدم ، وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين ، دعاه ربه وأخطر بباله دلائله المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام. روي أنها نزلت لما دعا عبد الله بن سلام ابني أخيه : سلمة ومهاجرا إلى الإسلام ، فأسلم سلمة وأبي مهاجر.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٣٢)

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة ، وأصلها الوصل يقال: وصاه إذا وصله ، وفصاه : إذا فصله ، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى ، والضمير في بها للملة ، أو لقوله أسلمت على تأويل الكلمة ، أو الجملة وقرأ نافع وابن عامر (وَوَصَّى) والأول أبلغ (وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم ، أي ووصى هو أيضا بها بنيه. وقرئ بالنصب على أنه ممن وصاه إبراهيم (يا بَنِيَ). على إضمار القول عند البصريين ، متعلق بوصي عند الكوفيين لأنه نوع منه ونظيره :

رجلان من ضبّة أخبرانا

أنّا رأينا رجلا عريانا

بالكسر ، وبنو إبراهيم كانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان. وقيل : ثمانية. وقيل : أربعة عشر : وبنو يعقوب إثنا عشر : روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وزبولون ونفتوني ودون وكوذا وأوشير وبنيامين ويوسف (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، والمقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا ، والأمر بالثبات على الإسلام كقولك : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن من حقه أن لا يحل بهم ، ونظيره في الأمر مت وأنت شهيد. وروي أن اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٣)

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال فلم تدعون اليهودية عليه ، أو متصلة بمحذوف تقديره أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين. وقيل : الخطاب للمؤمنين والمعنى ما شاهدتم ذلك وإنما علمتموه بالوحي وقرئ «حضر» بالكسر.

(إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) بدل من (إِذْ حَضَرَ). (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي : أي شيء تعبدونه ، أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام ، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما ، وما يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف ، فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن تعيينه ، وإن سئل عن وصفه قيل : ما زيد أفقيه أم طبيب؟. (قالُوا نَعْبُدُ

١٠٧

إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) المتفق على وجوده وألوهيته ووجوب عبادته ، وعد إسماعيل من آبائه تغليبا للأب والجد ، أو لأنه كالأب لقوله عليه الصلاة والسلام : «عم الرجل صنو أبيه». كما قال عليه الصلاة والسلام في العباس رضي الله عنه «هذا بقية آبائي». وقرئ «إله أبيك» ، على أنه جمع بالواو والنون كما قال :

ولما تبيّن أصواتنا

بكين وفديننا بالأبينا

أو مفرد وإبراهيم وحده عطف بيان.

(إِلهاً واحِداً) بدل من إله آبائك كقوله تعالى : (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ). وفائدته التصريح بالتوحيد ، ونفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور والتأكيد ، أو نصب على الاختصاص (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) حال من فاعل نعبد ، أو مفعوله ، أو منهما ، ويحتمل أن يكون اعتراضا.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٣٤)

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) يعني إبراهيم ويعقوب وبينهما ، والأمة في الأصل المقصود وسمي بها الجماعة ، لأن الفرق تؤمها. (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) لكل أجر عمله ، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم ، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٣٥)

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) الضمير الغائب لأهل الكتاب وأو للتنويع ، والمعنى مقالتهم أحد هذين القولين. قالت اليهود كونوا هودا. وقال النصارى كونوا نصارى (تَهْتَدُوا) جواب الأمر. (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي بل تكون ملة إبراهيم ، أي أهل ملته ، أو بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ بالرفع أي ملته ملتنا ، أو عكسه ، أو نحن ملته بمعنى نحن أهل ملته. (حَنِيفاً) مائلا عن الباطل إلى الحق. حال من المضاف ، أو المضاف إليه كقوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً). (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، فإنهم يدعون اتباعه وهم مشركون.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٦)

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) الخطاب للمؤمنين لقوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ). (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) القرآن ، قدم ذكره لأنه أول بالإضافة إلينا ، أو سبب للإيمان بغيره (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) الصحف ، وهي وإن نزلت إلى إبراهيم لكنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها فهي أيضا منزلة إليهم ، كما أن القرآن منزل إلينا ، وال. سباط جمع سبط وهو الحافد ، يريد به حفدة يعقوب ، أو أبناءه وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) التوراة والإنجيل ، أفردهما بالذكر بحكم أبلغ لأن أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق ، والنزاع وقع فيهما (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) جملة المذكورين منهم وغير المذكورين. (مِنْ رَبِّهِمْ) منزلا عليهم من ربهم. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كاليهود ، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض ، وأحد لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين. (وَنَحْنُ لَهُ) أي لله. (مُسْلِمُونَ) مذعنون مخلصون.

