الأمثال في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

الأمثال في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: ٢٩٠

يوم يأتي الرحمنُ وهو رحيم

إنّه كان وعدُهُ مأتيّا

ربِّ إن تعفُ فالمعافاةُ ظنّي

أو تُعاقِبْ فلم تعاقِب بريّا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أخاك آمن شعره ، وكفر قلبه» وأنزل الله تعالى الآية. (١)

وقيل انّه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سمّاه النبي الفاسق ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوخ ، فقدم المدينة ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا الذي جئت به ، قال : «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» ، قال : فأنا عليها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لست عليها ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها».

فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منّا طريداً وحيداً ، فخرج إلى أهل الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح ، ثمّ أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة ، فمات بالشام طريداً وحيداً.

والظاهر انّ المشبه ليس خصوص هذين الرجلين ، بل كما قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «الأصل في ذلك بلعم ، ثم ضربه الله مثلاً لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة». (٢)

وفي الآية دلالة واضحة على أنّ العبرة في معرفة عاقبة الإنسان هي أُخريات حياته ، فربما يكون مؤمناً في شبابه ويرتد عن الدين في شيخوخته وهرمه ، فليس

__________________

(١) مجمع البيان : ٢ / ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

(٢) مجمع البيان : ٢ / ٥٠٠.

١٤١

صلاح الإنسان وفلاحه في عنفوان شبابه دليلاً على صلاحه ونجاته في آخر عمره.

وبذلك يعلم أنّ ترضي القرآن عن المهاجرين والأنصار في قوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِي اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١)

ويؤيد ما ذكرناه انّه سبحانه حدّد ظرف الرضا بقوله : (إِذ يُبايعونك) ولا يكون دليلاً على رضاه طيلة حياتهم ، فلو دلّ دليل على زلة واحد منهم ، فيؤخذ بالثاني جمعاً بين الدليلين.

وقد يظهر مفاد قوله سبحانه : (والسَّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنْصَارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْري تَحْتَهَا الأَنهَارُ خالِدينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ) (٢)

فانّ الآية دليل على شمول رضى الله لهم ، فيؤخذ بالآية مالم يدل دليل قطعي على خلافها ، فلو ثبت بدليل متواتر أو خبر محفوف بالقرينة ارتداد واحد منهم أو صدور معصية كبيرة أو صغيرة ، فيؤخذ بالثاني ، وليس بين الدليلين أي خلاف ، إذ ليس مقام صحابي أو تابعي أعلى من مقام ما جاء في هذه الآية ، أعني من آتاه الله سبحانه آياته وصار من العلماء الربانيين ولكن اتبع هواه فانسلخ عنها.

فما ربما يتراءى من إجماع غير واحدمن المفسرين بهذه الآيات على عدالة كافة الصحابة فكأنّها غفلة عن مفادها وإغماض عما صدر عن غير واحد من الصحابة من الموبقات والمعاصي والله العالم.

__________________

(١) الفتح : ١٨.

(٢) التوبة : ١٠٠.

١٤٢

سورة التوبة

١٧

التمثيل السابع عشر

(وَالذّين اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنينَ وإِرْصاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلّا الحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرين* أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللهِوَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَبهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدي القَومَ الظّالِمين) (١)

تفسير الآيات

«الضرار» : هو إيجاد الضرر عن عناد.

«الإرصاد» بمعنى الإعداد.

«البنيان» مصدر بنى.

و «التقوى» خصلة من الطاعة يحترز بها عن العقوبة ، والواو فيه مبدلة من الياء لأنّها من وقيت.

«شفا» : شفا البئر وغيره ، جُرفَه ، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك.

__________________

(١) التوبة : ١٠٧ ـ ١٠٩.

١٤٣

«الجرف» جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول فيبقى واهياً.

قال الراغب : يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه ، أي يذهب به ، جرف

هار البناء وتهوّر : إذا سقط ، نحو إنهار.

ذكر المفسرون انّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء ، وبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيهم ، فأتاهم وصلى فيه ، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف ، فقالوا : نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد وكانوا اثني عشر رجلاً ، وقيل خمسة عشر رجلاً ، منهم : ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، ونبتل بن الحرث ، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء ، فلمّا فرغوا منه ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك.

فقالوا : يا رسول الله انّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي على جناح سفر ، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه» ، فلمّا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

إنّ الآية تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنياناً على أساس محكم ومن بناه على شفا جرف ، فالأوّل يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة ، بخلاف الثاني فانّه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة.

فالمؤمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى الله ورضوانه ، بخلاف المنافق فانّه يبني إيمانه على أضعف القواعد وأرخاها وأقلّها

١٤٤

بناءً وهو الباطل ، فإيمان المؤمن ودينه من مصاديق قوله : (أَفَمَنْ أسَّس بُنيانه على تقوى من الله ورضوان) ولكن دين المنافق كمن (أسّس بنيانه على شفا جرف هار) فلا محالة ينهار به في نار جهنم.

١٤٥

سورة يونس

١٨

التمثيل الثامن عشر

(إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْهَا أَتاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأن لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون* واللهُ يَدعُو إلى دارِالسَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١)

تفسير الآيات

قوله : (فاخَتلَطَ بهِ نَبات الأَرض) فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة ، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الأرض ، لأنّ المطر ينفد في خلل النبات ، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض.

قوله : (ازّيّنت) أصله تزينت ، فادغمت التاء بالزاي وسكنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل.

فقوله : (أخذت الأَرْضُ زُخرفها وازَّيّنت) تعبير رائع حيث جعلت الأرض

__________________

(١) يونس : ٢٤ ـ ٢٥.

١٤٦

آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين.

قوله : (قادرون عليها) ، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها.

قوله : (أتاها أمرنا) كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها «حصيداً» شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله.

قوله : (كأن لم تغن) بمنزلة قوله : كأن لم ينبت زرعها.

قوله : (دار السلام) فهو من أوصاف الجنة ، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه ، بخلاف المقام فانّها دار البلاء.

هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها الجملي ، فنقول :

نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الأشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها ، فلم يزل يتعاهدها بمياه الأمطار والسواقي ، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة ، وصارت الأرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت ، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت ، وبإرادتهم تزيّنت وانّهم أصحاب الأمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالاً طويلة ، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلاً أو نهاراً فيجعل الطري يابساً ، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة.

هذا هو المشبه به والله سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل ، وهو انّ الإنسان ربما يغتر بالدنيا ويعول الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها ، وعدم ثباتها واستقرارها.

١٤٧

يقول مؤيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها

فهل سمعت بظل غير منتقل

وقد أسماها سبحانه متاع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة التي أسماها بدار السلام في الآية التالية ، وقال : (الله يدعو إلى دار السلام)

ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد ، فذكر أقوالاً :

أحدها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع.

وثانيها : انّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم.

وثالثها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الأوصاف. (١)

والحقّ انّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل ، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الإطلاق وليس فيها أي مكروه.

وقد قيد سبحانه في الآية دار السلام ، بقوله : (عند ربّهم) للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك.

ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف ، أعني : قوله :

__________________

(١) مجمع البيان : ٣ / ١٠٢.

١٤٨

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ على كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدراً) (١) وسيوافيك بيانها في محلها.

ويقرب من هذا ما في سورة الحديد ، قال سبحانه :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْو وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ في الأَمْوالِ وَالأَولادِ كَمَثلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيج فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرُور) (٢)

__________________

(١) الكهف : ٤٥.

(٢) الحديد : ٢٠.

١٤٩

سورة هود

١٩

التمثيل التاسع عشر

(إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَأَخْبتُوا إِلى رَبّهِمْ أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُون* مَثَلُ الفَريقَين كَالأَعْمى وَالأَصَمِّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلَا تَذَكَّرُون) (١)

تفسير الآيات

يصور سبحانه الكافر كالأعمى والأصم ، والمؤمن بالبصيروالسميع ، ثمّ ينفي التسوية بينهما ـ كما هو معلوم ـ غير انّ هذا التمثيل يستقي مما وصف به سبحانه كلا الفريقين بأوصاف خاصة.

فقال في حقّ الكافر : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون) (٢)

والمراد كان لهم أسماعاً وأبصاراً ولكنّهم لم يكونوا يستخدمونها في سماع الآيات ورؤية الحقائق ، فنفي الاستطاعة كناية عن عدم استخدام الأسماع ، كما أنّ نفي الأبصار كناية عنه.

ثمّ إنّه سبحانه وصف المؤمن في الآية التالية بأوصاف ثلاثة :

__________________

(١) هود : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) هود : ٢٠.

١٥٠

أ : الإيمان بالله.

ب : العمل الصالح.

ج : التسليم إلى الله حيث قال : (وأخبتوا إلى ربّهم)

فالمؤمن الصالح ثمرة من شجرة الإيمان كما انّ التسليم والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد الله من آثاره أيضاً.

فالمؤمن هو الذي يسمع آياته ويبصرها في سبيل ترسيخ الإيمان في قلبه واثماره.

