آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

ولكنّ بعض المفسّرين من أهل السنّة قالوا بأنّ «إنّما» في الآية لا تدلّ على الحصر لأن في القرآن آية اخرى أيضاً وردت فيها كلمة «إنّما» وليس لها دلالة على الحصر. وهي الآية الشريفة ٢٠ من سورة الحديد حيث يقول الله تعالى :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ...)

فهنا نرى أنّ كلمة «أنّما» في الآية أعلاه لا تدلّ على الحصر لأننا نعلم أن الحياة الدنيا لا تنحصر في هذه الموارد المذكورة في الآية الشريفة بل تشمل لذاّت اخرى وعبادات ونشاطات وتحصيل علم وغير ذلك من الامور ، وعليه فكما أنّ كلمة «أنّما» في هذه الآية لا تدلّ على الحصر فكذلك في آية الولاية لا تدلّ على الحصر ، فالاستدلال بهذه الآية على المطلوب ناقص.

الجواب : هذا الإشكال من جملة الإشكالات الواهية التي لا تقوم على أساسٍ متين لأننا نعتقد بأنه :

أوّلاً : إنّ كلمة «إنّما» في هذه الآية أيضاً وردت بمعنى الحصر ، فالدنيا في نظر الإنسان المؤمن والعارف ليست في حقيقتها سوى اللهو واللعب وأمثال ذلك ، وقد يتصور الإنسان المتورط في حبائل الدنيا اموراً اخرى في هذه الدنيا ولكن لو نظر بعين الحقيقة لرأى أنّ جميع أشكال الحكومات والمقامات الدنيوية والقصور الفخمة وأمثالها من مظاهر الدنيا ليست سوى لهو ولعب حيث يلهو بها أبناء الدنيا.

ثانياً : وعلى فرض أنّ كلمة «إنما» هنا لم ترد في معناها الحقيقي فهذا لا يدلّ على أنّ الموارد الاخرى في استعمال هذه الكلمة تحمل على غير معناها الحقيقي.

والنتيجة هي أنّ كلمة «إنّما» الواردة في الآية الشريفة تدلّ على الحصر بلا شكّ والاستدلال بهذه الآية كامل.

الإشكال الثاني : إعطاء الخاتم فعل كثير مبطل للصلاة

أمّا الإشكال الثاني الذي ذكره بعض المفسّرين من أهل السنّة فهو أننا سلّمنا أن الآية

٦١

الشريفة نزلت في شأن الإمام عليّ عليه‌السلام ولكن القيام بهذا الفعل من قبل عليّ بن أبي طالب في الصلاة «إنّما هو فعل كثير» والفعل الكثير يؤدي إلى بطلان الصلاة فهل يعقل أن الإمام علي عليه‌السلام يتصرف في صلاته بما يؤدي إلى بطلان الصلاة.

الجواب : أوّلاً : إن فعل الكثير كما هو الظاهر من هذه الكلمة يطلق على أداء أعمال كثيرة لا ربط لها بالصلاة بحيث تهدم هيئة الصلاة للمصلّي كأن يقوم شخص في أثناء الصلاة وبسبب سماعه لخبر مفرح بالتصفيق والقفز ويمتلكه الهياج وأمثال ذلك ، وأما أن يشير إلى السائل والمسكين ليأخذ خاتمه من يده بحيث إنّ الإمام نفسه لم يخرج الخاتم من يده ، فهل يقع ذلك في دائرة «الفعل الكثير» (١)؟

كيف يكون مثل هذا العمل فعلاً كثيراً في حين أنّ الروايات الشريفة تبيح للمصلّي بأن يغسل أنفه فيما لو خرج الدم منه بالماء في أثناء الصلاة ويستمر في صلاته؟ ولو أنه واجه حيواناً خطراً على مقربة منه جاز له قتله والاستمرار في الصلاة.

هل هذه الأفعال ليست بأفعال كثيرة ولكن الإشارة هي فعل كثير؟

ثانياً : إنّ أمثال هذه الحجج والمعاذير ترد على الله أيضاً لأن الله تعالى مدح الإمام عليّ عليه‌السلام في هذه الآية على عمله ، فلو كان ذلك العمل باعثاً على بطلان الصلاة فهل أن الله تعالى يمدحه ويثني عليه وينزل في حقّه آية من القرآن؟!

النتيجة هي أن هذا الإشكال بمثابة ذريعة وتبرير نابع من التعصّب واللجاجة لا أكثر.

الإشكال الثالث : الخاتم الثمين

طبقاً لبعض الروايات أن ذلك الخاتم كان ثميناً جداً حتّى أنه ورد أن ثمنه يعادل خراج منطقة بكاملها مثل الشام ، ألا يعتبر تملك مثل هذا الخاتم الثمين من قبل عليّ بن أبي طالب من الإسراف المحرّم؟

أمّا جواب هذه الشبهة فواضح لأنه :

__________________

(١) وقد اعترف الزمخشري في تفسيره «الكشاف» : ج ١ ، ص ٦٤٩ أن هذا العمل ليس من الفعل الكثير.

