آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

كواحد من الناس بل تتعلق بجميع أفراد المجتمع الإسلامي والمجتمع البشري أيضاً ، وعليه فلو واجه مؤامرة في بيته ومن أقرب الناس إليه فإنّ هذه المؤامرة رغم كونها خاصّة ومحدودة بدائرة صغيرة إلّا أن ذلك لا يعني أن نمرُّ عليها مرور الكرام ومن موقع عدم الاهتمام فإنّ حيثية النبوّة وهذا المقام العظيم لا ينبغي أن يكون «والعياذ بالله» العوبة بيد هذا وذاك ، فلو فُرض أن واجه النبي مثل هذه الحال فلا بدّ أن يتعامل مع هذا الموقف بجديّة وقاطعيّة لئلّا يسري الأمر إلى موارد اخرى.

الآيات الاولى من سورة التحريم في الحقيقة تتضمن أمراً قاطعاً من الله تعالى لنبيّه الكريم أن يتّخذ موقفاً صارماً من هذه الحادثة ، ومن أجل حفظ كرامة النبي وحيثيته تقول الآية :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)

ومعلوم أن هذا التحريم لم يكن تحريماً شرعياً بل كما سيأتي توضيحه في الآيات اللاحقة أنه كان بمثابة قَسَم من النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونعلم أن القسم على ترك بعض المباحات لا يعدُّ من الذنوب ، وعليه فإنّ جملة «لِمَ تحرّم» لم ترد بعنوان عتاب وتوبيخ بل هو نوع من الشفقة واللطف ، كما يقال لمن يتعب نفسه كثيراً في خدمة الآخرين ومن دون أن يعود عليه إلّا بالنفع القليل : لما ذا تتعب نفسك كثيراً وتعمل كلّ هذه الأعمال ولا تنتفع منها إلّا القليل؟

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ثمّ إنّ الله تعالى يختم الآية الشريفة بالغفران والرحمة للزوجات اللواتي سبّبن وقوع هذه الحادثة فيما لو صدقن في التوبة إلى الله تعالى ، أو هي إشارة إلى أنّ الأفضل للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يقسم مثل هذا القسم بحيث يحتمل أن يتسبب في إقدام بعض زوجاته على مستوى الجرأة والجسارة.

وتضيف الآية التالية (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وبهذا جعل الله تعالى كفّارة القسم ليتحرر الإنسان من قَسَمه ولا يتورط في الذنب في الموارد التي يكون ترك العمل مرجوحاً «من قبيل الآية مورد البحث» في هذه الصورة يجوز حنث اليمين ولكن لأجل حفظ حرمة اليمين فالأفضل دفع كفّارة.

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وهو الذي بيّن لكم طريق النجاة والتخلّص من

٣٢١

هذه الأيمان وفتح لكم أبواب حلّ المشكل بحكمته ، ويستفاد من الروايات الشريفة أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول هذه الآية أعتق رقبة وتحرر من القسم الذي حرّم بواسطته ما كان حلالاً له.

وتتحرّك الآية التي بعدها على مستوى شرح وبيان الواقعة بتفصيل أكثر وتقول :

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)

فهنا تتحدّث الآية الشريفة عن حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض أزواجه في سرّ معيّن ولكنّ هذه الزوجة لم تحفظ السرّ بل أفشته وأعلنت عنه ، ولكن ما ذا كان هذا السرّ ومن هي الزوجة التي تحدّث النبي معها وأطلعها على هذا السرّ فسوف يأتي في بحث شأن النزول لاحقاً.

ويتّضح من مجموع هذه الآيات القرآنية أنّ بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مضافاً إلى توجيه الإساءة إليه بكلامهنّ فإنّهنّ لم يحفظنّ السرّ معه والذي يعتبر أهم العناصر في العلاقات الزوجية بأن تكون الزوجة وفيّة لزوجها وتحفظ أسراره ، ولكننا نرى خلاف ذلك في بيت النبوّة ، ومع ذلك فنلاحظ أن سلوك النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع كلّ هذه التعقيدات والمواقف السلبية من بعض زوجاته إلّا أنه لم يكن مستعداً للكشف عن جميع السرّ الذي أفشته زوجته ويوبخها على ذلك بل اكتفى بالإشارة إلى بعضه فقط «عرّف بعضه وأعرض عن بعض» ولذا ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال :

ما اسْتَقْصى كَريمٌ قَطُّ لَانَّ اللهَ يَقُولُ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَاعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ (١).

ثمّ تتوجه الآية بالخطاب إلى الزوجتين مورد البحث وتقول :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) فلو انتهيتما من إساءة النبي عليه‌السلام وتبتما إلى الله فإنّ ذلك يعود عليكما بالنفع لأنّ قلوبكما قد انحرفت بهذا العمل عن خطّ الحقّ وتلوثت بالذنب.

والمراد بهاتين الزوجتين كما صرّح به المفسّرين من الشيعة والسنّة : «حفصة» بنت عمر

__________________

(١) الميزان : ج ١٩ ، ص ٣٣٨.

٣٢٢

بن الخطّاب و «عائشة» بنت أبي بكر (١) ، وبما أن مثل هذه الحالات السلبية تعتبر ظاهرة خطيرة في بيت النبوّة فيما لو تكررت في المستقبل فإنّ الله تعالى يحذّرهما في هذه الآية من الاستمرار في سلوك هذا الطريق الشائن ويقول :

(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)

وهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي أن هذه الواقعة قد أضرّت بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيراً وآلمت قلبه الطاهر إلى درجة أن الله تعالى يهبُّ للدفاع عنه ، ورغم أن القدرة الإلهية كافية في عملية الدفاع عن النبي إلّا أن القرآن الكريم أضاف إليها حماية جبرئيل والمؤمنين الصالحين والملائكة في دفاعهم عن رسول الله.

