آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

المؤذّن هو الإمام علي عليه‌السلام ، وعلى سبيل المثال نشير إلى نماذج منها :

١ ـ أورد الحاكم الحسكاني الحنفي من أهل السنّة في «شواهد التنزيل» عن محمّد ابن الحنفية عن الإمام علي عليه‌السلام أنه قال :

«أَنا ذلِكَ الْمُؤذِّنُ».

وروى الحاكم بسنده عن أبي صالح عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : قال علي رضى الله عنه : في كتاب الله أسماء لي لا يعرفها الناس منها المؤذن (١).

٢ ـ وكذلك نقل الحافظ أبو بكر ابن مردويه في كتاب «المناقب» أن المؤذّن هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

٣ ـ ونقل الآلوسي أحد المفسّرين المعروفين من أهل السنّة في تفسير «روح المعاني» عن ابن عبّاس أنه قال :

«الْمُؤَذِّنُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ» (٣).

٤ ـ وذكر الشيخ سليمان القندوزي مؤلف كتاب «ينابيع المودّة» في كتابه هذا أن المراد بالمؤذّن هو عليّ بن أبي طالب (٤).

٥ ـ ونقل هذا المعنى مير محمّد صالح الكشفي الترمذي في «المناقب» (٥).

هل أنّ مقام المؤذّن يعدّ فضيلة؟

سؤال : لقد ذهب بعض المثقفين والكتّاب الإسلاميين الذين تورطوا في شراك التعصّب المذهبي عند ما يصل إلى هذه الآية الشريفة والروايات المذكورة فيها ينكر كون مقام المؤذّن فضيلة للإمام علي عليه‌السلام ويقول : «على فرض أن يكون المؤذن هو الإمام علي عليه‌السلام ، ولكن هذا

__________________

(١) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٤.

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٣.

(٣) روح المعاني : ج ٨ ، ص ١٠٧ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٣).

(٤) ينابيع المودّة : ص ١٠١ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٣).

(٥) مناقب المرتضوي : ص ٦٠ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٣).

٢٦١

المعنى لا يعدّ افتخاراً له ، لأنه لا بدّ أن يكون هناك مؤذن يوصل النداء الإلهي للناس في المحشر ، ولا يختلف الحال فيمن يكون هو المؤذن».

الجواب : والجواب على هذا الكلام واضح لأن هذا المؤذّن إنما يعلن شيئاً بأمر الله تعالى فهو رسول من الله لإلقاء هذا الكلام على أهل المحشر أي الناطق الرسمي عن الله وهي وظيفة خطيرة وثقيلة ، وعليه فإنّ هذا المقام يدلُّ على أهمية ومكانة هذا الشخص بحيث يبين للناس الرسالة الإلهية بصورة جيّدة في يوم القيامة ، ومع الالتفات إلى محتوى هذه الرسالة وأنها تشمل لعنة الله على الظالمين فلا بدّ أن لا يكون هذا المؤذّن من الأفراد الملوثين بالظلم في الدنيا ، وإلّا فلا يوجد أحد يلعن نفسه ، ولهذا فإنّ مقام المؤذّن في ذلك اليوم لا يعدُّ مقاماً عادياً يستطيع أيُّ شخص أن يقوم به ، وعليه فإنّ هذا المقام يعدّ فضيلة كبيرة لمن يناله.

لما ذا يغمض بعض مفسّري أهل السنّة أبصارهم عن إدراك الحقائق ويمرون على المضامين القرآنية مرور الكرام بهدف الاحتفاظ على عقائدهم الموروثة وأحياناً ينكرون مضامين الوحي من أجل ذلك؟!

تفسير الآية ٣ من سورة التوبة

أما تفسير «آية الأذان» في سورة التوبة والتي تعد هي الاخرى من آيات فضائل الإمام علي عليه‌السلام ولها ارتباط وثيق بآية «المؤذّن» السابقة ، نرى من اللازم بعض التوضيح حول الآيات الاولى من سورة التوبة :

عند ما فتحت مكّة في السنة الثامنة للهجرة وتمّ القضاء على الشرك وعبادة الأوثان وإزالة الأصنام من أرض الوحي ودخل العرب في الإسلام ورأى مشركو مكّة تعامل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم من موقع المحبّة والعفو والصفح ، أدّى ذلك إلى دخول الناس في الإسلام زرافات ووحدانا ، وانتهت هذه السنة بجميع ما وقع بها من حوادث كبيرة ، وأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة التاسعة للهجرة أن يحجّ حجّة الوداع ولكنه بسبب وجود بعض الامور لم يرَ من المناسب أن يحجّ في تلك السنة وذلك :

الف : إنّ بعض المشركين وعبدة الأوثان كانوا يأتون من البادية لزيارة بيت الله الحرام ، وعلى الرغم من أن الكعبة قد تمّ تطهيرها من الأصنام والأوثان إلّا أنّ هؤلاء الوثنيين كانوا

٢٦٢

يأتون إلى البيت الحرام ويطوفون حوله وينشدون بعض الأشعار والشعارات الجاهلية حين الطواف تخليداً لذكر الأصنام.