١٠٨

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣٧)

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) من باب التعجيز والتبكيت ، كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) إذ لا مثل لما آمن به المسلمون ، ولا دين كدين الإسلام. وقيل : الباء للآلة دون التعدية ، والمعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم ، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق ، أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها). والمعنى فإن آمنوا بالله إيمانا مثل إيمانكم به ، أو المثل مقحم كما في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) أي عليه ، ويشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي إن أعرضوا عن الإيمان ، أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق ، وهو المناوأة والمخالفة ، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) تسلية وتسكين للمؤمنين ، ووعد لهم بالحفظ والنصرة على من ناوأهم (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إما من تمام الوعد ، بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة ، أو وعيد للمعرضين ، بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه.

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(١٣٨)

(صِبْغَةَ اللهِ) أي صبغنا الله صبغته ، وهي فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ، فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة حلية المصبوغ ، أو هدانا الله هدايته وأرشدنا حجته ، أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره ، وسماه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب ، أو للمشاكلة ، فإن النصارى كانوا يغسمون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون : هو تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم ، ونصبها على أنه مصدر مؤكد لقوله (آمَنَّا) ، وقيل على الإغراء ، وقيل على البدل من ملة إبراهيم عليه‌السلام.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) لا صبغة أحسن من صبغته (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) تعريض بهم ، أي لا نشرك به كشرككم. وهو عطف على آمنا ، وذلك يقتضي دخول قوله (صِبْغَةَ اللهِ) في مفعول (قُولُوا) ولمن ينصبها على الإغراء ، أو البدل أن يضمر قولوا معطوفا على الزموا ، أو اتبعوا ملة إبراهيم و (قُولُوا آمَنَّا) بدل اتبعوا ، حتى لا يلزم فك النظم وسوء الترتيب.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)(١٣٩)

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) أتجادلوننا. (فِي اللهِ) في شأنه واصطفائه نبيا من العرب دونكم ، روي أن أهل الكتاب قالوا : الأنبياء كلهم منا ، لو كنت نبيا لكنت منا. فنزلت : (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) لا اختصاص له بقوم دون قوم ، يصيب برحمته من يشاء من عباده. (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا ، كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاما وتبكيتا ، فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله على من يشاء والكل فيه سواء ، وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص. وكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها ، فلنا أيضا أعمال. (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) موحدون نخصه بالإيمان والطاعة دونكم.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٤٠)

١٠٩

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) أم منقطعة والهمزة للإنكار. وعلى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في (أَتُحَاجُّونَنا) ، بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة ، أو ادعاء اليهودية ، أو النصرانية على الأنبياء. (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) وقد نفى الأمرين عن إبراهيم بقوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) واحتج عليه بقوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ). وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) يعني شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية ، والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب ، لأنهم كتموا هذه الشهادة. أو منا لو كتمنا هذه الشهادة ، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوة في كتبهم وغيرها ، ومن للابتداء كما في قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ). (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم ، وقرئ بالياء.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤١)

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم. قيل : الخطاب فيما سبق لهم ، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم. وقيل : المراد بالأمة في الأول الأنبياء ، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٤٢)

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) الذين خفت أحلامهم ، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر. يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين. وفائدة تقديم الإخبار به توطين النفس وإعداد الجواب وإظهار المعجزة. (ما وَلَّاهُمْ) ما صرفهم. (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) يعني بيت المقدس ، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال ، فصارت عرفا للمكان المتوجه نحوه للصلاة (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه ، وإنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو ما ترتضيه الحكمة ، وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة ، والكعبة أخرى.