من هو صالح المؤمنين؟

إنّ ما يلفت النظر في الآية المذكورة ويقع في البحث هو أنه : ما المراد من عبارة «صالح المؤمنين»؟ هل يقصد بها شخص معيّن ، أو أن هذا التعبير شامل لجميع المؤمنين الصالحين؟ بلا شك أن «صالح المؤمنين» له معنى شامل وعام بحسب الظاهر حيث يستوعب جميع المؤمنين الصالحين والمتقين رغم أن كلمة «صالح» قد وردت في هذه الجملة بصيغة المفرد لا الجمع ، ولكن بما أنها استعملت بمعنى الجنس فيستفاد منها المفهوم العام ، ولكن لا شكّ أن مفهوم «صالح المؤمنين» له مصداق أتمّ وأكمل ، ويستفاد من خلال الروايات المتعددة أن هذا المصداق الأكمل والفرد الأتم هو «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام» وهذا المعنى ذكره الكثير من علماء أهل السنّة في كتبهم ومن ذلك :

١ ـ العلّامة الثعلبي (٢).

__________________

(١) يقول ابن عبّاس : «سألت عمر : من اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه؟ فقال : تلك حفصة وعائشة. قال : فقلت والله إن كنت لُاريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك ، قال : فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم أخبرتك به ، قال : ثمّ قال عمر : والله إن كنا في الجاهلية ما نعدّ النساء أمراً حتّى أنزل الله فيهنّ ما أنزل وقَسَم لهنّ ما قَسَم. (صحيح البخاري : ج ٦ ، ص ١٩٥ ، سورة التحريم).

(٢) العمدة لابن بطريق : ص ١٥٢ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١١.

٣٢٣

٢ ـ العلّامة الگنجي في كفاية الطالب (١).

٣ ـ أبو حيان الأندلسي (٢).

٤ ـ السبط ابن الجوزي (٣).

٥ ـ السيوطي في الدرّ المنثور (٤).

٦ ـ الآلوسي في روح المعاني (٥).

٧ ـ الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (٦).

٨ ـ العلّامة البرسويي في روح البيان (٧).

٩ ـ ابن حجر في الصواعق (٨).

١٠ ـ علاء الدين المتقي في كنز العمّال (٩).

وقد ذكر الحاكم الحسكاني الحنفي في ذيل هذه الآية الشريفة «ثمانية عشر رواية» من طرق مختلفة تؤكد على أن المراد بكلمة «صالح المؤمنين» هو علي بن أبي طالب ، ونكتفي هنا بذكر ثلاث روايات منها :

١ ـ تقول اسماء بنت عميس إنّني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

صالِحُ الْمُؤْمِنينَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ (١٠).

٢ ـ وينقل ابن عبّاس عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام :

__________________

(١) كفاية الطالب : ص ٥٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١١.

(٢) البحر المحيط : ج ٨ ، ص ٢٩١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١٢.

(٣) التذكرة : ص ٢٦٧ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١٢.

(٤) الدرّ المنثور : ج ٦ ، ص ٢٤٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١٣.

(٥) روح المعاني : ج ٢٨ ، ص ١٣٥ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١٤.

(٦) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٥٤ ببعد.

(٧) روح البيان : ج ١٠ ، ص ٥٣.

(٨) نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٢٩٩.

(٩) نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٢٩٩.

(١٠) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٥٦ ، ح ٩٨٢.

٣٢٤

هُوَ صالِحُ الْمُؤْمِنينَ (١).

٣ ـ ويقول عمّار ابن ياسر إنني سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :

أَلا ابَشِّرُكَ؟ قُلْتُ : بَلى يا رَسُولَ اللهِ وَما زِلْتَ مُبَشِّراً بِالْخَيْرِ! قالَ : قَدْ انْزَلَ اللهُ فيكَ قُرْآناً. قُلْتُ : وَما هُوَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ : قُرِنْتَ بِجَبْرَئيل ثُمَّ قَرَأَ : وَجِبرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ ... (٢)

وخلاصة الكلام أن الروايات الواردة في هذا المورد كثيرة وقد ذكر المفسّر المعروف «البحراني» في تفسيره «البرهان» بعد أن ذكر رواية في هذا المجال عن محمّد بن عبّاس أنه نقل ٥٢ حديثاً وروايةً حول هذا الموضوع من طرق الشيعة وأهل السنّة ثمّ نقل بعض هذه الأحاديث.

والنتيجة هي أن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يعتبر أفضل ناصر ومعين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الله تعالى وجبرئيل الأمين ، وعليه فمن يكون مؤهلاً لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غيره؟ ألا تعتبر هذه الروايات دليلاً على أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أفضل أفراد الامّة وأعلاهم شأناً بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وإذا كان هكذا وأراد الله تعالى أن ينصب شخصاً لمقام الخلافة والإمامة بعد النبي الأكرم فهل تسمح الحكمة الإلهية بأن يختار الله تعالى شخصاً آخر غيره لهذا المقام؟ وإذا أراد الناس والعقلاء أن يختاروا لهم شخصاً لحيازة هذا المقام المهم فهل يسمح العقل السليم أن يختاروا شخصاً غير من كان أفضل ناصر ومعين لنبي الإسلام بعد الله وجبرئيل؟

أجل ، فإنّ الإمام علي عليه‌السلام كان يعيش النصرة الدائمة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع المواقف والأحداث والميادين وأنه الأولى بحيازة مقام الخلافة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٥٨ ، ح ٩٨٧.

