الأمثال في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

الأمثال في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: ٢٩٠

هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء ، والمربوب مستسلم لربه.

ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد ، بقوله : (وَهُوَ الّذي يَبْدَؤُا الخَلْق ثُمَّ يُعيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه).

وحاصل البرهان : انّه سبحانه قادر على الخلق من العدم ـ كما هو المفروض فالقادر على ذلك قادر على الإعادة ، إذ ليس هو إعادة من العدم ، بل إعادة لصورة الأجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة ، فالخالق من لا شيء أولى من أن يكون خالقاً من شيء.

ثمّ إنّ هذه الأولوية حسب تفكيرنا ورؤيتنا ، وإلّافالأُمور الممكنة أمام مشيئته سواء ، قال علي عليه‌السلام : وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء. (١)

ولأجل توضيح هذا المعنى ، قال سبحانه : (وَلَهُ المَثَلُ الأَعلى فِي السَّمواتِ وَالأَرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكيم) والمراد من المثل الوصف ، والمراد من المثل الأعلى هو الوصف الأتم والأكمل ، الذي له سبحانه ، فهو علم كله ، قدرة كله ، حياة كله ، ليس لأوصافه حد.

إلى هنا تم ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الأجسام.

وإليك بيان الأمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٥.

٢٢١

ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الإنكاري ، وحاصله : هل ترضون لأنفسكم أن تكون عبيدكم وإماؤكم شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هؤلاء العبيد والإماء ورضاً منهم ، كما تخشون الشركاء الأحرار.

والجواب : لا ، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله ، فعندئذٍ يقال لكم : كيف تجوزون ذلك على الله ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له ، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.

والحاصل : انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الأموال ، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل ، كأن يكون خالقاً أو مدبراً ، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.

فالشيء الذي لا ترضون لأنفسكم ، كيف ترضونه لله سبحانه ، وهو ربّ العالمين ، وإلى ذلك المثل أشار ، بقوله : (ضَرَبَ الله لَكُم مَثلاً مِنْ أَنْفُسكُم) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم (هَل لَكُمْ من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم) فقوله : (هل لكم) شروع في المثل المضروب ، والاستفهام للإنكار ، وقوله «ما» في (مما ملكت) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء.

فقوله : (من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء) مبين للشركة ، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره ، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء ، وعلى ذلك يكون من في شركاء ، زائدة.

٢٢٢

فقوله : (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) بيان للشركة ، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الأحرار ، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الأحرار ، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.

ثمّ إنّه يتم الآية ، بقوله : (كَذلك نُفصّل الآيات لقوم يعقلون) ، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق ، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.

٢٢٣

فاطر

٤٠

التمثيل الأربعون

(وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمن كُلّ تَأْكُلُون لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِليةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الفُلكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) (١)

تفسير الآية

«الفرات» : الماء العذب ، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه : (وأَسْقَيناكُمْ ماءً فُراتاً) ، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.

«الأُجاج» : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.

«مواخر» من مخر ، يقال مخرت السفينة مخراً ، إذا شقت الماء بجؤجئها مستقبلة له.

فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والإيمان ، أو الكافر والمؤمن.

وحاصل التمثيل : انّ الإيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الأُجاج.

وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه : (وَمايَسْتَوي البَحْران هذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شرابهُ وَهذا مِلحٌ أُجاج) بل انّ

__________________

(١) فاطر : ١٢.

٢٢٤

الكافر أسوأ حالاً من البحر الأُجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين :

أ : يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الإنسان ، كما قال سبحانه : (وَمن كلّ تأكُلون لَحماً طَرياً)

ب : يستخرج من كلّ منهما اللآلئ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.

إلى هنا تم التمثيل ، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لأجلها السورة ، وقال : (وَتَرى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلّكم تشكرون) ، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام ، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي ، وقال : (وَما يستوي البحران) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب (وترى الفلك) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.

مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل ، وقال : (وَهُوَ الّذي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١)

وبذلك يظهر انّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوُبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهي كَالحِجارة أَو أَشَدُّ قَسوةً وانّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ وَإنّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإِنّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَما اللهُ بِغافلٍ عَمّا تعْمَلُون) (٢)

فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم ، فهكذا الملح الأُجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.

