آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

الحقيقي والواقعي وتطبيق ادعائنا في الاستنان بسنّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجب أن نسلّم لأمره على كلّ حال حتّى لو كان على خلاف رغباتنا ومزاجنا وميولنا العاطفية.

ولغرض تكميل هذا البحث نستعرض خلاصة لقصّة الغدير كما وردت في تفسير «نفحات القرآن» ....

واقعة الغدير

أدركنا من البحث الآنف بشكل إجمالي أن هذه الآية وعلى ضوء الشواهد التي لا تحصى قد نزلت بحقّ علي عليه‌السلام ، وانّ الروايات التي نُقلت في الكتب المعروفة لأهل السنّة ـ فضلاً عن كتب الشيعة ـ أكثر من أن يستطيع أحدٌ انكارها.

وبالاضافة إلى الروايات أعلاه ، فلدينا روايات اخرى تفيد بصريح القول : إنّ هذه الآية وردت أثناء واقعة الغدير وخطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التعريف بعلي عليه‌السلام على أنه الوصي والولي ، وعددها يربو على الروايات السابقة ، حتّى أنّ المحقّق الكبير العلّامة «الأميني» ينقل في كتاب الغدير ، حديث الغدير عن ١١٠ من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاسناد والوثائق الحية ، وكذلك عن ٨٤ من التابعين و ٣٦٠ من مشاهير علماء المسلمين ومؤلفيهم.

إنّ كلّ من يلقي نظرةً على مجموعة هذه الأسانيد والوثائق يدرك بأنّ حديث الغدير من أكثر الروايات الإسلامية جزماً ، ومصداقاً واضحاً للحديث المتواتر ومن يشك في تواتره ، فعليه أن لا يؤمن بأيّ حديث متواتر.

وحيث إنّ الولوج في هذا البحث بنحوٍ واسعٍ يخرجنا عن اسلوب كتابة تفسير موضوعي ، فنكتفي بهذا القدر بشأن اسناد الرواية وشأن نزول هذه الآية ، ونتطرق إلى مضمون الرواية ، ونحيل الذين يريدون المزيد من المطالعة حول اسناد الرواية إلى الكتب التالية:

١ ـ كتاب الغدير ، ج ١.

٢ ـ إحقاق الحقّ ، تأليف العلّامة الكبير القاضي «نور الله الشوشتري» مع شرح مفصلٍ لآية الله النجفي ، ج ٢ و ٣ و ١٤ و ٢٠.

٢١

٣ ـ المراجعات للمرحوم السيّد «شرف الدين العاملي».

٤ ـ عبقات الأنوار للعالم الكبير «مير حامد الحسيني الهندي» (من الأفضل مراجعة خلاصة العبقات ، ج ٧ و ٨ و ٩).

٥ ـ دلائل الصدق ، تأليف العالم الكبير المرحوم «المظفر» ، ج ٢.

مضمون روايات الغدير

وهنا نأتي بقصّة الغدير بشكل مختصر كما يستفاد من مجموع الروايات أعلاه ، (وطبقاً فإن هذه الواقعة قد وردت في بعض الرويات بشكل مفصّل ومطوّل ، وفي بعضها بشكل مختصرٍ وقصير ، وفي بعضها اشير إلى جانبٍ من هذه القصة وفي البعض إلى جانب آخر ، ومنها جميعاً يستفاد ما يلي) :

في السنّة الأخيرة من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقيمت مراسم حجة الوداع بكلّ جلال بمشاركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت الأفئدة تمتلئ بالمعنويات ولم تزل اللذة المعنوية لهذه العبادة العظيمة ينعكس إشعاعها في النفوس.

وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كان عددهم كثيراً للغاية لا تسعهم أنفسهم نتيجة لادراكهم هذا الفيض والسعادة العظيمة (١).

ولم يكن أهل المدينة وحدهم الذين يرافقون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا السفر ، بل كان المسلمون من مختلف بقاع الجزيرة العربية برفقته صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل هذا الفخر التاريخي العظيم.

وكانت شمس الحجاز تضفي على الجبال والأودية حرارة لا تطاق ، إلّا أن حلاوة هذا السفر المعنوي النادر كانت تيسّر كلّ شيء ، وقد اقترب الظهر ، وأخذت منطقة الجحفة ، وصحراء «غدير خم» الجافة الرمضاء تبدو للعيان.

وهذا المكان يعدّ مفرق طرق لأهل الحجاز حيث يتشعب إلى أربعة طرق ، فطريق يتجه إلى الشمال نحو المدينة ، وطريق إلى الشرق نحو العراق ، وطريق إلى الغرب نحو مصر ، وطريق

__________________

(١) ذكر البعض ان عدد الذين كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ٩٠ ألفاً ، والبعض ١١٢ ألفاً ، وبعضٌ ١٢٠ ألفاً ، وبعضٌ ١٢٤ ألفاً.

٢٢

إلى الجنوب نحو اليمن ، وهنا يجب أن تُطرح آخر المستجدات في هذا السفر ، ويتفرق المسلمون بعد استلامهم لآخر حكم ، وهو في واقع الأمر كان خط النهاية في الواجبات الناجحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كان ذلك في يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة ، وقد مضت عشرة أيّام على عيد الأضحى ، وفجأة صدر الأمر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الذين معه بالتوقف ، ونادى المسلمون بأعلى أصواتهم أصحابَهم الذين تقدّموا الركب بالتوقف والعودة ، وأمهلوا المتأخرين حتّى يصلوا ، وزالت الشمس وصدح صوت مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأذان : الله أكبر ، داعياً الناس إلى صلاة الظهر ، وسرعان ما استعد الناس للصلاة ، إلّا أن حرارة الجو كانت إلى الحدّ الذي اجبر البعض على أن يغطي أرجله بقسم من ازاره ويستر رأسه بالقسم الآخر ، وإلّا فإن حصى الصحراء وأشعة الشمس ستحرق أرجلهم ورءوسهم.