(٢) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٥٩ ، ح ٩٨٩.

٣٢٥

توصية الآية

نستوحي من عبارة «صالح المؤمنين» أن الآية الشريفة توصي الجميع بالإيمان والصلاح والخير ، وتوصي جميع أتباع أمير المؤمنين أن لا يتوقفوا على عتبة «قبول الإسلام» بل يتحركوا من موقع تعميق الإيمان بالله وباليوم الآخر وأن يمتد هذا الإيمان إلى أعماق وجدانهم وقلوبهم ويتجسد على مستوى الجوارح وممارسة الأعمال الصالحة ليكونوا من صالح المؤمنين.

٣٢٦

آية الإنذار والهداية ١٣

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)

«سورة الرعد / الآية ٧»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة أيضاً من الآيات المتعلّقة بولاية وإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث بحث فيها العلماء والمفسّرون أبحاثاً متنوعة ، ويستفاد من الروايات أنها تدلُّ مضافاً إلى ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ولاية وإمامة جميع الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كما سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث القادمة.

الشرح والتفسير : ذرائع مختلفة

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) والظاهر من هذه الآية الشريفة أن الكفّار طلبوا هذه المرّة أمراً منطقياً لأنّ كلّ نبي لا بدّ له لإثبات حقانيّته وأنه مرسل من الله تعالى من معجزة يثبت فيها هذا الادعاء ، وهنا طلب الكفّار معجزة من نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويجيبهم الله تعالى على طلبهم المعقول هذا بقوله :

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)

٣٢٧

تناسب صدر الآية وذيلها

سؤال : هل هناك تناسب وانسجام بين صدر الآية الشريفة وذيلها؟ وهل أن الجواب على طلب المشركين من النبي بأن يأتيهم بآية ومعجزة هو «إنّما أنت منذر ...»؟

الجواب : لأجل العثور على الترابط بين صدر الآية وذيلها لا بدّ من مراجعة الآيات الاخرى التي تتحدّث عن طلب الكفّار للمعجزة من النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويحدّثنا القرآن الكريم في الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء على لسان المشركين :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) هنا يقول الكفّار بأنّنا لن نؤمن لما تقول حتّى تأتينا بمعجزة ، ثمّ طلبوا منه سبع معاجز كما نريد ونشتهي ، أي أن المعجزات التي تأتي بها من دون أن تكون مطابقة لميلنا ورغبتنا فلا فائدة فيها ، بل لا بدّ أن تكون المعجزة حسب رغبتنا وميلنا (١).

ويستفاد من ظاهر الآية أنهم ذكروا سبع معاجز في دائرة طلبهم وتوقعهم من النبي ، والظاهر أن هذا الطلب صدر من أشخاص متعددين كلُّ واحد منهم طلب معجزة معيّنة :

١ ـ (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) فأوّل معجزة طلبوها من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يفجر لهم في أرض الحجاز وصحراءها المحرقة عيناً تفيض بالماء الزلال وتفور بالمياه العذبة ليشرب منها الناس ودوابهم ويسقون مزارعهم.

٢ ـ (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) وهذه المعجزة أيضاً لها بعد في إحياء الأراضي الميّتة وعمران المنطقة من خلال إيجاد بساتين مليئة بأشجار العنب والنخيل وتجري من خلالها المياه.

٣ ـ (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) وهنا نرى طلباً غير معقول وهو أنهم أرادوا من النبي أن يدعو الله تعالى لإنزال العذاب عليهم على شكل مطر من الأحجار السماوية لهلاكهم ، وهذا الطلب إذا تحقّق فإنهم سيؤمنون ويذعنون لدعوة النبي.

٤ ـ (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) وهكذا نرى إنّ الإنسان عند ما يصل به العناد واللجاجة إلى أعلى المراتب لا يلتفت إلى ما يقول ، فهؤلاء لم يقولوا : اذهب بنا إلى الله

__________________

(١) انظر تفصيل شأن النزول لهذه الآيات في التفسير الامثل : ج ٧ ذيل الآية.

٣٢٨

والملائكة بل طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتي إليهم بالله والملائكة ويحضرهم عندهم.

٥ ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) والطلب الخامس لإثبات النبوّة أنهم أرادوا أن يبني النبي لنفسه قصراً مجللاً بالذهب والزخارف والنقوش ، لأن سكّان مكّة كانوا فقراء غالباً فلو أنك كنت تملك مثل هذا القصر العظيم والجذّاب فهذا يدلُّ على أنك مرسل من الله تعالى.

٦ ـ (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) والذريعة السادسة هي أنهم طلبوا من النبي لإثبات صدق دعواه أن يطير في السماء أمام أعينهم ليذعنوا للحقّ ويؤمنوا بدعوته.

٧ ـ (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) وتمادى بعض الكفّار في عنادهم ولجاجتهم وطلبوا من النبي مضافاً إلى طيرانه في السماء أمام أعينهم عليه أن يأتيهم بكتاب من الله إليهم ليقرءوه.

وكما ترون أن هذه المعاجز السبعة المذكورة في الآية الشريفة تتعلّق بعضها بعمران وإحياء الأرض ، وبعض آخر تتضمن الهلاك والموت لهؤلاء المعاندين والمغرورين ، والقسم الثالث يتضمن أعمال غير معقولة وغير منطقية ، والقسم الرابع لا يتعدّى أن يكون مجرد ذريعة واهية وليس طلباً حقيقياً.

