آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

الواضحات لديهم حتّى أن بعض علماء أهل السنّة ادّعوا الإجماع على هذا الرأي ومن ذلك :

١ ـ يقول ابن عبد البر العالم السنّي المعروف :

اتّفقوا على أن خديجة أوّل من آمن بالله ورسوله وصدّقته فيما جاء به ، ثمّ عليٌّ بعدها (١).

٢ ـ ويقول أبو جعفر الإسكافي المعتزلي استاذ ابن أبي الحديد المعتزلي الذي توفي في سنة ٢٤٠ عن أوّل من أسلم واستجاب لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد روى النّاس كافة افتخار عليّ بن أبي طالب بالسّبق إلى الإسلام (٢).

٣ ـ ويقول الحاكم النيشابوري في «مستدرك الصحيحين» الذي يعدّ رديفاً لصحيح البخاري وصحيح مسلم :

لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أنّ عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه أوّلهم إسلاماً وإنّما اختلفوا في بلوغه (٣).

ومضافاً إلى ما تقدّم آنفاً من ادعاء الإجماع على أسبقية الإمام علي عليه‌السلام لاعتناق الإسلام يروي العلّامة الأميني ٢٥ رواية من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ويذكر ٦٦ قولاً من أكابر علماء الإسلام والشعراء المتقدمين في هذا المجال ، وقد ذكر بعض علماء الشيعة ١٠٠ حديثاً من منابع أهل السنّة في هذا المجال ، ويعتبر هذا العدد كثيراً جدّاً (٤).

__________________

(١) الاستيعاب : ج ٢ ، ص ٤٥٧ نقلاً عن الغدير : ج ٣ ، ص ٢٣٨.

(٢) الغدير : ج ٣ ، ص ٢٣٧.

(٣) المستدرك على الصحيحين : كتاب المعرفة ، ص ٢٢ نقلاً عن الغدير : ج ٣ ، ص ٢٣٨.

(٤) وينبغي الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن وصول كلّ هذه الروايات الكثيرة عن فضيلة واحدة من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتب ومصادر أهل السنّة أشبه بالمعجزة ، لأن بيان فضائل ومناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يكن ممنوعاً في عصر حكومة بني امية فحسب وكان يعدّ جرماً أيضاً ، بل إن عشرات الآلاف من المنابر في مختلف بقاع البلاد الإسلامية الواسعة كانت معدّة لسبّ أمير المؤمنين (العياذ بالله) وهتك حرمته بحيث إنّ الكثير من الناس انخدعوا بهذا الإعلام المسموم وكانوا يرون في اسم (علي) ظلماً وجريمة ، فقد جاء رجل إلى الحجاج بن يوسف الثقفي المجرم المعروف في تاريخ الإسلام وقال له : لقد ظلمتني امّي وأنا اشتكي إليك منها. فقال الحجاج : وبما ذا ظلمتك؟ قال : لقد سمتني علياً!! وعلى هذا الأساس فبقاء روايات المناقب

٢٨١

أجل ، إنّ هذه المسألة تعتبر في المستويات العُليا من الإتقان والاعتبار ولذلك فالشيعة يفتخرون بها ، ولا بدّ لنا نحن الشيعة أن نفتخر ونقدر هذه النعمة العظيمة نعمة التشيّع علينا والتي تعلّمناها من والدينا وأرشدنا إليها علماؤنا ، ولا بأس بالإشارة إلى بعض الروايات في هذا الصدد :

١ ـ يروي أنس خادم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه :

نُبِّئ النّبي يوم الاثنين وأسلم عليٌّ يوم الثّلثاء. (وفي رواية اخرى) بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الاثنين وصلّى عليٌّ يوم الثّلثاء (١)».

سؤال : هل أن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لم يسجد لصنم قطّ ولم يعتقد بغير التوحيد؟

الجواب : إنّ عليّ ابن أبي طالب وبشهادة التاريخ لم يسجد حتّى لحظة واحدة أمام صنم ولم يختر ديناً غير دين التوحيد (٢) ، وعليه فإنّ معنى الرواية أعلاه هي أن الإمام علي عليه‌السلام أسلم بعد يوم واحد من البعثة المباركة ولا ينافي هذا أنه كان قد عانق الإسلام بقلبه قبل ذلك.

٢ ـ ويقول سلمان الفارسي الصحابي المعروف بالنسبة إلى أوّل الناس إسلاماً :

أوّل هذه الامّة وروداً على نبيّها الحوض أوّلها إسلاماً عليّ بن أبي طالب (٣).

__________________

لأمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك العصر الذي يخاف المؤمن فيه من ذكر فضيلة واحدة من فضائل الإمام عليه‌السلام ويسعى العدو لطمس وتحريف الحقائق ، كان أقرب ما يكون إلى المعجزة ، وما أجمل مقولة الشاعر الذي يحكي عن الحالة في ذلك الزمان :

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نُصبت لكم أعواده

وعند ما يفكر الإنسان في تلك الأجواء المظلمة من التاريخ الإسلامي ، ومن جهة اخرى يجد أكثر من مائة رواية تتحدث عن فضيلة من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتب أهل السنّة يخرج بهذه النتيجة ، وهي أن الله تعالى أراد لهذه الفضائل والمناقب أن تبقى إلى يوم القيامة وتنتشر في كلّ مكان ويكون الشيعة سعداء وأعزاء في كلّ مكان ويشكرون الله تعالى على هذه النعمة العظيمة جداً.

(١) فرائد السمطين : باب ٤٧ نقلاً عن الغدير : ج ٣ ، ص ٢٢٤.

(٢) يقول المقريزي في الإمتاع ص ١٦ : «وأما علي بن أبي طالب فلم يشرك بالله قط». (الغدير : ج ٣ ، ص ٢٣٨).

(٣) مجمع الزوائد : ج ٩ ، ص ١٠٢ نقلاً عن الغدير : ج ٣ ، ص ٢٢٧.

٢٨٢

وكما سبق وأن ذكرنا أن المثوبات الاخروية هي انعكاس لأعمال الإنسان في الدنيا ، وبما أن الإمام علي عليه‌السلام كان أوّل مسلم في الدنيا ، إذن فهو أوّل شخص يرد الحوض على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة.

