آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

آية السابقون ١٠

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

«سورة الواقعة / الآيات ١٠ ـ ١٢»

أبعاد البحث

هذه الآيات الشريفة تستعرض فضيلة اخرى من فضائل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً والتي اعترف بها علماء السنّة بصورة واسعة ، فنقرأ في هذه الآيات الشريفة التي تتحدّث عن طوائف ثلاث من الناس يوم القيامة ، تعليمات راقية ومطالب مهمة تتعلق بمسيرة الإنسان في حركة الحياة الدنيوية ، وسيأتي تفصيل البحث لاحقاً.

مضمون سورة الواقعة

إنّ سورة الواقعة كسائر سور القرآن الكريم تتضمن مفاهيم عميقة ومواضيع مثيرة للغاية ، والأصل والمحور في مواضيع آيات هذه السورة المباركة هو الحديث عن المعاد والحياة الاخروية ، فالآيات الاولى من هذه السورة تستعرض علائم وآثار يوم القيامة حيث يبدأ هذا اليوم بانقلاب كبير في عالم الوجود كما هو الحال في الانقلاب والانفجار الذي حدث في بداية ظهور الأرض والمجرّات والسماوات ، وعليه فإنّ الدنيا بدأت بانفجار مهيب وستنتهي أيضاً كذلك ، فعند ما تقوم القيامة تهتزّ الأرض بشدّة وتتحطم الجبال

٣٠١

العظيمة وتتلاشى في الفضاء نتيجة اصطدامها فيما بينها في الفضاء بحيث تتحول إلى غبار منثور ، وبعد ذلك يقوم الله تعالى بخلق عالم الآخرة على خرائب وأطلال عالم الدنيا ويخلق أرضاً وسماءً جديدة ، وفي ذلك اليوم تدبُّ الحياة في الأموات ويبعثون من قبورهم مرّة ثانية ويكونون على ثلاث طوائف :

١ ـ «أصحاب الميمنة» وهم السعداء والمفلحون في ذلك اليوم.

٢ ـ «أصحاب المشأمة» (١) وهم الأشخاص الذين يواجهون الشقاء والمصير السيئ وتقدّم إليهم صحيفة أعمالهم بيدهم الشمال.

٣ ـ (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) وهذه الطائفة من الناس هم أسعد حظاً من الطائفة الاولى وهم الذين ينالون وسام مقام القرب من الله تعالى بحيث لا يدانيهم في هذا المقام والمنزلة أحد من المؤمنين.

وبهذا التقسيم القرآني لطوائف الناس في ذلك اليوم تشرع الآيات الكريمة باستعراض أنواع المثوبات والعقوبات المقرّرة لأفراد هذه الطوائف الثلاث ، المثوبات التي تثير الوجد والفرح في قلوب المؤمنين ، والعقوبات الرهيبة التي تثير الفزع والخوف لدى كلّ إنسان.

وتتحدّث الآيات ١١ إلى ٢٦ عن المثوبات المقرّرة للسابقين والمقرّبين ، وهي المثوبات غير القابلة للتصور أحياناً ، وتتحدّث الآيات ٢٧ إلى ٤٠ عن مثوبات أصحاب اليمين ، ومن الآية ٤١ فما بعد يتحدّث القرآن الكريم عن عقوبات أصحاب الشمال بصورة مفصلة.

الشرح والتفسير :

من هم السابقون؟

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) وهم الذين ينبغي أن يكونوا اسوة

__________________

(١) «الميمنة» و «المشأمة» يمكن تفسيرهما بمعنيين :

أحدهما : أن يكون المراد منهما هو اليُمن والبركة في الاولى ، والشؤم والشر في الثانية ، والآخر أن يكون المراد هو اليد اليمنى واليسرى ، حيث استخرج منهما هاتان الكلمتان للدلالة على أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ولكن يمكن القول بأن المعنى الأوّل أقرب إلى أجواء الآيات من خلال التقابل الموجود بينهما في سياق الآيات ، وكذلك يمكن القول بالثاني بلحاظ ما يرد في هذه الآيات من إعطاء كتاب الأعمال للصالحين بأيديهم اليمنى ، وإعطاء كتاب الأعمال للمجرمين بأيديهم الشمال.

٣٠٢

وقدوة لجميع أفراد البشر في حركتهم المعنوية وسيرهم التكاملي في خطّ الإيمان والرسالة.

سؤال : من هم هؤلاء السابقون الذين ينالون مقام القرب من الله تعالى؟

الجواب : لقد ذكرت تفاسير مختلفة للمقصود من هذه العبارة :

١ ـ السابقون في الإيمان.

٢ ـ السابقون في الجهاد.

٣ ـ السابقون في العبادة والصلاة اليومية.