فلا خيمة في الصحراء ، ولا خضرة ، ولا نبات ، ولا شجرة ، سوى بعض الأشجار البرية الجرداء التي تقاوم حرارة الصحراء ، والتي لاذ بها البعض ، ووضعوا قطعة من القماش على إحداها وجعلوها ظلًّا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أن الرياح اللاهبة تهب تحتها وتلفها بحرارة الشمس المحرقة.

وانتهت صلاة الظهر ، وعزم المسلمون على اللجوء إلى خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم ، بيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوعز لهم بالاستعداد لسماع بلاغ إلهي جديد يُوضَّح ضمن خطبة مفصلة ، ولم يكن بمقدور البعيدين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رؤية وجهه الملكوتي وسط زحام الناس ، لذا فقد صنعوا له منبراً من أربعة من أحداج الإبل ، فارتقاهُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي البداية حمد الله وأثنى عليه واستعاذ به ، ثمّ خاطب الناس قائلاً :

أيّها الناس : يوشك أن ادعى فأُجيب.

أنا مسئول ، وأنتم مسئولون.

فكيف تشهدون بحقّي؟

فصاح الناس : نشهد أنك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً ، ثمّ قال :

ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله إليكم ، وأن البعث حقّ ، وأن الله

٢٣

يبعث من في القبور؟! فقالوا : نشهد بذلك ، قال : اللهمّ اشهد ، ثمّ قال :

أيّها الناس أتسمعوني؟ قالوا : نعم ، ثمّ عمّ السكوت الصحراء فلم يُسمع إلّا صوت الريح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانظروا ما ذا صنعتم بالثقلين من بعدي؟

فقال رجل من بين القوم : ما هذا الثقلان يا رسول الله؟!

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما الثقل الأكبر فهو كتاب الله حبل ممدود من الله إليكم ، طرفه بيد الله والطرف الآخر بأيديكم ، فلا تدعوه ، وأما الثقل الأصغر فهم عترتي وقد أخبرني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا.

ونظر الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يلتفت حوله ، وكأنه يبحث عن أحد ، ولما وقعت عيناه على علي عليه‌السلام التفت إليه وأخذ بيده ورفعها حتّى بان بياض إبطيهما ، وشاهدهما جميع القوم ، وعرفوا أنه ذلك الفارس المقدام ، وهنا ارتفع صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : أيُّهَا النّاسُ مَنْ أَوْلَى النّاسِ بِالمُؤمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟

قالوا : الله ورسوله أعلم ،

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين وأولى منهم بأنفسهم ، ثمّ قال : فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ ، وكرر هذا الكلام ثلاث مرّات ، وكما قال أرباب الحديث : انه كرره أربعاً ، ثمّ رفع رأسه نحو السماء ، وقال :

اللهمّ والِ مَنْ والاه وَعادِ مَنْ عاداهُ ، وَأَحِبّ مَنْ أَحَبَّهُ وَابْغِضْ مَنْ أبْغَضَهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَه وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَأَدِرِ الْحَقّ مَعَهُ حَيْثُ دارَ.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أَلا فَلْيُبلّغ الشّاهِدُ الْغائِبَ.

هنا انتهت خطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان العرق يتصبب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والجميع ، وما زال الناس لم يتفرقوا من ذلك المكان حتّى نزل عليه الوحي وقرأ هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

اللهُ أَكْبَرْ ، اللهُ أَكْبَرْ عَلَى اكْمالِ الدِّيْنِ وَاتْمامِ النِّعْمَة وَرِضَى الرَّبُّ بِرِسَالَتِي وَالْوِلايَةِ لِعَليٍّ مِنْ بَعْدي.

٢٤

في هذه الأثناء عم الناس النشاط والحركة ، وأخذوا يهنئون عليّاً عليه‌السلام بهذا المقام ، وكان من الذين هنئوه ، أبو بكر وعمر حيث نطقا بهذه العبارة أمام أعين الحاضرين :

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا بْنَ أَبي طالِبٍ أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلايَ وَمَوْلا كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ.

أثناء ذلك قال ابن عبّاس : «والله إنه عهد سيبقى في أعناقهم» ، واستاذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الشاعر المعروف «حسان بن ثابت» لينشد شعراً بهذه المناسبة ، ثمّ استهل قصيدته المعروفة :

يُنادِيْهِمْ يَوْمَ الْغَديرِ نَبيُّهُمْ

بِخُمٍّ وَاسْمِعْ بِالرَّسُولِ مُنادِيا

فَقالَ فَمَنْ مَوْلاكُمْ وَنَبيِّكُمْ؟

فَقالُوا وَلَمْ يَبْدُوا هُناكَ التَّعامِيا

الهُكَ مَوْلانا وَانْتَ نَبِيُّنا

وَلَمْ تَلْقِ مِنّا فِي الْوَلايَةِ عاصِيا

فَقالَ لَهُ قُمْ يا عَليّ فَإِنَّني

رَضيتُكَ مِنْ بَعْدي اماماً وَهادِيا

فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا وَلِيُّهُ

فَكُونُوا لَهُ اتْباعَ صِدْقٍ مُوالِيا

هُناكَ دَعا اللهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ

وَكُنْ لِلَّذي عادا عَلِيّاً مُعادِيا(١)

توضيحات

١ ـ معنى الولاية والمولى في حديث الغدير

لقد اطّلعنا بشكل إجمالي على حديث الغدير المتواتر ، والعبارة المشهورة التي جاءت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع الكتب وهي : «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاهُ» توضح الكثير من الحقائق وإن أصرّ كثيرٌ من كتّاب أهل السنّة على تفسير كلمة «المولى» هنا بمعنى «الصديق والمحبّ والناصر» ، لأنّ هذا أحد المعاني المعروفة ل «المولى».