٣ ـ ويعترف الخليفة الثاني عمر ابن الخطّاب بهذه الحقيقة كما يروي عبد الله بن عبّاس الصحابي المعروف وتلميذ أمير المؤمنين عليه‌السلام ويقول :

كنت أنا ونفر من المسلمين عند عمر بن الخطّاب وتحدّثنا عن أوّل من أسلم ، فنقل لنا عمر حديثاً وقال :

أمّا عليٌّ فسمعت رسول الله يقول : فيه ثلاث خصال لوددت أن تكون لي واحدة منهن ، وكانت أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس كنت أنا وأبو عبيدة وجماعة من أصحابه إذ ضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على منكب عليٍّ فقال يا علي : «انْتَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنينَ إيماناً ، وَأَوَّلُ الْمُسْلِمينَ إسْلاماً ، وَانْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى». (١)

سؤال : هل أن جملة «أوّل المسلمين إسلاماً» عبارة اخرى عن «أوّل المؤمنين إيماناً» أو لها معنى آخر؟

الجواب : إنّ الإيمان يتعلق بالاعتقادات القلبية والباطنية لدى الإنسان ، بينما الإسلام هو إبراز هذه الاعتقادات وإظهارها على اللسان ، وعليه فإنّ الإمام علي عليه‌السلام كما أنه أوّل من آمن بقلبه برسول الله ، فكذلك هو أوّل شخص أبرز وأظهر ذلك الإيمان على لسانه.

قيمة الإيمان قبل البلوغ

سؤال : هل كان عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام بالغاً عند ما تشرّف بدين الإسلام؟ فلو لم يكن قد وصل سنّ البلوغ فهل يعتبر إيمانه في هذه السنّ فضيلة ليقال أنه أوّل المسلمين إسلاماً؟

الجواب : وفي الجواب على هذا السؤال ينبغي تقديم نقطتين :

الاولى : إذا لم يكن الإنسان قد وصل إلى سنّ البلوغ ولكنه مع ذلك يعتبر صبيّاً ذكيّاً وعاقلاً ومميّزاً بين الخير والشر والحسن والقبيح ، فبنظرنا أن إيمان مثل هذا الشخص مقبول ،

__________________

(١) الغدير : ج ٣ ، ص ٢٢٨.

٢٨٣

وليس فقط أنه مقبول على مستوى الإيمان ، بل كما يقول الفقهاء أن عبادات هذا الصبي المميّز صحيحة وصلاته ، صومه ، حجّه وعمرته وسائر العبادات التي قد يأتي بها مراعياً لجميع الشروط والأركان صحيحة ومقبولة.

وبتعبير فقهاء الإسلام إنّ عبادات هذا الشخص شرعيّة لا تمرينية (١) ، وعليه فعند ما تكون عبادات الصبي غير البالغ صحيحة وشرعية فإيمانه مقبول بطريق أولى ، والنتيجة هي أن إيمان الصبي المميّز قبل البلوغ مقبول.

ومضافاً إلى ذلك فنحن نعتقد أن مثل هؤلاء الصبية المراهقين مسئولون في مقابل الذنوب والمعاصي ولا يمكن صرف هذه المسئولية عنهم لمجرد عدم بلوغهم سنّ التكليف وإعطاءهم الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، ولهذا فلو أنّ الصبي المميّز الذي لم يبلغ سنّ التكليف كان يعلم جيّداً أن قتل إنسان بريء هو عمل قبيح فارتكب هذا العمل وقتل بريئاً فإنه يضمن ديته وهو مسئول أمام الله تعالى.

النتيجة هي أن الشخص غير البالغ إذا كان عاقلاً ومميّزاً فإنّ إيمانه مقبول ، وعليه فإنّ البلوغ ليس شرطاً لقبول الإسلام والإيمان.

الثانية : لقد وصل بعض الأنبياء الإلهيين في سنّ الطفولة إلى مقام النبوّة ، فكيف لا يكون البلوغ شرطاً في مقام النبوّة الذي هو أعلى كثيراً من قبول مجرد الإيمان ، ولكنه يكون شرطاً في قبول الإسلام؟ ونكتفي بذكر مثالين لنيل مقام النبوّة في مرحلة الطفولة :

١ ـ النبي يحيى عليه‌السلام وصل إلى النبوّة في سنّ الطفولة ، وقد ذكر الله تعالى ذلك في الآية ١٢ من سورة مريم وقال :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)

٢ ـ النبي عيسى عليه‌السلام أيضاً وصل مرتبة النبوّة في سنّ الطفولة كما يحدّثنا القرآن الكريم في الآية ٣٠ من سورة مريم على لسان هذا النبي ويقول :

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)

__________________

(١) وقد أشار السيّد اليزدي إلى هذه المسألة في كتاب «العروة الوثقى» : ج ٢ ، ص ٢١٧.

٢٨٤

وعند ما يؤكد هذا النبي الكريم على أنه عبد الله فمن أجل أن النصارى لا يتخذونه بعد ذلك ابناً لله تعالى ، وعند ما يقول «جعلني» ولم يقل «يجعلني» فإنّما ذلك لأنه نال هذه المرتبة السامية ، أي مرتبة النبوّة في مرحلة الطفولة.

وقد ورد عن بعض الأنبياء أنهم نالوا هذا المقام أيضاً في مرتبة الطفولة (١).

والخلاصة أنه عند ما لا يشترط في النبوّة سنّ خاصّ وهي ذلك المقام الرفيع فبطريق أولى لا يشترط في الإيمان وقبول الإسلام سنٌّ خاصّ كالبلوغ.

