آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

الجواب : الظاهر أن الآية الشريفة أطلقت وجوب إطاعة اولي الأمر ولم تقيّدها بقيد وشرط معيّن ، وببيان آخر أن إطاعة اولي الأمر في الآية الشريفة لم يقيد بعدم الاشتباه والخطأ الحاصل لدى اولي الأمر ، وببيان ثالث كما أن إطاعة الله ورسوله واجبة مطلقاً فكذلك إطاعة اولي الأمر أيضاً قد وردت في الآية بصورة مطلقة ، وعليه فلا بدّ أن يكون اولو الأمر من المعصومين لأن إطلاق وجوب الإطاعة لا يصحّ إلّا إذا كان المطاع معصوماً ، لأنه لا يصحّ فرض طاعة الشخص الذي يرتكب الخطأ والاشتباه في أحكامه ، ولذلك نحن نعتقد بأن القاضي إذا أخطأ في إصدار حكمه وعلم أحد طرفي الدعوة بخطإ القاضي في صدور الحكم له على صاحبه ، فلا يمكنه بمجرد إصدار القاضي لحكمه أن يتملك ما حكم له أو يلقي بالذنب على صاحبه.

وحتّى مراجع التقليد الذين يجب على المكلّفين تقليدهم لو أنهم أخطئوا في مسألة من المسائل فإنه لا يجب اتباعهم وطاعتهم في هذه المسألة كما في رؤية الهلال إذا لم يثبت لمرجع التقليد رؤية الهلال في الليلة الثلاثين من شهر رمضان المبارك وحكم بصوم اليوم الثلاثين ولكنّ بعض المقلِّدين يرى بعينه هلال شوّال في الليلة الثلاثين ، فهنا لا يمكنه التمسّك بفتوى مرجعه واتباعه في صوم اليوم الثلاثين بل يجب عليه أن يفطر في ذلك اليوم لأنه يعلم بخطإ المرجع في هذه الفتوى.

وعلى هذا الأساس فإنّ الإطاعة المطلقة لا تصحّ إلّا من المعصومين ، وبما أن الآية الشريفة ذكرت إطاعة اولي الأمر بصورة مطلقة فلذلك نعلم بأن اولي الأمر يجب أن يكونوا من المعصومين.

اختلاف النظريات حول معنى اولو الأمر

أما بالنسبة إلى تفسير ومعنى كلمة اولي الأمر ، فكما تقدّم هناك نظريات مختلفة في هذا المجال ونشير إلى بعضها :

الأوّل ـ المراد من اولي الأمر قادة الامّة : فإن كلُّ من استلم زمام الحكم في المجتمع الإسلامي يطلق عليه «اولي الأمر» ويجب إطاعته بصورة مطلقة حتّى لو أنه تسلّم هذا

٨١

المقام بالقوّة والقهر ومن دون رضى الناس وحتّى لو كان من أفسق الناس فتجب إطاعته ، وعليه فإن إطاعة الحكام حتّى لو كانوا من أمثال المغول والتتر فيما لو تسلطوا على المجتمع الإسلامي تكون واجبة.

وقد ذهب إلى هذه النظرية جمع من علماء أهل السنّة.

ولكن هل يصحّ الالتزام بهذه النظرية عقلاً؟

أليس مراد الله ورسوله إقامة العدل والقسط في المجتمع الإسلامي (١)؟ إذن فكيف يمكن للظالم والحاكم بالجور أن يصبح خليفة لرسول الله ويقلع اسس العدالة من المجتمع الإسلامي ويقيم حكمه على الظلم والجور؟

إنّ هذا التفسير لمعنى اولي الأمر لا ينسجم مع أيّ برنامج إصلاحي في الإسلام فهل أن القائلين بهذا الكلام يرون أنه لو تسلط الحاكم الظالم بقوّة السيف على المجتمع الإسلامي وسحق جميع القيم الإسلامية تحت قدمه وأشاع الفحشاء والمنكر وقضى على المعروف والقيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية واستهان بالواجبات الإلهية ، فمع ذلك يجب على المسلمين أن يعترفوا بأنه من اولي الأمر وأنه خليفة رسول الله وعليهم أن يطيعوا هذا الإنسان الظالم والمنحرف؟

مع الأسف إنّ هؤلاء يرون وجوب إطاعة مثل هذا الشخص الفاسد والظالم كما هو الحال في معاوية وابنه يزيد حيث يرون أنهم من اولي الأمر.

ليت أن هؤلاء العلماء لم يذكروا مثل هذا التفسير للآية الشريفة.

الثاني ـ وذهب بعض المفسّرين إلى عصمة اولي الأمر ورفضوا النظرية السابقة وبما أن الناس بصورة عامة غير معصومين فلذلك يكون المراد باولي الأمر مجموع الامّة الإسلامية ، وبديهي أن الامّة الإسلامية معصومة من الخطأ فلا يمكن أن يقع جميع المسلمين في وادي الضلالة والخطأ رغم أن كلُّ فرد غير معصوم ، وعلى هذا الأساس فكما أن إطاعة الله ورسوله واجبة فكذلك يجب اتباع الامّة الإسلامية أيضاً.

__________________

(١) ورد هذا المعنى في الآية ٢٥ من سورة الحديد.