لو كان الأنبياء يتحرّكون في تعاملهم مع أقوامهم من موقع القبول لكلِّ مقترحاتهم والإتيان بالمعجزات كما يرغبون فإنّ بعض الجهلاء والمعاندين والمتذرّعين سيطلبون كلّ يوم معجزة من نبيّهم وسيكون الدين الإلهي ملعبة بأيديهم ، ولهذا فإن الله تعالى كان يعطي لكلِّ نبي من الأنبياء معجزة أو معجزات عديدة لبيان حقّانيته وإثبات رسالته ولا يهتم لمطالبات مثل هؤلاء الأشخاص اللجوجين.

ومع الالتفات إلى هذا المقدمة المطوّلة نعود إلى الآية الشريفة حيث تقول الآية (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)

وفي الجواب على هذا الطلب المعقول حسب الظاهر يمكن القول : إنّ نبي الإسلام قد أتى بالمعجزة من الله تعالى بحيث عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثلها كما تصرّح الآية ٨٨ من هذه السورة :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)

٣٢٩

فعند ما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم بمعجزة من الله تعالى لن يتمكنوا من الإتيان بمثلها مضافاً إلى معجزات اخرى ، فلا معنى لطلبهم معجزة اخرى من النبي الكريم ، ولذلك أمر الله تعالى أن يقول في جوابهم : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فمسئوليتك هي الإنذار والتحذير وليست الإتيان بالآية والمعجزة فإننا نحن الذين نقرر شكل المعجزة وكيفيتها ، ولكلِّ قومٍ شخص يهديهم إلى الحقّ.

وعلى هذا الأساس يتّضح التناسب والانسجام بين صدر الآية وذيلها.

من هو المنذر والهادي؟

ولغرض توضيح معنى هاتين المفردتين يمكننا البحث في هذا الموضوع من طريقين :

الأوّل : تفسير الآية بدون ملاحظة الروايات

فهل تعني هذه الآية الشريفة أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو «المنذر» وهو «الهادي»؟ أو أنه منذر فقط والهادي شخص آخر؟

وهنا توجد ثلاث نظريات في تفسير هاتين الكلمتين :

١ ـ يرى البعض أن هاتين الكلمتين تعودان كلاهما إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو المنذر وهو الهادي في نفس الوقت.

ولكن الإنصاف إن هذا القول مجانب للصواب ولا ينسجم مع ظاهر الآية ولا يتناسب مع أجواء الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية ، لأنّ هاتين الكلمتين لو كانتا تعودان على شخص واحد فمقتضى الفصاحة والبلاغة أن تقول الآية :

(أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) لا أن تكون كلمة «هادٍ» في جملة مستقلة ومنفصلة عن الجملة الاولى ، وعليه فإنّ الظاهر من الآية أن تكون كلمة «هادٍ» متعلّقة بشخص آخر غير نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث ينبغي استكشافه من خلال القرائن والشواهد الاخرى.

٢ ـ وذهب آخرون إلى أن «المنذر» يعود إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما «الهادي» يعود إلى الله تعالى ، فالنبي هو المنذر للناس ، والله تعالى هو الهادي لكلِّ قوم إلى الصراط المستقيم وطريق الحقّ.

٣٣٠

ولكن يمكن أن يقال في مقام الجواب أن هذه النظرية أيضاً لا تنسجم مع ظاهر الآية الشريفة لأن كلمة «هادٍ» وردت في هذه الآية «نكرة» في حين أن الله تعالى هو أعرف المعارف وأجلى ما يكون عن الخفاء والتنكير ، مضافاً إلى أن ظاهر الآية يدلُّ على وجود «هادٍ» لكلِّ قوم من الأقوام السالفة لا أن الهادي لجميع الأقوام هو شخص واحد ، وعليه فإنّ هذا التفسير لا يتناسب مع أجواء الآية الشريفة.

٣ ـ هو أن يقال بأن الهادي شخص آخر غير الله تعالى وغير نبيّه الكريم ، فهل يمكن أن يكون المقصود بهذه الكلمة هم العلماء من كلِّ قوم وطائفة؟ كلا ، لا يمكن أن يكون المقصود هو العالم من كلِّ قوم ، لأن كلمة «هادٍ» وردت نكرة كما تقدّم ، والنكرة تدلُّ على الوحدة ، أي أن لكلِّ قوم وطائفة هادٍ واحد من الناس ، فمن هو هذا الشخص الهادي للُامّة الإسلامية؟

ومع الأخذ بنظر الاعتبار مجموع ما تقدّم من أبحاث في تفسير هذه الآية يمكن القول في شرح معناها والمراد منها كما يلي :

«أيُّها النبي : أنت المنذر والمؤسس للرسالة الإسلامية والدين الإسلامي ولكلِّ دين هناك شخص بمثابة الحافظ والحارس لهذا الدين والذي يأخذ بعهدته هداية الناس إلى الله تعالى وسوقهم إلى الحقّ».

ومن جهة اخرى فإنّ اتحاد السياق يقتضي أن يكون تعيين هذا الهادي ونصبه من قبل الله تعالى ، كما أن المنذر وهو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله معيّن ومنصوب من الله تعالى.

وعلى هذا الأساس فإنّ الهادي لا يقصد به الله تعالى أو النبي أو علماء الامّة بل يجب أن يكون شخصاً آخر معيّناً ومنصوباً من قبل الله تعالى.