الثالثة : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مأموراً في أوّل البعثة ولمدّة ثلاث سنوات أن يدعو عشيرته الأقربين ويعرض الإسلام عليهم ، أي بعد أن دعاهم إلى الإسلام في هذه السنوات الثلاث بصورة خفية وسريّة (٢) وآمن أفراد قلائل به ، امر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغ الرسالة بصورة علنية ، ولذلك أمر النبي عليّاً عليه‌السلام أن يهيّئ مقدمات الضيافة لقومه وأمره أن يهيّئ طعاماً مناسباً بمعونة غيره من المسلمين ودعا رؤساء قومه وعشيرته إلى ذلك المجلس ، فحضر الضيوف وتناولوا الطعام وبعد الانتهاء من تناول الطعام قام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرض دينه الجديد عليهم وأخبرهم بأنه رسول من الله تعالى إليهم ثمّ قال : «أيّكم يؤازرني على هذا الأمر ويكون أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي» فأحجموا كلّهم ولم يستجب أحد لطلبه غير علي عليه‌السلام وكرر النبي دعوته لهم ثلاثاً وفي كلّ مرّة لم يستجب له غير علي عليه‌السلام فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم :

«انَّ هذَا اخِي وَوَصِيّي وَخَليفَتي عَلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَاطيعُوهُ». (٣)

__________________

(١) يقول العلّامة المجلسي نقلاً عن أهل السنّة : إن النبي سليمان ودانيال بعثا للنبوة في مرحلة الطفولة. (بحار الأنوار : ج ٣٨ ، ص ٢٣٦).

(٢) الأشخاص الذين يعترضون على الشيعة في مسألة التقيّة ما هو تفسيرهم للدعوة السرية للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمدّة ثلاث سنوات؟ ألا يعد سلوك النبي في تلك المدّة من التقية ليزداد قوّة وأنصاراً؟ وعلى هذا الأساس فالتقية تعني تغيير في الاسلوب لحفظ وتقوية رجال الدعوة ريثما تحين الفرصة المناسبة ، وهذا هو الذي تقوله الشيعة وقد ورد هذا المعنى في النصوص الدينية وسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٢ ؛ تاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٤٠ ؛ مسند أحمد : ج ١ ، ص ١١١ نقلاً عن فروغ أبدية : ج ١ ، ص ٢٥٩.

٢٨٥

وطبقاً لنظر ورأي من يعتقد بأن عليّ بن أبي طالب كان له من العمر عند ما أسلم عشر سنوات ولهذا فإنّ إيمانه غير معتبر وليس له قيمة ، فهذا يعني أن الإمام كان له من العمر في هذه الواقعة ثلاثة عشر سنة ، فلو لم تكن قيمة لإيمان عليّ بن أبي طالب في هذا السنّ إذن فلما ذا قال في حقّه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه العبارات الجذّابة واعتبره خليفة له؟!

إنّ من يشك في هذه الفضيلة فهو في الحقيقة يشك في اعتبار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله ، ولو قيل أن مثل هذا الكلام يكون له اعتبار فيما لو كان الإمام له من العمر ثلاثة عشر سنة ، فيجب أن نقبل هذه الحقيقة وهي أن إيمان علي حتّى لو كان في سنّ العاشرة من العمر فهو ذو قيمة واعتبار.

الرابعة : ومضافاً إلى ما تقدّم لا نرى أن مسألة عدم بلوغ الإمام علي عليه‌السلام في هذه الواقعة حقيقة مسلّمة وقطعية ، بل هناك اختلاف بين علماء الإسلام في هذه المسألة ، كما ذكر صاحب مستدرك الصحيحين مشيراً إلى هذا المطلب في الأبحاث السابقة ، ولا بأس باستعراض بعض نظرات وآراء علماء الإسلام في هذه المسألة :

الف : يقول ابن عبد البر في كتاب «الاستيعاب» المجلد ٢ ، الصفحة ٤٧١ :

أوّل من أسلم بعد خديجة عليّ بن أبي طالب وهو ابن خمس عشر سنة أو ستّ عشر سنة (١).

ب : ويذكر صاحب كتاب «اسد الغابة في معرفة الصحابة» في المجلد ٤ ، الصفحة ١٧ ثلاث نظريات في هذا المجال ، وطبقاً لإحدى هذه النظريات أن عمر الإمام في ذلك الوقت كان خمسة عشر سنة.

ج : ويتعرض العلّامة المجلسي أيضاً إلى هذه المسألة وينقل سبعة أقوال حولها (٢).

وعلى هذا الأساس فإنّ عدم بلوغ الإمام علي عليه‌السلام حين تشرّفه بالإسلام لا يعتبر مسألة قطعية ومسلّمة بل هناك اختلاف في وجهات النظر بين علماء الإسلام.

__________________

(١) وقد ذكر في الاستيعاب ثمانية أقوال في عمر الإمام علي عند ما تشرّف بالإسلام ، والكلام المذكور أعلاه يشير إلى قولين من هذه الأقوال.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٨ ، ص ٧ و ٢٣٦.

٢٨٦

والخلاصة هي أن الروايات الكثيرة والمتواترة تشهد على أن الإمام علي عليه‌السلام أوّل رجل اعتنق الإسلام وآمن بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبذل النصرة وعلى فرض قبول عدم بلوغه في ذلك الوقت فإن ذلك لا يقلل شيئاً من هذه الفضيلة.

أوّل المؤمنين ، امتياز كبير

ولعلّ البعض يتصور بأن «أوّل المؤمنين» لا يعدُّ امتيازاً وفضيلةً لأمير المؤمنين ولا يختلف الحال بين من سبق الناس إلى الإيمان وبين من التحق بالإسلام بعده ، ولكنّ الإنصاف هو وجود تفاوت كبير وبون شاسع بينهما ، ولأجل توضيح هذا المطلب نستعرض قصة «سحرة فرعون» :

يذكر القرآن الكريم أن فرعون أمر بأن يجمعوا له جميع السحرة من سائر بلاد مصر لمواجهة النبي موسى عليه‌السلام ، وفي اليوم الموعود أحضرهم جميعاً وبذل لهم الوعود الكثيرة ومنها أن يكونوا من المقرّبين إلى البلاط الفرعوني «قال نعم وإنكم إذن لمن المقرّبين» (١).

وقد هيّأ فرعون جميع مستلزمات النصر والغلبة في ذلك اليوم بحيث كان مطمئناً إلى انتصاره في مواجهة موسى وهارون وحلّ ذلك اليوم ، وألقى السحرة في البداية عِصيّهم وحبالهم وسحروا أعين الناس وانقلبت هذه العصي والحبال إلى أفاعي وثعابين مخيفة.