ثمّ إنّه مثّل الكافر والمؤمن بالتمثيل التالي ، وقال : (مَثَلُ الفَريقَين كَالأَعْمى والأَصم وَالبَصير وَالسَّميع هَلْ يَسْتَويان مَثلاً أَفَلا تَذَكَّرُون)

أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع. ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم ، لأنّ المؤمن ينتفع بحواسه باعمالها في معرفة المنعم وصفاته وأفعاله ، والكافر لا ينتفع بها فصارت بمنزلة المعدومة.

ثمّ إنّه وسط الوضع بين الأعمى والأصم كما وسطها بين البصير والسميع ، وذلك لإفادة تعدّد التشبيه بمعنى :

انّ حال الكافر كحال الأعمى.

وحال الكافر أيضاً كحال الأصم.

كما أنّ حال المؤمن كالبصير.

وحاله أيضاً كالسميع.

وحاصل الكلام : انّه لا يستوي البصير والسميع مع الأعمى والأصم ، والمؤمن والكافر أيضاً لا يستويان.

١٥١

سورة الرعد

٢٠

التمثيل العشرون

(لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ إِلّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَمَا دُعاءُ الكافِرِينَ إِلّا فِي ضَلالٍ) (١)

تفسير الآية

تقدم الظرف في قوله : (لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ) لأجل إفادة الحصر ، ويؤيّده ما بعده من نفي الدعوة عن غيره.

كما أنّ إضافة الدعوة إلى الحقّ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي الدعوة الحقة له ، لأنّ الدعوة عبارة عن توجيه نظر المدعو إلى الداعي ، والإجابة عبارة عن إقبال المدعو إليه ، وكلا الأمرين يختصان بالله عزّاسمه. وأمّا غيره فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ـ وعند ذاك ـ كيف يمكن أن يجيب دعوة الداعي.

فالنتيجة انّ الدعوة الحقة التي تستعقبها الإجابة هي لله تبارك وتعالى ، فهو حي لا يموت ، ومريد غير مكره ، قادر على كلّ شيء ، غني عمّن سواه.

__________________

(١) الرعد : ١٤.

١٥٢

وبذلك يعلم أنّ الدعوة على قسمين : دعوة حقة ودعوة باطلة ، فالحقة لله ودعوة غيره دعوة باطلة ، أمّا لأنّه لا يسمع ولا يريد ، أو يسمع ولا يقدر. وأشار إلى القسم الباطل بقوله : (وَالّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ) ، وقد عرفت وجه عدم الاستجابة.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورة واحدة من عدم الاستجابة ، لكنّه استثناء صوري وهو في الحقيقة تأكيد لعدم الاستجابة ، وقال : (إِلّاكَباسِط كَفَيّه إِلى الماء لِيَبْلُغَ فاه وَما هُوَ بِبالِغِهِ)

فدعوة الأصنام والأوثان وطلب الحاجة منهم ، أشبه بحال الظمآن البعيد من الماء كالجالس على حافة البئر والباسط كفه داخل البئر ليبلغ الماء فاه ، مع البون البعيد بينه وبين الماء.

قال الطبرسي : هذا مثل ضربه الله لكلّ من عبد غير الله ودعاه رجاء أن ينفعه ، فانّ مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد ليتناوله ويسكن به غلته ، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما ، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيب دعاءهم. (١)

وربما تفسر الآية بوجه آخر ، ويقال : لا يستجيبون إلّا استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. (٢)

والظاهر رجحان الوجه الأوّل ، لأنّ الآلهة بين جماد لا يشعر أو ملك أو جن

__________________

(١) مجمع البيان : ٣ / ٢٨٤.

(٢) الكشاف : ٢ / ١٦٢.

١٥٣

أو روح يشعر ولكن لا يملك شيئاً ، فهذا الوجه يختص بما إذا كان الإله جماداً لا غير.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ذيل الآية : (وَما دُعاء الكافرينَ إلّا في ضَلالٍ) ، فانّ الضلال عبارة عن الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب ، ودعاء غيره خروج عن الطريق الموصل إلى المطلوب ، لأنّ الغاية من الدعاء هو إيجاد التوجّه ثمّ الإجابة ، فالآلهة الكاذبة إمّا فاقدة للتوجّه ، وإمّا غير قادرة على الاستجابة ، فأي ضلال أوضح من ذلك.

١٥٤

سورة الرعد

٢١

التمثيل الواحد والعشرون

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِمَاءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْربُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثالَ) (١)

تفسير الآية

«الوادي» : سفح الجبل العظيم ، المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ، ولعل منه اشتقاق الدية ، لأنّه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل.