ونحن نسلّم بأنّ إحدى معاني «المولى» الصديق والمحب والناصر ، إلّا أنّ ثمة قرائن عديدة تثبّت أنّ المولى في الحديث أعلاه تعني «الولي والمشرف والقائد» وهي كما يلي بإيجاز :

__________________

(١) روى هذا الشعر جماعة من كبار علماء السنّة منهم : الحافظ «أبو نعيم الاصفهاني» ، والحافظ «أبو سعيد السجستاني» ، و «الخوارزمي المالكي» ، والحافظ «أبو عبد الله المرزباني» ، و «الكنجي الشافعي» ، و «جلال الدين السيوطي» ، و «سبط بن الجوزي» ، و «صدر الدين الحموي».

٢٥

١ ـ إن قضية محبة علي عليه‌السلام مع جميع المؤمنين لم تكن أمراً خفياً وسريّاً ومعقّداً ، بحيث يحتاج إلى هذا التأكيد والإيضاح ، وبحاجة إلى إيقاف ذلك الركب العظيم وسط الصحراء القاحلة الساخنة وإلقاء خطبة عليهم لأخذ الاقرار بالولاية له من ذلك الجمع.

فالقرآن يقول بصراحة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(١)

وفي موضع آخر يقول : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)(٢)

والخلاصة : إنّ الاخوة الإسلامية ومودة المسلمين مع بعضهم من أكثر المسائل الإسلامية بداهة ، حيث كانت موجودة منذ انطلاقة الإسلام ، وطالما أكد عليها النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً ، بالاضافة إلى عدم كونها مسألة تحتاج إلى بيان بهذا الاسلوب الحاد في الآية ، وأن يشعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخطر من البوح بها (تأملوا جيداً).

٢ ـ إن عبارة «ألَستُ أوْلى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» الواردة في الكثير من الروايات لا تتناسب أبداً مع بيان مودّة عادية ، بل انه يريد القول بأن تلك الأولوية والتصرف الذي لي تجاهكم وأنني إمامكم وقائدكم ، فإنه ثابت لعلي عليه‌السلام وأي تفسير لهذه العبارة غير ما قيل فهو بعيد عن الإنصاف والواقعية ، لا سيّما مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «أنَا أوْلى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ».

٣ ـ التهاني التي قدمها الناس لعلي عليه‌السلام في هذه الواقعة التاريخية ، لا سيّما التهاني التي قدمها أبو بكر وعمر ، إذ إنها تبرهن على أن القضية لم تكن سوى تعيين الخلافة التي يستحق التبريك والتهاني ، فالاعلان عن المودة الثابتة لجميع المسلمين بشكل عام لا يحتاج إلى تهنئة.

وجاء في مسند الإمام أحمد أن عمراً ، قال لعلي بعد خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة (٣).

ونقرأ في العبارة التي ذكرها الفخر الرازي في ذيل الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)

__________________

(١) الحجرات : الآية ١٠.

(٢) التوبة : الآية ٧١.

(٣) مسند أحمد : ج ٤ ، ص ٢٨١ (على ضوء نقل الفضائل الخمسة : ج ١ ، ص ٤٣٢).

٢٦

أن عمراً قال : «هَنيئاً لَكَ يَا بْنَ أبي طالِبٍ أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ».

وبهذا فإن عمراً يعدُ علياً مولاه ومولى المؤمنين جميعاً.

وفي تاريخ بغداد جاءت الرواية بهذا الشكل :

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا ابْنَ أبي طالِبٍ! أَصْبَحْتَ مَوْلايَ وَمَوْلى كُلِّ مُسْلِمٍ (١).

وجاء في «فيض القدير» ، و «الصواعق» ، أن أبا بكرٍ وعمراً باركا لعلي بالقول : «أَمْسَيْتَ يَا بْنَ أبي طالِبٍ مَوْلا كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ» (٢).

ومن نافلة القول إن المودة العادية بين المؤمنين ليست لها مثل هذه المراسيم ، وهذا لا ينسجم إلّا مع الولاية التي تعني الخلافة.

٤ ـ إن الشعر الذي نقلناه آنفاً عن «حسان بن ثابت» بذلك المضمون والمحتوى الرفيع ، وتلك العبارات الصريحة والجلية شاهد آخر على هذا الادعاء ، وتشير إلى هذه القضية بما فيه الكفاية (راجعوا تلك الأبيات مرّة اخرى).

٢ ـ سورة المعارج تؤيد حديث الغدير

روى كثيرٌ من المفسّرين ورواة الحديث في ذيل الآيات الاولى من سورة المعارج : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ* مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) أنّ شأن النزول في هذه الآيات هو ما يلي :

إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عيّن علياً خليفة يوم غدير خم وقال بحقّة : «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاه» ، فما لبث أن انتشر الخبر ، فجاء «النعمان بن الحارث الفهري» ـ (وكان من المنافقين) (٣) ـ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لقد أمرتنا أن نشهد ان لا إله إلّا الله وأنك محمّد رسول الله ، فشهدنا ، ثمّ

__________________

(١) تاريخ بغداد : ج ٧ ، ص ٢٩٠.

(٢) فيض القدير : ج ٦ ، ص ٢١٧ ، الصواعق : ص ١٠٧.

(٣) جاء في بعض الروايات انه «الحارث بن النعمان» وفي بعضها «النضر بن الحارث».

٢٧

أمرتنا بالجهاد والحجّ والصلاة والزكاة فقبلنا ، فلم ترض بكلّ ذلك ، حتّى أقمت هذا الفتى «مشيراً إلى عليّ عليه‌السلام خليفة لك ، وقلت : مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه فهل هذا منك أم من الله»؟ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «والله الذي لا معبود سواه انه من الله» ، فالتفت إليه «النعمان بن الحارث» ، وقال : «إلهي إن كان هذا حقّاً منك فأنزل علينا حجارة من السماء»!