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣)

(وَكَذلِكَ) إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة ، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل. (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا ، أو عدولا مزكين بالعلم والعمل. وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، ثم أطلق على المتصف بها ، مستويا فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها ، واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) علة للجعل ، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج ، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على

١١٠

أحد وما ظلم ، بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلغوا ونصحوا. ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات ، والإعراض عن الآيات ، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم ، أو بعدكم. روي «أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالبهم الله ببينة التبليغ. وهو أعلم بهم. إقامة للحجة على المنكرين ، فيؤتى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيشهد بعدالتهم» وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه‌السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى ، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم. (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) أي الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها بمكة ، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود. أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما (كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ ، وعلى الثاني المنسوخ. والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس.

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها ، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه. أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه ، وما كان لعارض يزول بزواله. وعلى الأول معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها ، إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه. فإن قيل : كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالما. قلت : هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء ، والمعنى ليتعلق علمنا به موجودا. وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه ، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه ، ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول ، والعلم إما بمعنى المعرفة ، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام ، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب ، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب. (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفاصلة. وقال الكوفيون هي النافية واللام بمعنى إلا. والضمير لما دل عليه قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من الجعلة ، أو الردة ، أو التولية ، أو التحويلة ، أو القبلة. وقرئ «لكبيرة» بالرفع فتكون كان زائدة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان والاتباع (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي ثباتكم على الإيمان. وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة ، أو صلاتكم إليها لما روي : أنه عليه‌السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا فنزلت (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاحهم ، ولعله قدم الرؤوف وهو أبلغ محافظة على الفواصل وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص لرؤوف بالمد ، والباقون بالقصر.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(١٤٤)

(قَدْ نَرى) ربما نرى (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ، ولمخالفة اليهود ، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) فلنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا ، إذا صيرته واليا له ، أو فلنجعلنك تلي جهتها (تَرْضاها) تحبها وتتشوق إليها ، لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته. (فَوَلِّ وَجْهَكَ) اصرف وجهك. (شَطْرَ

١١١

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نحوه. وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء إذا انفصل ، ودار شطور : أي منفصلة عن الدور ، ثم استعمل لجانبه ، وإن لم ينفصل كالقطر ، والحرام المحرم أي محرم فيه القتال ، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه ، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة والسلام وكان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلا القريب. روي : أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين. وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمي المسجد مسجد القبلتين. (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خص الرسول بالخطاب تعظيما له وإيجابا لرغبته ، ثم عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وتحضيضا للأمة على المتابعة. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة لعلمهم بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة ، وتفصيلا لتضمن كتبهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى القبلتين ، والضمير للتحويل أو التوجه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للفريقين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالياء.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥)

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) برهان وحجة على أن الكعبة قبلة ، واللام موطئة للقسم (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جواب للقسم المضمر ، والقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط ، والمعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بالحجة ، وإنما خالفوك مكابرة وعنادا. (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) قطع لأطماعهم ، فإنهم قالوا : لو ثبتّ على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره ، تعزيرا له وطمعا في رجوعه ، وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق. (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فإن اليهود تستقبل الصخرة ، والنصارى مطلع الشمس. لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك ، لتصلب كل حزب فيما هو فيه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) على سبيل الفرض والتقدير ، أي : ولئن اتبعتهم مثلا بعد ما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه : أحدها : الإتيان باللام الموطئة للقسم : ثانيها : القسم المضمر. ثالثها : حرف التحقيق وهو أن. رابعها : تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية. وخامسها : الإتيان باللام في الخبر. وسادسها : جعله من (الظَّالِمِينَ) ، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم. وسابعها : التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم ، وتحريصا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى ، واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١٤٧)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني علماءهم (يَعْرِفُونَهُ) الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه. وقيل للعلم ، أو القرآن ، أو التحويل (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) يشهد للأول : أي يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبناءهم لا يلتبسون عليهم بغيرهم. عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنا أعلم به مني بابني قال : ولم ، قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته قد خانت. (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تخصيص لمن عاند واستثناء لمن آمن.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) كلام مستأنف ، والحق إما مبتدأ خبره من ربك واللام للعهد ، والإشارة إلى ما عليه

١١٢

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الحق الذي يكتمونه ، أو للجنس. والمعنى أن (الْحَقُ) ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب ، وإما خبر مبتدأ محذوف أي هو (الْحَقُ). ومن ربك حال ، أو خبر بعد خبر. وقرئ بالنصب على أنه بدل من الأول ، أو مفعول (يَعْلَمُونَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين في أنه من ربك ، أو في كتمانهم الحق عالمين به ، وليس المراد به نهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشك فيه ، لأنه غير متوقع منه وليس بقصد واختيار ، بل إما تحقيق الأمر وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍقَدِيرٌ)(١٤٨)