ومن جهة ثالثة فإنّ الشخص الوحيد الذي ورد في حقّه نصٌّ صريح من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ولايته وإمامته هو الإمام علي عليه‌السلام ولا يوجد نصٌّ في هذا الشأن لغيره من الصحابة ، وحتّى أن علماء أهل السنّة لم يدّعوا مثل هذا الادعاء ، وعليه فلو قلنا أنّ «المنذر» هو رسول الله و «الهادي والإمام» هو الإمام علي عليه‌السلام المنصوب لهذا المقام من قبل الله تعالى وبواسطة نبيّه الكريم فإنّ هذا المعنى يتناسب مع أجواء الآية الشريفة.

٣٣١

الطريق الثاني : تفسير الآية بملاحظة الروايات الشريفة

وهناك روايات عديدة ناظرة إلى بيان المراد من هذه الآية الشريفة حيث نشير هنا إلى خمسة نماذج منها ، ثلاثة منها من مصادر وكتب أهل السنّة ورواية واحدة من مصادر الشيعة ، أما الرواية الخامسة فمذكورة في كتب الفريقين.

١ ـ يقول ابن عبّاس الراوي والمفسّر المعروف :

لَمّا نَزَلَتْ (أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) وَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ، فَقالَ : أَنَا الْمُنْذِرُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ عَلَى مِنْكَبِ عَلِيٍّ ، فَقالَ : أَنْتَ الْهادِي يا عَلِيّ ، بِكَ يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ مِنْ بَعْدِي (١).

هذه الرواية الشريفة مذكورة في مصادر أهل السنّة وهي صريحة على أن المقصود ب «الهادي» هو علي ابن أبي طالب عليه‌السلام.

٢ ـ وجاء في كتاب «شواهد التنزيل» (٢) و «الدرّ المنثور» عن أبي برزة الأسلمي أنه قال :

سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَقُولُ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدْرِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ وَضَعَها عَلى صَدْرِ عَلِيٍّ وَيَقُولُ (لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٣)

وهذه الرواية أيضاً مذكورة في كتابين من الكتب المعتبرة لدى أهل السنّة ، وقد رواها شخص آخر غير ابن عبّاس ونجد أنها تصرّح بأن «الهادي» هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٣ ـ وجاء في كتاب «مستدرك الصحيحين» المعروف لدى علماء أهل السنّة ، رواية في تفسير الآية المذكورة عن الإمام علي عليه‌السلام نفسه :

عَنْ عَلِيٍّ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قالَ عَلِيُّ : رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله الْمُنْذِر وَأَنَا الْهادِي (٤).

وطبقاً لهذه الرواية المذكورة في كتاب آخر من كتب ومصادر أهل السنّة المعروفة أن الإمام علي عليه‌السلام هو الهادي.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ج ٤ ، ص ٤٥.

(٢) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٩٨.

(٣) الدرّ المنثور : ج ٤ ، ص ٤٥.

(٤) مستدرك الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٢٩.

٣٣٢

سؤال : من المعلوم في علم الدراية والحديث أن الراوي لو روى حديثاً يتضمن مدحه والثناء عليه فإنّ هذه الرواية لا تكون مقبولة ، فكيف يمكن الاستدلال بالرواية المذكورة آنفاً على المطلوب والحال أن الراوي هو الإمام علي عليه‌السلام نفسه؟

الجواب : إنّ هذا الكلام صحيح بالنسبة إلى غير المعصومين ، ولكن بالنسبة إلى المعصومين الذين لا يتصور في حقّهم الخطأ والذنب فغير صادق ، والإمام علي عليه‌السلام باعتقاد جميع الشيعة معصوم ، وكذلك يرى أهل السنّة أن الأحاديث والروايات الواردة عن جميع الصحابة وأحدهما الإمام علي عليه‌السلام ، حجّة ودليلاً شرعياً ، وعليه فالإشكال المذكور مردود وغير وارد لدى كلا الفريقين.

٤ ـ ما ورد في مصادر الفريقين العامّة والخاصّة من حديث الإسراء حيث رواه أهل السنّة عن ابن عبّاس (١) ورواه علماء الشيعة عن ابن مسعود ، ويروي هذان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الرواية ، حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لَمّا اسْرِيَ بي الى السَّمَاءِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وبَيْنَ رَبّي مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيُّ مُرْسَلٌ وَلا حاجَةٌ سَأَلْتُ إلّا أَعْطانِي خَيْراً مِنْها فَوَقَعَ فِي مَسامِعي (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَقَلْتُ : إِلهي أَنَا الْمُنْذِرُ ، فَمَنِ الْهادِي؟ فَقالَ : يا مُحَمَّد ذاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِب غايَةُ الْمُهْتَدِينِ ، إمامُ الْمُتَّقِينَ ، قائِدُ الغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ (٢) ؛ وَمَن يَهْدِي مِنْ امَّتِكَ بِرَحْمَتِي إلَى الْجَنَّةِ (٣).

هذه الرواية الجذّابة والشيقة تبيّن بجلاء تطبيق الآية محل البحث على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام في السماء.

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٩٦.

(٢) جملة «قائد الغرّ المحجلين» ورد في روايات عديدة. و «الغرّ» جمع «أغرّ» وهو الأبيض النوراني ، ويقال للشخص ذي الوجه النوراني «أغرّ» ، وأما «محجّل» فمن «حَجَل» وهو نوع من الطير الأبيض ، ثمّ اطلق على الفرس الأبيض ، ثمّ على كلّ شخص ذي سمعة طيبة ومكانة مرموقة في المجتمع ، وعليه فيكون معنى الجملة «قائد الوجهاء والشخصيات الراقية في المجتمع».

(٣) تفسير فرات الكوفي : ص ٧٨.