ثمّ إنّ موسى عليه‌السلام ألقى عصاه بأمر من الله تعالى نحو سحر السحرة فانقلبت العصى إلى ثعبان عظيم وبدأ يلتقم حبالهم وعِصيّهم وحطّم بذلك سحرهم ومكيدتهم ، فأدرك السحرة أن هذا الشخص ليس بساحر وأنه مؤيّد من قبل الله تعالى ولذلك سجدوا جميعاً وقالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٢)

وكان إيمان هؤلاء السحرة الذين جمعهم فرعون لغرض مواجهة موسى ، مؤثراً بشدّة في تقوية ودعم جبهة الحقّ ويعدّ ضربة قاصمة إلى فرعون والملأ ، لأن الناس عند ما شاهدوا

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١١٤.

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٢١.

٢٨٧

أن السحرة أنفسهم آمنوا وصدّقوا بموسى وميّزوا بين «المعجزة» وبين «السحر» كان ذلك دافعاً ومحرّكاً لهم على الإيمان بموسى وبالرسالة السماوية ، وعند ما شاهد فرعون هذه الظاهرة العجيبة شرع بالحديث مع السحرة من موقع التهديد والإرعاب وقال لهم :

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)(١)

ولكنّ نور الإيمان جعل من تعذيب فرعون لهؤلاء السحرة سهلاً ويسيراً ولذلك أعلنوا استعدادهم لتقبّل كلّ أشكال التعذيب والقتل على التخلّي عن اعتقادهم وإيمانهم :

(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢)

ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أن «أوّل المؤمنين» يعدّ امتيازاً كبيراً للإنسان بحيث إنه يعتبر كفّارة لجميع الذنوب السابقة ، والعلّة في ذلك واضحة ، لأنه ليس كلُّ شخص مستعداً لأن يكون أوّل المؤمنين ويتقبّل الأخطار والإضرار وجميع التبعات والتحدّيات التي يفرضها الواقع المخالف عليه ، ولذلك فإنّ ثواب «أوّل المؤمنين» يمتاز عن سائر أشكال المثوبات الاخرى.

الإمام علي عليه‌السلام كان أوّل المؤمنين بين المسلمين جميعاً ولذلك يعدُّ امتيازاً خاصّاً وفضيلة مهمّة له حيث يعبر ذلك عن شجاعته وشهامته عند ما لبّى نداء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وشخّص الحقّ من الباطل وأن هذه الدعوة هي دعوة إلهيّة ، ولذلك لم يتردد لحظة في الاستجابة لدعوة النبي وحظى بمنزلة «أوّل المؤمنين إيماناً».

الإنسان الشيعي ينبغي عليه أن يتحلّى بهذه الخصلة والفضيلة أيضاً وعند ما تشيع الفحشاء وتسود المفاسد في المجتمع عليه أن يكون أوّل من يتقدّم لكسر حاجز الصمت والتصدّي لهذه المفاسد والقبائح على المستوى الفكري والأخلاقي ويكون أوّل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وعلى الإخوان الأعزاء الذين يشتركون في مجالس الفرح والسرور فيما لو شاهدوا أن المجلس قد تلوّث بالذنوب والمعاصي ولا أحد من الحاضرين

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١٢٤.

(٢) سورة الشعراء : الآية ٥١.

٢٨٨

يتصدّى للنهي عنها فلا ينبغي أن يكون حاله كحال بقية الناس ، ففي ذلك تكمن الفضيحة والمشاركة في الإثم ، بل يجب عليه ترك هذا المجلس وأن يتقبّل جميع أشكال اللوم والذمّ من الحاضرين من طيب خاطر وفي سبيل الله.

إنّ الشيعي الصادق لأمير المؤمنين عليه‌السلام لا ينبغي له أن يخاف ويستوحش من الوحدة في مسير الحقّ وفي حركته في خطّ الإمام علي ، لأنه عليه‌السلام يقول :

«لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَريقِ الْهُدى لِقِلَّةِ اهْلِهِ» (١).

والخلاصة أن مقام «أوّل المؤمنين» يحتاج إلى شجاعة أكثر ومعرفة أوسع وقدرة نفسيّة على تحطيم القيود والتقاليد السائدة في المجتمع المتخلّف وهذه امور قد اجتمعت في الإمام علي عليه‌السلام.

إنّ سحرة فرعون بإيمانهم بالنبي موسى ونيلهم لمرتبة أوّل المؤمنين به فإنهم ليس فقط تخلّصوا من أجواء الظلم والكفر والشرك بل أصبحوا في صفّ الشهداء ، أجل فإنهم في صباح ذلك اليوم كانوا في صفّ الفراعنة وأنصار فرعون وفي تلك الليلة أمسوا في صفّ الشهداء (٢) لأن فرعون جسّد تهديده بقتلهم وصلبهم فكان أن استشهدوا جميعاً في تلك الليلة.

ومن الجدير بالذكر أن إيمان الأشخاص في المراحل البعدية يعدّ ثمرة لإيمان الأوائل ، ولهذا فإنّ القسم الأعظم من أصحاب وأتباع النبي موسى قد أمنوا به بسبب إيمان وشهادة هؤلاء السحرة ، وهذه إحدى الآثار الكثيرة لدماء الشهداء.

توصية الآية

معرفة الفضائل مقدّمة للعمل!

عند ما نتحدّث عن فضائل الإمام علي عليه‌السلام أو سائر أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام فلا ينبغي أن

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٢٠١.

(٢) يقول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ج ٣ ، ص ٤٦٤ : «كانوا أوّل النهار كفّاراً سحرة ، وآخر النهار شهداء بررة».

٢٨٩

نكتفي بمجرد الكلام والاستماع ، بل يجب بعد معرفة هذه الفضائل أن نتحرّك على مستوى الممارسة والعمل لتجسيد هذه الفضائل والمناقب في حياتنا وأفعالنا وأقوالنا ، وتأسيساً على هذا فإذا رأينا أن الآيات الكريمة تتحدّث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من موقع المدح والثناء وأنه «صادق ومصدق» فلا بدّ أن يكون الشيعي كذلك أيضاً في تأييد كلام الحقّ والصدق وأن يبعد عن نفسه المؤثرات العاطفيّة والمزاجيّة ، واللطيف أن المؤمن إذا سمع كلام الحقّ حتّى من الشيطان نفسه فعليه أن يستمع له ويصدّق بكلام الحقّ كما أمر الله تعالى نبيه نوح بأن يستمع لكلام الشيطان عند ما نصحه حتّى لو كانت النصيحة من الشيطان نفسه (١).