٦٢

أوّلاً : لم يرد هذا المطلب في أيّة رواية معتبرة بل الظاهر أن الخاتم المذكور لم يكن سوى خاتماً عادياً لأنه لم يتم للمسلمين في ذلك الزمان فتح ايران والشام وأمثال ذلك ولم تصل مثل هذه الثروات الكبيرة إلى أيدي المسلمين بل الفتوحات المذكورة حدثت بعد رحلة الرسول وفي عصر الخلفاء ، مضافاً إلى أن الإمام علي عليه‌السلام الذي كان طعامه في أيّام حكومته وخلافته بسيطاً إلى درجة أنه لا يأكل سوى من ادام واحد والغالب انه كان يكتفي بقرص الشعير ويلبس الثياب البسيطة من الكرباس والليف فكيف يعقل أن يمتلك مثل هذا الخاتم الثمين؟!

وعلى هذا الأساس فلا شكّ في ضعف الرواية التي لا تنسجم مع روايات الباب ولا مع سيرة الإمام علي عليه‌السلام ولا تتناغم مع أجواء تاريخ النزول ، ولذلك فانها قد وضعت تحت ظروف خاصّة.

ثانياً : كيف يعقل أن يمتلك الإمام علي مثل هذا الخاتم الثمين بحيث يدخل في باب الإسراف المحرم ثمّ يتصدّق به في سبيل الله وينال الثناء الإلهي؟ وعليه فإنّ المستفاد مما ورد من المدح والثناء في هذه الآية الشريفة على هذا العمل كذب هذه الرواية وزيفها وأنها وضعت لتحقيق أغراض معيّنة.

الإشكال الرابع : إنّ هذا العمل لا ينسجم مع حضور القلب

بما أن الإمام علي عليه‌السلام كان عند ما يصلّي خاصّة يتوجه إلى الله تعالى بكلّ قلبه ويغرق في صفات جلاله وجماله ولا يكون له التفاتٌ إلى غيره أبداً بحيث إنهم كانوا يخرجون السهام من بدنه الشريف في حال الصلاة (١) ولم يكن يتسنى لهم ذلك في الحالات العادية لصعوبته وشدّة ألمه ، فمثل هذا الإنسان العارف والمتعلق بالله تعالى إلى هذه الدرجة كيف يلتفت أثناء الصلاة إلى كلام السائل ويتصدّق عليه في حال الركوع بالخاتم؟ والخلاصة أن هذه المسألة تتنافى مع حضور القلب في الصلاة لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

__________________

(١) ذكرنا تفاصيل هذه الحادثة مع وثائقها المعتبرة في كتاب «١١٠ قصة من سيرة الإمام علي عليه‌السلام).

٦٣

الجواب : أوّلاً : إن السائل بعد أن تملكه اليأس من الحصول على مساعدة الأصحاب توجه إلى الله تعالى بالشكاية وشرع بالقول «اللهُمَّ أشهد ....» وعليه فإنّ هذا الكلام وذكر اسم الله ألفت نظر الإمام عليّ إلى وجود السائل ، وهذا لا يتقاطع مع حضور قلبه واستغراقه في عالم العبودية في الصلاة.

مضافاً إلى ذلك ألا يعقل أن يسمع المأموم في صلاة الجماعة صوت المكبّر أو صوت الإمام ليتابعه في أعمال الصلاة؟ إذا لم يكن يسمع ذلك فكيف يمكنه الاقتداء به في الصلاة؟ وإذا كان يسمع فهل يعني هذا أن حضور القلب غير ممكن في كلّ صلاة جماعة؟

ثانياً : هل أن سماع صوت السائل الذي ورد التعبير عنه في الرواية الشريفة بأنه رسول من الله فيه إشكال؟ إن سماع صوت الرسول الإلهي كيف يتقاطع مع حضور القلب في الصلاة؟ (١)

ثالثاً : ألا يكون سماع صوت المظلوم وحل مشكلته حتّى في أثناء الصلاة من العبادة؟ (٢) فلو كان هذا العمل عبادة فالإمام عليّ عليه‌السلام قد يستغرق في هذه العبادة ويأتي بها من دون أن يكون هناك إشكال في البين بل هي عبادة ضمن عبادة.

أمّا ما يمكن أن يكون محل إشكال هو التوجّه إلى النفس والذات الفردية أثناء العبادة والصلاة ، وأمّا التوجّه إلى المظلوم وقضاء حاجته الذي يعد في نفسه عبادة فلا إشكال فيه.

والنتيجة هي أن هذا الإشكال مردود أيضاً ، وفي الحقيقة أن هدف المغرضين من طرح هذا الإشكال والإشكالات الاخرى هو تهميش هذا العمل وتضعيف دلالة الآية الشريفة على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام.

__________________

(١) ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إن المسكين رسول الله إليكم فمن منعه فقد منع الله ، ومن أعطاه فقد أعطى الله» (وسائل الشيعة : ج ٦ ، أبواب الصدقة ، باب ٢٢ ، ح ١١).

(٢) هناك روايات كثيرة في فضيلة الصدقة وآثارها ، منها ما ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «لأن أحج حجّة أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة ورقبة حتّى انتهى إلى عشر ومثلها حتّى انتهى إلى سبعين ، ولأن أعول أهل بيت من المسلمين اشبع جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة حتّى انتهى إلى عشر ومثلها حتّى انتهى إلى سبعين. (وسائل الشيعة : ج ٦ ، أبواب الصدقة ، الباب ٢ ، ح ٣).

٦٤

الإشكال الخامس : لما ذا تعود الضمائر في الآية إلى الجمع؟

وكما تقدّم في الآية الشريفة أنها تقرر الولاية لثلاث طوائف ، وفي الثالثة تعود الضمائر في الأفعال واسم الموصول إلى الجمع كما في قوله :

١ ـ الَّذين ٢ ـ آمنوا ٣ ـ الّذين ٤ ـ يقيمون ٥ ـ يؤتون ٦ ـ هم ٧ ـ راكعون.