وفجأةً نزلت حجارة من السماء على رأسه وقتلته ، فنزلت آية «سأل سائل بعذاب واقع».

ما ورد أعلاه هو ما ذكره صاحب «مجمع البيان» عن أبي القاسم الحسكاني (١) وقد نقل هذا المضمون الكثير من مفسّري أهل السنّة ورواة الأحاديث مع شيء من الاختلاف ، مثل : القرطبي في تفسيرهِ المعروف (٢) ، والآلوسي في تفسير روح المعاني (٣) ، وأبو إسحاق الثعلبي في تفسيره (٤).

وينقل العلّامة الأميني هذه الرواية في كتاب الغدير عن ثلاثين من علماء السنّة (مع ذكر المصدر ونص العبارة) ، منها : «السيرة الحلبية» ، «فرائد السمطين» للحمويني ، «درر السمطين» للشيخ محمّد الزرندي ، و «السراج المنير» لشمس الدين الشافعي ، «شرح الجامع الصغير» للسيوطي ، و «تفسير غريب القرآن» للحافظ أبو عبيد الهروي ، و «تفسير شفاء الصدور» لأبي بكر النقاش الموصلي ، وكتب اخرى.

وقد أورد بعض المفسّرين أو المحدّثين الذين يُقرّون بفضائل علي عليه‌السلام على مضض اشكالات مختلفة على شأن النزول هذا ، أهمها الإشكالات الأربعة التالية التي أوردها صاحب تفسير المنار وآخرون بعد ذكرهم للرواية أعلاه.

الإشكال الأوّل : إن سورة المعارج مكية ، ولا تتناسب مع واقعة غدير خم.

والجواب : إن كون السورة مكية لا يعتبر دليلاً على أن جميع آياتها نزلت في مكّة ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ و ١٠ ، ص ٣٥٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ، ص ٦٧٥٧.

(٣) روح المعاني : ج ٢٩ ، ص ٥٢.

(٤) وفقاً لنقل نور الأبصار للشبلنجي : ص ٧١.

٢٨

فلدينا العديد من سور القرآن الكريم التي تدعى بالمكية وكتبت في جميع المصاحف على أنها مكية ، بيد أن عدداً من آياتها نزلت في المدينة ، وكذا العكس ، فعلى سبيل المثال : إن سورة العنكبوت من السور المكية ، والحال أن آياتها العشر الاولى نزلت في المدينة ، على ضوء قول الطبري في تفسيره المعروف ، والقرطبي في تفسيره وآخرين من العلماء (١).

أو سورة الكهف المعروفة بأنها مكية بينما نزلت آياتها السبع الاولى في المدينة استناداً لتفسير «القرطبي» ، و «الاتقان» للسيوطي ، وتفاسير عديدة (٢).

وهكذا فهنالك سورٌ عُدت بأنها مدنية بينما نزلت آيات منها في مكة ، مثل سورة «المجادلة» فهي مدنية كما هو معروف ، إلّا أن الآيات العشر الاولى منها نزلت في مكّة ، طبقاً لتصريح بعض المفسّرين (٣).

وموجز الكلام أنه توجد حالات كثيرة بأن تذكر سورة على أنها مكية أو مدنية ، ويكتب عليها في التفاسير والمصاحف هذا الاسم إلّا أن جانباً من آياتها قد نزل في موضع آخر.

وعليه فلا مانع أبداً من أن تكون سورة المعارج هكذا أيضاً.

الإشكال الثاني : جاء في الحديث أن الحارث بن النعمان جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأبطح ، ومعلوم أن الأبطح اسم لوادي في مكّة ، وهذا لا يتلائم مع نزول الآية بعد واقعة الغدير بين مكّة والمدينة.

الجواب : أوّلاً إن عبارة الأبطح وردت في بعض الروايات فقط لا في جميعها.

وثانياً : إن «الأبطح والبطحاء» تعني الأرض الرملية التي يجري فيها السيل ، وهنالك مناطق في المدينة وغيرها يطلق عليها اسم الأبطح أو البطحاء أيضاً ، واللطيف انه قد اشير إليها مراراً في الشعر العربي.

__________________

(١) تفسير الطبري : ج ٢٠ ، ص ٨٦ ، القرطبي : ج ١٣ ، ص ٣٢٣.

(٢) للمزيد من الاطلاع على الموضوع : راجعوا الجزء الأوّل من كتاب الغدير : ص ٣٥٦ و ٢٥٧.

(٣) تفسير أبي السعود الذي كتب على هامش تفسير الرازي : ج ٨ ، ص ١٤٨ ، والسراج المنير : ج ٤ ، ص ٣١٠.

٢٩

منها الشعر المعروف الذي انشده «شهاب الدين» المشهور ب «حيص بيص» (١) في رثائه لأهل البيت عليهم‌السلام ، عن لسانهم في مخاطبة قاتليهم :

مَلَكْنا فَكانَ الْعَفْوُ مِنّا سَجِيَّةً

فَلَمّا مَلَكْتُمْ سالَ بِالدَّمِ أَبْطَحُ

وَحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الاسارى وَطالَما

غَدَوْنا عَنِ الاسْرى نَعْفُوا وَنصْفَحُ (٢)

ومن الواضح أن مقاتل أهل البيت عليهم‌السلام كانت على الأغلب في العراق وكربلاء والكوفة والمدينة ، وما اريق دمٌ في ابطح مكّة أبداً ، نعم إن بعض أهل البيت عليهم‌السلام استشهدوا في واقعة «فخ» التي تبعد عن مكّة ما يقرب من فرسخين ، والحال أنّ الابطح يجاور مكّة.