٨٢

ولكن نقول في مقام الجواب على هذه النظرية : كيف يمكن تحصيل رأي جميع أفراد الامّة الإسلامية؟ ألا يجب تحصيل جميع آراء ونظريات المسلمين؟ وإذا لم يجب تحصيل رأي كلّ فرد من المسلمين وانتخب المسلمون وكلاء ونوّاب عنهم وقلنا بكفاية اتفاق وإجماع هؤلاء الوكلاء والنوّاب للُامّة الإسلامية فإنه يقال : هل يمكن أن يحصل اتفاق في آراء هؤلاء الوكلاء للُامّة الإسلامية؟

إنّ الغالب هو عدم إمكانية تحصيل الاتفاق في الآراء حتّى لوكلاء ونوّاب الامّة الإسلامية ، فلو قيل إنّ اتفاق الآراء غير لازم بل المعيار هو الأكثرية ، فكلما رأت أكثرية النوّاب للُامّة الإسلامية في مسألة معيّنة الحلّ بصورة معيّنة فيجب اتباعهم بعنوانهم اولي الأمر ، فهل أن معنى اولي الأمر يصدق حقيقةً على أكثرية النوّاب والوكلاء للُامّة الإسلامية؟

الثالث ـ وذهب البعض إلى أكثر من ذلك وبسبب ضعفهم عن مواجهة الثقافة الغربية فإنّهم رأوا أن الديمقراطية الغربية هي مصداق اولي الأمر ألا تكون مثل هذه النظريات من التفسير بالرأي؟ ألا تكون هذه الآراء من قبيل تحميل المسبوقات الفكرية على القرآن؟ ألا تعتبر مثل هذه النتائج ظالمة بحقّ القرآن؟

مضافاً إلى ذلك فإنّ الديمقراطية الغربية ليست سوى فكرة برّاقة وأنيقة في الظاهر فحسب والغربيون أنفسهم لا يرون أن ديمقراطيتهم منهج مثالي للحكومة بل وجدوا أنفسهم مضطرين لقبولها لأنهم رأوا أنهم لو لم يتمسّكوا بالديمقراطية لعاشوا في ظروف أسوأ منها ، فهي من قبيل قبول «أقل ضرراً» وإلّا فأيُّ إنسان عاقل يقبل أنّ ٥٠% من أفراد الشعب يشتركون بالانتخابات فيفوز مرشح ٢٦% ثمّ يكون هذا المرشح هو الحاكم على جميع أفراد الشعب!! فهل هذا من العدالة والإنصاف؟!

إنّ الأشخاص الذين يعيشون الاستيلاء وضعف الشخصية في مقابل الديمقراطية الغربية يرون في حكومة أمريكا النموذج الكامل للديمقراطية ، ولحسن الحظّ ففي الآونة الأخيرة تجلت فضيحة كبيرة لهذه المزاعم في عملية الانتخابات الأمريكية لرئاسة الجمهورية وتجلّت الماهية الحقيقية لهذا النوع من الديمقراطية لجميع الشعوب بالعالم حيث إن الحكومة

٨٣

الأمريكية التي تقوم بإدارة جميع المصانع والإدارات بأحدث الأجهزة الالكترونية والكامبيوترية وصل بهم الحال أن يختلفوا في عشرة إلى خمسة عشر ألف رأي وأنه هل يحسبونها بجهاز الحاسوب أو باليد؟ فما ذا يعني هذا الاختلاف؟ ولما ذا كلّ هذه المناقشات والمنازعات على هذا الأمر بحيث أقاموا الدنيا وأحدثوا ضجة في العالم؟

إنّ هذه الامور تعدّ علامة على زيف المدّعين للديمقراطية بحيث إنهم لا يعتمدون حتّى على أجهزتهم الفنية!! يجب على العالم أن يضحك على هذه الانتخابات الزائفة والديمقراطية الكاذبة ويجب على المحقّقين أن يدرسوا هذه الحادثة بدقّة حتّى يكشفوا حقيقة هؤلاء المدّعين للديمقراطية وخاصّة لمن يرى أن الغرب هو كعبة آماله وطموحاته ، والإنصاف أن تفسير اولي الأمر بالديمقراطية هو خلاف ظاهر الآية الشريفة بل ظلم كبير للقرآن الكريم.

الرابع : نظرية جميع علماء الشيعة ، وهي أن المراد باولي الأمر هم المعصومون عليهم‌السلام ولا يمكن أن يكون في كلّ زمان إلّا شخص واحد معصوم ، وهذا الشخص كان في زمن نزول القرآن وبعد رحيل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أمير المؤمنين عليه‌السلام وبعده أحد عشر من ذرّيته من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

التوضيح : ألف) كما تقدّم في أن اولي الأمر (وبمقتضى الآية الشريفة أن إطاعة الله ورسوله واولي الأمر واجب بصورة مطلقة) يجب أن يكونوا معصومين ليتسنّى للمكلّفين إطاعتهم بدون سؤال وترديد ، أي أن وليّ الأمر يجب أن يكون مصوناً من الخطأ والذنب والاشتباه ، وبعبارة اخرى أن العصمة هي قدرة معنوية ومرتبة سامية من التقوى بحيث إن الشخص المعصوم لا يصدر منه أي ذنب أو خطأ أو اشتباه بالرغم من أنه مختار في سلوكه العملي وغير مجبر ويمكنه ارتكاب الذنب والخطأ ، ولكنه ببركة هذه المرتبة السامية من التقوى فإنه لا يقدم على ذلك.

وبعبارة ثالثة أن التقوى لها مراتب مختلفة ، أحدها هو التقوى من الذنوب الكبيرة وعدم ارتكابها بحيث أنه لو اتفق وأن أذنب في بعض الأحيان فإنه يتوب فوراً من ذلك ، وفي المرحلة الثانية مضافاً إلى عدم ارتكابه للذنوب الكبيرة فإنه يجتنب الذنوب الصغيرة أيضاً ، فلو صدر منه أحياناً ذنب صغير فإنه يتوب كذلك ، والمرحلة الثالثة هي أعلى ممّا تقدّم بأن

٨٤

يكون مضافاً إلى اجتنابه الذنوب الكبيرة والصغيرة فإنّه يجتنب المكروهات أيضاً ، وهكذا يتدرج الإنسان المؤمن في مراتب التقوى إلى أن يبلغ الذروة وهي مرتبة العصمة المطلقة من الذنوب والخطأ والاشتباه ، وعليه فإنّ العصمة لا تعني الجبر كما يتوهم البعض بل هي أعلى مرتبة من مراتب التقوى.