__________________

(١) النحل : ١٤.

(٢) البقرة : ٧٤.

٢٢٥

فاطر

٤١

التمثيل الواحد والأربعون

(وَما يَسْتَوِي الأَعْمى وَالبَصِير* وَلا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلَا الأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمعٍ مَنْ فِي الْقُبُور) (١)

تفسير الآيات

«الحرور» : شدة حرّالشمس ، وقيل : هو السموم. وقال الراغب : الحرور : الريح الحارة.

هذا تمثيل للكافر والمؤمن ، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية :

١. الأعمى ، ٢. الظلمات ، ٣. الحرور ، ٤. الأموات.

كما شبّه المؤمن بأضدادها التالية :

١. البصير ، ٢. النور ، ٣. الظل ، ٤. الأحياء.

وما ذلك إلّالأنّ الكافر لأجل عدم إيمانه بالله سبحانه وصفاته وأفعاله ، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً ، وتحيط به نار ،

__________________

(١) فاطر : ١٩ ـ ٢٢.

٢٢٦

قال سبحانه : (انّ جَهَنّم لَمُحيطَةٌ بِالكافِرين) (١) ، وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا وإن لم يشعروا بها ، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الأنبياء وإن كان حياً يمشي ، وهذا بخلاف المؤمن فانّه يبصر بنور الله يغمره نور زاهر. يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت ، فهو في ظلّ ظليل رحمته ، وانّه يسمع نداء الأنبياء ويؤمن به.

وبعبارة واضحة : الكافر مجالد مكابر ، والمؤمن واع متدبر.

__________________

(١) التوبة : ٤٩.

٢٢٧

يس

٤٢

التمثيل الثاني والأربعون

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْجاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْأَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ* قالُوا ما أَنْتُمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلّاتَكْذِبُونَ* قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَما عَلَيْنا إِلّا الْبَلاغُ الْمُبينُ* قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ* قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ* وَجاءَمِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ* إِنّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِنّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَلي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ* وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ* إِنْ كانَتْ إِلّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ* يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلّاكانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) (١)

__________________

(١) يس : ١٣ ـ ٣٠.

٢٢٨

تفسير الآيات

«التعزيز» : النصرة مع التعظيم ، يقول سبحانه في وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَالّذينَ آمَنُوا بهِ وَعَزّروه وَنَصَرُوه) (١).

«طيّر» : تطير فلان وإطيّر ، أصله التفاؤل بالطير ، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم ، فقوله (إِنّا تطيرنا بِكُمْ) أي تشاءمنا بكم.

وبذلك يظهر معنى قوله : (إِنّما طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم ، أعني : حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.

«الرجم» : الرمي بالحجارة.

«الصيحة» : رفع الصوت.

هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث الله إليهم الرسل ، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية.

ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقة ، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه ، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة ، فإذا هم خامدون.

هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها :

فقد ذكر المفسرون انّ المسيح عليه‌السلام بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم : شمعون ويوحنّا ، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية ، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.

__________________

(١) الأعراف : ١٥٨.

٢٢٩

وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون ، فواجها تكذيب القوم وضربهما ، فعززهما سبحانه برسول ثالث ، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث ، ولا يهمنا تعيين اسمه ، وربما يقال انّه «بولس». فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة والمجادلة والعناد ، محتجين بوجوه واهية :

أ : انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا ، وما تدعون من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب ، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم ، وليس لنا إلّاالبلاغ كما هو حق الرسل.

ب : انّا نتشاءم بكم ، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشيء ، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاؤم والتطيّر.

ج : التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيدوالنهي عن عبادة الأوثان ، وقد أجاب الرسل بجوابين :

الأوّل : انّ التشاؤم والتطير معكم ، أي أعمالكم وأحوالكم ، وابتعادكم عن الحق ، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.

الثاني : انكم قوم مسرفون ، أي متجاوزون عن الحد.

كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر ، وفي خضم هذه الأجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هؤلاء رسل الحقّ ، وذلك للأُمور التالية :

أوّلاً : انّ دعوتهم غير مرفقة بشيء من طلب المال والجاه والمقام ، وهذا دليل على إخلاصهم في الدعوة ، وقد تحمّلوا عناء السفر وهم لا يسألون شيئاً.

ثانياً : انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم ، ومن بيده مصيره

٢٣٠

في الدنيا والآخرة وليس هو إلّاالله سبحانه الذي ينفعني ، فكيف أترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ شيء ، وأتوجه إلى عبادة المخلوق (الآلهة المزيفة) التي لا تستطيع أن تدفع عني ضراً ولا تنفعني شفاعتهم؟! فلو اتخذت إلهاً غيره سبحانه كنت في ضلال مبين ، فلمّا تم حجاجه مع القوم وعزز الرسل وبين برهان لزوم اتباعهم ، أعلن ، وقال : أيّها النّاس (إنّي آمنت بربّكم فاسمَعُون)

ثمّ يظهر من القرائن انّ القوم هجموا عليه وقتلوه ، ولكنّه سبحانه جزاه ، فأدخله الجنة ، وهو فرح مستبشر يود لو علم قومه بمصيره عند الله.

فلمّا تبيّن عناد القوم وقتل من احتج عليهم بحجج قوية نزل عذابه سبحانه ، فعمتهم صيحةواحدة أخمدت حياتهم وصيرتهم جماداً.

ففي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار الإنسان الضلالة على الهداية ، والباطل على الحقّ ، يصح أن يخاطبهم سبحانه ، ويقول : (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلّاكانوا به يسْتهزءون)

هذه حقيقة القصة استخرجناها بعد الإمعان في الآيات ، وقد أطنب المفسرون في سرد القصة ، نقلاً عن مستسلمة أهل الكتاب الذين نشروا الأساطير بين المسلمين ، نظراء وهب بن منبه ، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما جاء فيها. (١)

ثمّ إنّ في الآيات نكات جديرة بالمطالعة :

الأُولى : يذكر المفسرون انّ الرسولين لم يكونا مبعوثين من الله مباشرة ، وانّما بعثا من قبل المسيح عليه‌السلام. مثل الرسول الثالث ، ولما كان بعث المسيح بأمر من الله سبحانه ، نسب فعل المسيح إليه سبحانه ، وقال : (إِذْأرسلنا إليهم اثنين)

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان : ٤ / ٤١٨ ـ ٤٢٠.

٢٣١

الثانية : لقد وقفت على أنّ القوم قاموا بالجدال والعناد ، فقالوا : ما أنتم إلّابشر مثلنا ، والجملة تحتمل وجهين :

الوجه الأوّل : أنتم أيّها الرسل بشر ، والبشر لا يكون رسولاً من الله ، وعلى هذا فالمانع من قبول رسالاتهم كون أصحابها بشراً.

الوجه الثاني : انّ المانع من قبول دعوة الرسالة هي عدم توفر أي مزية في الرسل ترجحهم ، ويشعر بذلك قوله : «مثلنا» وإلّافلو كان الرسل مزودين بشيء آخر ربما لم يصح لهم جعل المماثلة عذراً للربّ.

الثالثة : انّ القصة تنم عن أنّ منطق القوة كان منطق أهل اللجاج ، فالقوم لما عجزوا عن رد برهانهم التجأوا إلى منطق القوة ، بقتل دعاة الحق وصلحائه ، وقالوا : (لئن لم تنتهوا لنرجمنَّكم)

الرابعة : انّ التطير كان سلاح أهل العناد والمكابرة ، ولم يزل هذا السلاح بيد العتاة الجاحدين للحق ، فيتطيرون بالعابد ، وغير ذلك.

الخامسة : يظهر من صدر الآيات انّ الرسل بعثوا إلى القرية ، وقد تطلق غالباً على المجتمعات الكبيرة والصغيرة ، ولكن قوله : (وجاء من أقصى المدينة رجل) يعرب انّها كانت مدينة ومجتمعاً كبيراً لا صغيراً.