٣٣٣

توصيات آية الولاية والإنذار

هذه الآية الشريفة لا تقتصر على بيان بعض البحوث الاعتقادية والتاريخية ، بل تتضمن توصيتان لجميع المسلمين والشيعة في عصرنا الحاضر وتفتح لهم أبواب الحياة الكريمة والعقيدة السليمة في هذا الزمان وجميع الأزمنة وبإمكانها فيما لو جسّدها الإنسان على مستوى الممارسة والعمل أن تحلّ كثيراً من مشكلاته في حركة الحياة :

١ ـ التعصّب هو الحجاب والمانع!

يستفاد من المقطع الأوّل لهذه الآية الشريفة أن الإنسان لا يمكنه أن يصل بأدوات التعصّب واللجاجة إلى أي مرتبة من مراتب المعرفة والكمال الإنساني ، فلو أراد الإنسان أن يدرك الحقّ والحقيقة فينبغي عليه أن يتحرّك في خطّ الحقّ من موقع التسليم والإذعان لا من موقع التفسير بالرأي وتحكيم الآراء المسبقة واتّباع الأهواء النفسية ، ولهذا نرى أن الآيات القرآنية والروايات الشريفة قد نهت بشدّة عن «الجدال بالباطل» وحذّرت من عاقبة اتّباع هذا الطريق المنحرف للوصول إلى الحقّ ، حيث يقول القرآن الكريم في الآية الثالثة من سورة الحجّ :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ)

فالمجادلة بالباطل في هذه الآية الشريفة قد جعلت رديفاً لاتّباع الشيطان المريد ، وهذا يعني أن الإنسان إذا صار في خطّ الجدل والمراء وتعامل في حواره مع الآخرين بلغة التعصّب والابتعاد عن المنطق فإنه يكون قرين «الشيطان المريد».

ونقرأ في الروايات الإسلامية ما يؤكد هذا المضمون من أن أحد الحجب والموانع المهمة للإيمان والوصول إلى مرتبة اليقين هو الجدال بالباطل والمناقشة مع الطرف المخالف بلغة الاتهام وعدم التمسك بالبرهان المنطقي والعقلاني ، فقد ورد عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله :

«ما ضَلَّ قَوْمٌ إلّا أَوْثَقُوا الْجِدالَ» (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢ ، ص ١٣٨.

٣٣٤

فطبقاً لهذه الرواية الشريفة أن العامل الوحيد للضلالة والابتعاد عن الحقّ هو البحث غير المنطقي والجدال من موقع الخصومة والتعصّب المذهبي.

سؤال : لما ذا كانت جميع أسباب وعوامل الضلالة والزيغ تمتد بجذورها إلى الجدال بالباطل؟

الجواب : لأن الإنسان لو وجد في نفسه إذعاناً وتسليماً للحقّ فإنّ الدعاة إلى الحقّ كثيرون في هذه الدنيا وبإمكان الإنسان أن يجد طريق الهداية والإيمان الصحيح بيسر وسهولة ، وقد ورد أن الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام في جوابه لهارون الرشيد عند ما طلب منه الموعظة والنصيحة قال :

«ما مِنْ شَيءٍ تَراهُ عَيْناكَ إلّا وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ» (١).

أي أن جميع ما في الأرض من كائنات ومخلوقات وظواهر طبيعية هي في الحقيقة موعظة لمن فتح قلبه على الله والحقّ ، فالسماء بكلِّ ما تحوي مجرّات عظيمة وشموس منيرة ما هي إلّا موعظة ، ظاهرة الزمان والمكان موعظة ، الحوادث المفرحة والمرّة موعظة ، أجل فكلّ هذه الامور تكون موعظة بشرط أن يتمتع الإنسان باذنٌ واعية وعينٌ بصيرة وفؤاد حيّ.

وتأسيساً على هذا فإنّ الحقّ لا يخفى على طلّاب الحقّ وعشّاق الحقيقة ، ومن وقع في وادي الضلالة والانحراف فإنه يعاني من مشكلة في واقعه النفساني قبل كلِّ شيء وبالتالي يعيش مرض الجدال بالباطل.

وقد اتّضح ممّا تقدّم أنه لا تفاوت بين المباحث والمواضيع الدينية والأخلاقية والسياسية وأمثال ذلك ، فمثلاً ما نقرأه في الصحف والإعلام حول المسائل السياسية يتدخل فيه هذا العنصر بالذات ، أي أن كلُّ طرف من الأطراف المتنازعة لا يريد أن يذعن ويسلّم للحقّ بل يريد أن يحكّم رأيه ويفرض نظره على الآخرين بعيداً عن معايير الحقِّ والإنصاف ، وإلّا فإنّ تشخيص الحقّ في المسائل السياسية لا يكون مشكلاً وعسيراً أيضاً ، ولكن عند ما تتدخل المسألة في إطار التعصّب المذهبي والمنافع الشخصية والحزبية فإنّ

__________________

(١) ميزان الحكمة : باب ٤١٢٠ ، ح ٢١٧١١.

٣٣٥

الإنسان يبتعد عن أجواء الحقّ وسيختفي نور الحقّ بغشاوة سميكة من ظلمات الأهواء النفسانية.

ونقرأ في رواية اخرى عن أمير المؤمنين ومولى المتقين أنه قال :

«الْجَدَلُ فِي الدِّينِ يُفْسِدُ الْيَقِينَ» (١).

لأن الإنسان عند ما يعيش حالة الجدل الدائم مع الآخرين فتدريجياً يطرح رغباته وميوله وأفكاره الشخصية المستوحاة من الأهواء النفسية في لباس الدين والمذهب ويتصور أن هذا الرأي ما هو إلّا قراءة سليمة للدين وللمفاهيم القرآنية.