ب) إنّ اولي الأمر المعصومين كما تقدّم آنفاً لا يمكن أن يكونوا جميع الامّة الإسلامية أو العلماء والمفكرين من وكلاء ونوّاب الامّة أو أكثريتهم بل يجب أن يكون المعصوم شخصاً خاصاً وفرداً معيناً منهم.

ج) بما أن العصمة مرتبة معنوية عالية ودرجة كاملة من التقوى فإنّه لا يمكن للناس تشخيص المصداق لهذا المعيار ، ولذلك فإنّ اولي الأمر يجب أن يعيّنوا من قبل الله تعالى أو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا يقوم كلّ معصوم بتعيين المعصوم الذي يليه للناس.

والنتيجة هي أوّلاً : يجب أن يكون اولو الأمر معصومين.

ثانياً : يجب أن يكون المعصوم فرداً خاصاً ومعيّناً.

ثالثاً : إنّ تعيين المعصوم من اولي الأمر يجب أن يكون من قبل الله تعالى.

وهنا يجب التوجه إلى القسم الثاني من هذا البحث ، أي الروايات الواردة في شأن نزول الآية الشريفة لنرى هل أن هذه الروايات عيّنت مصداق اولو الأمر للمسلمين؟ وهل أن الله تعالى أو نبيّه الكريم قد نصب هذا القائد المعصوم للناس؟

تفسير الآية في ظلال الروايات

هناك روايات متعددة في دائرة تعيين المعصوم المراد من الآية (أَطِيعُوا اللهَ ...) وأهمها «حديث الثقلين».

وطبقاً لما ورد في هذا الحديث فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله صرّح للمسلمين في أواخر عمره الشريف وقال :

«إنّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثِّقْلَيْنِ ما إنّ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي ... كِتابَ اللهِ ... وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي». (١)

__________________

(١) ميزان الحكمة : الباب ١٦١ ، حديث ٩١٧.

٨٥

ومعنى هذا الحديث أن القرآن الكريم مصون من الخطأ والاشتباه ، ولذلك فإنّ الشخص الذي يتحرك في خط القرآن فإنّه مصون من الوقوع في الخطأ أيضاً ، إذن فلا بد أن يكون أهل البيت معصومين أيضاً من الخطأ والاشتباه كيما يصحّ التمسّك بهم ويكون التحرّك في خطّهم مصوناً من الوقوع في أشكال الزلل والزيغ وإلّا فلا معنى أن يكون أهل البيت غير معصومين والشخص الذي يسير في خطّهم ويتبعهم يكون مصوناً من الوقوع في الخطأ.

إذن فطبقاً لهذه الرواية فإنّ أهل البيت معصومون ، وكما تقدّم في شرح الآية الشريفة (أَطِيعُوا اللهَ ...) يجب أن يكون هذا الفرد المعصوم معيّن من قبل الله تعالى ، وهذا يعني أن الأئمّة المعصومين معيّنون ومنتخبون بأفرادهم من قبل الله تعالى.

أهمية حديث الثقلين

إن حديث الثقلين يعتبر من الأحاديث المهمّة جدّاً في دائرة موضوع الولاية والإمامة بحيث لا نجد نظيراً له بين الروايات والأحاديث الواردة في هذا الشأن ، فهذا الحديث من جهة الدلالة قويٌّ جدّاً وصريح ، ومن جهة السند فإنّ الرواية متواترة ومذكورة في جميع مصادر الفريقين (السنّة والشيعة) بشكل واسع ، ويستفاد من مجموع الروايات الواردة في هذه المصادر أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتحدّث بهذا الحديث مرّة واحدة بل تكرر منه ذلك مرّات عديدة ، والرواية أعلاه وردت في المصادر الأصلية والمعتبرة للشيعة (تهذيب الأخبار ، الاستبصار ، الكافي ، من لا يحضره الفقيه) (١) وفي مصادر أهل السنّة (الصحاح الستّة) أيضاً. وهذه الصحاح الستّة عبارة عن :

١ ـ «صحيح البخاري» الذي يعدُّ أهم كتاب من بين هذه الصحاح الستّة وكاتبه هو «البخاري» الذي توفي سنة ٢٥٦ هجرية.

__________________

(١) «التهذيب» و «الاستبصار» من تأليف الشيخ الطوسي ، و «من لا يحضره الفقيه» من تأليف الشيخ الصدوق ، و «الكافي» للشيخ الكليني ، وهؤلاء الثلاثة من أساطين علماء الشيعة ، والجدير بالذكر أن ما يقال من أن هذه الكتب الأربعة من المصادر المعتبرة لدى الشيعة لا يعني أن جميع رواياتها صحيحة ومعتبرة ولا حاجة إلى التحقيق في سندها ، بل المراد أن أغلب روايات هذه الكتب معتبرة ، ويتبيّن ذلك بعد التحقيق في اسنادها.

٨٦

٢ ـ «صحيح مسلم» الذي يأتي بعد صحيح البخاري في الأهمّية ، ومؤلفه هو «مسلم ابن حجار» الذي توفي سنة ٢٦١ هجري ويسمى هذين الكتابين بالصحيحين ، ويطلق على مؤلفيهما لقب «الشيخين».

٣ ـ «سنن ابن داود» وقد توفي ابن داود سنة ٢٧٥ هجري.

٤ ـ «سنن الترمذي» الذي توفي سنة ٢٧٩ هجري.

٥ ـ «سنن النسائي» الذي توفي سنة ٣٠٣ هجري.

٦ ـ «سنن ابن ماجة» الذي توفي سنة ٢٧٣ هجري.

إنّ جميع الروايات المذكورة في هذه الكتب الستّة هي من الصحاح ومن الروايات المعتبرة لدى أهل السنّة ، ولكن جميع الروايات المعتبرة لديهم لا تنحصر في هذه الكتب الستّة ، ولذلك كتب «الحاكم» كتاباً باسم «مستدرك الصحيحين» وذكر فيه روايات معتبرة اخرى لم تذكر في صحيح البخاري ومسلم (١).