٤ ـ السابقون في التوبة.

٥ ـ السابقون في طاعة الله.

٦ ـ السابقون في دخول الجنّة.

٧ ـ السابقون في الهجرة.

٨ ـ السابقون في أعمال الخير.

وهناك تفاسير اخرى أيضاً (١).

ولكننا نرى عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير المذكورة للآية الشريفة ، وعليه فلا ينبغي أن نقيّد الآية بأحد الموارد المذكورة بل نرى أن المفهوم منها يستوعب جميع ما ورد لها من هذه التفاسير ، وعلى أيّة حال فالسابقون يتّسمون بفضائل جمّة ويختصّون بخصائص مهمّة ترتفع بهم في عالم الملكوت ، وأسمى مقام لهم هو مقام القرب الإلهي ، وبلا شك أن اللذّة التي يعيشها هؤلاء السابقين في هذا المقام العظيم ترتفع عن كلِّ لذّة اخرى.

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وهذا التعبير بصيغة الجمع يشمل كافة النِّعم المادية والمعنوية في الجنّة ، وقد يشير أيضاً إلى أن بساتين الجنّة هي محل النعيم الحقيقي لا غير خلافاً لبساتين الدنيا التي قد تكون سبباً للتعب والشقاء ، وهكذا بالنسبة إلى حال المقرّبين وتفاوت مقامهم

__________________

(١) هذه الاحتمالات وردت أيضاً في التفسير الامثل ذيل الآية مورد البحث ، وتفسير التبيان : ج ٩ ، ص ٤٩٠ ، ومجمع البيان : ج ٥ ، ص ٢١٥.

٣٠٣

في الآخرة بالنسبة إلى الدنيا لأنّ مقامهم الدنيوي كان مقترناً مع تحمل المسئوليات والأتعاب والمشاكل في حين أن مقامهم الاخروي هو التنعم الخالص بالمواهب الإلهية في الجنّة.

فهل تليق هذه المواهب والمثوبات الإلهية لغير السابقين؟

نسألك اللهمّ بلطفك وكرمك أن تحشرنا مع هذه الطائفة وتجعلنا من المقرّبين عندك.

الإمام علي عليه‌السلام المصداق الأتم والأكمل للسابقين

كما تقدّم آنفاً فإنّ مفهوم الآية الشريفة شامل وعام في دائرة السابقين ويستوعب في مضمونه جميع الأشخاص الذين سبقوا الآخرين في الإيمان والجهاد والصلاة والتوبة والمسير في خطّ الطاعة والعبودية والدخول إلى الجنّة وأمثال ذلك ، ولكن طبقاً لما ورد في الروايات الشريفة أن الإمام علي عليه‌السلام هو أسبق السابقين في هذه الموارد والمصداق الأتم والأكمل لهذه الآية الشريفة ، وهنا نلفت النظر إلى بعض ما ورد في هذه الروايات :

الف) ما ورد عن المفسّر والراوي المعروف ابن عبّاس المقبول لدى السنّة والشيعة أنه قال :

سابِقُ هذِهِ الْامَّةِ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ (١).

ب) وقال ابن عبّاس أيضاً في رواية اخرى :

يُوشَعُ بْنُ نُون سَبَقَ إلى مُوسى ، وَمُؤْمِنُ آلِ ياسين سَبَقَ الى عيسى ، وَعَلِيُّ بْنُ ابي طالِبٍ سَبَقَ إلى مُحَمَّدٍ (٢).

ج) عند ما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إجراء عقد الزواج بين الإمام علي عليه‌السلام وابنته فاطمة الزهراء عليها‌السلام قال مخاطباً لابنته :

زَوَّجْتُكِ بأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِي وَعَرَفَنِي وَساعَدَنِي (٣).

أجل ، فطبقاً لهذه الروايات والروايات الاخرى التي لم نذكرها هنا رعاية للاختصار فإنّ

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٤.

(٢) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٥.

(٣) روضة الأحباب : ج ٣ ، ص ١٠ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٧.

٣٠٤

الإمام علي عليه‌السلام هو أسبق السابقين من جميع المسلمين ، فهل من اللائق مع وجود مثل هذا الإمام اختيار شخص آخر لخلافة النبي؟

وما أجمل ما قاله الشاعر العربي :

ا لَيْسَ اوَّلُ مَنْ صَلّى بِقِبْلَتِهِمْ

وَاعْلَمُ النّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ (١)

إذن فلما ذا مع وجود عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام واعترافهم بأفضليته وأسبقيته يتم اختيار شخص آخر وترجيحه عليه؟

الروايات المذكورة آنفاً وردت في منابع متعددة لدى أهل السنّة ونكتفي هنا بذكر ١٠ مصادر ومنابع منها :

١ ـ ابن المغازلي في المسند (٢).