وشاعرٌ آخر يرثي الإمام الحسين عليه‌السلام سيّد الشهداء قائلاً :

وَتَانُّ نَفْسي لَلرُّبُوعِ وَقَدْ غَدا

بَيْتَ النَّبِيِّ مُقَطَّعُ الاطْنابِ

بَيْتٌ لِآلِ المُصْطَفى فِي كَرْبَلا

ضَرَبُوهُ بَيْنَ أَباطِحٍ وَرَوابي(٣)

وثمة أشعار اخرى كثيرة ورد فيها تعبير «الابطح» أو «الاباطح» لا تعني منطقة خاصة في مكّة.

وملخّص الكلام ، صحيح أن أحد معاني الابطح هو بقعة في مكّة ، إلّا أنّ معنى ومفهوم ومصداق الابطح لا ينحصر بتلك البقعة.

٣ ـ كيفية ارتباط هذه الآية بما قبلها وبعدها

إن بعض المفسّرين ومن أجل مجانبة الحقيقة الكامنة في هذه الآية توسّل بمبرر آخر

__________________

(١) اسمه «سعد بن محمّد بن سعد بن صيفي التميمي» ويلقّب ب «شهاب الدين» ومشهور بلقب «حيص بيص» ، وكان من فقهاء الشافعية وله معرفة واسعة بالعلوم ولكنه كان أعلم بالشعر والبلاغة ، أما السبب في شهرته بلقب «حيص بيص» فقد ذكروا أن الناس كانوا في عسر وضيق فقال : ما للناس في حيص وبيص؟ فعرف بهذه الكلمة ، توفي عام ٥٥٤ أو ٥٧٤ أو ٥٧٧ ه‍. ق ، ودفن في مقابر قريش. (ريحانة الأدب : ج ٢ ، ص ٩٧).

(٢). الغدير : ج ١ ، ص ٢٥٥.

٣٠

وهو : إن سياق الآيات السابقة واللاحقة بشأن أهل الكتاب لا تنسجم مع قضية الولاية والخلافة والإمامة ، ولا تتناسب هذه الاثنينية في الخطاب مع بلاغة وفصاحة القرآن (١).

الجواب : إن كافة المطّلعين على كيفية جمع آيات القرآن يعرفون أن آيات القرآن نزلت تدريجياً وبمناسباتٍ مختلفة ، من هنا فكثيراً ما تتحدث سورةٌ ما حول قضايا مختلفة ، فجانبٌ منها يتحدث عن الغزوة الفلانية ، والجانب الآخر حول الحكم والتشريع الإسلامي الفلاني ، وجانبٌ يخاطب المنافقين ، وآخر يخاطب المؤمنين ، فمثلاً لو طالعنا سورة النور لوجدناها تحتوي على جوانب متعددة ، كلٌّ منها ناظرٌ إلى موضوعٍ ، بدءاً من التوحيد والمعاد ومروراً بتنفيذ حدّ الزنا وقصة «الافك» ، والقضايا المتعلّقة بالمنافقين ، والحجاب وغيرها ، (وكذلك سائر السور الطوال إلى حدٍّ ما) بالرغم من وجود ارتباط عام بين مجموعة أجزاء السورة.

والسرّ وراء هذا التنوع في المحتوى ما قيل من أن القرآن نزل تدريجياً وحسب المتطلبات والضرورات وفي مختلف الأحداث ، وليس على هيئة كتاب كلاسيكي أبداً بحيث يتابع موضوعاً معداً سلفاً ، على هذا الأساس لا مانع على الاطلاق من أن تنزل مقاطع من سورة المائدة بشأن أهل الكتاب ، ومقاطع منها في واقعة الغدير ، بالطبع فمن وجهة النظر العامة انهما يرتبطان معاً إذ انّ تعيين خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يترك أثره على قضايا أهل الكتاب أيضاً ، لأنه سيؤدي إلى يأسهم من انهيار الإسلام برحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

__________________

(١) تفسير المنار : ج ٦ ، ص ٤٦٦.

(٢) نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ١٧٥.

٣١
٣٢

آية إكمال الدين ٢

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) «سورة المائدة / الآية ٣»

أبعاد البحث

تتحدّث هذه الآية الشريفة عن يوم عظيم جداً لدى المسلمين حيث يمثل نقطة عطف في تاريخ الإسلام ، وهو اليوم الذي عاش فيه أعداء الدين اليأس الكامل ، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة الإلهية ورضى الله تعالى ، فأي يوم هو هذا اليوم المبارك؟

فيما يلي نجيب على هذا السؤال :

الشرح والتفسير :

يوم إكمال الدين والنعمة

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) فبالرغم من أنّ أعداء الإسلام والكفّار المعاندين لم يتوانوا في التصدي للدعوة السماوية منذ بدايتها وإلى آخر أيّام حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبوسائل مختلفة ، وفي كلّ مرّة كانوا يهزمون ويولّون الأدبار ولكنهم مع ذلك لم يفقدوا الأمل في الانتصار على الإسلام والمسلمين ، ولكن عند نزول هذه الآية الشريفة ندرك جيداً وقوع حادثة مهمة بحيث إنّ هؤلاء الأعداء لم ينهزموا فقط بل فقدوا أملهم بالنصر نهائياً.

٣٣

وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء الكفّار والمشركين قد تملّكتهم حالة من اليأس المطبق في تحقيق النصر على هذه الدعوة الجديدة.

(فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) فمع هذا النصر الكبير الذي حصل لكم في هذا اليوم فلا ينبغي لكم بعد ذلك أن تعيشوا حالة الخوف والخشية من الأعداء لأنهم سوف لا يشكلون خطراً عليكم إطلاقاً بل عليكم أن تتحركوا في امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى من موقع الخشية لله والتقوى لأنّ الخطر الأساس في هذه المرحلة يتمثل في الأهواء والشهوات والابتعاد عن خط الطاعة والتقوى والمسئولية.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ففي هذا اليوم العظيم والمهم أكمل الله لكم دينكم وأتم نعمته عليكم.