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ولكل أمة قبلة ، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة ، والتنوين بدل الإضافة (هُوَ مُوَلِّيها) أحد المفعولين محذوف ، أي هو موليها وجهه ، أو الله تعالى موليها إياه. وقرئ : «ولكل وجهة» بالإضافة ، والمعنى وكل وجهة الله موليها أهلها ، واللام مزيدة للتأكيد جبرا لضعف العامل. وقرأ ابن عامر : «مولاها» أي هو مولى تلك الجهة أي قد وليها (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين ، أو الفاضلات من الجهات وهي المسامتة للكعبة (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي : في أي موضع تكونوا من موافق ومخالف مجتمع الأجزاء ومفترقها ، يحشركم الله إلى المحشر للجزاء ، أو أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال ، يقبض أرواحكم ، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة ، يأت بكم الله جميعا ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١٥٠)

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ومن أي مكان خرجت للسفر (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إذا صليت (وَإِنَّهُ) وإن هذا الأمر (لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وقرأ أبو عمرو بالياء والباقون بالتاء.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) كرر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل. تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بابتغاء مرضاته ، وجري العادة الإلهية على أن يولي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها. ودفع حجج المخالفين على ما نبينه. وقرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله تقريبا وتقريرا ، مع أن القبلة لها شأن. والنسخ من مظان الفتنة والشبهة فبالحري أن يؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى. (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) علة لقوله (فَوَلُّوا) ، والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة ، وأن محمدا يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا. والمشركين بأنه يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) استثناء من الناس ، أي لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم فإنهم يقولون: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده ، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم. وسمى هذه حجة كقوله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأنهم يسوقونها

١١٣

مساقها. وقيل الحجة بمعنى الاحتجاج. وقيل الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأسا كقوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

للعلم بأن الظالم لا حجة له ، وقرئ : «ألا الذين ظلموا منهم». على أنه استئناف بحرف التنبيه. (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فلا تخافوهم ، فإن مطاعنهم لا تضركم. (وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا ما أمرتكم به. (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) علة محذوف أي وأمرتكم لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتدائكم ، أو عطف على علة مقدرة مثل : واخشوني لأحفظكم منهم ولأتم نعمتي عليكم ، أو لئلا يكون وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة». وعن علي رضي الله تعالى عنه «تمام النعمة الموت على الإسلام».

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(١٥٢)

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) متصل بما قبله ، أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة ، أو في الآخرة كما أتممتها بإرسال رسول منكم ، أو بما بعده كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني. (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ) يحملكم على ما تصيرون به أزكياء ، قدمه باعتبار القصد وأخره في دعوة إبراهيم عليه‌السلام باعتبار الفعل (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) بالفكر والنظر ، إذ لا طريق إلى معرفته سوى الوحي ، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر.

(فَاذْكُرُونِي) بالطاعة. (أَذْكُرْكُمْ) بالثواب. (وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت به عليكم. (وَلا تَكْفُرُونِ) يجحد النعم وعصيان الأمر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(١٥٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وحظوظ النفس ، (وَالصَّلاةِ) التي هي أم العبادات ومعراج المؤمنين ، ومناجاة رب العالمين. (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر وإجابة الدعوة. (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) أي هم أموات (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم أحياء. (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ما حالهم ، وهو تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات ، وأنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي ، وعن الحسن (إن الشهداء أحياء عند ربهم تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الألم والوجع). والآية نزلت في شهداء بدر ، وكانوا أربعة عشر ، وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت داركة ، وعليه جمهور الصحابة والتابعين ، وبه نطقت الآيات والسنن ، وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ، ومزيد البهجة والكرامة.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(١٥٥)

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ولنصيبنكم إصابة من يختبر لأحوالكم ، هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء؟

(بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) أي بقليل من ذلك ، وإنما قلله بالإضافة إلى ما وقاهم منه ليخفف عليهم ، ويريهم أن رحمته لا تفارقهم ، أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة ، وإنما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) عطف شيء ، أو الخوف ، وعن الشافعي رضي