٢ ـ السبط ابن الجوزي في التذكرة (٣).

٣ ـ ابن كثير الدمشقي (٤).

٤ ـ محيي الدين الطبري في الرياض النضرة (٥).

٥ ـ السيوطي في الدرّ المنثور (٦).

٦ ـ ابن حجر في الصواعق المحرقة (٧).

٧ ـ العلّامة الشوكاني في فتح القدير (٨).

٨ ـ مير محمّد صالح الترمذي في المناقب المرتضوية (٩).

__________________

(١) الشعر من خزيمة بن ثابت.

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٤.

(٣) التذكرة : ص ٢١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٥.

(٤) تفسير ابن كثير : ج ٤ ، ص ٢٨٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٥.

(٥) الرياض النضرة : ص ١٥٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٥.

(٦) الدرّ المنثور : ج ٦ ، ص ١٥٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٦.

(٧) الصواعق المحرقة : ص ١٢٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٦.

(٨) فتح القدير : ج ٥ ، ص ١٤٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٧.

(٩) المناقب المرتضوية : ص ٤٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٧.

٣٠٥

٩ ـ الآلوسي في روح المعاني (١).

١٠ ـ القندوزي في ينابيع المودّة (٢).

ومع الالتفات إلى كثرة هذه الروايات الواردة في شأن الإمام علي عليه‌السلام في ذيل الآية الشريفة فهل يعقل أن الله تعالى يختار شخصاً آخر للخلافة مع وجود الإمام علي عليه‌السلام وفضائله الكثيرة؟

تفسير السابقين على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

وقد ورد في الحديث النبوي الشريف أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«السّابِقُونَ إلى ظِلِّ الْعَرْشِ طُوبى لَهُمْ».

قيلَ : يا رَسُولُ اللهِ وَمَنْ هُمْ؟ قال :

١ ـ «الَّذِينَ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ إذَا سَمِعُوهُ»

إنّ السابقين يتّصفون بأنهم يذعنون للحقّ أياً كان ومن أي شخص سمعوه حتّى لو كان من عدو أو صبي صغير فلا يجدون في أنفسهم حرجاً ولا تعصباً أو تكبّراً على الحقّ ، فعند ما يدرك الإنسان خطأه وتتضّح له آفاق الحقيقة فيجب عليه أن يتحرك من موقع الشجاعة والشهامة ويعترف بخطئه ويقبل بالحقّ وليعلم أن ضرر الاعتراف بالخطإ أقلُّ بكثير من ضرر العناد والإصرار على الخطأ وعدم الاعتراف به.

٢ ـ «وَيَبْذَلُونَهُ إذا سَألُوهُ»

فلا يحقُّ للسابقين كتمان الحقّ ، لأن كتمان الحقّ من الذنوب الكبيرة ، ولذلك لا يقولون أننا قد نتعرض للضرر من قول الحقّ أو قد يتألم والدنا أو والدتنا أو زوجتنا أو صديقنا وجارنا من قول الحقّ ، فهم يعلمون أن الواجب يحتم عليهم أن يشهدوا بما يعلمون أنه الحقّ والصواب كما ذكر الله تعالى ذلك في الآية الشريفة ٢٨٣ من سورة البقرة وقال :

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)

__________________

(١) روح المعاني : ج ٢٧ ، ص ١١٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٨.

(٢) ينابيع المودّة : ص ٦٠ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٨.

٣٠٦

٣ ـ «وَيَحكُمُونَ لِلنّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» (١).

الخصوصيّة الاخرى للسابقين هي أنهم يحبّون لغيرهم ما يحبّون لأنفسهم ولا يحكمون لغيرهم إلّا بما يرونه صلاحاً لأنفسهم ، وبعبارة اخرى أنهم يرون منافعهم ومنافع الآخرين بعين واحدة ، وبلا شك إنّ هذه المرتبة الأخلاقية لا تتيسر لكلِّ شخص وليس من اليسير أن ينظر الإنسان لمصالح الآخرين كما يراها لنفسه ويذعن للحقّ من دون أن تتدخل في ذهنه عناصر الأنانية ، وبذلك ينال مرتبة السابقين.

إذا عمل الإنسان المعاصر بهذه التعليمات النبوية الثلاث فإنّ العالم سوف يتبدل إلى جنّة ، ولكن مع الأسف فإنّ تعامل دعاة حقوق الإنسان مع الشعوب الاخرى من موقع الانتهازية والرياء حوّل المجتمع البشري إلى كيانات مهزوزة وبدّل العالم إلى جهنم محرقة ولم يبق من حقوق الإنسان في أذهان البشر سوى أوهام خاوية وتوهيمات زائفة ، فعند ما يسمع أبناء البشر ادعاءات هؤلاء المدّعين والمنادين لحقوق الإنسان يتبادر إلى أذهانهم مفاهيم جديدة وهي «حفظ منافع السلطات الاستكبارية بأي قيمة وبأي شكل كان».