ب : ما زال بعض الناس يطوفون بالبيت عراة كما كانوا في السابق لأنهم كانوا يعتقدون أن لباس الطائف الذي يطوف فيه حول البيت يجب عليه أن يتصدّق به إلى الفقير ، ولهذا فلو أن الشخص خلع لباسه وطاف عرياناً ثمّ بعد أن ينتهي من الطواف يرتدي لباسه فلا يجب عليه التصدّق به على الفقير ، ولذلك فمن لم يكن راغباً في التصدق بلباسه يقوم بخلع لباسه والطواف عارياً ، وأحياناً يكون الطائف بالبيت امرأة ، فنتصور كيف يكون حال الطواف مع وجود امرأة عريانة بين الطائفين وكيف تتبدل الأجواء المعنوية والروحية في ذلك المكان المقدّس إلى أجواء شهوانية وحيوانية؟

فنظراً إلى هذه الامور انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أداء الحجّ في السنة التاسعة حتّى نزلت الآيات الاولى من سورة التوبة وأمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعلن في مراسم الحجّ في السنة العاشرة للهجرة لجميع المشركين أربعة امور :

١ ـ «لا يَحِجَّنَّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ» فبعد السنة العاشرة للهجرة لا يحقُّ لأي مشرك أن يحجّ البيت ولا يحقُّ له دخول المسجد الحرام ، هذا البيت الذي بناه بطل التوحيد ومحطم الأصنام فلا يكون مكاناً للأصنام بعد الآن ، ولا ينبغي للمشركين والوثنيين أن يطوفوا حول بيت الله إلّا أن يتركوا عقائدهم الخرافية جانباً.

٢ ـ «وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيانٌ» فبعد الآن لا يحقُّ لأي شخص أن يطوف بالكعبة عرياناً ويلوّث تلك الأجواء المعنوية والروحية بهذا العمل الشنيع.

٣ ـ «وَلا يَدْخُلَ الْبَيْتَ الّا مُؤمِنٌ» ففي السابق كان الدخول إلى داخل الكعبة مباحاً للجميع (خلافاً لهذا الزمان حيث لا ينال هذه السعادة إلّا بعض الأشخاص القليلين) فكان المسلمون والمشركون يدخلون داخل الكعبة باستمرار وبدون أي مانع ولكن بعد إبلاغ هذا النداء لا يحقُّ لمشرك أن يدخل الكعبة.

٤ ـ «وَمَنْ كانَتْ لَهُ مُدَّةٌ فَهُوَ إلى مُدَّتِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدَّةٌ فَمُدَّتُهُ ارْبَعَةُ اشْهُرٍ» فالمشركون الذين كان لديهم عهد وميثاق مع رسول الله على ترك الحرب والقتال ولم

٢٦٣

يذكروا مدّة محدودة لعهدهم هذا ، فلهم فرصة أربعة أشهر لينضموا إلى الإسلام ، وبعد انتهاء هذه المدّة لا يبقى عهد وميثاق بينهم وبين النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأما من كان له عهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمدّة معيّنة ولم تنتهِ هذه المدّة ولم يرتكب ما يخالف العهد ولم يتحرّك على مستوى معونة أعداء الإسلام فإن عهده محترم إلى نهاية المدّة (١).

وهكذا وجد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه مأموراً بإبلاغ هذه التعليمات والأوامر الإلهية في أيّام الحجّ من السنة العاشرة للهجرة وإخبار المشركين بها ، فاختار النبي لهذه المهمة أبا بكر ليقرأ الآيات الاولى من سورة التوبة على المشركين في أيّام الحجّ ، وتوجه أبو بكر نحو مكّة لأداء هذه المهمة ولكن لم يمض سوى القليل حتّى هبط جبرئيل الأمين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له :

«إنه لن يؤديها عنك إلّا أنت أو رجل منك» فدعا النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام علي عليه‌السلام وقال له : «احقه فردّ عليَّ أبا بكر وبلّغها أنت» ففعل ذلك الإمام علي عليه‌السلام وأخذها من أبي بكر وأبلغها عامة المشركين في أيّام الحجّ (٢).

