الأمثال في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

الأمثال في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: ٢٩٠

وأمّا شأن نزولها فقد نقل عن الكلبي أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ، ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها ، واسمها «ريطة» بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ، وكانت تسمّى فرقاء مكة. (١)

إنّ لزوم العمل بالميثاق من الأُمور الفطرية التي جُبل عليها الإنسان ، ولذلك نرى أنّ الوالد إذا وعد ولده شيئاً ، ولم يف به فسوف يعترض عليه الولد ، وهذا كاشف انّ لزوم العمل بالمواثيق والعهود أمر فطر عليه الإنسان.

ولذلك صار العمل بالميثاق من المحاسن الأخلاقية التي اتّفق عليها كافة العقلاء.

وقد تضافرت الآيات على لزوم العمل به خصوصاً إذا كان العهد لله ، قال سبحانه : (وَأَوفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَكانَ مَسْؤولاً) (٢).

وقال تعالى : (وَالّذِينَ هُمْ لأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُون) (٣)

وفي آية ثالثة : (وَأَوفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (٤)

وفيما نحن فيه يأمر بشيء وينهى عن آخر.

أ : فيقول (أَوفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) فيأمر بالوفاء بعهد الله ، أي العهود التي يقطعها الناس مع الله تعالى. ومثله العهد الذي يعهده مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة المسلمين ، فكلّ ذلك عهود إلهية وبيعة في طريق طاعة الله سبحانه.

__________________

(١) الميزان : ١٢ / ٣٣٥.

(٢) الإسراء : ٣٤.

(٣) المؤمنون : ٨.

(٤) البقرة : ٤٠.

١٨١

ب : (وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمان بَعْد تَوكيدها) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين والظاهر اختصاص الأُولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه : (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمان) (١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلل تحريم نقض العهد ، بقوله : (وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاًمن التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

(١) المائدة : ٨٩.

١٨٢

اليمين ، فإن نكث ولم يف كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، وقال : (وَلاتَكُونُوا كَالّتي نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدِ قُوّة أنكاثاً) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب «الحمقاء» فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه : (تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم ان تكون أُمّة هي أربى من أُمّة) فقوله «أربى» من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه : (إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون)

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدي. (١)

__________________

(١) الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٣

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون* وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون) (١)

تفسير الآيات

«رغد» عيش رغد ورغيد : طيِّب واسع ، قال تعالى : (وكلا منها رغداً).

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يشن عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

__________________

(١) النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٤

ج : (يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب : (وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون) (١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الأصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أُخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعني بعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله : (وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم)

وهؤلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، انّه قال : «إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

١٨٥

ويأكلونها ، وهو قول الله : (ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)». (١)

وفي رواية أُخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادق عليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلّا أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبي فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قال عليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلّا أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى : (ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

(٢) تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٦

بآيتين :

الأُولى : (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)

الثانية : (فَأخذهم العذاب وهم ظالمون)

فلنرجع إلى الآية الأُولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو انّه سبحانه جمع في الآية الأُولى بين الذوق واللباس ، فقال : (فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : «فأذاقها الله طعم الجوع».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : «فكساهم الله لباس الجوع» فلماذا عدل عن تلك الجملتين إلى جملة ثالثة لا صلة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال : (لباس الجوع والخوف) ولم يقل «الجوع والخوف» لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال : (فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف)

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٧

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله : (أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلّا آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأُمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

(١) القصص : ٥٧.

١٨٨

الإسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

(وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١)

تفسير الآيات

«الغل» : ما يقيد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله : (مغلولة إلى عنقك) أي مقيدة به.

«الحسرة» : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله «ملوماً» ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

(١) الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٩

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أُخرى في سورة الفرقان ، وهي : (وَالّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : قل له : إنّ أُمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّه عليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة (إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه. (٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية : (وَالّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً)

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أُخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام. (٣)

__________________

(١) الفرقان : ٦٧.

(٢) مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

(٣) البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٩٠

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتص رحيق الأزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الإفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله : (وَاقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَالأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير) (١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام. (٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام علي عليه‌السلام : «هلك فيَّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال». (٣)

__________________

(١) لقمان : ١٩.