__________________

(١) نوادر الراوندي : ص ١٥ نقلاً عن بحار الأنوار : ج ٦٦ ، ص ٤٠٣.

٣٠٧
٣٠٨

آية اذُن واعية ١١

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

«سورة الحاقة / الآيات ١١ و ١٢»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة «آية اذن واعية» من الآيات الاخرى التي تتحدّث عن فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وطبقاً للروايات الواردة في ذيل هذه الآية الشريفة فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دعا الله تعالى أن يكون علي ابن أبي طالب من جملة الأشخاص الذين يتمتعون بالاذن الواعية وقد استجاب الله تعالى له هذا الدعاء ، وسيأتي شرح وتفصيل هذه الروايات وتفسير الآية مورد البحث والمفهوم من عبارة «اذن واعية» في البحوث اللاحقة.

الشرح والتفسير :

قصة الأنبياء

لقد بحث القرآن الكريم قصص الأنبياء في هذه السورة «سورة الحاقة» بل في غيرها من السور القرآنية الكريمة من زوايا مختلفة ومتنوعة.

سؤال : لما ذا تطرّق القرآن الكريم لبيان تاريخ الامم والأقوام السالفة واستعرض قصص الأنبياء السابقين ، فهل أن القرآن كتاب تاريخ؟

٣٠٩

الجواب : القرآن كتاب لتهذيب الإنسان ، والتاريخ البشري له دور مهم في تعليم وتربية الإنسان في حركة حياته الفردية والاجتماعية ، والخلاصة أن الإنسان يعيش التجربة والحوادث المتنوعة في هذه الحياة وما أحسن أن يستفيد الإنسان من تجارب الآخرين على مستوى العبرة والسلوك العملي لا أن يتمنّى كما يقول بعض الشعراء أن يعيش ويحيى مرتين ويجعل إحدى الحياتين لممارسة التجارب والثانية للاستفادة من تلكم التجارب الماضية.

يقول تبارك وتعالى في الآية ١١١ من سورة يوسف :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ)

ويشير أيضاً في بداية سورة الحاقة إلى قصص الأنبياء والسابقين مع أقوامهم حيث سنتعرض هنا إلى شرح وتفسير هذه الآيات المباركة :

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ)

إنّ فرعون والأقوام التي سبقته أي قوم شعيب ، عاد ، ثمود وأقوام اخرى وكذلك المدن المؤتفكة أي المنقلبة والمدمَّرة بسبب تلوّث أهلها بالخطيئة والذنوب الكبيرة ، «المؤتفكات» جمع «مؤتفكة» وتشير إلى قصة قوم لوط عند ما نزل عليهم العذاب الإلهي وأصابهم الزلزال المهيب ودمر بيوتهم ومنازلهم بحيث إنّ الرائي لها يحسبها قد انقلبت رأساً على عقب وبعد الزلزال نزل عليهم مطر من الشهب والأحجار الموسومة ودمّر ما تبقى من آثارهم ، والسبب في نزول هذا العذاب هو ممارستهم الخطيئة والإصرار على الذنوب حيث أشارت الآية إلى هذا المعنى «بالخاطئة».

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً)

إنّ الأقوام السالفة تحرّكوا في سلوكياتهم مقابل دعوة الأنبياء من موقع العناد والابتعاد عن الحقّ ولذلك أنزل عليهم الله تعالى العذاب الشديد ، والتعبير بقوله «ربّهم» إشارة إلى أنّ الله تعالى أراد تهذيبهم وصلاحهم بإرساله الأنبياء إليهم ولكنّ بعض الناس أصرّوا على معتقداتهم الزائفة ولم يستجيبوا لدعوات الأنبياء وتعاليمهم الإلهية والصادرة من ولي أمرهم ومربّيهم ولذلك استحقوا العذاب والعقاب الشديد.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ)

٣١٠

وتشير هذه الآية إلى قصة نوح عند ما أمطرت السماء بأمر الله تعالى بماء منهمر وتفجّرت الأرض بالعيون الفوّارة وجرى السيل المهيب بحيث لم يستغرق سوى مدّة قليلة حتّى عمّ الماء أرض المعمورة ولم تسلم من الطوفان حتّى الجبال ولذلك أمر الله تعالى نوح ومن معه من المؤمنين بركوب السفينة لينقذوا أنفسهم من الغرق ، ولكن الوثنيين والمشركين ومنهم ابن نوح الذين أصرّوا على سلوك خطّ الباطل والشرك والانحراف غرقوا جميعاً في هذا الطوفان ، هؤلاء كانوا يسخرون يوماً من النبي نوح عليه‌السلام لصنعه السفينة بعيداً عن البحر بل اتهموه بالجنون أيضاً وعند ما حدث الطوفان وأمطرت السماء ذلك المطر العجيب وجدوا أنفسهم في معرض العقاب الإلهي وهلكوا جميعاً بسوء أفعالهم.