١١٤

الله عنه الخوف : خوف الله ، والجوع : صوم رمضان ، والنقص : من الأموال الصدقات والزكوات ، ومن الأنفس: الأمراض ، ومن : الثمرات موت الأولاد. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم روح ولد عبدي؟ فيقولون نعم ، فيقول الله : أقبضتم ثمرة فؤاده ، فيقولون نعم ، فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك واسترجع ، فيقول الله : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد». (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لمن تتأتى منه البشارة. والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة». وليس الصبر بالاسترجاع باللسان ، بل به وبالقلب بأن يتصور ما خلق لأجله ، وأنه راجع إلى ربه ، ويتذكر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه ، ويستسلم له. والمبشر به محذوف دل عليه.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الصلاة في الأصل الدعاء ، ومن الله تعالى التزكية والمغفرة. وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها. والمراد بالرحمة اللطف والإحسان. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) للحق والصواب حيث استرجعوا وسلموا لقضاء الله تعالى.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(١٥٨)

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) هما علما جبلين بمكة. (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام مناسكه ، جمع شعيرة وهي العلامة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحج لغة القصد ، والاعتمار الزيارة. فغلبا شرعا على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) كان إساف على الصفا ونائلة على المروة ، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما. فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت. والإجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة ، وإنما الخلاف في وجوبه. فعن أحمد أنه سنة ، وبه قال أنس وابن عباس رضي الله عنهم لقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) فإنه يفهم منه التخيير وهو ضعيف ، لأن نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب ، فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى أنه واجب ، يجبر بالدم. وعن مالك والشافعي رحمهما‌الله أنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي». (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي فعل طاعة فرضا كان أو نفلا ، أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة ، أو طواف أو تطوع بالسعي إن قلنا إنه سنة. و (خَيْراً) نصب على أنه صفة مصدر محذوف ، أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه ، أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى أتى أو فعل. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب يطوع ، وأصله يتطوع فأدغم مثل يطوف (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) مثيب على الطاعة لا تخفى عليه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٦٠).

١١٥

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) كأحبار اليهود. (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) كالآيات الشاهدة على أمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَالْهُدى) وما يهدي إلى وجوب اتباعه والإيمان به. (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) لخصناه. (فِي الْكِتابِ) في التوراة. (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي الذين يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة والثقلين.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بالتدارك. (وَبَيَّنُوا) ما بينه الله في كتابهم لتتم توبتهم. وقيل ما أحدثوه من التوبة ليمحوا به سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) بالقبول والمغفرة. (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(١٦٢)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) استقر عليهم اللعن من الله ، ومن يعتد بلعنه من خلقه. وقيل ؛ الأول لعنهم أحياء ، وهذا لعنهم أمواتا. وقرئ و«الملائكة والناس أجمعون» عطفا على محل اسم الله لأنه فاعل في المعنى ، كقولك أعجبني ضرب زيد وعمرو ، أو فاعلا لفعل مقدر نحو وتلعنهم الملائكة.

(خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة ، أو النار. وإضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها وتهويلا ، أو اكتفاء بدلالة اللعن عليه. (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ، أو لا ينتظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١٦٣)

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) خطاب عام ، أي المستحق منكم العبادة واحد لا شريك له يصح أن يعبد أو يسمى إلها. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير للوحدانية ، وإزاحة لأن يتوهم أن في الوجود إلها ولكن لا يستحق منهم العبادة. (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) كالحجة عليها ، فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها وفروعها وما سواه إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره ، وهما خبران آخران لقوله إلهكم ، أو لمبتدأ محذوف. قيل لما سمعه المشركون تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقا فائت بآية نعرف بها صدقكك فنزلت.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إنما جمع السموات وأفرد الأرض ، لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تعاقبهما كقوله تعالى : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً). (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي بنفعهم ، أو بالذي ينفعهم ، والقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله ، وتخصيص (الْفُلْكِ) بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ، ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب ، لأن منشأهما البحر في غالب الأمر ، وتأنيث (الْفُلْكِ) لأنه بمعنى السفينة. وقرئ بضمتين على الأصل ، أو الجمع وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين. (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) من الأولى للابتداء ، والثانية للبيان. والسماء يحتمل الفلك والسحاب وجهة العلو. (فَأَحْيا بِهِ

١١٦

الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بالنبات (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) عطف على أنزل ، كأنه استدل بنزول المطر وتكوين النبات به وبث الحيوانات في الأرض ، أو على أحيا فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. والبث النشر والتفريق. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في مهابها وأحوالها ، وقرأ حمزة والكسائي على الإفراد. (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لا ينزل ولا يتقشع ، مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله تعالى. وقيل : مسخر الرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى ، واشتقاقه من السحب لأن بعضه يجر بعضا. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكّر فيها.