وهنا نلفت نظر المؤمنين الصادقين والمصدّقين إلى حديثين شريفين في هذا المجال :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لا تَنْظُرُوا الى كَثْرَةِ صَلاتِهِمْ وَصَوْمِهِمْ وَكَثْرَةِ الْحَجِّ وَالْمَعْرُوفِ وَطَنْتَنَتِهِمْ بِاللَّيْلِ ، وَلكِنِ انْظُرُوا إلى صِدْقِ الْحَديثِ وَأداءِ الْامانَةِ. (٢)

والخلاصة هي أنه طبقاً لهذا الحديث النبوي الشريف أن الملاك والمعيار في تقييم الإنسان هو صدقه وأمانته.

٢ ـ قال الإمام علي عليه‌السلام :

الْايمَانُ انْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكِذْبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ. (٣)

فطبقاً لهذا الحديث الشريف فإنّ مقتضى الإيمان هو ملازمة الصدق والحقّ وأن المؤمن لا يمكن أن يكون كاذباً.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتحلّين بالإيمان والسائرين على خطى أمير المؤمنين عليه‌السلام وأن نقتبس من فضائله ومناقبه وخاصّة فضيلة الصدق والتصديق بالحقّ والحقيقة.

__________________

(١) نصائح الشيطان للنبي نوح مذكورة في كتاب «الشيطان عدو الإنسان» ص ٦٧ ، وكتاب «مواعظ الأنبياء» ص ٤٢ فصاعداً.

(٢) ميزان الحكمة : ج ٥ ، ص ٢٨٨ ، الباب ٢١٩٢ ، ح ١٠٩٥.

(٣) نهج البلاغة : الكلمات القصار ، الرقم ٤٥٨.

٢٩٠

آية المحبّة ٩

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦))

«سورة مريم / الآية ٩٦»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة وبشهادة كتب أهل السنّة ومصادرهم نزلت في شأن الإمام علي عليه‌السلام حيث تذكر الروايات الشريفة أن الإمام علي عليه‌السلام هو المصداق الأكمل والأتم لهذه الآية الشريفة ، وقد ذكرت لهذه الآية بحوث متنوّعة منها : ارتباط الإيمان والعمل الصالح بالمحبّة في القلوب ، وكذلك آراء ونظريات علماء أهل السنّة في شأن نزول هذه الآية ، ومباحث اخرى أيضاً من هذا القبيل سيأتي تفصيلها لاحقاً.

التوغّل والنفوذ في القلوب أهم رأس مال القادة

إنّ أهم رأس مال للقادة السياسيين والاجتماعيين في مختلف المجتمعات البشرية هو ما يتمتعون به من محبّة في قلوب الناس ، بحيث إنّ المشاريع والاطروحات الاجتماعية المهمّة لا تتحقق بدون وجود هذه العاطفة والانجذاب نحو القائد في عرصات المجتمع وعلى مستوى الجمهور.

ولهذا فإنّ مشاركة الناس في الامور الاجتماعية والسياسية والثقافية وحتّى العسكرية

٢٩١

يعدّ أمراً ضرورياً جدّاً في عملية الإصلاح الاجتماعي أو نجاح الحكومة ، ومن أجل تحصيل هذه الغاية فلا بدّ من النفوذ إلى قلوب الناس وجذب مودّتهم وكسب حبّهم ، وعند ما نرى أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نجح في مدّة قصيرة أن ينشر دعوته السماوية إلى شرق العالم وغربه ويوحّد قلوب المسلمين ويزيل عنهم الأحقاد والتعصّبات القديمة ويشكّل جيشاً موحّداً وقويّاً استطاع بواسطته أن يوصل دعوته الإلهية إلى شتّى بقاع المعمورة فإنّ ذلك كان بسبب أخلاقه السامية ونفوذه العجيب في قلوب الناس من المسلمين وغير المسلمين كما يحدّثنا القرآن الكريم عن هذه الحقيقة ويقول :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(١)

وهكذا بالنسبة إلى النبي إبراهيم عليه‌السلام عند ما هاجر بأمر من الله تعالى إلى مكّة وأسكن زوجته وطفله الرضيع في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا غذاء ومن دون زاد ومتاع إلى جانب بيت الله الحرام ، رفع يديه للدعاء وقال :

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(٢)

فكان إبراهيم عليه‌السلام يعلم أن النفوذ إلى القلوب هو أعظم رأس مال للإنسان ولهذا طلب من الله تعالى أن يجعل محبّة أهل بيته في قلوب الناس.

الإمام الخميني رحمه‌الله بدوره لم يكن لديه منذ بداية الثورة ولآخر يوم من أيامها سلاحاً مهمّاً من الأسلحة المتعارفة ليواجه بها أعوان الشاه وجيشه المسلّح ، ولكنه كان يمتلك سلاحاً أقوى فاعليّة وأمضى قوّة من جميع الأسلحة المتطورة لطاغوت زمانه ، وهو المحبّة في قلوب الناس وتعاطف الجماهير مع دعوته الإلهية ، والخلاصة أن عنصر النفوذ في القلب يعدّ أهم رأس مال للقادة والمصلحين في سائر المجتمعات البشرية.

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٥٩.

(٢) سورة إبراهيم : الآية ٣٧.

٢٩٢

الشرح والتفسير :

ارتباط الإيمان والعمل الصالح بمسألة النفوذ في القلوب

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)

في هذه الآية الشريفة نرى ارتباطاً بين الإيمان والعمل الصالح من جهة والنفوذ إلى قلوب الناس من جهة اخرى ، حيث يقرر الله تعالى في هذه الآية الشريفة المحبّة في قلوب الناس نتيجة الإيمان والعمل الصالح ، ومعنى هذه العبارة هي أنه من الممكن أن يتسلط الإنسان بقوّة السلاح والسيف على الناس بأجسادهم وأبدانهم ، ولكنه لا يستطيع إطلاقاً أن يتسلط على قلوبهم وأرواحهم ويفتح طريقاً إلى أعماق وجدانهم بالقوّة والقهر.