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) إنّ عظمة هذا اليوم وأهمية هذه الحادثة إلى درجة بحيث إنّ الله عزوجل رضى لكم الدين الإسلامي إلى الأبد.

أيّ يوم هو ذلك اليوم؟

إن اليوم الذي تتحدث عنه الآية الشريفة له خصائص مهمة أربع :

١ ـ إن هذا اليوم هو اليوم الذي شعر فيه الكفّار والمشركون باليأس الكامل.

٢ ـ اليوم الذي أكمل الله لكم الدين.

٣ ـ اليوم الذي أتم الله تعالى نعمته على جميع المسلمين.

٤ ـ اليوم الذي رضى به الله تعالى أن يكون الإسلام ديناً خالداً لجميع الناس فأيّ يوم هذا اليوم المبارك الذي يتمتع بهذه الخصوصيات الأربعة؟

وللإجابة على هذا السؤال يمكننا اختيار طريقين :

الطريق الأوّل : التأمل والتدبّر في مضمون الآية الشريفة نفسها ومطالعة ما يمكن استيحاؤه من أجوائها بغض النظر عن الروايات والأحاديث الشريفة الواردة في تفسير هذه الآية وبغضّ النظر كذلك عن آراء المفسّرين وعلماء الإسلام وسائر العلائم والقرائن الاخرى التي تحيط بهذه الآية الشريفة.

٣٤

الطريق الثاني : تفسير الآية الشريفة بالاستعانة بالروايات الواردة بشأن النزول وكذلك آراء ونظريات المفسّرين وعلماء الإسلام.

الطريق الأوّل : تفسير الآية بدون الاستعانة بالقرائن الخارجية

نتساءل مع أيّ حادثة من الحوادث التاريخية في زمن النزول يمكن تطبيق هذه الآية الشريفة؟

وفي مقام هذا الجواب على هذا السؤال فالفخر الرازي له رأيان والمرحوم الطبرسي ذكر رأياً ثالثاً ، ونحن بالتوكل على الله تعالى وبالاستعانة بالعقل والمنطق والابتعاد عن التعصّب ولغة الاحساسات والابتعاد عن كلّ ما يخلّ بوحدة المسلمين نبحث هذه الآراء والنظريات الثلاث بدقّة :

النظرية الاولى : وهي إحدى النظريات التي ذكرها الفخر الرازي في تفسيره للآية الشريفة ، وهي أنّ كلمة «اليوم» الواردة في هذه الآية لم ترد بمعناها الحقيقي بل وردت بالمعنى المجازي ، أي أنّ كلمة «اليوم» هنا تعني «المرحلة» أو البرهة من الزمان لا مقطع خاص منه بما يحكي عن ليلة ونهار واحد.

وطبقاً لهذه النظرية فإنّ اليوم هنا لا يقصد به يوم معين أو حادثة خاصّة بل يشير إلى بداية مرحلة تحكي عن عظمة الإسلام ويأس الأعداء والكفّار من تحقيق النصر على هذه الدعوة السماوية ، لا سيّما وأن هذا الاستعمال المجازي لكلمة «اليوم» هو استعمال متداول بين الناس كما يقال مثلاً «كنت بالأمس شاباً واليوم أصبحت شيخاً» أي أنني كنت في مرحلة سابقة من عمري شاباً وفي هذا الزمان أصبحت شيخاً ، فلا تعني كلمة اليوم أو الأمس يوماً معيناً من الأيّام الزمانية.

ولكن الجواب على هذه النظرية واضح لأنّ المعنى المجازي يحتاج إلى قرينة لصرف الاستعمال عن المعنى الحقيقي ، فما هي هذه القرينة الواضحة التي استند عليها الفخر الرازي للقول بالمعنى المجازي؟

النظرية الثانية : أن المراد بكلمة اليوم في الآية الشريفة هو المعنى الحقيقي ، أي هو يوم

٣٥

خاصّ ومعين وهو «يوم عرفة» الثامن من شهر ذي القعدة ، في حجّة الوداع في السنة العاشرة للهجرة.

ولكن هذه النظرية بدورها لا تتضمن إقناعاً كافياً لأنّ يوم عرفة في السنة العاشرة للهجرة لا يختلف عن أيّام عرفة الاخرى في السنة التاسعة والثامنة للهجرة ، ولو لم تحدث في هذا اليوم حادثة خاصة فكيف ذكرته الآية الشريفة بلغة التعظيم والتبجيل؟

والخلاصة هي أنّ هذه النظرية غير مقبولة وغير منطقية وبالتالي فإنّ كلا النظريتين للفخر الرازي لا تعيننا في استجلاء مضمون الآية الشريفة واكتشاف السر المستودع فيها.

النظرية الثالثة : وهي التي ذكرها الطبرسي الذي يعد من أساطين المفسّرين لدى الشيعة ، فإنّه بعد أن نقل القولين السابقين للفخر الرازي وردّهما ذكر تفسير أهل البيت في مورد هذه الآية الشريفة الذي هو تفسير جميع مفسّري الشيعة وعلمائهم.

يرى أصحاب هذه النظرية أن المراد ب «اليوم» في هذه الآية الكريمة الذي تحقق فيه يأس الكفّار واستوجب رضى الله تعالى وكمل فيه الدين وتمت فيه النعمة هو اليوم الحادي عشر من شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة للهجرة أي يوم عيد الغدير ، وهو اليوم الذي نصّب فيه رسول الله الإمام عليّ خليفة له على المسلمين وأعلن فيه خلافته وولايته بصورة رسمية.