ويذكر مؤلف هذا الكتاب : إنّ جميع الروايات المذكورة في مستدرك الصحيحين متطابقة مع المعايير المذكورة في البخاري وصحيح مسلم.

وقد ذكرت رواية الثقلين في ثلاث من هذه الكتب السبعة أي صحيح مسلم وسنن الترمذي (٢) ومستدرك الصحيحين (٣) وكمثال على ذلك نذكر ما ورد في صحيح مسلم :

«يقول يزيد بن حيان : انطلقت أنا وحصين بن مسيرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلمّا جلسنا إليه قال حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه ، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا ابن أخي كبر سنّي وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما

__________________

(١) يقول ابن أبي الحديد : سألت استاذي عبد الوهاب : هل أن جميع الأحاديث الصحيحة واردة في الصحاح الستّة ، أو هناك روايات صحيحة اخرى في غيرها من الكتب؟ فقال : هناك روايات صحيحة كثيرة لم تذكر في الصحاح ، فقلت : هل أن حديث (لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي) صحيح؟ فقال : نعم هو صحيح ومعتبر.

(٢) سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٦٦٢ ، الحديث ٣٧٨٦ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩).

(٣) مستدرك الصحيحين : ج ١ ، ص ٩٣ وج ٣ ، ص ١٠٩.

٨٧

حدثتكم فانقلوه وما لا فلا تكفلونيه ثمّ قال رضى الله عنه : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكّة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثمّ قال :

«أَيّهَا النّاسُ! فَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشَكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ أَوَّلُهُما كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتابِ اللهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِه «فَحَثَّ عَلى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ» ثُمَّ قَالَ : «وَأَهْلُ بَيْتي اذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ....» (١).

مضافاً إلى هذه الكتب الثلاثة فإنّ الرواية محل البحث وردت أيضاً في خصائص النسائي (٢) ، والملفت للنظر أن ابن حجر وهو رجل متعصب جدّاً وقد كتب كتاباً ضد الشيعة باسم «الصواعق المحرقة» قد أورد الرواية أعلاه أيضاً (٣).

والأهم من ذلك أن ابن تيميّة مؤسس فرقة الوهابية المنحرفة أورد رواية الثقلين أيضاً في كتابه «منهاج السنّة» (٤).

والخلاصة أن هذا الحديث الشريف والعميق المغزى «حديث الثقلين» هو رواية متواترة في كتب الشيعة وأهل السنّة (٥).

وهذا المطلب يدلّ على أن الرواية المذكورة تتمتع بأهمية خاصّة ، ولهذا نجد الإمام الراحل بدأ في وصيته التاريخية بهذا الحديث الشريف لأنه محدّث خبير ويعلم أن هذا الحديث هو رواية محكمة لا يدخل فيها الشكّ والريب.

ومن خلال حديث الثقلين يثبت أن المراد من اولي الأمر هم الأئمّة الأطهار الذين يجب إطاعة كلّ واحد منهم في زمانه ولا يشترط في إطاعتهم واتباعهم أي شرط.

ومضافاً إلى حديث الثقلين هناك روايات اخرى واردة في شأن هذه الآية الشريفة ولكننا نذكر هنا اثنين منها :

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٨٧٣.

(٢) خصائص النسائي : ص ٢٠ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٦٦).

(٣) الصواعق المحرقة : ص ٢٢٦ ، طبع عبد اللّطيف مصر (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٦٧).

(٤) منهاج السنّة : ج ٤ ، ص ١٠٤ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٦٩).

(٥) ومضافاً إلى ما ذكر أعلاه من الكتب والمصادر ، فإن هناك كتب مهمة اخرى لدى أهل السنّة تذكر حديث الثقلين ، ولمعرفة المزيد من التفاصيل يراجع «نفحات القرآن : ج ٩» ، و «احقاق الحقّ : ج ٤ ، ص ٤٣٨).

٨٨

١ ـ يقول الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في «ينابيع المودّة» الصفحة ١١٦ :

«سمعت عليّاً صلوات الله عليه يقول : وأتاه رجل فقال : أرني أدنى ما يكون به العبد مؤمناً وأدنى ما يكون به العبد كافراً وأدنى ما يكون به العبد ضالاً ، فقال له : قد سألت فافهم الجواب : أما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة ويعرفه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقر له بالطاعة ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة .... قلت يا أمير المؤمنين : صفهم لي ، قال : الذين قرنهم الله تعالى بنفسه وبنبيه ، فقال : يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم ، فقلت له جعلني الله فداك أوضح لي. فقال : الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواضع وفي آخر خطبة يوم قبضه الله عزوجل إليه :

إنّي تَرَكتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلّوا بَعْدِي إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما كِتابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتي.

فنرى في هذه الرواية الرابطة الوثيقة بين حديث الثقلين واولي الأمر.

٢ ـ ينقل أبو بكر المؤمن الشيرازي عن ابن عبّاس قوله :

«إن هذه الآية [آية الإطاعة] نزلت في علي عليه‌السلام حيث خلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة (في غزوة تبوك) فقال يا رسول الله : أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أَما تَرْضى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزَلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى ، حِينَ قالَ : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ، فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ وَاولُوا الْامْرِ مِنْكُمْ». (١)

يعني أن الآية الشريفة ناظرة إلى عملك وسعيك وأنت مصداق اولي الأمر.

والنتيجة هي أن الآية الشريفة مع قطع النظر عن الروايات تدلُّ على أن اولي الأمر يجب أن يتحدد بمصداق معيّن ومعصوم ومنصوب من قبل الله تعالى ، وكذلك يفهم من خلال الروايات الشريفة أن المراد هو فرد معيّن ومنصوب بالنصب الإلهي ، وهم الأئمّة الاثنا عشر ، أي الإمام عليّ وأحد عشر من ذرّيته وأبنائه الطاهرين.