والخلاصة أنه ورد النهي الشديد والأكيد في الآيات والروايات الشريفة عن الجدل بالباطل ، وأما الجدل بالحقّ والحوار المنطقي والهادف والذي يقوم على أساس الأدلّة والبراهين العقليّة ويكون الهدف منه هو إيضاح الحقيقة واستجلاء كوامن الحقّ من دون أن تكون رغبة لدى الطرفين في الاستعلاء والغلبة والتفوق على الخصم فإنّ مثل هذا الجدال والحوار ليس فقط لا إشكال فيه بل هو مأمور به من قبل الله تعالى ، حيث نقرأ في الآية ١٢٥ من سورة النحل قوله :

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

٢ ـ الاقتداء بالهادي

والتوصية الثانية للآية الشريفة والتي تستفاد من المقطع الثاني لها هي أن المسلمين لو أرادوا الهداية إلى الله تعالى والسير في خطّ التقوى والإيمان فلا بدّ أن يتّخذوا الإمام علي عليه‌السلام قدوة وعلى أساس من كونه «هادياً» للمسلمين.

الإمام علي عليه‌السلام في أخلاقه وسلوكياته وأقواله وكتبه المشحونة بالمعارف العالية والمفاهيم السامية وكلماته القصار المليئة بالموعظة والحكمة ، وتاريخ حياته المليء بالدروس والعبر ، وآداب معاشرته وأخلاقه الجذّابة مع الآخرين ، ومديريته القوية والرصينة ،

__________________

(١) ميزان الحكمة : باب ٤٩٢ ، ح ٢٢٨٥.

٣٣٦

واسلوب تعامله وتفاعله مع الأحداث والأشخاص والأقوام من الداخل والخارج ، وأخيراً إرشاداته وتعليماته الإنسانية كلُّها يمكن أن تكون اسوة وقدوة لجميع المسلمين في حركتهم الدنيوية وسلوكهم المعنوي في خطّ التكامل الأخلاقي والإلهي.

ونحن الذين ندّعي الولاية لهذا الإمام العظيم وندّعي أننا من أتباعه فما هو مقدار الفاصلة بين حياتنا وتعاملنا وأفكارنا مع حياة ذلك الإمام وأفكاره وأخلاقه؟ لنرى طعام الإمام علي عليه‌السلام كم كان زهيداً وبسيطاً ، ولباسه في أوج اقتداره وحكومته كم كان رخيصاً وساذجاً ، فهل أن زخارف الدنيا وتجملاتها استطاعت أن تقيّد الإمام علي عليه‌السلام وهو في أعلى مواقع القدرة بحبائلها وأن تؤسره بأسلاكها ، بل نقرأ في التواريخ أن تشييع الإمام ومراسم تكفينه ودفنه كانت بسيطة للغاية ، ولكن مع الأسف أنّ بعض من يدّعي أنه شيعة علي عليه‌السلام يعيش في عالم الزخارف الدنيوية البرّاقة وقد أصبح أسيراً لاحابيلها الموهومة ، بل إنّ المراسم التي تجرى لهم بعد وفاتهم من بذل الطعام ومجالس الفاتحة والعزاء مليئة بالمظاهر البرّاقة ومشحونة بعناصر الهوى والفخفخة بحيث لا نجد شبهاً بينها وبين مجالس العزاء الحقيقية بل قد تنفق في هذه المجالس ملايين الدنانير من دون أن تكون الدوافع سليمة والغايات إلهية.

وقد سمعت قبل مدّة خبراً قد يكون مفرحاً من جهة ومثيراً للقلق من جهة اخرى ، وهو :

«مات أحد الأشخاص فقرر أولياء الميت وأبناؤه أن ينفقوا مصارف مجلس العزاء ومراسم الفاتحة على الامور الخيرية ، فجلسوا لمحاسبة نفقات مجلس العزاء هذا فتبيّن أنه قد يصل إلى خمسة ملايين تومان ، فقرّر هؤلاء الأبناء أن ينفقوا هذا المبلغ على البنات من العوائل الفقيرة لكي يؤمّنوا لهم جهاز العرس وأثاث البيت الزوجي بدلاً من صرفه على مجلس العزاء والفاتحة ، فكان هذا المبلغ يكفي لتجهيز عشرة بنات ، أي يكفي لتكوين عشر عوائل جديدة ومحتاجة».

هذا الخبر هو مقلق ومثير للتشويش من جهة المبالغ الطائلة التي تصرف على مجالس العزاء هذه ، ومن جهة اخرى مفرح ومثير للارتياح والانبساط بأن يقوم أولياء الميت وورثته بخطوة مهمة مستوحاة من العقل والوجدان ويقرّروا إنفاق ذلك المبلغ الكبير على امور خيرية وإنسانية.

٣٣٧

ما المانع من أن يقوم المسلم بإنفاق مثل هذه المبالغ الكبيرة على امور إنسانية وموارد خيرية بدلاً من بذلها لمظاهر خاوية وتشريفات زائفة؟

عزيزي القارئ : إنّ توفير مقدّمات الزواج للشباب المحتاجين ليست وظيفة وتكليف الوالدين فقط بل هو تكليف عام لجميع المسلمين كما تقول الآية الشريفة :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ)(١)

فهذه الوظيفة في الحقيقة تتعلق بجميع أفراد المجتمع ، ولا يقتصر الحال على مسألة الزواج بل سائر المشكلات والمعضلات التي تواجه الشباب والفتيات في مجتمعاتنا الإسلامية حيث ينبغي أن نمدّ لهم يد العون ونسعى في حلّ مشاكلهم والتخفيف من آلامهم وهمومهم في حركة الحياة من قبيل مشكلة «العطالة» التي تمثل العامل المهم لكثير من المفاسد الاجتماعية ، وكذلك مشكلة «المسكن» ومشكلة «التحصيل الدراسي» وأمثال ذلك.