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)

فالقرآن الكريم يشير هنا إلى أن استعراض قصص الأقوام السالفة والأنبياء الإلهيين ليس بهدف بيان وقائع تاريخية محضة بل الهدف والغاية من ذلك هو كسب العبرة واستيحاء التجارب من أحداث التاريخ الغابر والاستفادة منها لممارسات الحاضر ولا يتدبّر في هذه الامور ويستفيد منها إلّا من كانت له اذن واعية ونفس متذكرة لتحفظ هذه الحوادث والقصص التاريخية ، «وعى» بمعنى حفظ الشيء في القلب وفي المصطلح الجديد تطلق هذه الكلمة «الوعي» على من يتعامل مع الأحداث بذهنية متحركة وفكر جيّد ، وعليه فعبارة «اذنٌ واعية» تعني الشخصية التي تستوعب الحدث وتحفظه لتستفيد منه على مستوى التطبيق والممارسة ولا تتركه في طيّات النسيان كما هو الحال في المثال المعروف «يسمع من هذه الاذن ويخرجه من اذنه الاخرى» فالإنسان الواعي لا يتعامل مع مستجدات الواقع بهذه الصورة بل يسمع بكلا اذنيه ويحفظ ما سمعه في قلبه ليكون صاحب الاذن الواعية ، والعين البصيرة ، والقلب السليم ، والعقل المتفكّر.

من هو صاحب الاذن الواعية؟

بالرغم من أن الآية الشريفة لها مفهوم واسع وشامل لجميع الأفراد الذين يتّسمون بهذه السمة «الاذن الواعية» ولكن طبقاً لما ورد في الروايات الكثيرة في تفسير هذه الآية فإنّ

٣١١

المصداق الأتم والأكمل للُاذن الواعية هو الإمام علي عليه‌السلام.

وقد ورد في بعض الروايات أنه عند ما نزلت هذه الآية الشريفة قال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً للإمام علي عليه‌السلام :

«سَأَلْتُ اللهَ انْ يَجْعَلَها اذُنَكَ يا عَلِيٌّ».

ويقول الإمام علي عليه‌السلام : بعد هذه الواقعة كنت إذا سمعت شيئاً من النبي أحفظه ولا أنساه.

وقد ورد في روايات اخرى أيضاً أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا بهذا الدعاء أوّلاً ثمّ نزلت الآية الشريفة.

أما الرواية المذكورة آنفاً فقد وردت في مصادر متعددة لأهل السنّة وكنموذج على ذلك نشير إلى بعضها :

١ ـ القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (١).

٢ ـ العلّامة المتقي الهندي في منتخب كنز العمّال (٢).

٣ ـ العلّامة الآلوسي في روح المعاني (٣).

٤ ـ العلّامة الواحدي النيشابوري في أسباب النزول (٤).

٥ ـ أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء (٥).

٦ ـ الطبري في تفسيره (٦).

٧ ـ الزمخشري في الكشّاف (٧).

٨ ـ الثعلبي في تفسيره (٨).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ج ١٨ ، ص ٢٦٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥١.

(٢) منتخب كنز العمّال : ج ٥ ، ص ١٤٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥١.

(٣) روح المعاني : ج ٢٩ ، ص ٤٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٣.

(٤) أسباب النزول : ص ٣٣٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٨.

(٥) حلية الأولياء : ج ١ ، ص ٦٧ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٨.

(٦) تفسير الطبري : ج ٢٩ ، ص ٣١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٧.

(٧) الكشّاف : ج ٤ ، ص ١٣٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٩.

(٨) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٩.

٣١٢

٩ ـ العلّامة الاندلسي المغربي في البحر المحيط (١).

١٠ ـ الگنجي في كفاية الطالب (٢).

ورغم أن الفخر الرازي يتحرك في مباحث الإمامة والولاية من موقع التعصّب الكبير إلّا أنه نقل حديثاً طريفاً ذيل الآية الشريفة ، فبعد أن ذكر دعاء النبي للإمام علي عليه‌السلام حول نزول هذه الآية قال نقلاً عن أمير المؤمنين :

«فَما نَسيتُ بَعْدَ ذلِكَ وَما كَانَ لِي انْ انْساهُ» (٣).

أي أن قلب الإمام علي أصبح خزانة الوحي الإلهي ومركز الكلمات النبويّة بعد دعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله له.