السادسة : انّه سبحانه يصف الرجل الرابع الذي قام بدعم موقف الرسل بأنّه كان من أقصى المدينة ، وما هذا إلّالأجل الإشارة إلى عدم الصلة والتواطئ بينه وبين الرسل ، ولذلك قدّم لفظ أقصى المدينة على الفاعل ، أعني : «رجل» ، وقال : (وجاء من أقصى المدينة)

السابعة : انّ قوله : (ومالي لا أعبد الذي فطرني) دليل على أنّ العبادة هي

٢٣٢

الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقية المعبود ومدبريته ، وماله من الأوصاف القريبة من ذلك ، ولذلك يرى أنّه يعلل إيمانه وتوحيده ، بقوله : (مالي لا أعبد الذي فطرني)

كما أنّه يعلل حصر عبادته له وسلبها عن غيره ، بعجزهم عن رد ضرّ الرحمن بعدم الجدوى في شفاعتهم.

الثامنة : قلنا أنّ القرائن تشهد بأنّ من قام بالدعوة إلى طريق الرسل من القوم ، قتل عند دعوته وجازاه الله سبحانه بأن أدخله الجنة ، والمراد من الجنة هو عالم البرزخ لا جنة الخلد التي لا يدخلها الإنسان إلّابعد قيام الساعة.

التاسعة : كما أنّ في كلام الرجل المقتول ، بقوله : (يا لَيْت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي) دليلاً على وجود الصلة بين الحياة البرزخية والمادية ، حيث أبلغ بلاغاً إلى قومه ، وتمنى أن يقفوا على ما أنعم الله عليه بعد الموت ، حيث قال : (قيل ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون)

٢٣٣

يس

٤٣

التمثيل الثالث والأربعون

(أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين* وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم* قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم) (١)

تفسير الآيات

روى المفسرون أنّ أُبي بن خلف أو العاص بن وائل جاء بعظم بال متفتت ، وقال :

يا محمد أتزعم انّ الله يبعث هذا ، فقال : نعم ، فنزلت الآية (أَوَ لم يَرَ الإِنْسان)

فضرب الكافر مثلاً ، وقال : كيف يحيي الله هذه العظام البالية؟

وضرب سبحانه مثلاً آخر ، وهو انّه يحييها من أنشأها أوّلاً ، فمن قدر على إنشائها ابتداءً يقدر على الإعادة ، وهي أسهل من الإنشاء والابتداء ، وقد عرفت أنّ إطلاق لفظ الأسهلية إنّما هو من منظار الإنسان ، وأمّا الحقّ جلّ وعلا فكل الأشياء أمامه سواء.

قال سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مثلاً) أي ضرب مثلاً في إنكار البعث بالعظام

__________________

(١) يس : ٧٧ ـ ٧٩.

٢٣٤

البالية ، واستغرب ممن يقول انّ الله يحيي هذه العظام ونسي خلقه (قال من يحيي العظام وهي رميم) ومثل سبحانه بالرد عليه بمثال آخر ، وقال : (قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهو بكلّ خلق عليم) من الابتداء والاعادة ، وقد مرّ هذا المثل بعبارة أُخرى في قوله : (وَهُوَ الّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١)

__________________

(١) الروم : ٢٧.

٢٣٥

الزمر

٤٤

التمثيل الرابع والأربعون

(وَلَقَدْضَرَبْنا لِلنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون* قُرآناً عَربياً غَيرَ ذي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون* ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُركاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَويانِ مَثلاً الحمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون) (١)

تفسير الآيات

«الشكس» : السيء الخلق ، يقال : شركاء متشاكسون ، أي متشاجرون لشكاسة خلقهم.

«سلماً» : أي خالصاً لا يملكه إلّاشخص واحد ولا يخدم إلّاإياه.

هذه الآيات تمثل حالة الكافر والمؤمن ، فهناك مشبه ومشبه به.