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٤٢٥.

٨٩

أسئلة وأجوبة

هناك أسئلة وعلامات استفهام عديدة قد تثار حول مدلول هذه الآية الشريفة وأهمها ثلاثة أسئلة :

السؤال الأوّل : إذا كان الإمام عليّ عليه‌السلام هو مصداق اولي الأمر كما يقول الشيعة إذن فلما ذا لم تكن إطاعته واجبة في زمان حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حين أن الآية الشريفة تقرر وجوب إطاعة اولو الأمر كما هو الحال في وجوب إطاعة الله ورسوله؟

وبعبارة اخرى أن الإمام عليّ عليه‌السلام كان في عصر النبي مأموراً أيضاً ولم يكن آمراً وقائداً تجب إطاعته على المسلمين ، وعليه فإنّ التفسير المذكور للآية لا ينسجم مع وجوب الإطاعة الفعلي لُاولي الأمر.

الجواب : ويمكن الجواب عن هذا السؤال بنحوين :

ألف) لا بدّ في البداية من معرفة المراد من «الرسول» و «اولو الأمر» ، فلو فهمنا الفرق بين هاتين الكلمتين سيتضح لنا الجواب على السؤال أعلاه ، «الرسول» هو الشخص المرسل من قبل الله تعالى لبيان أحكامه وإبلاغ دينه وإنذار الناس ، أي أنه مضافاً إلى «النبوّة» وتبليغ الأحكام فإنه مرسل لإنذار الناس من العذاب الإلهي وببيان أوضح أن الرسول هو الشخص المأمور لبيان الأحكام وتبليغ الرسالة.

وأمّا «اولو الأمر» فلا يتحملون مسئولية التقرير والتشريع بل مسئولية حراسة هذا القانون وتجسيده على مستوى الواقع الاجتماعي ، وبعبارة أوضح يمكن القول أن «النبي» يمكن تشبيهه بالمشرّع والمقنن ، بينما «اولو الأمر» هم القائمون على تنفيذ وإجراء هذه القوانين.

ومع الالتفات إلى هذا البيان فإنّ المقنن في زمن الرسول هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك كان النبي الأكرم مسئولاً عن تنفيذ القانون وإجرائه في الوسط الاجتماعي ، وعلى هذا الأساس ففي زمن حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولاً وفي نفس الوقت «ولي الأمر» أيضاً كما في مورد النبي إبراهيم عليه‌السلام أيضاً حيث يقرر القرآن الكريم هذه الحقيقة وهو أنه قد نال مقام الإمامة مضافاً إلى مقام النبوّة ، أي أنه مضافاً إلى مرتبة التشريع والتقنين نال مرتبة

٩٠

مسئولية إجراء القانون ، إذن فمقام الرسالة هو مقام التقنين ، ومقام الإمامة واولوا الأمر هو مقام إجراء القانون ، وفي زمن حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان النبي «رسولاً» و «ولي الأمر» ولكن بعد رحلت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الشخص المعصوم المنصوب من قبل الله تعالى ورسوله هو المعني ب «اولي الأمر» ولم يكن ذلك إلّا الإمام علي عليه‌السلام ومن بعده سائر الأئمّة المعصومين واحداً بعد الآخر ، لأنه لم يرد ادعاء النصب الإلهي لهذا المقام إلّا للإمام علي وذريته الطاهرين.

والنتيجة هو أن ادّعاء فعلية الإطاعة لا يضر بتطبيق كلمة «اولو الأمر» على الإمام علي عليه‌السلام بعد رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أبنائه الطاهرين بعد رحلة الإمام علي عليه‌السلام كما هو المستفاد من الأحاديث الشريفة.

ب) أما الجواب الآخر فهو أن الإمام علي عليه‌السلام كان في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً من اولي الأمر ، وعلى الأقل في فترة معيّنة من حياته الشريفة ، وذلك عند ما توجه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غزوة تبوك وأبقى الإمام علي عليه‌السلام على المدينة بعنوان خليفته. ولتوضيح المطلب أكثر لا بدّ من إلقاء بعض الضوء على واقعة تبوك :

غزوة تبوك

إن هذه الغزوة هي آخر غزوة من غزوات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة فترة رسالته حيث وقعت أحداثها في السنة الأخيرة من سنوات عمره الشريف ، ومكانها يقع في أعلى نقطة من منطقة الحجاز وفي الحدود المشتركة بين الجزيرة العربية والروم الشرقية.

عند ما اتسعت رقعة الإسلام واستحكمت دعائمه في المدينة وانتشر خبره في أرجاء المعمورة أحست الدول المجاورة لدولة الإسلام ومنها الروم الشرقية «سورية وفلسطين» بالخطر من هذه الدعوة الجديدة وفكروا في الهجوم على المسلمين لصد هذا الخطر الذي يهدد عروشهم وتيجانهم (١) ولذلك أقدم الروم على تشكيل جيش مقداره أربعين ألف

__________________

(١) لم تكن بلاد الحجاز مطمعاً للدول الكبيرة في ذلك الزمان ، لأنها لم تكن تشكل خطراً مهماً من جهة سكّانها ولا يوجد فيها موارد اقتصادية مهمة ولا حضارة متفوقة ، بل كان أهل الحجاز نصف متوحشين حيث يعيشون

٩١

جندي بكامل العدّة والعدد وتحركوا باتجاه الحجاز.

وعند ما وصل هذا الخبر إلى المسلمين وإلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بأن يستعدوا لمواجهة هذا العدو وبالتحرك باتجاهه ولا يجلسوا في المدينة بانتظار قدومه ، وكانت هذه الاستراتيجية العسكرية مناسبة جدّاً لهذه الواقعة لأنه ليس من المناسب التقعقع في حالة دفاعية وانفعالية اتجاه هذا الخطر بل ينبغي أن يقابل هذا الهجوم بهجوم آخر.