(٢) حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

(٣) بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩١

فالإمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساسي في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأُمة الإسلامية بالأُمة الوسط ، قال سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ) (١)

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها : دخل الإمام على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأى سعة داره ، قال : «ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : «وماله؟» قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : «عليّ به». فلمّا جاء قال : «يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!

قال : «ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل (الحق) أن يقدِّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره!» (٢)

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩٢

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأَحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً* كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً* وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً* وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً* قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً* لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً* وَلَوْلا إِذْدَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلّابِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً* فَعَسى رَبّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِفَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً* أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً* وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً* وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) (١)

تفسير الآيات

«الحف» من حف القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

(١) الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٣

أطافا به ، فقوله في الآية (فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله : (ما أظن أن تبيد) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

«حسباناً» : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الريح : «اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً».

«الصعيد» يقال لوجه الأرض «زلق» أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه : (فتركه صلداً) (١).

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأُخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي : قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى المؤقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهوالمؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الأخ الغني على الفقير ، وقال : (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً) ، وما هذا إلّا لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

(١) البقرة : ٢٦٤.

١٩٤

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أُكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

ويقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٥

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الأخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله : (المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أُخرى ، وقال : (قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ* يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدِّقينَ* أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإِنّا لَمَدِينُونَ* قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون* فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم) (٢)

إلى هنا تبيّن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالإمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

(١) الكهف : ٤٦.

(٢) الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٦

(واضرب لهم) أي للكفار مع المؤمنين (مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما) أي للكافر (جنتين) أي بستانين (من أعناب وحففناهما) أحدقناهما بنخل (وجعلنا بينهما زرعاً) يقتات به (كلتا الجنتين أتت أكلها) ثمرها (لم تظلم) تنقص (منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً) يجري بينهما (وكان له) مع الجنتين (ثمر فقال لصاحبه) المؤمن (وهو يحاوره) يفاخره (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً) عشيرة (ودخل جنته) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها. (وهو ظالم لنفسه) بالكفر (قال ما أظن أن تبيد) تنعدم (هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي) في الآخرة على زعمك «(لأجدنّ خيراً منها منقلباً) مرجعاً (قال له صاحبه وهو يحاوره) يجادله (أكفرت بالذي خلقك من تراب) لأنّ آدم خلق منه (ثم من نطفة ثمّ سوّاك) عدلك وصيّرك (رجلاً). أمّا أنا فأقول (لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت) عند اعجابك بها (ما شاء الله لا قوة إلّا بالله). «(إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً) وصواعق (من السماء فتصبح صعيداً زلقاً) أي أرضا ملساء لا يثبت عليهاقدم (أو يصبح ماؤها غوراً) بمعنى غائراً «(فلن تستطيع له طلباً) حيلة تدركه بها (وأُحيط بثمره) مع ما جنته بالهلاك فهلكت (فأصبح يقلب كفيه) ندماً وتحسراً (على ما أنفق فيها) في عمارة جنته (وهي خاوية) ساقطة «(على عروشها) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم (ويقول يا ليتني) كأنّه تذكّر موعظة أخيه (لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة) جماعة (ينصرونه من دون الله) عند هلاكها و (ما كان منتصراً) عند هلاكها بنفسه (هنالك) أي يوم القيامة (الولاية) الملك (لله الحقّ) (١)

__________________

(١) السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٧

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍأَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ مُقتدراً) (١)

تفسير الآيات

«الهشيم» : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و «الذر» والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدأ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الأزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تك موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

(١) الكهف : ٤٥.

١٩٨

على طول السنة ويشاهده الإنسان بأُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه : (وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله : (فأصبح هشيماً) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات (وكان الله على كلّ شيء مقتدراً)

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه : (المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا) نعم الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأُخروية ، قال سبحانه : (وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌعِنْدَ رَبِّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا) (١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية. (٢)

__________________

(١) مريم : ٧٦.

(٢) انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٩

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يعد من أمثال القرآن قوله : (وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً) (١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله : (ولقد صرّفنا) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك (وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جَدلاً) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

(١) الكهف : ٥٤.

٢٠٠