التناقض في كلام الشيخ روزبهان

وقد ذكر الشيخ روزبهان في ردّه على العلّامة الحلّي عند ما وصل إلى هذه الآية الشريفة وقال :

لمّا نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام سألت الله تعالى أن يجعلها اذنك ، قال علي : «فَما نَسيتُ بَعْدَ هذَا شَيئاً». وهذا يدلُّ على علمه وحفظه وفضيلته.

وذكر الشيخ روزبهان بعد نقله لهذا الحديث الشريف : إنّ هذه الرواية تدلُّ على علم الإمام علي وحافظته القوية وفضيلته السامية.

ولكنه بعد أن ذكر الرواية الشريفة وما عقّب عليها من عبارات في ذيلها في مدح علي قال : ولكنّ هذه الامور لا تدلُّ على إمامته وخلافته بعد الرسول مباشرة (٤).

والجواب على هذا الكلام واضح ، لأن أحد دعائم الإمامة وأركانها هو العلم والمعرفة ، وبما أن الإمام هو خليفة الرسول فيجب أن يستوعب الشريعة وتعليمات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) البحر المحيط : ج ٨ ، ص ٣٢٢ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥١.

(٢) كفاية الطالب : ص ١١١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٠.

(٣) التفسير الكبير : ج ٣٠ ، ص ١٠٧ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٩.

(٤) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٤.

٣١٣

كاملاً ويكون بالتالي حلّالاً لمشكلات الناس ومن البديهي أن اللازم للإمامة والخلافة هو أن يكون الخليفة بمستوى كبير ومرتبة عالية من العلم والمعرفة ليكون مستحقاً للخلافة وأهلاً لقيادة الامّة إلى ساحل النجاة ، ولذلك نقول إنّ عليّ ابن أبي طالب وباعترافكم أعلم وأفضل من جميع من يدعي الخلافة بعد رسول الله ، فأيُّ عاقل يبيح لنفسه أن يختار شخصاً آخر للخلافة مع وجود مثل هذه الشخصية العظيمة؟

وعلى هذا الأساس فكيف تدلُّ هذه الآية الشريفة على علم الإمام علي عليه‌السلام وتقواه العظيمة ولا تدلُّ على خلافته وإمامته؟ أليس هذا من التناقض؟

ملاحظة ظريفة من الفخر الرازي

الفخر الرازي في تفسيره لكلمة «اذنٌ واعية» يطرح هذا السؤال :

لما ذا وردت «اذنٌ واعية» بصورة المفرد والنكرة ولم ترد بصيغة الجمع والمعرفة؟

ثمّ يجيب على هذا السؤال بثلاث امور :

١ ـ «للايذان بأنّ الوعاة فيهم قلّة» فإنّ الله تعالى يريد بهذا التعبير إفهام المخاطبين بأن أصحاب الاذن الواعية قليلون وغير معروفين بين الناس.

٢ ـ «لتوبيخه الناس بقلّة من يعي منهم» فأراد الله تعالى بهذه العبارة توبيخ الناس وذمّهم على قلّة من يأخذ الامور من موقع الوعي والفهم السليم.

٣ ـ «للدّلالة على أنّ الاذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السّواد الأعظم عند الله وأنّ ما سواه لا يلتفت إليهم» (١) فصاحب الاذن الواعية يعادل جمع غفير من الناس في واقع الأمر.

ومع الالتفات إلى هذا البيان وكذلك ما ورد في الروايات من أن المراد بالاذن الواعية هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، تكون النتيجة أنّ مصداق هذه الآية الشريفة هو أمير المؤمنين عليه‌السلام وهذا المطلب يؤيد ما ورد في شأن النزول ومن دعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي عليه‌السلام.

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ٣٠ ، ص ١٠٧.

٣١٤

علي مع الحقّ والحقّ مع علي

ومن أجل توضيح الأبعاد المختلفة من شخصية الإمام علي عليه‌السلام وامتيازات وخصائص خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نلفت نظر القارئ الكريم إلى ثلاث روايات وردت في مصادر أهل السنّة :

١ ـ ينقل الطبراني عن امّ سلمة زوجة الرسول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال :

عَلِيٌّ مَعَ القُرْآنِ وَالْقُرْآنُ مَعَ عَلِيٍّ لا يَفْتَرِقانِ حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الْحَوْضَ (١).