سؤال : هل هذه النظرية تتطابق مع مضمون الآية الشريفة؟

الجواب : إذا نظرنا بعين الإنصاف إلى هذه الآية الشريفة وابتعدنا عن المسبوقات الفكرية والرواسب التراثية لرأينا الآية الشريفة تنطبق تماماً على واقعة الغدير لأنها :

أوّلاً : لأنّ أعداء الإسلام بعد أن فشلوا في جميع مؤامراتهم وانهزموا في حروبهم ضد الإسلام والمسلمين وفشلت خططهم في بثّ التفرقة والاختلاف في صفوف المسلمين فإنّهم لم يبق لهم سوى شيء واحد يحيي أملهم في الانتصار والتغلب على هذا الدين الجديد ، وهو أن النبي الأكرم بعد رحيله من هذه الدنيا وخاصّة مع أخذ بالنظر الاعتبار أنّه لم يكن له ولد يخلفه في أمر الدعوة واستمرارية الرسالة ولم يعيّن لحد الآن خليفة له من بعده فيمكنهم والحال هذه أن يسددوا ضربة قاصمة للإسلام والدعوة السماوية بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

٣٦

ولكنّهم عند ما شاهدوا أنّ النبي الأكرم قد جمع المسلمين في صحراء غدير خم في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة في السنة العاشرة للهجرة واختار خليفة له على المسلمين وهو أعلمهم وأقدرهم في تدبير امور المجتمع الإسلامي فإنّ أملهم هذا قد تبدّل إلى يأس كامل ، وتبخرت حينذاك طموحاتهم وتمنياتهم وأغلقت فيه النافذة الوحيدة للأمل لديهم فيئسوا من هزيمة الإسلام إلى الأبد.

ثانياً : مع انتخاب الإمام علي عليه‌السلام خليفة ووصياً للرسول فإنّ النبوة لن تنقطع بل استمرت في سيرها التكاملي لأن الإمامة هي تكميل للنبوة وبالتالي فالإمامة هي السبب في كمال الدين ، وعلى هذا الأساس فإن الله تعالى قد أكمل دينه بنصبه الإمام علي خليفة على المسلمين وهو الشخصية المتميزة من بين المسلمين بالعلم والقدرة والتقوى والفضيلة بما لا يدانيه أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثالثاً : إن النعم الإلهية قد تمت على المسلمين بنصب الإمام علي خليفة وإماماً بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

رابعاً : إنّ الإسلام بلا شك سوف لا يكون ديناً عالمياً وشمولياً وخاتم الأديان بدون عنصر الإمامة ، لأن الدين الذي يعتبر نفسه خاتم الأديان يجب أن يتضمن إجابات كافية على حاجات الناس المتكثرة والمتوالية في جميع الأزمان ، وهذا المعنى لا يتسنى من دون إمام معصوم في كلّ زمان من الأزمنة.

والنتيجة هي أن تفسير الآية الشريفة بواقعة الغدير هو التفسير الوحيد والمقبول من جميع الجهات.

المراد من إكمال الدين

وقد ذكر المفسّرون في تفسير هذا المقطع من الآية الشريفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) ثلاث نظريات :

١ ـ إن المراد من «الدين» هو القوانين ، أي أن ذلك اليوم كملت فيه قوانين الإسلام فلا يوجد في الإسلام خلأ قانوني وفراغ تشريعي بعد الآن.

٣٧

ولكنّ الجواب على هذه النظرية يمكن أن يثير سؤال وهو :

ما هذا القانون المهم أو الحادثة المهمة التي وقعت في ذلك اليوم وأدّت إلى تكميل القوانين الإلهية والتشريعات السماوية؟

وفي الجواب على هذا السؤال يكمن مضمون الآية الشريفة ومدلولها.

٢ ـ ذهب البعض إلى أن المقصود من كلمة «الدين» في الآية أعلاه هو «الحجّ» أي أنّ الله تعالى قد أكمل حجّ المسلمين في ذلك اليوم العظيم.

ولكن هل أنّ الدين يستعمل بمعنى الحجّ واقعاً ، أو أنّ الدين هو مجموعة العقائد والأعمال والعبادات التي يشكل الحجّ أحدها؟

من الواضح أن احتمال الثاني هو الصحيح ، وعليه فإن تفسير الدين بمعنى الحجّ هو تفسير غير مقبول ولا يقوم على دليل متين.

٣ ـ إنّ تحقق مضمون الآية الشريفة في إكمال الدين وإتمام النعمة في هذا اليوم بأنّ الله تعالى نصر فيه المسلمين على أعدائهم وخلّصهم من شرّ هؤلاء الأعداء.

ولكن هل يصحّ هذا الكلام؟ فمن هم الأعداء الذين غلبوا وشعروا باليأس؟ فبالنسبة إلى المشركين فقد استسلموا ودخلوا في الإسلام في السنة الثامنة للهجرة عند فتح مكة ، وبالنسبة إلى يهود المدينة وخيبر وقبائل بني النظير وبني قينقاع وبني قريظة فإنّهم قد هزموا في سنوات سابقة في معركة خيبر والأحزاب فتركوا الجزيرة العربية وخرجوا إلى خارج الحكومة الإسلامية ، وأمّا بالنسبة إلى النصارى فقد أمضوا معاهدة الصلح مع المسلمين ، وعليه فإن جميع أعداء الإسلام قد استسلموا قبل السنة العاشرة للهجرة.

نعم ، بقي خطر المنافقين الذين يمثّلون أخطر أعداء الإسلام حيث لا زال خطرهم ماثلاً أمام المسلمين ، ولكن كيف يمكن القول بأنهم قد انهزموا وأصابهم اليأس؟

هنا نجد أن هذا السؤال بقي بلا جواب مقنع كما هو حال السؤال المطروح في النظرية الاولى والذي لم يتقدم أصحاب هذه النظرية بالجواب على هذا السؤال.

أما تفسير علماء الشيعة فكما تقدّم آنفاً فإنّه يجيب على جميع الأسئلة ويلقي ضوءاً خاصّاً على مفهوم الآية وأجواءها.