أمّا المشبّه به ، فهو عبارة عن عبد مملوك له شركاء سيئي الخلق متنازعون فيه ، فواحد يأمره وآخر ينهاه ، وكلّ يريد أن يتفرّد بخدمته ، في مقابل عبد مملوك لرجل يطيعه ويخدمه ولا يشرك في خدمته شخصاً آخر.

فهذان المملوكان لا يستويان.

وأمّا المشبه فحال الكافر هو حال المملوك الذي فيه شركاء متشاكسون ،

__________________

(١) الزمر : ٢٧ ـ ٢٩.

٢٣٦

فهو يعبد آلهة مختلفة لكلّ أمره ونهيه وخدمته ، ولا يمكن الجمع بين الآراء والأهواء المختلفة ، بخلاف المؤمن فانّه يأتمر بأمر الخالق الحكيم القادر الكريم.

وهذا المثل وإن كان مثلاً واضحاً ساذجاً مفهوماً لعامة الناس ، ولكن له بطن لا يقف عليه إلّا أهل التدبر في القرآن ، فهو سبحانه بصدد البرهنة على توحيده التي أشار إليه في قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُون) (١)

وقال سبحانه : (ءَأَربابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار) (٢)

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

(٢) يوسف : ٣٩.

٢٣٧

الزخرف

٤٥

التمثيل الخامس والأربعون

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِىٍّ فِي الأَوّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبىٍّ إِلّاكانوا بِهِ يَسْتَهْزءُون* فَأَهْلَكْنا أَشدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمضى مَثَلُ الأَوّلِين). (١)

تفسير الآيات

«البطش» : تناول الشيء بصولة ، وربما يراد منه القوة والمنعة ، يذكر سبحانه في هذه الآيات الأُمم الماضية التي بعث الله سبحانه رسله إليهم ، فكفروا بأنبيائه وسخروا منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم فأهلكهم الله سبحانه بأنواع العذاب مع مالهم من القوة والنجدة.

هذا هو حال المشبه به ، والمشبه عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيوعدهم سبحانه بما مضى على الأوّلين ، بأنّه سبحانه أهلك من هو أشد قوةومنعة من قريش وأتباعهم فليعتبروا بحالهم ، يقول سبحانه : (كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِىٍّ فِي الأَوّلين) أي الأُمم الماضية (وما يأتيهم من نبي إلّا كانوا به يستهزءُون) فكانت هذه سيرة الأُمم الماضية ، ولكنه سبحانه لم يضرب عنهم صفحاً فأهلكهم ، كما قال : (فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل الأوّلين). أي

__________________

(١) الزخرف : ٦ ـ ٨.

٢٣٨

مضى في القرآن ـ في غير موضع منه ـ ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تصير مسير المثل.

وبعبارة أُخرى : انّ كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثلما نزل بالأُمم الغابرة ، فقد ضربنا لهم مثَلَهم ، كما قال تعالى : (وَكُلاً ضَرَبنا لَهُمُ الأَمْثال) (١)

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما عدّمن أمثال القرآن ، قوله سبحانه : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم) (٢)

كان المشركون في العصر الجاهلي يعدّون الملائكة إناثاً وبناتاً لله تبارك وتعالى ، يقول سبحانه : (وَجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) فردّ عليهم بقوله : (أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون)

وقال سبحانه : (وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُون) (٣).

فعلى ذلك فالملائكة عند المشركين بنات الله سبحانه.

ثمّ إنّ الآية تحكي عن خصيصة المشركين بأنّهم إذا رزقوا بناتاً ظلت وجوههم مسودة يعلوها الغيظ والكظم ، قال سبحانه : (وَإِذا بشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) أي وصف الله به ، وقد عرفت انّهم وصفوه بأنّ الملائكة بنات الله.

__________________

(١) الفرقان : ٣٩.

(٢) الزخرف : ١٧.

(٣) النحل : ٥٧.

٢٣٩

(ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم) فليست الآية من قبيل المثل الاخباري ولا الانشائي ، وإنّما هي بمعنى الوصف ، أي وصفوه بأنّه صاحب بنات ، وهم كاذبون في هذا الوصف ، فلا يصح عدّهذه الآية من آيات الأمثال.

٢٤٠