واتفق في زمن وقوع هذه الحرب أنها كانت في أجواءٍ صعبة وغير مناسبة لأنها من جهة كانت حرارة الصيف على أشدها في الحجاز ، ومن جهة اخرى فإن المحصولات الزراعية لهذه السنة على وشك النضج وقد فرغت المخازن الغذائية للسنة الماضية لدى المسلمين ، ومن جهة ثالثة فإنّ الفاصل بين المدينة ومنطقة تبوك فاصلة كبيرة جداً حيث ينبغي على المسلمين طي هذا المسير مشياً على الأقدام غالباً لأنه لم يكن لكلّ عشرة أشخاص سوى مركب واحد ، وعلى هذا الأساس عليهم أن يتناوبوا في الركوب ، وعلى أية حال فقد صدر الأمر بالتوجه إلى منطقة تبوك فجمعوا ما تبقى لديهم من الأغذية من قبيل بعض التمر اليابس وقد يكون فاسداً أيضاً وتوجه المسلمون بجيش بلغ مقداره ثلاثين ألف شخص بقيادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك. وكان العطش والجوع يلم بجيش الإسلام وقد تورمت أقدام الكثير منهم بسبب المشي في الصحراء المحرقة ولكنهم وبالرغم من هذه الصعاب والمشاكل استمروا في طريقهم وقد تحمل جنود الإسلام في ذهابهم وإيابهم الكثير من الصعاب وواجهوا تحديات الواقع المفروض عليهم ولهذا سمّي هذا الجيش ب «جيش العسرة» (١).

__________________

الحروب الدائمة بينهم ، فلم تكن والحال هذه تشكل خطراً على البلدان المجاورة ، فحتّى لو اعطيت الحجاز مجاناً إلى البلدان الاخرى لم تقبل بها ، ولهذا كانت بعيدة عن أهداف الحكومات الاستعمارية ، ولكن مع ظهور الإسلام واتحاد القبائل العربية فيما بينها تحت لواء الإسلام وظهور حضارة جديدة ، أحسّ الأعداء بالخطر.

(١) بدون شك لو لا تلك الاستقامة والصبر من المسلمين في تلك الواقعة لم يكن الإسلام يصل إلينا بالتأكيد. ولهذا لا ينبغي التساهل في أمر حفظ هذا الدين لأنه لم يصل إلينا بيسر.

٩٢

وعند ما وصل الخبر إلى جيش الروم بأن جيش المسلمين الذي يبلغ ثلاثين ألف نفر قادم إليهم من المدينة وبأقل مقدار من الإمكانات العسكرية ومشياً على الأقدام وبقلوب مليئة بالعشق إلى الجهاد ضد أعداء الله عزموا على العودة والتراجع. حيث أصدر «أي القيصر» ملك الشام الأمر بذلك ، وعند ما وصل المسلمون إلى تبوك علموا بفرار العدو وتراجعه وشكروا الله على هذا التوفيق العظيم.

ثمّ إن النبي الأكرم استشار أصحابه بالنسبة إلى الرجوع إلى المدينة أو مواصلة الطريق والهجوم على العدو في الشام ، وكانت نتيجة الشورى هي التصميم على العودة إلى المدينة لأن الإسلام لم يزل في بداياته ولم تكن للمسلمين القدرة الكافية والتجربة الوافية لفتح البلدان والمناطق الاخرى ، وعلى هذا الأساس كان هذا الاقدام العسكري في غاية الخطورة بالنسبة إلى الدولة الإسلامية الفتية.

وبملاحظة ما تقدّم فإن غزوة تبوك كانت تختلف تماماً عن غزوات الإسلام الاخرى «وخاصّة لطول مدّة عدم حضور النبيّ والمسلمين في المدينة وبُعد المسافة بين المدينة وتبوك» فكان من المحتمل جداً أن يتآمر المنافقون في المدينة بالتوافق مع الأعداء خارج المدينة ، ولهذا كان من المفروض أن يخلف النبي الأكرم أقوى وأشجع المسلمين ليحفظ دار الإسلام وعاصمة البلد الإسلامي من شر الأعداء ومؤامرات المنافقين المحتملة ، ولم يكن هذا الشخص سوى الإمام علي عليه‌السلام ولهذا فإن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عينه على المدينة كما تقدّم في رواية أبي بكر المؤمن الشيرازي المتقدّمة بعنوان أنه اولو الأمر.

وعلى هذا الأساس فإن الإمام علي عليه‌السلام كان يتصف بصفة «اولو الأمر» حتّى في زمان النبي الأكرم رغم أن ذلك كان بشكل مؤقت فكانت طاعته مترادفة مع إطاعة الله ورسوله وواجبة على المسلمين في المدينة ، وعليه فإن هذا الإشكال أي إشكال فعلية الإطاعة في الآية الشريفة يتضح جوابه ممّا تقدّم بيانه.

السؤال الثاني : إن كلمة «اولو الأمر» تدلّ على الجمع والإمام عليّ شخص واحد ، فهل المراد من «اولو الأمر» هو الإمام علي لوحده؟

الجواب : صحيح أن كلمة «اولو الأمر» صيغة للجمع ولكن المراد ليس هو الإمام عليّ

٩٣

فقط بل تشمل جميع الأئمّة الاثنا عشر للشيعة الذين يقول بهم الشيعة كما ورد ذلك في حديث الثقلين بعنوان «عترتي أهل بيتي» حيث لا تختص بالإمام علي بل تشمل جميع الأئمّة المعصومين.

والشاهد على هذا الكلام الرواية التي وردت آنفاً في «ينابيع المودّة» حيث ذكر فيها أن اولو الأمر هم المقصودين من حديث الثقلين وقلنا أن المراد من «عترتي أهل بيتي» في حديث الثقلين هم جميع الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

والنتيجة هي أن المراد من اولي الأمر جميع الأئمّة الاثنا عشر كلّ واحد في زمانه الخاصّ حيث يجب إطاعته بدون قيد أو شرط على جميع المسلمين.