سؤال : عند ما يقول النبي «علي مع القرآن والقرآن مع علي» فما ذا يقصد بذلك؟ هل يقصد أن الإمام علي كان يحمل معه القرآن دائماً ، أو أن مراده هو أنه عليه‌السلام حافظ للقرآن ، أو مراده شيء آخر؟

الجواب : إنّ مراده من هذه الجملة هو أن تفسير القرآن والعلم بآياته ومعارفه موجود لدى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولا يفترق عنه وكذلك العمل بمضامينه ودستوراته فإنها تتجسد في سلوكيات أمير المؤمنين فهو العالم والعامل بالقرآن الكريم ، فالعلم في القرآن والعمل به لا ينفكّان عن الإمام علي عليه‌السلام ، وهذا في الحقيقة امتياز كبير وفضيلة عظيمة لم ترد في حقّ أي واحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ علي عليه‌السلام

٢ ـ وقد أورد الحاكم النيشابوري في كتاب «مستدرك الصحيحين» بسند صحيح ومعتبر عن الإمام علي عليه‌السلام أنه قال :

قالَ : بَعَثَني رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلَى الْيَمَنِ فقُلْتُ يا رَسُولَ اللهِ بَعَثْتَنِي وَانَا شابٌّ اقْضِي بَيْنَهُم وَانَا لا ادْرِي ما الْقَضاءُ ، فَضَرَبَ صَدْرِي ثُمَّ قالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسانَهُ» فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ (٢) ما شَكَكْتُ فِي قَضاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدُ (٣).

__________________

(١) نور الأبصار : ص ٨٩.

(٢) يعدّ هذا القَسَم مهماً جدّاً ، ولذا ورد ذكره بكثرة في روايات المعصومين ، فعند ما تنفتح الحبّة عن نبتة زاهرة

٣١٥

فطبقاً لهذه الرواية الشريفة فإن الإمام علي عليه‌السلام كان يقضي بالحقّ دائماً ببركة دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له ولم يتفق له أن يشك أو يتردد في مورد من الموارد.

علي عليه‌السلام أفضل القضاة!

٣ ـ جاء شخص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :

عن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام : إنّ ثوراً قتل حماراً على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرفع ذلك إليه وهو في أناس من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر ، فقال : يا أبا بكر اقضِ بينهم ، فقال : يا رسول الله بهيمة قتلت بهيمة ما عليهما شيء. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمر اقض بينهم. فقال مثل قول صاحبه. فقال : يا علي اقض بينهم. فقال : نعم يا رسول الله ، إن كان الثور دخل على الحمار في مستراحه ضمن أصحاب الثور ، وإن كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان عليهم. فرفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يده إلى السماء فقال : الحمد لله الذي جعل مني من يقضي بقضاء النبيين (٤).

فقال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تأييداً لقضاء الإمام علي عليه‌السلام في هذا المورد :

«اقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» (٥).

إن قضاء الإمام علي عليه‌السلام في هذه الواقعة هو المصداق لما ورد في فقه الشيعة كقاعدة كلية وهي «عند ما يكون السبب أقوى من المباشر فالسبب ضامن» وفي القصة المذكورة آنفاً كانت البقرة هي المباشرة للقتل وصاحب البقرة الذي تركها حرة ولم يربطها هو المسبب للقتل ، وبما أن السبب أقوى لمكان العقل والشعور وليس للحيوان ذلك العقل والشعور ولهذا فالسبب هو الضامن (٦).

__________________

من بطن الأرض يكون حالها حال الجنين الذي يخرج من بطن امّه ، فجميع القوانين الحاكمة على ظاهرة ولادة الجنين ، حاكمة كذلك على خروج النبتة من الحبّة.

(٣) مستدرك الصحيحين (نقلاً عن نور الأبصار : ص ٨٨) حيث نقل الرواية المذكورة عن مستدرك الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٣٥ ، ولكن مع تفاوت يسير.

(٤) قضاء أمير المؤمنين : ص ١٩٣.

(٥) نور الأبصار : ص ٨٨.

(٦) كما هو الحال فيما لو دعى صاحب البيت شخصاً لضيافته ، وكان في البيت كلب هارٍ يهجم على الغرباء ولم

٣١٦

وطبقاً لما تقدّم فصاحب «الاذن الواعية» هو الإمام علي عليه‌السلام الذي لا يفترق عن القرآن الكريم وأعلم المسلمين بأمر القضاء وأفضل الصحابة وأعرفهم بكتاب الله ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدّم فإن الله تعالى إذا أراد أن ينصب شخصاً للخلافة والإمامة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فهل يعقل أن ينصب شخصاً آخر لهذا المقام غير الإمام علي عليه‌السلام؟ ولو قلنا بأن هذا المقام يتم باختيار الناس فهل يقرر العقلاء وأصحاب الفكر مع وجود الإمام علي عليه‌السلام بكلّ هذه الفضائل والصفات السامية ، انتخاب غيره لهذه المهمة؟