واعلم أن دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا ، والكلام المجمل أنها : أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة ، وأنحاء مختلفة ، إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرك السموات ، أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها ، وبحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين ، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا ، وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها ، فلا بد لها من موجد قادر حكيم ، يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته ، متعاليا عن معارضة غيره. إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه الآخر. فإن توافقت إرادتهما : فالفعل إن كان لهما ، لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، وإن كان لأحدهما ، لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وجز الآخر المنافي لآلهيته. وإن اختلفت : لزم التمانع والتطارد ، كما أشار إليه بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله ، وحث على البحث والنظر فيه.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)(١٦٥)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) من الأصنام. وقيل من الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم لقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله (يُحِبُّونَهُمْ) يعظمونهم ويطيعونهم (كَحُبِّ اللهِ) كتعظيمه والميل إلى طاعته ، أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة ، والمحبة : ميل القلب من الحب ، استعير لحبة القلب ، ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها ، ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل مراضيه ، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة ، وصونه عن المعاصي. (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأنه لا تنقطع محبتهم لله تعالى ، بخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ، ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد ، ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذ الأنداد (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) إذ عاينوه يوم القيامة. وأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه كقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ).

(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد مفعولي (يَرَى) ، وجواب (لَوْ) محذوف. أي لو يعلمون أن القوة لله جميعا إذا عاينوا العذاب لندموا أشد الندم. وقيل هو متعلق الجواب والمفعولان محذوفان ، والتقدير : ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع ، لعلموا أن القوة لله كلها لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب: و«لو ترى» على أنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما ، وابن عامر : «إذ يرون» على البناء للمفعول ، ويعقوب إن بالكسر وكذا (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) على الاستئناف ، أو إضمار القول.

١١٧

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(١٦٧)

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) بدل من (إِذْ يَرَوْنَ) ، أي إذ تبرأ المتبوعون من الأتباع. وقرئ بالعكس ، أي تبرأ الأتباع من الرؤساء (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي رائين له ، والواو للحال ، وقد مضمرة. وقيل ؛ عطف على تبرأ (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) يحتمل العطف على تبرأ ، أو رأوا والواو للحال ، والأوّل أظهر. و (الْأَسْبابُ) : الوصل التي كانت بينهم من الاتّباع والاتفاق على الدين ، والأغراض الداعية إلى ذلك. وأصل السبب : الحبل الذي يرتقي به الشجر. وقرئ و (تَقَطَّعَتْ) على البناء للمفعول.

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا لَوْ) للتمني ولذلك أجيب بالفاء ، أي ليت لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم (كَذلِكَ) مثل ذلك الاراء الفظيع. (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) ندامات ، وهي ثالث مفاعيل يرى أن كان من رؤية القلب وإلّا فحال (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) أصله وما يخرجون ، فعدل به إلى هذه العبارة ، للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(١٦٨)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً) نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس ، وحلالا مفعول كلوا ، أو صفة مصدر محذوف ، أو حال مما في الأرض ومن للتبعيض إذ لا يؤكل كل ما في الأرض (طَيِّباً) يستطيبه الشرع ، أو الشهوة المستقيمة. إذ الحلال دل على الأول. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والبزي وأبو بكر حيث وقع بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة ، وهي ما بين قدمي الخاطي. وقرئ بضمتين وهمزة جعلت ضمة الطاء كأنها عليها ، وبفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه ، ولذلك سماه وليا في قوله تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١٦٩)