«القدر» : اقتران الشيء بغيره دون زيادة أو نقصان ، فإذاكانا متساويين فهو القدر ، والقدْر والقَدَرْلغتان مثل الشبْر وشَبَر.

والاحتمال : رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل.

و «الزبد» : هو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل.

و «الجفاء» ممدوداً يقال : أجفأت القدر بزبدها ، إذا القيت زبدها.

و «الإيقاد» : إلقاء الحطب في النار.

__________________

(١) الرعد : ١٧.

١٥٥

«والمتاع» ما تمتع به.

و «الحق» في اللغة هو الأمر الثابت ويقابله الباطل ، فالأوّل بمفهومه الواسع يشمل كلّ موجود أو ناموس ثابت لا يطرأ عليه التحول والتبدل حتى أنّ القوانين الرياضية والهندسية وكثير من المفاهيم الطبيعية إذا كانت على درجة كبيرة من الثبات فهي حقّ لا غبار عليها.

و «المكث» : الكون في المكان عبر الزمان.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الآية تمثل للحق والباطل مثلاً واحداً يستبطن تمثيلات متعددة :

الأوّل : انّ السيل المتدفق من أعالي الجبال الجاري في الوديان يحمل معه في سيره زبداً رابياً عليه ، فالحقّ كماء السيل والباطل الزبد الطافح عليه.

الثاني : انّ المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار ، تذاب ويعلو عليها الخبث ، فالغاية من الإذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن خبثها وزبدها.

وعندئذٍ فالحقّ كالذهب والفضة والمعادن النفيسة والباطل كخبثهاوزبدها الطافح.

الثالث : انّ ما له دوام وبقاء ومكث وينتفع به الناس كالماء وما يتخذ للحلية أو المتاع يمثّل الحق ، وما ليس كذلك كزبد السيل وخبث القدر الذي يذهب جفاءً يمثّل الباطل.

وأمّا التفصيل فإليك توضيح الآية :

(أَنْزَلَ مِنَ السماء ماءً فَسالَتْ أَودِيَة) الواقعة في محل الأمطار المختلفة في

١٥٦

السعة والضيق ، والكبر والصغر (بقدرها) أي كلّ يأخذ بقدره ، ففيضه سبحانه عام لا يحدد وإنّما التحديد في الآخذ ، فكلّ يأخذ بقدره وحده ، فقدر النبات يختلف عن قدر الحيوان وهو عن الإنسان ، فكلّ ما يفاض عليه الوجود إنّما هو بقدر قابليته ، كما أنّ السيل المنحدر من أعالي الجبال مطلق غير محدد ، ولكن يستوعب كل وادٍ من ماء السيل بقدر قابليته وظرفيته.

(فَاحْتَمَل السَّيْلُ زَبداً رابِياً) أي طافياً عالياً فوق الماء.

إلى هنا تمت الإشارة إلى التمثيل الأوّل.

ثمّ إنّ الزبد لا ينحصر بالسيل الجارف بل يوجد طافياً على سطح أنواع الفلزات والمعادن المذابة التي تصاغ منها الحلي للزينة والأمتعة ، كما قال سبحانه (ومِمّا يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله)

إلى هنا تمت الإشارة إلى التمثيل الثاني ، كما قال : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقّ وَالباطل) أي كذلك يوصف الحقّ والباطل ليأخذ طريقه بين الناس ، ثمّ أشار إلى التمثيل الثالث وهو انّ من سمات الحق بقاءه وانتفاع الناس به (فَأمّا الزبد فيذهب جفاءً) حيث إنّ زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه ينطفئ بعد مدة قصيرة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً فيذهب جفاءً باطلاً متلاشياً.

(وَأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) فانّ الماء الخالص أو المعادن الخالصة التي فيها انتفاع الناس يمكث في الأرض.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثال) وقد مرّ في المقدمات معنى ضرب المثل ، وقلنا انّ المراد هو وصف حال المشبه وبيانه.

هذا ما يرجع إلى تفسير ظاهر الآية ، لكن الآية من غرر الآيات القرآنية التي

١٥٧

تبحث عن طبيعة الحقّ والباطل وتكونهما وكيفية ظهورهما والآثار المترتبة عليهما ولا بأس بالإشارة إلى ما يمكن الاستفادة من الآية.

١. انّ الإيمان والكفرمن أظهر مصاديق الحق والباطل ، ففي ظل الإيمان بالله تبارك وتعالى حياة للمجتمع وإحياء للعدل ، والعواطف الإنسانية ، فالأُمّة التي لم تنل حظها من الإيمان يسودها الظلم والأنانية وانفراط الأواصر الإنسانية التي تعصف بالمجتمع الإنساني إلى الهاوية.