فالكلمات السبعة المذكورة في الآية تتناسب مع الجمع ، ومعنى هذه الكلمات هي أن هناك أشخاصاً متعددين قد تصدّقوا على الفقير في حال الركوع في حين أن جميع الروايات تذكر الإمام عليّ عليه‌السلام فقط كمصداق للآية الشريفة حيث تصدّق بخاتمه على الفقير في حال الركوع وبالالتفات إلى هذا المطلب فهل هناك روايات اخرى وردت في شأن نزول الآية الشريفة تتناغم مع أجواء الآية؟ ومن الواضح أنه لو كان هناك اختلاف وتباين بين الآية الشريفة والروايات التي تتحدّث في شأن نزولها فلا بدّ من الإعراض عن الرواية أو الروايات والعمل بمضمون الآية الشريفة. إذن فالتعارض المذكور بين الآية الشريفة والروايات المذكورة يتسبب في عدم اعتبار هذه الروايات.

الجواب : إنّ العلماء والمفسّرين من أهل السنّة قد أجابوا على هذا الإشكال فالفخر الرازي يقول في الجواب على هذا السؤال :

«إنّ الجمع يطلق أحياناً على المفرد للاحترام وعلى سبيل التعظيم والآية مورد البحث من هذا القبيل» (١).

ويذكر الآلوسي في روح المعاني جواباً آخر ويقول :

«قد يستعمل الجمع في المفرد لبيان عظمة الشخص تارة ، ولبيان عظمة العمل اخرى ، وهذا مشهور في لغة العرب ولكن بما أن هذا الاستعمال على سبيل المجاز فيحتاج إلى قرينة» (٢).

وأمّا جوابنا على هذا السؤال فهو :

أوّلاً : أنه كما رأينا أن استعمال صيغة الجمع بدل المفرد قد يكون متداولاً لبيان احترام

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ١٢ ، ص ٢٨.

(٢) روح المعاني : ج ٦ ، ص ١٦٧.

٦٥

المخاطب وبيان عظمته ، وفي الآية مورد البحث قد ورد مثل هذا الاستعمال في سياقها والقرينة على مجازية هذا الاستعمال الوارد في الآية هو أن أيّ واحد من العلماء حتّى المتعصبين من أهل السنّة لا يرون غير الإمام علي عليه‌السلام مصداقاً لها والذي تصدّق بخاتمه في حال الركوع ، وهذا هو أفضل قرينة على استعمال لفظ الجمع في مورد المفرد.

ثانياً : هناك موارد كثيرة وردت في القرآن الكريم واستعملت فيها صيغة الجمع للمفرد ، وكمثال على ذلك نكتفي بذكر سبعة موارد منها :

١ ـ نقرأ في الآية ٢١٥ من سورة البقرة قوله تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

ففي هذه الآية الشريفة وردت جملة «يسألونك ، ينفقون ، انفقتم وما تفعلوا» بصورة الجمع ، وفي البداية يظهر من الآية أن جماعة من المسلمين طرحوا السؤال المذكور ولكن طبقاً لشأن نزول الآية فلم يكن السائل سوى شخص واحد واسمه «عمرو بن جموح» (١) الذي كان رجلاً ثرياً ، وعليه ففي هذه الآية الشريفة ورد لفظ الجمع واستعمل في المفرد إما على أساس بيان عظمة هذا العمل وهو الانفاق أو بيان الاحترام للسائل وهو عمرو بن جموح.

ملاحظة : إنّ الموضوع الملفت للنظر في هذه الآية الشريفة هو أن الله تعالى في مقام جوابه على سؤال عمرو بن جموح ذكر مطلباً آخر لأن عمرو سأل عن نوع المال الذي يجب انفاقه ، والله تعالى تحدّث عن الأشخاص الذين يجب الإنفاق عليهم ، فعليه فمثل هذا الجواب يبين أهمية مصرف الإنفاق وأن الإنسان يجب أن يهتم بالدرجة الاولى بأبيه وامّه وأقربائه ثمّ يتوجّه إلى الآخرين في عملية الإنفاق.

٢ ـ يقول سبحان وتعالى في الآية ٢٧٤ من سورة البقرة :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٢٥٧.

٦٦

ففي هذه الآية الشريفة نقرأ عبارات من قبيل «الّذين ، ينفقون ، أموالهم ، فلهم ، أجرهم ، ربّهم ، عليهم ، هم ، يحزنون» فكلّها جاءت بصيغة الجمع ولكنّ الكثير من المفسّرين قالوا بأن المراد منها هو الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي كان ينفق بالليل والنهار وسرّاً وعلانيةً ، وطبقاً لرواية واردة في هذا المجال أن الإمام كان يمتلك أربعة دراهم فتصدّق بأحدها ليلاً وبالآخر نهاراً وبالثالث علانية وبالرابع سرّاً فنزلت الآية أعلاها لتشير إلى شأن هذا الإنفاق (١).

سؤال : هل يعقل أن تنزل آية قرآنية على بعض الأعمال الجزئية من قبيل إنفاق أربعة دراهم؟

الجواب : إنّ المهم في نظر الإسلام هو كيفية العمل لا مقداره ، وعليه فإذا كان العمل قد أتى به المكلّف بإخلاص بالغ فيمكن أن تنزل آية قرآنية حتّى على إنفاق أقل من أربعة دراهم ولو أن شخصاً أنفق جبلاً من ذهب ولكن لم يكن يتزامن مع الإخلاص والتوجّه القلبي إلى الله تعالى فليس له أية قيمة ولا تنزل في حقّه آية شريفة.