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) بيان لعداوته ، ووجوب التحرز عن متابعته. واستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم ، والسوء والفحشاء ما أنكره العقل واستقبحه الشرع ، والعطف لاختلاف الوصفين فإنه سوء لاغتمام العاقل به ، وفحشاء باستقباحه إياه. وقيل : السوء يعم القبائح ، والفحشاء ما يتجاوز الحد في القبح من الكبائر. وقيل : الأول ما لا حد فيه ، والثاني ما شرع فيه الحد (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) كاتخاذ الأنداد وتحليل المحرمات وتحريم الطيبات ، وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأسا. وأما اتباع المجتهد لما أدى إليه ظن مستند إلى مدرك شرعي فوجوبه قطعي ، والظن في طريقه كما بيناه في الكتب الأصولية.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٧٠)

١١٨

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) الضمير للناس ، وعدل بالخطاب عنهم للنداء على ضلالهم ، كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم : انظروا إلى هؤلاء الحمقي ماذا يجيبون. (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ما وجدناهم عليه نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج والآيات ، فجنحوا إلى التقليد. وقيل في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خير منا وأعلم. وعلى هذا فيعم ما أنزل الله التوراة لأنها أيضا تدعو إلى الإسلام. (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الواو للحال ، أو العطف. والهمزة للرد والتعجيب. وجواب (لَوْ) محذوف أي لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ، ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم. وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد. وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام ، فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتباع لما أنزل الله.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٧١)

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) على حذف مضاف تقديره : ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق ، أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق. والمعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ، ولا يتأملون فيما يقرر معهم ، فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه ، وتحس بالنداء ولا تفهم معناه. وقيل هو تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها ، بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته. أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام ، بالناعق في نعقه وهو التصويت على البهائم ، وهذا يغني الإضمار ولكن لا يساعده قوله إلا دعاء ونداء ، لأن الأصنام لا تسمع إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) رفع على الذم. (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي بالفعل للإخلال بالنظر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١٧٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) لما وسع الأمر على الناس كافة وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرم عليهم ، أمر المؤمنين منهم أن يتحروا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على ما رزقكم وأحل لكم. (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن صح أنكم تخصونه بالعبادة ، وتقرون أنه مولى النعم ، فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر. فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه ، وهو عدم عند عدمه. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله تعالى : إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري».

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٧٣)

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أكلها ، أو الانتفاع بها. وهي التي ماتت من غير ذكاة. والحديث ألحق بها ما أبين من حي. والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها ، أو استثناه الشرع. والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، كالتصرف في المدبوغ. (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) إنما خص اللحم بالذكر ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له. (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي رفع به

١١٩

الصوت عند ذبحه للصنم. والإهلال أصله رؤية الهلال ، يقال : أهل الهلال وأهللته. لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤي سمي ذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ) بالاستيثار على مضطر آخر. وقرأ عاصم وأبو عمرو حمزة بكسر النون. (وَلا عادٍ) سد الرمق ، أو الجوعة. وقيل ؛ غير باغ على الوالي. ولا عاد بقطع الطريق. فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما‌الله تعالى. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تناوله. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فعل (رَحِيمٌ) بالرخصة فيه. فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر. قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(١٧٥)

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) عوضا حقيرا. (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) إما في الحال ، لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقوله :

أكلت دما إن لم أرعك بضرة

بعيدة مهوى القرط طيبة النّشر

يعني الدية. أو في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار. ومعنى في بطونهم : ملء بطونهم. يقال أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه كقوله :

كلوا في بعض بطنكمو تعفوا

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عبارة عن غضبه عليهم ، وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم في الكرامة والزلفى من الله. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا يثني عليهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في الدنيا. (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) في الآخرة ، بكتمان الحق للمطامع والأغراض الدنيوية. (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النار من غيره مبالاة. وما تامة مرفوعة بالابتداء ، وتخصيصها كتخصيص قولهم :

شرّ أهرّ ذا ناب

أو استفهامية وما بعدها الخبر ، أو موصولة وما بعدها صلة والخبر محذوف.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(١٧٦)

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) اللام فيه إما للجنس ، واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعض. أو للعهد ، والإشارة إما إلى التوراة ، واختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها ، أو خلفوا خلال ما أنزل الله تعالى مكانه ، أي حرفوا ما فيها. وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم سحر ، وتقوّل ، وكلام علمه بشر ، وأساطير الأولين. (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) لفي خلاف بعيد عن الحق.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ

١٢٠