نرى أن من اللازم أن نتوجه مرّة اخرى إلى الله تعالى ونرفع أيدينا بالشكر والثناء من صميم القلب على هذه النعمة العظيمة وهي أن وفقنا لاتباع مثل هذا الإنسان الكامل والعظيم وجعلنا من شيعة الإمام علي عليه‌السلام وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ونشكر كذلك آباءنا وامهاتنا الذين عرّفونا بالإمام علي عليه‌السلام وعملوا على تربيتنا بحبّ هذا الإنسان العظيم وولايته ونشكر أيضاً جميع المعلمين والأساتذة والعلماء على طول التاريخ على ما تحمّلوا من أتعاب ومشقّات لكي يرفعوا لواء الولاية في هذا البلد الإسلامي العريق «ايران» ونطلب من الله تعالى أيضاً :

إلهنا ، ارزقنا العشق والمودّة الدائمة لهذا الإمام العزيز واحيى قلوبنا وأرواحنا بهذه الولاية والمحبّة واجعل نسلنا وذريتنا إلى يوم القيامة من شيعة الإمام علي عليه‌السلام الحقيقيين.

ربّنا ، اغثنا في اللحظات الحرجة وساعات الاحتضار ومواقف المحشر والقيامة بالإمام علي وأهل بيته الطاهرين.

إلهنا وفّقنا إلى أن نكون في أعمالنا وأقوالنا من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام بحيث ننال بذلك رضاك والمنزلة عندك.

__________________

يخبر صاحب البيت ضيفه بأمر هذا الكلب ولم يهتم لدفع الخطر عن الضيف ، فلمّا دخل الضيف إلى البيت هجم عليه الكلب وجرحه ، فهنا يضمن صاحب البيت ، لأن الكلب وإن كان هو المباشر ، وصاحب البيت هو السبب ، إلّا أن السبب هنا أقوى من المباشر ، فيكون الضمان عليه.

٣١٧
٣١٨

آية صالح المؤمنين ١٢

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤))

«سورة التحريم / الآية ٤»

أبعاد البحث

الآية الشريفة المذكورة آنفاً هي الآية المعروفة بآية «صالح المؤمنين» وهي من جملة الآيات التي تدلُّ باعتراف الشيعة وأهل السنّة على فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه‌السلام الكثيرة ، والحديث عن دلالة هذه الآية على فضيلة أمير المؤمنين عليه‌السلام وارتباطها بمسألة الولاية والإمامة سيأتي في الأبحاث اللاحقة بالتفصيل.

شأن النزول

هذه الآية هي الآية الرابعة من آيات سورة التحريم ، وقد وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث والتفسير والتاريخ عن الشيعة والسنّة انتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي :

كان رسول الله يذهب أحياناً إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتّى «تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته له صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر ، ولذا قالت : إنّها قد اتّفقت مع «حفصة» إحدى «أزواج الرسول» على أن يسألا الرسول بمجرّد أن

٣١٩

يقترب من أي منهما بأنّه هل تناول صمغ «المغافير» (١) وفعلاً سألت حفصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا السؤال يوماً وردّ الرسول بأنّه لم يتناول صمغ «المغافير» ولكنه تناول عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى ، (خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ «المغافير») وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد (لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرسول قد حرّم على نفسه طعاماً حلالاً فيقتدون بالرسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك).

لكنها أفشت السرّ فتبيّن أخيراً أنّ القصة كانت مدروسة ومعدّة فتألّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك كثيراً فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرر ذلك مرة اخرى في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وجاء في بعض الروايات أنّ الرسول ابتعد عن زوجاته لمدّة شهر بعد هذا الحادث (٣) ، انتشرت على أثرها شائعة أنّ الرسول عازم على طلاق زوجاته ، الأمر الذي أدّى إلى كثرة المخاوف بينهنّ (٤) وندمن بعدها على فعلتهن.

الشرح والتفسير :

أصحاب وأنصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

نرى من اللازم في تفسير الآية مورد البحث إلقاء نظرة إجمالية على الآيات السابقة لها لتوضيح المراد منها.

بلا شك أن شخصية كبيرة مثل شخصية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تتعلق بذاته وشخصه

__________________

(١) «مغافير» صمغ يؤخذ من أشجار الحجاز باسم «عرفط» له رائحة كريهة.

(٢) أصل هذا الحديث مذكور في صحيح البخاري : ج ٦ ، ص ١٩٤ ، والتوضيحات المذكورة بين الأقواس مقتبسة من مصادر اخرى (انظر التفسير الامثل : ج ١٨ ، ص ٤٤٠).

(٣) تفسير القرطبي : ذيل الآيات مورد البحث.

(٤) تفسير (في ظلال القرآن) : ج ٨ ، ص ١٦٣.

٣٢٠