٣ ـ ونقرأ في الآية ١٧٣ من سورة آل عمران :

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)

هذه الآية الشريفة نزلت في حرب احد عند ما تخلّف بعض المسلمين عن امتثال أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركوا مواقعهم واشتغلوا بجمع الغنائم الحربية فاستفاد الأعداء من هذه الفرصة ومن غفلة المسلمين وداروا حول جبل احد وهجموا على المسلمين من ورائهم وحققوا نصراً كبيراً على المسلمين وقتلوا سبعين مسلماً في تلك الواقعة.

إن الكفّار والمشركين لم يقنعوا بهذا النصر على المسلمين فعند ما كانوا يعودون إلى مكّة قال أحدهم : نحن الذين حقّقنا هذا النصر فلما ذا لم نقتل محمّداً لنختم على هذه الدعوة الجديدة ونقلعها من جذورها؟ فإذا لم نفعل ذلك في هذا اليوم فالإسلام والمسلمين سوف

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٣١٩.

٦٧

يزدادون قوّة ويتفوّقون علينا في المستقبل.

وقد أثر كلامه هذا في أفراد جيش المشركين وعزموا على العودة إلى المسلمين وقتالهم ، ولكن كان بينهم شخص يدعى «نعيم بن مسعود» أو «معبد الخزاعي» الذي لم يقبل باستمرار القتال وقبل أن يصل الكفّار إلى المسلمين أخبر هذا الشخص المسلمين بعزم الكفّار وتصميمهم على القتال فخاف من ذلك بعض المسلمين واصابهم الرعب وقالوا : إننا قد خسرنا المعركة وكنّا أقوياء وسالمين ولكن الآن وبعد الهزيمة وكثرة القتلى والمجروحين كيف يمكننا الوقوف أمام جيش الكفّار ، ولكن بعضاً آخر من المسلمين قالوا : «نحن لسنا على استعداد فقط لقتالهم بل سوف نذهب إليهم ونتحرك لقتالهم مع المجروحين من جيش الإسلام ، فعند ما فهم الأعداء ذلك وأن المسلمين توجّهوا إليهم مع المجروحين منهم دبّ في قلوبهم الخوف والرعب وقنعوا بذلك المقدار من النصر وانصرفوا عن قتال المسلمين مرّة اخرى.

الآية الشريفة أعلاها تتحدّث عن هذه الواقعة وتعبّر عن «نعيم ابن مسعود» أو «معبد الخزاعي» الذي أبلغ المسلمين بعزم الكفّار بكلمة «الناس» في حين انه لم يكن سوى نفر واحد ولكن بما أن عمله هذا كان عظيماً للغاية ، فلأجل بيان أهمية هذا العمل ذكرت الآية الشريفة كلمة الجمع بدل المفرد.

٤ ـ يقول تعالى في الآية ٦١ من سورة آل عمران :

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)

هذه الآية الشريفة نزلت في واقعة المباهلة ، ففي هذه الواقعة كما هو معروف لدى الجميع أن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء مع عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام لميدان المباهلة ، والمراد من «أبْنائنا» في الآية الشريفة هم الحسن والحسين عليهما‌السلام والمراد من «نِسائنا» فاطمة الزهراء عليها‌السلام والمراد من «أَنْفُسَنا» عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. وهكذا ترى أنها كلمات وردت بصيغة الجمع واريد بها المفرد (١).

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٣٦٨.

٦٨

٥ ـ ونقرأ في أول آية من سورة الممتحنة قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...)

ذكر الكثير من المفسّرين أن هذه الآية الشريفة نزلت في «حاطب ابن أبي بلتعة» وكان رجلاً واحداً واستعملت في حقّه صيغة الجمع «الّذين ، آمنوا ، لا تتّخذوا ، عدوّكم» وهذا يدلّ على العمل العظيم الذي أراد القيام به ، وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما عزم على فتح مكّة قام بسد المنافذ والطرق المؤدية إلى مكّة لكي لا يصل خبر تجهيز جيش المسلمين إلى الكفّار والمشركين في مكّة ليتم الفتح بسهولة ويسر ومن دون إراقة دماء ولكن (حاطب) الذي كان يمتلك بعض المال والثروة في مكّة قال في نفسه : إنني لو أخبرت أهل مكّة عن استعداد جيش المسلمين لقتالهم فأضمن سلامة أموالي وأتمكن من إخراجها من أيدي المشركين وكما يقول السياسيون في عصرنا الحاضر : «أربح امتيازاً».

ولهذا كتب رسالته بهذا الغرض إلى رؤساء مكّة وسلّمها لامرأة تدعى «سارة» لتوصلها إلى مكّة فاخفت الرسالة في طيات شعرها وتوجهت إلى مكّة.

فنزل جبرئيل وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمؤامرة المذكورة فارسل الإمام عليّ عليه‌السلام وبعض الأشخاص لكشف هذه المؤامرة ، فتوجّهوا نحو المرأة المذكورة وأخيراً استطاعوا أن يكتشفوا الرسالة ويعودوا إلى المدينة ، وهنا نزلت الآية الشريفة في توبيخ حاطب وقال بعض الأصحاب : دعنا نقتل حاطب ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي رأى حالة الندم على حاطب وكان من المجاهدين سابقاً واشترك في حرب بدر عفى عنه وأطلقه (١).