ينبغي علينا وبالإلهام من سيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام أن نتحرر من قيود وأسر التشريفات والظواهر البرّاقة والابتعاد عن منزلقات الزخارف الدنيوية ونعيش البساطة والطهارة والنقاء في الحياة الفردية والاجتماعية بل يجب على الحكومة الإسلامية مضافاً إلى توفير المناخ المناسب لمثل هذه السلوكيات والقيم الأخلاقية والثقافية لجميع أفراد المجتمع أن يقوم المسئولون أنفسهم بالعمل بهذا المبدأ المقدّس لكي يمكنهم في حال إصلاح هذه الأزمة الاجتماعية والإدارية ، إصلاح قسم مهم من الفساد الاقتصادي والتخلف الاجتماعي الذي تعاني منه البلدان الإسلامية وبالتالي يتسنّى للمسلمين التخلص من التبعية للأجنبي والاستعمار الذي لا يفكر إلّا في مصالحه الشخصية ومنافعه المادية ، ونستطيع إن شاء الله ببركة ذلك الإمام الهمام أن نحفظ عزّة وكرامة الامّة الإسلامية ونحلّ مشكلاتها.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاستماع قول الحقّ ويرزقنا اذناً واعية لفهم هذه التعليمات المهمة الواردة في دائرة المفاهيم القرآنية ثمّ يوفقنا لتجسيد هذه المفاهيم على مستوى العمل والتطبيق والاستفادة من ثمراتها الكثيرة وبركاتها العميمة إنه أرحم الراحمين ... آمين يا ربّ العالمين.

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٢.

٣٣٨

آية خير البريّة ١٤

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

«سورة البيّنة / الآية ٧ و ٨»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة أيضاً من الآيات التي تتعلّق بموضوع الإمامة والخلافة ، وتدلُّ بدقائق عباراتها الظريفة على أحقيّة مقام الإمامة والخلافة للإمام علي عليه‌السلام ، ولا يوجد فيها اختلاف على مستوى السياق والمدلول «خلافاً للآيات السابقة» وأما كيفية الاستدلال بهذه الآية لإثبات الولاية والإمامة فيحتاج إلى دقّة وتدبّر خاصّ كما سيأتي بيانه لاحقاً.

الشرح والتفسير : أفضل المخلوقات وشرّها

من أجل إيضاح المراد من الآية الشريفة «آية خير البريّة» واستجلاء المفهوم منها نرى من الضروري أن نشرع بشرح الآية السادسة من سورة البيّنة :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها)

٣٣٩

أي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين لم يقبلوا بالإسلام وكذلك المشركون وعبادة الأوثان يشتركون في العاقبة والمصير الاخروي فجميعهم يردون جهنم خالدين فيها.

(أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)

وهذا هو السبب في أنهم مخلّدون في نار جهنم ، وكأن هذه الجملة وردت في مقام الدليل لبيان سبب خلود هؤلاء في نار جهنم (١).

ويستفاد من الآيات السابقة لهذه الآية الشريفة أن هؤلاء ليسوا من الكفرة العاديين بل هم طائفة من الكفّار الذين فهموا الرسالة الإلهية واتّضحت لديهم الحجّة والبيّنة وعلموا بحقّانيّة الإسلام والرسالة السماوية ولكنّهم مع ذلك أصرّوا على عنادهم ولجاجتهم وانطلقوا في عداءهم مع الحقّ والعدل من موقع الخصومة والعدالة ، وعليه فإنّ هذه الآية لا تشمل كلُّ الكفّار والمشركين وأهل الكتاب حتّى لو تحرّكوا في خطّ الباطل والكفر من موقع الجهل والغفلة ، فالخطأ الذي ينطلق من موقع الغفلة والاندفاع العفوي ليس كالخطإ الذي ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف ووضوح الرؤية.

وبعد أن ذكرت الآية الشريفة شرّ المخلوقات تحرّكت الآية التي بعدها لبيان أفضل المخلوقات وقالت :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)

فقد ذكرت هذه الآية الشريفة لأفضل مخلوقات الله ثلاث صفات وخصوصيات :

١ ـ «الَّذينَ آمَنُوا» فالخصوصية الاولى لهؤلاء هي إيمانهم بالله تعالى والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويوم القيامة ، وعليه فإنّ المشركين وجميع الأشخاص الذين لا يدينون بدين الإسلام خارجون عن هذه الدائرة ولا يتّصفون بهذه الصفة الكريمة.

__________________

(١) عبارة «اولئك هم شرّ البريّة» عبارة قارعة مثيرة ، وتعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أقل وأسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحقّ وإتمام الحجّة وساروا في طريق الضلال ، مثل هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى : «إنّ شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون» الأنفال : ٢٢. وكذلك في قوله سبحانه يصف أهل النار : «اولئك كالأنعام بل هم أضلّ اولئك هم الغافلون» الأعراف : ١٧٩. وهذه الآية مورد البحث تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد ممّا تذهب إليه غيرها ، لأنها تصفهم بأنهم شرّ المخلوقات. (التفسير الامثل : ج ٢٠ ، ص ٣٦٤ ، ذيل الآية).

٣٤٠