السؤال الثالث : لما ذا لم تتكرر كلمة «اولو الأمر» في ذيل الآية بحيث يرجع إليهم المسلمون في حلّ اختلافهم ومشاكلهم؟

الجواب : أوّلاً : إن هذا الإشكال لا يرد على الشيعة بالخصوص بل على أهل السنّة أيضاً لأنهم بأي معنى فسّروا كلمة «اولو الأمر» فهذا الإشكال وارد عليهم.

ثانياً : إنّ علّت عدم تكرار «اولو الأمر» في المقطع النهائي من الآية الشريفة هو ما تقدّم من الفرق بين «الرسول» و «اولو الأمر» فالرسول هو المسئول عن تقنين الشريعة و «اولو الأمر» هم المسئولون عن تنفيذ هذه القوانين ، ومن الواضح أنه إذا حصل شك لدى أحد الأشخاص في الحكم الإلهي لزم أن يراجع المقنن لا المنفذ للحكم.

وعليه فإن عدم تكرار هذه الكلمة لا يعدُّ نقصاً في مفهوم الآية الشريفة بل يؤكد بلاغة القرآن الكريم وفصاحته المدهشة.

والجدير بالذكر أن الأئمّة المعصومين بأجمعهم هم القائمون على تنفيذ قوانين الإسلام ، ولو تحركوا من موقع بيان أحكام الإسلام وتشريعاته فإن ذلك مقتبس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قطعاً.

وهناك روايات وردت في «جامع أحاديث الشيعة» المجلد الأوّل ، الصفحة ١٨٣ تقرر أن أئمّة الهدى عليهم‌السلام قد أخذوا جميع علومهم في مجال الأحكام الشرعية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والنتيجة هي أن «اولي الأمر» لا تعني الأشخاص الذين يتولون تقنين الأحكام

٩٤

وتشريعها بل بمعنى القيام على تنفيذها والعمل على إجراء القانون الإلهي ، ولهذا لا داعي لذكره مرّة اخرى في الآية الشريفة.

توصيات الآية

١ ـ إنّ أهم توصية في الآية الشريفة هي أن المسلمين يجب أن يذعنوا تماماً في مقابل الأحكام الإسلامية ويعملوا بالتكاليف الإلهية ويطيعوا الله ورسوله بدون سؤال وترديد ، ولا ينبغي لهم أن يختاروا ما هو الملائم لمزاجهم والمتناغم مع أهوائهم من هذه الأحكام ليعملوا به ويتركوا الباقي بل عليهم أن يتحركوا في خط الطاعة والرسالة ولو كان على خلاف ميولهم ورغباتهم فإنّ مثل هذا الشخص هو المؤمن الحقيقي والمسلم الواقعي.

ويحدّثنا القرآن الكريم بعبارة شيقة في الآية ٦٥ من سورة النساء في هذا الصدد :

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

هذه الآية الشريفة بإمكانها أن تكون معياراً جيداً ودقيقاً لتشخيص مقدار حالة التسليم والإذعان في واقع الإنسان ، وطبقاً لهذه الآية الشريفة فإن المسلم الواقعي هو الذي يتحرك من موقع التسليم لحكم النبي حتّى وإن كان على خلاف مصلحته ورغبته فلا يكتفي فقط بعدم إظهار الانزعاج والتبرم بل ينبغي أن يشعر بالرضا والتسليم في قلبه وأعماق نفسه ، أي أنه يسلم نفسه لله تعالى في العمل والقول والعواطف القلبية وإلّا فإنه لو أحسّ بالتبرم في نفسه من أحكام الإسلام فإن ذلك يدلّ على أنه لن يحقق الإسلام الواقعي في وجوده ، لأن المسلم الواقعي يجب أن يرضى بما رضي به الله ورسوله لا بما ترضى به نفسه وأهواءه.

الإمام علي عليه‌السلام يقول في حديثٍ جميل :

لَأنْسُبَنَّ الْاسْلامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْها أَحَدٌ قَبْلي : الْاسْلامُ هُوَ التَّسْلِيمُ ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقينُ ، وَالْيقينُ هُوَ التَّصْدِيقُ ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْإقرارُ ، والْإقرارُ هُوَ الأَداءُ ، وَالأَداءُ هُوَ الْعَمَلُ. (١)

__________________

(١) نهج البلاغة : الكلمات القصار ، الكلمة ١٢٥.

٩٥

فطبقاً لهذا الحديث الشريف فإنّ الإسلام يبدأ من واقع الإنسان وقلبه ثمّ يطوي المراحل المختلفة ليصل إلى مرحلة العمل والممارسة ، أي أن الإسلام بدون الاعتقاد القلبي وبمجرد أداء بعض التكاليف والعبادات لا يكفي في تحقق الغرض كما أن الاعتقادات لوحدها لا تكفي من دون أداء العبادات والتكاليف العملية وعليه فإنّ الإسلام هو مجموعة من الاعتقادات والأعمال الأخلاقية والدينية.

٢ ـ كلمة «أمر» تدلّ على مفهوم إيجابي واسع ، ففي هذه الكلمة تكمن القدرة والقوّة ، وهذا يعني أن «اولو الأمر» يجب أن يتحركوا مع الناس من موقع القدرة والقوّة والحكومة لا أنهم يطلبون هذا المقام ويمارسون نشاطاتهم بالتوسل وحالة الاستعطاف من الناس ، وهذا المعنى وارد أيضاً في كلمة «الأمر بالمعروف» فإنّ الأمر هنا يجب أن يكون من موقع القدرة ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن موقع القدرة لا يتنافى مع استخدام اسلوب المرونة والمداراة مع الناس لتحقيق المعروف وكما ورد في القصة المعروفة عن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام حيث تقول الرواية : «ومن حلمه ما روي عن الكامل للمبرّد وغيره أنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلما فرغ أقبل الحسن فسلّم عليه وضحك فقال : أيها الشيخ أظنك غريباً ولعلّك تشبّهت ، فلو استعتبتنا أعتبناك ، ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا أحملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عرياناً كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك ، وان كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً. فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ، ثمّ قال : أشهد انّك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم» (١).