ففي هذه الآية نرى أيضاً أن «حاطب» رجل واحد ولكنّ الآية وردت بصيغة الجمع.

٦ ـ نقرأ في الآية ٥٢ من سورة المائدة :

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ...)

حيث أمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بقطع علاقاتهم وروابطهم مع الكفّار والمشركين

__________________

(١) الكشّاف : ج ٤ ، ص ٥١١.

٦٩

ولكن أحد المنافقين وهو «عبد الله بن ابي» قال : إذا قطعنا العلاقة معهم فإنّ حياتنا ومعيشتنا ستتعرض للاهتزاز والارتباك ونصاب بمشكلات عديدة ، فنزلت الآية المذكورة في شأن هذا المنافق (١).

وهكذا نرى أن الشخص الذي كان يتحدّث عن ضرورة إبقاء الرابطة مع الكفّار والمشركين شخص واحد ، ولكن الآية الشريفة وردت بصيغة الجمع «الّذين ، قلوبهم ، يسارعون ، يقولون ، نخشى وتصيبنا» وهذا يعني أن استخدام صيغة الجمع في حقّ المفرد لا بأس به.

٧ ـ ويقول تبارك وتعالى في الآية ٨ من سورة المنافقين :

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)

الآية أعلاها نزلت بعد غزوة بني المصطلق في السنة السادسة للهجرة في منطقة «قديد» وكان هناك اختلاف بين أحد المهاجرين وأحد الأنصار فما كان زعيم المنافقين «عبد الله بن ابي» إلّا أن قال : أوقد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل (٢).

وهكذا نرى أن القائل لم يكن سوى رجلاً واحداً ولكن الآية تحدّثت عنه بصيغة الجمع «يقولون ، رجعنا».

والنتيجة هي أن القرآن الكريم أورد في هذه الآيات السبعة المذكورة آنفاً وفي آيات اخرى أيضاً صيغة الجمع بدل المفرد ، وهذا يدلّ على أن مثل هذا الاستعمال شائع في أجواء الآيات القرآنية.

وعلى هذا الأساس فإنّ آية الولاية إذا ذكرت صيغة الجمع في حقّ المفرد وهو «عليّ بن أبي طالب» الذي تصدّق في ركوعه فلا يوجد محذور في مثل هذا الاستعمال بل يدلُّ على عظمة هذا العمل الذي قام به الإمام علي عليه‌السلام.

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٦٤٣.

(٢) انظر تفاصيل هذه القصة في التفسير الأمثل : ج ١٨ ، سورة المنافقين ، الآية ٥ ، ص ٣٥٦.

٧٠

الإشكال السادس : ما ذا تعني ولاية الإمام عليّ عليه‌السلام في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

الإشكال الآخر الذي أورده الفخر الرازي وآخرون هو : «أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورون في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية ، لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول ، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال. أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال ، فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف» (١).

الجواب : وجواب هذا الإشكال واضح لأن ولاية الولي والوصي والخليفة تكون بالقوّة لا بالفعل ، وأساساً فإنّ هذا المطلب موجود ضمن سياق الآية الشريفة حيث إنّ زكريّا الذي طلب من الله تعالى الولي والوارث واستجاب الله تعالى لطلبه وأعطاه يحيى (٢) فهل أنّ يحيى كان وارثاً ووليّاً لأبيه في حياة زكريا أو أن ذلك تحقّق له بعد وفاة الأب؟

من الواضح أن هذه الامور تحققت له بعد وفاة أبيه.

وهذه المسألة سائدة في العرف وسيرة العقلاء ، فمن يكتب وصية ويعين وصياً له فهل أن هذا الوصي له ولاية واختيار قبل وفاة صاحب الوصية أو أن هذه الوصية تتعلق بما بعد الوفاة؟ الفخر الرازي كان قد كتب وصيته حتماً وقد عيّن وصياً له ، فهل أن ذلك الوصي وهذه الوصية كانت فعلية في زمن حياته أو بعد مماته؟ وأكثر من ذلك فإنّ جميع القادة والزعماء والملوك في العالم يتحركون في أواخر حياتهم لتعيين خليفة لهم ، ولكنّ هؤلاء الخلفاء لهم لم يكونوا أصحاب قدرة فعلية في حياة هؤلاء الملوك والزعماء بل كانت قدرتهم ومسئولياتهم تتحقق لهم بعد وفاة القائد الفعلي.

وعلى هذا الأساس فإن الولاية في الآية الشريفة جاءت بمعنى القيّم وصاحب الاختيار وإمام الامّة ولكن جميع هذه المعاني لا تكون فعلية للإمام عليّ عليه‌السلام إلّا بعد رحيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ١٢ ، ص ٢٨.

(٢) سورة مريم : الآية ٥ و ٦.

٧١

مضافاً إلى ذلك فإنّ مسألة تعيين الخليفة لا تختص بهذه الآية الشريفة بل إنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وطيلة زمن نبوته ٢٣ سنة كان يذكر مسألة الوصية بالخلافة للإمام علي عليه‌السلام دائماً ، وأوّل مورد لذلك هو ما ورد في حديث يوم الدار ، وذلك عند ما تحرك النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ثلاثة سنوات من الدعوة السرية إلى الإعلان والإجهار بإبلاغ الرسالة وفي أوّل خطوة لذلك جمع قادة قريش ودعاهم إلى ضيافته وبعد أن انتهوا من تناول الطعام طرح مسألة النبوّة والرسالة وقال لهم في آخر المطاف :

أَيُّكُمْ يُوازِرُنِي عَلى هذَا الْامْرِ.