سؤال : إذن ما هي حقيقة العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح من جهة وبين النفوذ إلى قلوب الناس والمقبولية العامة في أوساط المجتمع من جهة اخرى؟ هل يمكننا أيضاً تحصيل هذه النعمة الكبيرة من خلال الإيمان والعمل الصالح؟

الجواب : بالإمكان تصوير هذه العلاقة الثنائية على نحوين :

الأوّل : أن يكون هذا الارتباط المعنوي والإلهي وفقاً لحكمة الله تعالى التكوينية كما هو الحال في المحبّة التي جعلها الله تعالى لموسى عليه‌السلام في قلب فرعون وزوجته في حال طفولة موسى ، حيث إن فرعون أمر بأن يقتل جميع الأطفال الذكور من بني إسرائيل في مصر بهدف القضاء على العدو المحتمل ، ولكن الله تعالى قد قذف في قلبه حبّ موسى وجعله يربّي موسى في بيته وقصره ، ومن هنا أراد الله تعالى أن يظهر قدرته الفائقة لفرعون والفراعنة بأنهم لا يمكنهم التصدّي لإرادة الله ومشيئته ولا يمكن لأي قدرة أن تقف مانعاً وحائلاً دون إرادة الله فيما لو تعلقت بشيء من الأشياء ، فمثل هذه العلاقة العاطفية والمحبّة القلبية لا تكون اكتسابية بل هي موهبة من الله تعالى.

الثاني : العلائق العاطفية العاديّة القابلة للتحليل المنطقي ، فإنّ العمل الحسن والصالح يتمتع بجاذبيّة وحتّى الأشخاص المنحرفين والفاسدين ينجذبون نحو حسن الأعمال وجمالها الأخلاقي.

مثلاً «الأمانة» تعتبر من الأعمال الصالحة ، والإنسان الأمين يعدّ إنساناً صالحاً ومورد

٢٩٣

قبول الناس وحبّهم واحترامهم ، فحتّى اللصوص وقطّاع الطرق يحبّون من يتمتع بهذه الفضيلة ويعتمدون عليه على مستوى الارتباط الاجتماعي وقد يضعون أموالهم المسروقة أمانة ووديعة عنده ، وعليه فإنّ العمل الصالح وكذلك الإيمان لهما جاذبية لقلوب الناس ، والثمرة المترتبة على ذلك هي النفوذ إلى قلوب الناس ، والشخص الذي يرغب في أن تكون له مكانة ومحبّة في قلوب الناس يكفي أن يكون إنساناً مؤمناً صالحاً ، فإذا أدرك الناس ذلك منه فإنّ قلوبهم ستتجه نحوه ولا حاجة إلى عمل خاص في هذا السبيل.

الطهارة والعفّة هي الاخرى أحد الأعمال الصالحة ذات القيمة الأخلاقية العالية ، وهذه الفضيلة إلى درجة من الأهمّية بحيث إنّ الأشخاص الذين يعيشون التلوّث في الخطيئة يعشقونها فعند ما يريدون الزواج وتشكيل اسرة يتوجهون إلى العوائل الشريفة ويخطبون النساء العفيفات ويجتنبون الزواج من الملوّثات ، والملفت للنظر أن الإمام علي عليه‌السلام وهو مورد البحث في هذه الآية قد وصل في معراجه المعنوي وتكامله الإنساني إلى أعلى درجة من حيث الإيمان والعمل الصالح من جهة ونفوذه في قلوب الناس من جهة اخرى.

شأن نزول آية المحبّة

بالرغم من أن مفهوم الآية الشريفة مورد البحث عام وشامل لكلِّ مؤمن يعمل الأعمال الصالحة حيث ينتج هذا الإيمان والعمل الصالح المحبّة في قلوب الناس ، ولكن بلا شك أن المصداق الأكمل والأدق لهذه الآية الشريفة هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما ورد التصريح بذلك في كتب أهل السنّة المختلفة رغم سعي البعض لإنكار هذه الحقيقة الواضحة.

ويقول العلّامة الحلّي في كتاب «احقاق الحقّ» (١) في شأن نزول الآية المذكورة أنها نزلت

__________________

(١) يعتبر كتاب «إحقاق الحقّ» من الكتب القيّمة والمهمّة جدّاً لدى الشيعة ، ويحتوي على أربعة أقسام ، ومؤلفه العلّامة الحلّي ، وقد كتب القاضي روزبهان من علماء أهل السنّة ردّاً على هذا الكتاب ثمّ ادرجه ضمن الكتاب ، ثمّ إن القاضي نور الله التستري كتب ردّاً على ما ذكره القاضي روزبهان وأيّد العلّامة الحلّي وتم ادراج ردّه أيضاً ضمن الكتاب ، وأخيراً قام آية الله العظمى المرعشي النجفي وبمساعدة بعض الفضلاء من أصحابه بإضافة هوامش مفيدة على هذا الكتاب وتم طبعه ونشره بصورة نهائية.

٢٩٤

في حقّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولكن القاضي روزبهان من علماء أهل السنّة يردّ على كلام العلّامة هذا ويقول :

ليس هذه الرواية في تفسير أهل السنّة ، وإن صحت دلّت على وجوب محبّته وهو واجب بالاتّفاق (١).

والملفت للنظر أن المحققين من الشيعة ذكروا في هامش الكتاب المذكور «احقاق الحقّ» نقلاً عن ١٧ كتاب من كتب أهل السنّة أن روايات تتعلق بالإمام علي عليه‌السلام في هذا المورد ، من بين هذه الكتب ستة منها من كتب التفسير ، فكيف يبرر مثل هذا التناقض في كلمات علماء أهل السنّة؟ هل أن القاضي روزبهان لم يقرأ هذه الكتب ، أو أنه قرأها ولكن حجاب التعصّب والعناد منعه من قبول هذه الروايات؟

وعلى أيّة حال فالكتب المذكورة هي ما يلي :

١ ـ تفسير الثعلبي (٢).