٢. انّ الزبد أشبه بالحجاب الذي يستر وجه الحقّ مدة قصيرة ، فسرعان ما يزول وينطفئ ويظهر وجه الحقيقة أي الماء والفلزات النافعة.

فهكذا الباطل ربما يستر وجه الحقيقة من خلال الدعايات المغرضة ، ولكنّه لا يمكث طويلاً فيزول كما يزول الزبد ، يقول سبحانه : (وَقُلْ جَاءَ الحَقّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (١)

وقال تعالى : (وَيَمْحُ اللهُ الباطِلَ وَيُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ) (٢)

٣. انّ الماء والفلزات منبع البركات والخيرات له والزبد خبث لا ينتفع منه ، فهكذا الحق والباطل ، فما هو الحقّ كالإيمان والعدل ينتفع به الناس ، وأمّا الباطل كالكفر والظلم لا ينتفع منه الناس.

٤. انّ الماء فيض مادي يفيضه الله سبحانه إلى السماء على الوديان والصحاري ، فكل يأخذ بمقدار سعته ، فالوادي الكبير يستوعب ماء كثيراً بخلاف الوادي الصغير فلا يستوعب سوى قليلاًمن الماء وهكذا الحال في الأرواح والنفوس فكل نفس تنال حظها من المعارف الإلهية حسب قابليتها ، فهناك نفس

__________________

(١) الإسراء : ٨١.

(٢) الشورى : ٢٤.

١٥٨

كعرش الرحمن ونفس أُخرى من الضيق بمكان يقول سبحانه : (ولَقَدْ خَلَقكُمْ أَطواراً)

وفي الحديث النبوي : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة». (١)

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل : «إنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها». (٢) فالمعارف الإلهية كالسيل المتدفق والقلوب كالأودية المختلفة.

ويمكن أن يكون قوله (بقدرها) إشارة إلى نكتة أُخرى ، وهي انّ الماء المتدفق هو ماء الحياة الذي ينبت به الزرع والأشجار المثمرة في الأراضي الخصبة. دون الأراضي السبخة التي لا ينبت فيها إلّا الأشواك.

٥. انّ الماء يمكث في الأرض وينفذ في أعماقها ويبقى عبر القرون حتى ينتفع به الناس من خلال استخراجه ، فهكذا الحقّ فهو ثابت لا يزول ، ودائم لا يضمحل ، على طرف النقيض من الباطل ، فللحق دولة وللباطل جولة.

٦. انّ الباطل ينجلي بأشكال مختلفة ، كما أنّ الزبد يطفو فوق الماء والمعدن المذاب بأنحاء مختلفة ، فالحقّ واحد وله وجه واحد ، أمّا الباطل فله وجوه مختلفة حسب بعده من الحقّ وتضاده معه.

٧. انّ الباطل في وجوده رهن وجود الحقّ ، فلولا الماء لما كان هناك زبد ، فالآراء والعقائد الباطلة تستمد مقوماتها من العقائد الحقّة من خلال إيجاد تحريف في أركانها وتزييفها ، فلو لم يكن للحقّ دولة لما كان للباطل جولة ، وإليه يشير سبحانه : (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً)

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ / ٤٠٥.

(٢) نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم ١٢٧.

١٥٩

٨. انّ في تشبيه الحقّ بالماء والباطل بالزبد إشارة لطيفة إلى أنّ الباطل كالزبد ، فكما أنّه ينعقد في الماء الذي له هيجان واضطراب والذي لا يجري على منوال هادئ ، فهكذا الباطل إنّما يظهر في الأوضاع المضطربة التي لا يسودها أي نظام أو قانون.

٩. انّ حركة الباطل وإن كانت مؤقتة إنّما هي في ظل حركة الحقّ ونفوذه في القلوب ، فالباطل يركب أمواج الحق بغية الوصول إلى أهدافه ، كما أنّ الزبد يركب أمواج الماء ليحتفظ بوجوده.

١٠. انّ الباطل بما انّه ليس له حظ في الحقيقة ، فلو خلص من الحقيقة فليس بإمكانه أن يظهر نفسه ، ولو في فترة قصيرة ، ولكنّه يتوسم من خلال مزجه بالحقّ حتى يمكن له الظهور في المجتمع ، ولذلك فالزبد يتكون من أجزاء مائية ، فلو خلص منها لبطل ، فهكذا الباطل في الآراء والعقائد.

قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

«فلو انّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ، ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى». (١)

***

ثمّ إنّ بعض من كتب في أمثال القرآن جعل قوله سبحانه : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّهُا تِلْكَ عُقْبَى الّذينَ

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٩.

١٦٠