فلم يكن يجيب بالإيجاب على هذا الطلب سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فما كان من رسول الله إلّا أن قال له في ذلك المجلس :

«انْتَ وَصِيّي».

في حين أن النبي الأكرم كان على قيد الحياة ، وما ذا يصنع بالوصي والخلافة في ذلك الوقت؟

النتيجة أن الجواب على مثل هذه الإشكالات والشبهات واضح ، وفي الحقيقة أنها لا تعدو سوى حجج وتبريرات غير منطقية وبعيدة عن خط الحقّ والإنصاف.

الإشكال السابع : ما هو المراد من الزكاة؟

رأينا أنّ البعض أورد حجج وشبهات مختلفة حول دلالة آية الولاية بحيث أنهم ذكروا شبهات لكلِّ كلمة من كلمات الآية محل البحث من قبيل «إنّما» ، «وليّ» ، «راكعون» ، «الزكاة» فكلّها وردت في حقها إشكالات وشبهات.

ويتساءل الفخر الرازي وآخرون : ما المراد من الزكاة في هذه الآية الشريفة؟ هل المقصود الزكاة المستحبة أو الواجبة. ومعلوم أنه ليست لدينا زكاة مستحبة ، وعليه فإنّ المراد من الزكاة هنا هو الزكاة الواجبة ، وإذا كان كذلك وقلنا بأن الآية الشريفة نزلت في عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام سنقع في تناقض لأنّ الإمام علي لم يكن من حيث التمكّن المادي والاقتصادي بحيث تجب عليه الزكاة وتتعلق الزكاة الواجبة في أمواله لأنه طبقاً لما ورد في

٧٢

شأن نزول سورة الإنسان (سورة الدهر) بأن الإمام علي وأهله كانوا قد صاموا في ذلك اليوم وجاء سائل على الباب وطلب منهم طعاماً فأعطوه طعامهم الذي كانوا قد أعدّوه للافطار وأفطروا ذلك اليوم بالماء القراح ، والخلاصة أن الإمام علي لم يكن يمتلك طعاماً ليوم آخر ، فكيف تتعلق في ماله الزكاة الواجبة حتّى يؤديها في حال الركوع؟

الجواب : في مقام الجواب على هذا الإشكال وبالأحرى هذه الشبهة نقول :

أوّلاً : إنّ الأحكام الشرعية في الإسلام تتضمن الزكاة الواجبة والمستحبة لأن جمع الزكاة تم بعد هجرة النبي إلى المدينة في حين أن السور المكيّة تتحدّث عن الزكاة أيضاً وكانت تحث المسلمين على أداء الزكاة في مكّة ، والمراد منها حتماً الزكاة المستحبة أو الزكاة الواجبة التي لم تكن تجمع قبل زمن تشكيل الحكومة الإسلامية.

ونلفت النظر إلى ثلاث نماذج من الآيات الشريفة النازلة في مكّة :

ألف) نقرأ في الآية الرابعة من سورة المؤمنون التي هي سورة مكيّة :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ)

في هذه الآية الشريفة ذكرت صفة من صفات المؤمنين وهي أداء الزكاة ، وبما أن هذه السورة مكيّة والآية نزلت قبل تشريع حكم الزكاة فنعلم أن المراد من الزكاة هنا هي الزكاة المستحبة.

ب) ونقرأ في الآية الثالثة من سورة النمل في وصف المؤمنين :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

ومعلوم أن سورة النمل من السور المكيّة ، وعليه يكون المراد من الزكاة هنا هي الزكاة المستحبة.

ج) ونقرأ في الآية ٣٩ من سورة الروم :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)

فهذه السورة من السور المكيّة أيضاً والمراد من الزكاة هنا الزكاة المستحبة.

وعليه فطبقاً لما ورد في القرآن الكريم أن الزكاة تشمل الواجبة والمستحبة كما ورد في فقه الشيعة أن بعض الأجناس تتعلق بها الزكاة الواجبة وبعضها تتعلق بها الزكاة المستحبة.

٧٣

ثانياً : أنه ليس من الصحيح قياس الحالة الاقتصادية للإمام علي عليه‌السلام عند نزول آية الولاية التي نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع زمان نزول آيات سورة الدهر لأن وضع المسلمين في بداية ظهور الإسلام في مكّة لم يكن وضعاً مناسباً بصورة عامة وكان أغلب المسلمون يعيشون في ضائقة مالية وخاصة أنهم كانوا في مكّة يعيشون الحصار الاقتصادي ، ولكنهم عند ما هاجروا إلى المدينة وتخلّصوا من الحصار الاقتصادي الذي فرضه عليهم المشركون في مكّة واشتغلوا بالزراعة والتجارة تحركت حالتهم الاقتصادية وانفتحت عليهم أبواب الرزق وتحسنت حالتهم المعيشية بحيث إن وضع أغلب المسلمين في أواخر عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جيداً من الناحية الاقتصادية ، ونظراً إلى أن آيات سورة المائدة نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه لم يكن من البعيد أن تتعلق الزكاة الواجبة بأموال الإمام علي عليه‌السلام ولا ينبغي قياس حالة الإمام عليّ عليه‌السلام الاقتصادية في هذا الزمان الذي كان المسلمون يعيشون في حالة الانفتاح الاقتصادي والتمكّن المالي مع زمان نزول آيات سورة الإنسان (التي نزلت في أوائل الهجرة كما يقول الشيعة أو قبل الهجرة كما يقول بعض أهل السنّة). حيث كان المسلمون يعيشون أزمة اقتصادية ومالية لأن ذلك يعني أن التناقض المزعوم يفتقد بعض شروط الوحدة وهي الوحدة في المكان والآخر الوحدة في الزمان لكي يصح دعوة التناقض ، وهنا لا يوجد مثل هذا التوحّد في الزمان والمكان.