٢ ـ تفسير الكشّاف لمؤلفه الزمخشري المفسّر المعروف لدى أهل السنّة (٣).

٣ ـ تفسير العلّامة النيشابوري والذي ورد في هامش تفسير الطبري (٤).

٤ ـ السيوطي في الدرّ المنثور (٥).

٥ ـ العلّامة الشوكاني في تفسيره (٦).

٦ ـ الآلوسي في روح المعاني (٧).

ونكتفي في ذكر روايتين من هذه الكتب المذكورة :

الف : ما أورده «روح المعاني» أن البراء بن عازب الصحابي المعروف قال :

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٧.

(٢) تفسير الثعلبي : ص ١٥١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٢.

(٣) الكشّاف : ج ٢ ، ص ٤٢٥ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٣.

(٤) تفسير الطبري : ج ١٦ ، ص ٧٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٤.

(٥) الدرّ المنثور : ج ٤ ، ص ٤٨٧ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٥.

(٦) تفسير الشوكاني : ج ٣ ، ص ٣٤٢ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٦.

(٧) روح المعاني : ج ١٦ ، ص ١٣٠ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٦.

٢٩٥

قالَ رَسُولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعالى وَجْهَهُ : «قُلِ اللهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْداً وَاجْعَلْ لِي فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنينَ وُدّاً» فَأَنْزَلَ اللهُ سُبْحانَهُ هذِهِ الْآيَةَ.

وَكانَ مُحَمَّدُ بْنُ الحنفيّة رضى الله عنه يَقُولُ : لا تَجِدُ مُؤْمِناً الّا وَهُوَ يُحِبُّ عَلِيّاً كَرَّمَ اللهُ تَعالى وَجْهَهُ وَاهْلَ بَيْتِهِ (١).

سؤال : ما هو المراد من العهد المذكور في هذه الرواية؟

الجواب : يحتمل أن يكون هذا العهد هو ما ورد في آية سابقة قبل هذه الآية محل البحث ، أي الآية ٨٧ من سورة مريم حيث ورد فيها :

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)

وعليه فالمراد من العهد هو الشفاعة ، فالنبي الأكرم يقول للإمام علي عليه‌السلام : اطلب من الله تعالى أن تنال مقام الشفاعة وأن يجعل محبّتك في قلوب المؤمنين وهي المحبّة التي وردت في دعاء إبراهيم الخليل واستمرت إلى زمان نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وستبقى إلى يوم القيامة.

ب : ويذكر العلّامة الشوكاني نقلاً عن الطبراني عن ابن عبّاس إنه قال :

نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ ابي طَالِبٍ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) قالَ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنينَ (٢).

وعلى أيّة حال فقد رأينا أن هذه الآية الشريفة تقرر وجود رابطة وثيقة بين الإيمان والعمل الصالح من جهة والمحبّة في قلوب الناس من جهة اخرى ، وطبقاً للروايات الواردة فإنّ المصداق الأكمل لها هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

التفاسير الاخرى للآية مورد البحث

ومضافاً إلى التفسير المتقدم فهناك تفاسير اخرى للآية المذكورة ومنها :

الف) إن المراد من الآية الشريفة ليس هو أن المحبّة توجد في قلوب المسلمين والمؤمنين

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

٢٩٦

جميعاً اتجاه فرد معيّن أو أفراد بالخصوص ، بل المراد أن الإيمان والعمل الصالح يورثان المحبّة في قلوب جميع المؤمنين بالنسبة إلى بعضهم البعض ، وبعبارة اخرى إنّ المحبّة في قلوب المؤمنين متوجهه لجميع المؤمنين لا إلى فرد بالخصوص.

ب) إنّ هذه الآية الشريفة تشير إلى يوم القيامة فإنّ الله تعالى في ذلك اليوم يجعل المحبّة في قلوب المؤمنين بحيث يحبُّ بعضهم بعضاً ، وعليه فهذه الآية لا تتعلق بما نحن فيه.

ج) إنّ المراد من الآية الشريفة هو الإمام علي عليه‌السلام فقط ولا تشمل أي مؤمن آخر ، وما ورد في العبارة من صيغة الجمع لا يثير مشكلة ، لأن صيغة الجمع تأتي أحياناً لغرض الاحترام (١).

ولكن الانصاف أن جميع التفاسير هذه غير متنافية فيما بينها وبالإمكان الجمع فيما بينها في المفهوم من الآية الشريفة والتي تستوعب جميع المؤمنين الذين يعملون الصالحات رغم أن المصداق الأكمل والأتم هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما هو الحال في اختلاف الأنوار شدة وضعفاً من قبيل : نور الشمعة ، المصباح ، القمر ، الشمس ، ولكن بلا شكّ أن نور الشمس هو المصداق الأكمل والأتم لمفهوم النور.

توصية الآية الشريفة

الشيعة بمثابة السراج المنير

تقدّم أن قلنا أكثر من مرّة إنه ينبغي على الشيعة وأتباع أمير المؤمنين عليه‌السلام السعي لمعرفة فضائل ومناقب الإمام علي وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ولكن بلا شك لا ينبغي الاكتفاء بهذا المقدار بل يجب التحرّك بعد معرفة هذه الفضائل في خطّ العمل بها وتجسيدها على مستوى الواقع النفسي والاجتماعي والسعي في طريق النجاة والفلاح وإرشاد الناس إلى هذا الطريق أيضاً ، يجب على شيعة الإمام علي عليه‌السلام أن يكونوا قدوة واسوة في الإيمان والعمل الصالح لكي

__________________

(١) الاحتمالات الثلاثة واحتمالات اخرى مذكورة في مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٥٣٢ ـ ٥٣٣.

٢٩٧

يهتدي الناس بنور إيمانهم إلى خطّ الصلاح والتقوى والانفتاح على الله ، وهذا المعنى هو الذي يبعث المحبّة لهم في قلوب الآخرين وبالتالي يستوجب رضا أهل البيت عليهم‌السلام عنهم وسرورهم بمثل هؤلاء الأتباع ، لا أن يتحرك الشيعة بشكل يبعث على خجل هؤلاء الأولياء من أعمالهم (١).