القارئ المحترم يدرك جيداً أن الفاصلة بين أفضل الناس على الأرض وأشر الناس كم هي كبيرة ، ولكن الإمام الحسن عليه‌السلام باتخاذه هذا الاسلوب السليم والأخلاقي في عملية

__________________

(١) منتهى الآمال : ج ١ ، ص ٤١٧.

٩٦

الأمر بالمعروف قد قطع كلّ هذه المسافة الشاسعة.

ونحن أيضاً يجب علينا الاستفادة من هذا الدرس الكبير والالتفات إلى أن المخالفين على قسمين :

١ ـ الأشخاص الذين وقعوا تحت تأثير الإعلام المسموم والدعايات المغرضة فصدرت منهم ممارسات شائنة وكلمات لا مسئولة ، فهؤلاء يجب التعامل معهم بالاسلوب اللين لهدايتهم كما هو الحال في هذا الرجل الشامي الذي وقع تحت تأثير دعايات بني امية المضللة وأصبح من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، وكما رأينا أن الإمام الحسن قد جذبه إلى الحقّ وهداه إلى الدين بأخلاقه الحميدة.

٢ ـ الأشرار المعاندون الذين يعاندون طريق الحقّ ويبغضون أهل الحقّ عن علم ودراية ، فهؤلاء لا معنى للتساهل والتسامح في التعامل معهم بل ينبغي التعامل معهم من موقع القدرة والشدّة.

إن معرفة الأشخاص وتشخيص هذين القسمين ثمّ التعامل مع كلّ طائفة بما ينبغي التعامل معها عمل دقيق ويستلزم الكثير من الدقّة والتدبّر.

ربنا! وفقنا إلى نيل التسليم الكامل في مقابل أحكامك وأوامرك ووفقنا لأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقدّسة كما يريد منّا الإسلام.

٩٧
٩٨

آية الصادقين ٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

«سورة التوبة / الآية ١١٩»

أبعاد البحث

إنّ الآية أعلاه تسمّى ب «آية الصادقين» ، وهي إحدى الآيات المتعلقة بمسألة الولاية والإمامة الواردة في شأن الإمام عليّ والأئمّة الأحد عشر من أولاده المعصومين عليهم‌السلام ، ففي هذه الآية الشريفة يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين باتباع «الصادقين» فمن هم هؤلاء الصادقون؟ وما هي خصوصياتهم وعلاماتهم؟

معرفة إجمالية لسورة التوبة

من الضروري أن نتعرف على سورة التوبة بصورة إجمالية لتتضح جيداً أجواء نزول آية الصادقين الواردة ضمن هذه السورة ، ولأجل ذلك لا بدّ من بيان عدّة امور :

ألف) أسماء السورة وعلة تسميتها

هذه السورة لها اسمان متباينان «التوبة» و «براءة» والسبب في تسميتها «براءة» أن هذه السورة تبدأ بهذه الكلمة «براءة» مضافاً إلى أن هذه السورة تتضمن إعلان البراءة من المشركين وأعداء الإسلام.

٩٩

ولهذا السبب فهذه السورة لم تبدأ ب «بسم الله الرحمن الرحيم» التي تتضمن الرحمة والرحمانية والحنان واللطف.

وأمّا سبب تسمية هذه السورة ب «التوبة» فهو أن الكثير من آيات هذه السورة تدعو الناس للتوبة والعودة إلى الله تعالى ، أي أنها على الرغم من إعلانها الحرب على الكافرين والبراءة من المشركين وشرارات الحرب تملأ أجواء هذه الآية فإنّ آيات هذه السورة تتضمن كذلك مفهوم التوبة بصورة واسعة بحيث إنها بعد إعلان البراءة من المشركين تقول قبل نهاية الآية الخامسة (١) من هذه السورة :

(... فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

أي بالرغم من أن الكفّار والمشركين قد تآمروا كثيراً على الإسلام والمسلمين وارتكبوا جرائم كثيرة ولكنهم لو تابوا وتمسّكوا بتعاليم الإسلام فإنّ توبتهم ستكون مقبولة.

والسبب في أن لهذه السورة اسمين متضادين هو كثرة الآيات التي تشير إلى التوبة ضمن الآيات التي تعلن الحرب والبراءة من الأعداء والمشركين ولعلّ ذلك لغرض بيان هذه الحقيقة ، وهي أن الإسلام لم يغلق باب العودة وخط الرجعة على المذنبين والمجرمين حتّى في حال الحرب والقتال مع المسلمين فإنّ الإسلام لا يقصد الانتقام منهم بل يهدف من تعاليمه حتّى من إقامة الحرب إصلاح الناس ، ولهذا فلو أن الأعداء رغبوا في التوبة في أثناء الحرب وأظهروا عملاً التزامهم بالتوبة فإنّ الإسلام سوف يرفع عنهم حكم القتل بل سيتحرك نحو حمايتهم وتأييدهم.

وبعبارة اخرى إنّ تركيب الآيات لهذه السورة واختيار اسمين لها ، يشير إلى حقيقة مهمة على المستوى التربوي للناس وهي :

إنّ الإنسان يحتاج في عملية التعليم والتربية إلى عنصر الخشونة والمداراة سويةً ، فلو اتخذت الحكومة في تعاملها مع الناس اسلوب الخشونة لأدى ذلك إلى نفور الناس وتفرقهم ، ولو تحدّثت الحكومة معهم من موقع المداراة واللطف فقط لأساء المجرمون والذين في قلوبهم

__________________

(١) بل إن مسألة التوبة وردت قبل هذه الآية أي في الآية الثانية.

١٠٠