مضافاً إلى كلّ ذلك فقد ورد في الروايات الواردة في شأن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه «اعْتَقَ الْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ كَدِّ يَدِه» (١).

فمن الواضح أن الإمام عليّ عليه‌السلام لم يتسنى له العمل والكسب في زمان خلافته لكي يمكن القول بأنه أعتق هذا المقدار من العبيد من كدّ يده ، إذن فهذا العمل كان قد صدر منه قبل تصديه للحكومة والخلافة قطعاً.

والنتيجة هي أن دفع الخاتم من قبل الإمام علي عليه‌السلام حتّى لو قلنا بأنه من قبيل الزكاة الواجبة لم يكن ذلك بمستبعد وعجيب.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ، ص ٤٣.

٧٤

والحقيقة أن هؤلاء المخالفين وقعوا في تناقضٍ بيّن ، فإنهم من جهة يذكرون أن الإمام علي قد دفع خاتماً ثميناً جداً إلى الفقير بحيث يدخل في دائرة الإسراف والتبذير ، ومن جهة اخرى يشكّون في أصل هذا العمل بسبب عدم التمكّن المالي للإمام علي عليه‌السلام.

والنتيجة هي أنه على رغم الإشكالات والشبهات الكثيرة التي احتفت بدلالة آية الولاية والتي ذكرنا أهمها آنفاً وأجبنا عنها فإن دلالة الآية الشريفة على الولاية لا تخفى على أحد حيث تقرر الآية الشريفة الولاية والقيادة والإمامة لثلاث أولياء : ١ ـ الله تعالى ٢ ـ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣ ـ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ملاحظة مهمة جداً!

إذا كان من المقرر أن تطرح مثل هذه الشبهات والإشكالات التي مرت آنفاً حول كلّ آية من آيات القرآن الكريم فإنّ أوضح الآيات وأحكمها كآيات التوحيد لا تتخلص من الإشكال ، فلا يبق شيء يصلح للاستدلال ، في حين أننا نرى أن مثل هذه الإشكالات والشبهات لا تطرح حول سائر الآيات القرآنية ، والظاهر أن هذا الاسلوب من طرح الشبهات يختص بالآيات المتعلقة بفضائل أهل البيت عليهم‌السلام وولايتهم فقط.

وإذا أردنا استكشاف السبب في مثل هذه المواجهة المتباينة مع الآيات القرآنية فلا بدّ من القول أن مثل هؤلاء الأشخاص لم يذعنوا للقرآن الكريم ولم يتعاملوا معه بأدبٍ ونزاهة كما هو المتوقع ، والمفروض على المسلم أن يجلس أمام القرآن كالتلميذ أمام استاذه بل يريد هؤلاء أن يكونوا أساتذة للقرآن ويستخرجوا منه ما يؤيد مسبوقاتهم الفكرية ، وهذا هو التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه بشدّة في الروايات الإسلامية (١).

أيها القارئ الكريم! إذا أردنا أن نستفيد من القرآن والوحي أو روايات المعصومين عليهم‌السلام استفادة صحيحة ونتوصل من خلالها إلى كشف الحقيقة فيجب علينا أن نتتلمذ على يد

__________________

(١) انظر تفاصيل هذا الموضوع في كتاب (التفسير بالرأي) لمؤلفه آية الله العظمى مكارم الشيرازي «مدّ ظلّه».

٧٥

القرآن والأحاديث الشريفة ونستوحي مفاهيمنا الدينية من هذين المنبعين الغنيين بتعاليم الوحي والدين حتّى لو كانت على خلاف رغباتنا وميولنا وإلّا فإنّ التفسير بالرأي وبذر الإشكالات والشبهات حول مدلول الآيات الشريفة سينتهي إلى عواقب وخيمة وإنكار المسلّمات الدينية.

وورد في رواية شيّقة تتحدّث عن عاقبة نوعين من أنواع التعامل مع القرآن الكريم حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«... مَنْ جَعَلَهُ امامَهُ قادَهُ الى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ ساقَهُ إلَى النّارِ». (١)

والحقيقة أن هذه الرواية الشريفة يجب أن تهز كيان الأشخاص الذين يتعاملون مع القرآن من موقع التفسير بالرأي وإسقاط مفاهيمهم وأحكامهم المسبقة على الآيات الشريفة.

توصية آية الولاية

إنّ الآية الشريفة محل البحث مضافاً إلى أنها تثبت ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنها تتضمن توصية مهمة لشيعة وأتباع هذا الإمام بل لجميع المسلمين في العالم وهي :

إن الإمام علي عليه‌السلام لم يكن ولياً وإماماً للمسلمين وخليفة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة اعتباطية بل وصل إلى هذا المقام بسبب عوامل مهمة قد ذكرت في الآية نفسها ، فالإيمان الراسخ وإقامة الصلاة والمحافظة على الارتباط الوثيق بين العبد وخالقه ودفع الزكاة وتوثيق العلاقة بين الإنسان وأفراد المجتمع كلّها من الأسباب التي رشّحت الإمام عليّ عليه‌السلام ليكون أميراً للمؤمنين (٢).