مباحث اخرى

١ ـ نفوذ المحبّة في قلوب الجميع

إنّ ظاهر الآية الشريفة هي أن الإيمان والعمل الصالح لا يستوجبان فقط نفوذ المحبّة في قلوب المؤمنين بالنسبة إلى ذلك الشخص بل إنّ شعلة هذه المحبّة تسري إلى قلوب غير المؤمنين وتعمل على تسخيرها ولهذا فإنّ أعداء الإمام علي عليه‌السلام أيضاً يشعرون بالمحبّة له رغم أن أهواءهم النفسانية لا تسمح لهم بإظهار هذا الحبّ ولكن قد يفلت من كلماتهم هذا الأمر.

وهذا ما ورد في كتب التاريخ مراراً من أن معاوية كان يسأل من بعض شيعة الإمام علي عليه‌السلام عند ملاقاتهم به عن حالات أمير المؤمنين وأفعاله ، وبعد أن يستمع لما يذكرونه من ثناء ومدح لأمير المؤمنين يؤيدهم في ذلك (٢).

وأما عمرو بن العاص وهو الرجل الثاني من قادة العصيان والتمرد والانحراف والذي يعدّ الشريك الأوّل لجرائم معاوية بل إنّ معاوية كان يأتي بالدرجة الثانية في المكر والحيلة والإفساد بعد عمرو بن العاص ، هذا الشخص يقول في قصيدته المعروفة باسم «الجلجليّة» (٣)

__________________

(١) وقد ورد هذا المعنى في الروايات الشريفة أيضاً ، ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً» (بحار الأنوار : ج ٦٨ ، ص ٢٨٦) ومثله ما ورد عن الإمام الرضا والإمام الحسن العسكري عليهما‌السلام. (بحار الأنوار : ج ٧٥ ، ص ٣٤٨ و ٣٧٢).

(٢) وقد أوردنا نماذج من هذه المحاورات في كتاب «١١٠ قصة من حياة الإمام علي» الفصل الخامس.

(٣) إن السبب الذي دفع عمرو بن العاص إلى إنشاد هذه القصيدة أن معاوية عند ما ولّاه على مصر كان المفروض أن يرسل بعض خراجها إلى الحكومة المركزية في الشام كما هو السائد في الإمارات في ذلك الزمان ،

٢٩٨

يعترف فيها بالجرائم التي ارتكبت في زمن معاوية وكذلك في فضائل الإمام علي عليه‌السلام ويقول :

مُعاوِيَةُ الْحالَ لا تَجْهَل

وَعَنْ سُبُلِ الْحَق لا تَعْدِل

وَكِدْتُ لَهُمْ انْ اقامُوا الرّماحَ

عَلَيْهَا الْمَصاحِفَ فِي الْقَسْطَل

نَسيتَ مُحاوَرَةَ الْاشعَري

وَنَحْنُ عَلى دُومَةِ الْجَنْدَل؟

خَلَعْتُ الْخِلافَةَ مِنْ حَيْدَرٍ

كَخَلْعِ النَّعالِ مِنْ الْارْجُل

وألبستها فيك بعد الأياس

كلبس الخواتيم بالأنمل

وكم قد سمعنا من الْمُصْطَفى

وَصَايَا مُخَصَّصَةً فِي عَلِيٍّ؟

وَفِي يَوْمِ خُمٍّ رَقى مِنْبراً

يُبَلّغُ والرَّكْبُ لَمْ يَرْجُل

وَفِي كَفِّهِ كَفِّهِ مُعْلِناً

يُنادِي بِامْرِ الْعَزيزِ الْعَلِيّ

وَقالَ فَمَنْ كُنْتُ مَوْلىً لَهُ

فَهَذا لَهُ الْيَوْمَ نِعْمَ الْوَلِيّ

وَانّا وَما كَانَ مِنْ فِعْلِنا

لَفِي النّارِ فِي الدَّرْكِ الْاسْفَلِ (١)

٢ ـ مفهوم العمل الصالح في القرآن

إنّ العمل الصالح في نظر الإسلام في دائرة المفاهيم القرآنية أمر مهم جدّاً بحيث إنّ سبعين آية من آيات القرآن الكريم بحثت هذا المعنى والمفهوم ، والعمل الصالح له مفهوم واسع وشامل لكلِّ عمل يصبُّ في دائرة رضا الله تعالى ، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف ما يوضح سعة دائرة هذا المفهوم للعمل الصالح :

الايمَانُ بِضْعَةٌ وَسَبْعُونَ (سِتُّونَ خ ل) شُعْبَةً أَعْلاها شَهادَةُ انْ لا الهَ الَّا اللهُ وادْناها اماطَةُ الْأذى عَنِ الطَّريقِ (٢).

__________________

إلّا أن عمرو بن العاص أبى ذلك ، فأرسل إليه معاوية كتاباً يوبّخه فيه فاضطر عمرو إلى إرسال بعض خراج مصر إلى معاوية ، ولكنه لما رأى أن معاوية قد نسى خدماته الجليلة له وإنقاذه لحكومة الشام في ظروف صعبة ومواقف حرجة ، كتب إلى معاوية هذه القصيدة ، وعند ما قرأها معاوية فكأنه ندم على ما صدر منه تجاه عمرو بن العاص وأمر بأن يترك لحاله ولا يؤخذ من خراج مصر شيئاً.

(١) الغدير : ج ٢ ، ص ١١٤.

(٢) عوالي اللئالي : ج ١ ، ص ٤٣١ والرواية المذكورة وردت في صحيح مسلم مع اختلاف يسير ، في كتاب

٢٩٩

هذه الرواية الشريفة مضافاً إلى أنها تشير إلى سعة دائرة العمل الصالح فإنها تقرر هذه الحقيقة وهي أن الإسلام يهتم بأدنى وأصغر مسائل الحياة الفردية والاجتماعية للمسلمين ويوصي المسلمين بالاهتمام حتّى بالامور الجزئية.

__________________

الإيمان ، الباب ١٢ ، ح ٥٨ ، وهو : «الإيمان بضع وسبعون ، أو بضع وستّون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلّا الله وأدناها إماطة الاذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» وقد وردت الرواية هذه في مسند أحمد : ج ٢ ، ص ٣٧٩ أيضاً مع اختلاف يسير.

٣٠٠