٣٨

أجل! فإنّ واقعة غدير خم ومسألة الولاية وخلافة أمير المؤمنين تعتبر أفضل تفسير بل هي التفسير الصحيح لهذه الآية الشريفة ، لأنّ مع وقوع هذه الحادثة المهمة فإنّ آمال المنافقين وأعداء الإسلام قد تبددت وتبدلت إلى يأس.

اعتراف جذّاب من الفخر الرازي

يقول الفخر الرازي المفسّر السنّي المعروف :

«قال أصحاب الآثار انّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعمر بعد نزولها إلّا أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ (١) ولا تبديل البتّة (٢)».

وعلى وفق مقولة الفخر الرازي هذه فإنّ الآية الشريفة قد نزلت قبل رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بواحد وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ، وعلى هذا الأساس فيمكن حدس وقت نزول الآية الشريفة ، ولإيضاح هذا المطلب يلزمنا التعرف على زمن رحلة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ

__________________

(١) وفي هذه الأيّام نرى بعض الجهال والمغرضين يطرحون شبهات مختلفة ، وأحدها أن الإسلام لا يتحدد بما وصل إلينا من النصوص الدينية في تراثنا الديني بل لا بدّ من الاستعانة بالعقل والفكر لانتاج المزيد من القوانين الشرعية في دائرة الدين وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان قد عاش أكثر ممّا عاش فإن الوحي سيرفده بقوانين وأحكام جديدة أكثر ممّا هو موجود الآن ، وبالتالي فإن الإسلام ليس ديناً كاملاً بل يجب العمل على إكماله.

الجواب : ويتّضح الجواب عن هذه الشبهة والمغالطة بالرجوع إلى ما ذكره الفخر الرازي في هذا المجال لأن النبي حسب الرواية المذكورة عاش بعد نزول آية إكمال الدين ثمانين يوماً ونيفاً ، ولو كانت هناك قوانين شرعية لم تصل إليه بعد لنزل الوحي بها عليه في هذه المدّة ، وهذا يعني عدم وجود قوانين إلهية وآيات قرآنية لم تنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن مهمات المسائل والتعاليم السماوية قد بُيّنت بحيث لو فرض أن النبي كان يعيش أكثر من المدّة المقرّرة ما كان سيزداد شيئاً على قوانين الإسلام.

وهنا لا بدّ من إظهار التأسف على أن بعض الأشخاص غير المطلعين على المصادر الدينية يبدون برأيهم من دون تحقيق ، فلما ذا يكون المرجع في كلّ علم وفن هم أهل الخبرة والمتخصصين في ذلك العلم والفن ويكون الحقّ معهم فيما يقولون وليس كذلك في المسائل الدينية حيث نرى أن كل من هبّ ودبّ يدلي بدلوه ويصرّح برأيه في هذا الميدان؟!

(٢) التفسير الكبير : ج ١١ ، ص ١٣٩.

٣٩

أهل السنّة يرون أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ولد في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل واتفق أنّ وفاته كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل أيضاً.

وبالطبع فإنّ بعض الشيعة أيّد هذا الرأي ومنهم الكليني الذي يرى أن تاريخ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل بالرغم من أنّه يرى أن ولادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت في اليوم السابع عشر من ربيع الأوّل طبقاً لما هو المشهور من علماء الشيعة ، وعلى هذا الأساس لا بدّ من الرجوع واحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً من الثاني عشر من ربيع الأوّل ، ومع الالتفات إلى أن الأشهر القمرية لا تكون ثلاثين يوماً على التوالي في ثلاثة أشهر وكذلك لا تكون تسعة وعشرين يوماً على ثلاثة أشهر متوالية ينبغي أن يكون هناك شهران كاملان وبينهما شهر واحد منه تسعة وعشرين يوماً ، أو بالعكس بأن يكون هناك شهران لتسعة وعشرين يوماً وشهر واحد لثلاثين يوماً.

فلو أخذنا بنظر الاعتبار شهر محرم وصفر وفرضنا أنّ كلّ واحد منهما تسعة وعشرين يوماً ، فالمجموع يكون ثمانية وخمسين يوماً ، ومع إضافة أثنى عشر يوماً من شهر ربيع الأوّل يكون المجموع سبعين يوماً ، وبالالتفات إلى أن شهر ذي الحجّة لا بدّ وأن يكون ثلاثين يوماً فلو توغلنا فيه اثنى عشر يوماً ليكون المجموع اثنين وثمانين يوماً يصادف هذا اليوم هو يوم عيد الغدير الثامن عشر من ذي الحجّة ، وعلى هذا الأساس وطبقاً لنظرية علماء السنّة فإنّ الآية الشريفة أعلاه تتعلّق بيوم الغدير لا بيوم عرفة.

وإذا كان المعيار هو واحداً وثمانين يوماً فإنّه يتفق مع اليوم الذي يتلو يوم الغدير لا يوم عرفة حيث تفصله مع يوم عرفة فاصلة كبيرة.

وإذا أخذنا شهر محرم وصفر لكلّ واحد منهما ثلاثون يوماً وشهر ذي الحجّة تسعة وعشرين يوماً فطبقاً لعدد اثنين وثمانين يوماً يكون اليوم التاسع عشر من ذي الحجّة هو المراد وطبقاً لواحد وثمانين يوماً فإنّ يوم عشرين ذي الحجّة يكون هو زمان الآية الشريفة ، أي أن الآية الشريفة نزلت بعد يوم واحد أو يومين بعد واقعة الغدير ونصب الإمام علي عليه‌السلام خليفة على المسلمين وناظرة إلى هذه الحادثة التاريخية المهمة ولا ترتبط إطلاقاً بيوم عرفة.

والنتيجة هي أنّ القرائن المختلفة التي تحف بهذه الآية الشريفة تشير إلى أن هذه الآية

٤٠