وعليه فإن الآية الشريفة أعلاه توصي شيعة أمير المؤمنين بأنه إذا أردتم أن تكونوا من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٤ ، ص ١٣٤.

(٢) كما في اصطلاح الفقهاء «أن التعليق على الحكم مشعر بالعليّة» أي إذا ورد حكم لوصف ، فمفهومه أن هذا الوصف علّة لهذا الحكم ، مثلاً لو قيل : احترم العلماء. فمعنى ذلك أن العلم في هؤلاء الأشخاص هو السبب في لزوم الاحترام.

٧٦

شيعة هذا الإمام وتصلوا إلى المراتب العليا من الكمالات المعنوية والإلهية ، فيجب عليكم أن تتحلوا بالإيمان الراسخ والقوي ، وتسعوا إلى تقوية هذا الإيمان وتعميق الرابطة مع الله تعالى وعدم الغفلة عن الصلاة والعبادة ، وكذلك عدم الغفلة عن دفع حقوق الآخرين من قبيل الزكاة حتّى في أثناء الصلاة وخاصّة في شهر رمضان المبارك شهر العبادة واليقظة وتهذيب النفس ، فيجب مضاعفة السعي في هذا المجال والتدبّر في مضامين الأدعية الواردة في هذا الشهر الكريم ليتسنّى للإنسان أن يخطو عملاً نحو رفع الفقر والمحرومية عن المساكين والمحتاجين والمرضى والذين لا يستطيعون أداء ديونهم وأن نتحرك في دعاءنا ومناجاتنا مع الله تعالى في طلب المغفرة للمرحومين والذين انتقلوا إلى الدار الاخرى ونسعى في التقليل من مصاب البائسين ونواسيهم في آلامهم وهمومهم.

٧٧
٧٨

آية اولي الأمر ٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

«سورة النساء / الآية ٥٩»

أبعاد البحث

الآية أعلاه تسمّى «آية الإطاعة» وهي آية اخرى تدلّ على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومحور البحث في هذه الآية هي جملة «اولي الأمر» حيث تتضمن نظريات وآراء مختلفة سيأتي شرحها وبيانها وما ذكر حولها من إشكالات.

الشرح والتفسير : من هم اولي الأمر؟

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

يخاطب الله تعالى في هذا المقطع من الآية الشريفة جميع المؤمنين في أقطار العالم وفي جميع الأزمنة والأعصار إلى يوم القيامة بتقديم الطاعة المطلقة لثلاثة من الأولياء :

الأوّل : إطاعة الله تعالى ، ثمّ إطاعة النبي ، والثالث إطاعة اولي الأمر.

والقسم الثاني من الآية الشريفة يبيّن المرجع للمسلمين في حال نشوب الاختلاف

٧٩

والنزاع وكأن الغرض هو تأسيس جهاز قضائي مستقل للمسلمين ويقول :

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا ينبغي التوجّه في حلّ الاختلافات التي تحدث بين المسلمين إلى الأجانب ومرجعيات غير إسلامية.

وبالالتفات إلى قيد الإيمان بالله واليوم الآخر (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يتضح جيّداً أن المسلمين الذين يتوجّهون في اختلافاتهم إلى غير المنابع والمحاكم الإسلامية فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.

والملاحظة الاخرى الملفتة للنظر هي أن الآية الشريفة أوردت في صدرها وجوب إطاعة اولي الأمر من جملة الأولياء الثلاثة ولكنها عند ذكرها لمرجع الاختلاف في المقطع الثاني لم تذكر اولي الأمر ، وهذا المطلب هو الذي أثار علامات استفهام مهمة في تفسير الآية الشريفة أعلاه وسوف يأتي تفصيل ذلك في المباحث القادمة.

(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) هذه الجملة في الحقيقة هي تعليل للجملتين السابقتين ، فلما ذا يجب على المؤمنين إطاعة الله ورسوله واولي الأمر؟

ولما ذا يحرم على المسلمين اختيار مرجعية اخرى في حلّ اختلافاتهم غير الله ورسوله؟

لأنّ الآية توضح ذلك وتقول إن هذا الحكم هو خير للمؤمنين وهو أفضل عاقبة لهم.

حدود إطاعة اولي الأمر

النقطة المبهمة في الجملة المذكورة أعلاه تكمن في المراد من اولي الأمر وعندها يتّضح تفسير الآية بصورة جيّدة ، ولذلك نجد أن المفسّرين قد اهتموا ببيان مصداق اولي الأمر وطرحوا لذلك سبع نظريات.

سؤال : قبل الدخول في تفاصيل نظريات المفسّرين حول معنى اولي الأمر لا بدّ من توضيح حقيقة مهمة لها دورٌ في فهم معنى اولي الأمر ، وهي : هل أن إطاعة اولي الأمر مقيّدة ومشروطة ، أو أنها مطلقة كما في إطاعة الله ورسوله؟ وبعبارة اخرى هل أنّ إطاعة اولي الأمر مقيّدة بقيود زمانية ومكانية وغير ذلك ، أو أنها واجبة على الإنسان في كلّ زمان ومكان وفي مختلف الظروف؟

٨٠