ويقول الطبرسي في هذا المجال :

اجمع المفسّرون ونقلة الأخبار انّه لمّا نزلت براءة رفعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي بكر ، ثمّ أخذها منه ودفعها إلى عليّ بن أبي طالب (٣).

وقد أوضحنا بالتفصيل ما ذكره «صاحب مجمع البيان» والمقدار المشترك بين جميع الروايات هو ما ذكرنا وقد أورد صاحب كتاب «احقاق الحقّ» هذا المعنى من أربعين كتاب من كتب أهل السنّة. (٤)

__________________

(١) التفسير الامثل : ذيل الآية مورد البحث.

(٢) التفسير الامثل : ذيل الآية مورد البحث.

(٣) مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٣.

(٤) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٤٢٧ فصاعداً.

٢٦٤

الاختلاف في الجزئيات

وطبعاً الروايات المذكورة تختلف بعض الشيء في جزئياتها وتفاصيلها ، ونشير إلى بعض منها :

لقد ورد في بعض الروايات أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أركب علياً على ناقته المعروفة ب «العضباء» فوصل علي إلى أبي بكر في مسجد الشجرة على مقربة من مكّة وأحد المواقيت المعروفة لحجّ التمتع والعمرة وأبلغه أمر رسول الله ، فتألم أبو بكر من ذلك وعاد إلى المدينة وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انْزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟».

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ، إلّا أنّي امِرْت أنْ ابَلِّغُهُ أنا أو رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتي» (١).

والخلاصة أنه يستفاد من هذه الروايات أن تغيير الشخص المأمور بإبلاغ هذه الآيات لم يكن من جهة النبي بل إنّ الله تعالى هو الذي أمره بذلك ، وعلى أيّة حال فإنّ هذه المهمة والمسئولية قد القيت على عاتق أمير المؤمنين عليه‌السلام وبذلك تحرك الإمام نحو أداء هذه المأمورية وأراح النبي من القلق الذي كان يساوره في مورد الحجّ حيث أشرنا إليه سابقاً وبذلك تهيّأت مقدّمات سفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة للإتيان بحجّة الوداع.

الشرح والتفسير :

الإنذار الهام للمشركين

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وبذلك تمّ إلغاء جميع العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين والتي لم يكن لها مدّة زمنية محددة.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ)

سؤال : لما ذا نقض رسول الله عهوده مع المشركين ، وهل يشمل هذا النقض جميع معاهدات النبي؟

__________________

(١) خصائص النسائي : ص ٢٨ نقلاً عن التفسير الامثل : الآية مورد البحث.

٢٦٥

الجواب : يستفاد من الآيات التالية أن مسألة إلغاء العهود كانت في موارد العهود التي ليست لها مدّة أو انتهت مدّتها ، وكذلك العهود التي لم تنته مدّتها ولكنّ المشركين نقضوا العهد وتعاونوا مع أعداء الإسلام والمسلمين كما حصل في حرب الأحزاب وأمثالها ، وأما العهود التي لم تنته مدّتها ولم يتخلف أصحابها عن مضمون العهد ولم يساعدوا أعداء الإسلام بشيء فإنّ مثل هذه العهود باقية على قوّتها وفاعليتها إلى انتهاء المدّة المقررة كما ورد ذلك في الآية الرابعة من سورة التوبة لأن العهد محترم جدّاً في نظر الإسلام حتّى لو كان مع العدو ، فلو اقتضت المصلحة أن يكون للمسلمين عهد وميثاق مع الكفّار فيجب أن يحترم المسلمون هذا العهد ويلتزموا به.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)

بالنسبة إلى «الحجّ الأكبر» وردت تفاسير مختلفة وأفضلها هو أن المراد من الحجّ الأكبر هو «حجّ التمتع» الذي يتضمّن في مناسكه الوقوف في عرفات والمشعر الحرام ومنى والهدي ورمي الجمرات وأمثال ذلك ، والمراد من الحجّ الأصغر هو «عمرة التمتع» (١) ، وعلى أيّة حال فلا بدّ من دراسة هذا الإعلان الإلهي في حجّ التمتّع للسنة التاسعة للهجرة وما ذا كان مضمونه ومحتواه؟ وتستمر الآيات الشريفة بالقول :

(أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ولهذا فإنّ جميع المعاهدات ملغيّة بعد إعلان براءة الله ورسوله من المشركين ، وعلى هذا الأساس فإنّ أمام المشركين والكفّار طريقان لا أكثر : الأوّل هو أن يتوبوا إلى الله ويتركوا الشرك ويدخلوا في الإسلام.

(فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنّ ذلك يؤمن لهم الأمن في الدنيا والسعادة في الآخرة من خلال العمل بتعليمات الإسلام وأداء الواجبات وترك المحرمات.

الثاني : (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ولو أصرّوا على الشرك والحرب مع الحقّ فإنهم لا يستطيعون الخروج من دائرة القدرة الإلهية ومضافاً إلى أن العذاب الإلهي الأليم بانتظارهم.

__________________

(١) وقد ورد في معنى «الحجّ الأكبر» أنه «يوم عرفة» و «يوم الأضحى» ، وللمزيد من الاطلاع انظر : مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٥ ، وتفسير الكشاف : ج ٢ ، ص ٢٤٤.

٢٦٦

هل تعدّ هذه المهمة فضيلة؟

سؤال : طبقاً لما تقدّم آنفاً إنّ الإمام علي عليه‌السلام أصبح مأموراً من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبلاغ الآيات الاولى من سورة التوبة إلى المشركين في أيّام الحجّ ، وقد كانت هذه المأمورية بعهدة أبي بكر في البداية إلّا أن رسول الله أخذها منه ودفعها إلى علي ابن أبي طالب عليه‌السلام فهل يعدُّ ذلك فضيلة للإمام علي عليه‌السلام؟

الجواب : إنّ بعض المتعصبين تحركوا على مستوى تهميش هذه الفضيلة والتقليل من أهميّتها فقالوا : إنّ علّة تبديل هذه المأمورية هو ما كان من التقاليد الرسمية والأعراف بين العرب ، لأن العرب كانوا عند ما يريدون إرسال رسالة إلى شخص معين يقوم صاحب الرسالة نفسه أو يختار واحداً من أهل بيته وأرحامه لأداء هذه الرسالة وايصالها إلى الطرف الآخر ، ولهذا عزل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر وأرسل علي عليه‌السلام مكانه ، وعليه فإنّ هذه المأمورية المذكورة لا تعدُّ فضيلة للإمام علي عليه‌السلام (١).

ولكنّ الإنصاف أن هذا الكلام بعيد جدّاً عن الحقيقة لأنه :

أوّلاً : من أين ثبت أن التقاليد العربية كانت كذلك؟ وأيُّ كتاب ذكر هذه القضية؟ وهل يمكن إلغاء فضيلة مهمة لمجرد احتمال غير ثابت؟

ثانياً : على فرض وجود مثل هذا العرف بين العرب في ذلك الوقت فإنّ تغيير المؤدي لهذه الرسالة المهمة لا يرتبط بتقاليد العرب وأعرافهم لأن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ورد في الروايات المذكورة آنفاً قد تلقى الأمر بذلك من الله تعالى.

وعلى هذا الأساس فلا شكّ في أن هذه المهمة والمأمورية تعدّ فضيلة كبيرة للإمام علي عليه‌السلام ، ومع الالتفات إلى هذا المطلب فلو أن الله تعالى أراد أن ينصب خليفة على المسلمين بعد رسول الله فلا بدّ أن يكون هذا الإنسان هو الأفضل وله فضائل أكثر ، وإذا أراد الناس انتخاب شخص لهذا الغرض فلا بدّ أن يكون هو الأفضل بمقتضى العقل.

__________________

(١) الكشّاف : ج ٢ ، ص ٢٤٤.

٢٦٧

ارتباط آية الأذان والمؤذّن

إنّ المثوبات والعقوبات في الآخرة هي في الحقيقة انعكاس للأعمال الإنسان في الدنيا ، ويتّضح هذا المطلب أكثر بالالتفات إلى كيفية ارتباط هذه المثوبات والعقوبات الاخروية بأعمال الإنسان في حركة الحياة الدنيوية.

عند ما يحشر الإنسان المرابي في عرصات المحشر في حالة من الاضطراب في السلوك وكأنه سكران لا يقدر على الحركة ويترنح ويسقط بين الحين والآخر إلى الأرض كلُّ ذلك يحكي عن سلوكه في الحياة الدنيا حيث كان بعمله القبيح يتحرك من موقع الإخلال الاقتصادي في المجتمع وإثارة الأزمات الاجتماعية بعمله وأكله الربا فيزلزل أساس المجتمع الإسلامي ويثير فيه الارتباك والخلل ، إذن فعدم تعادله في المشي يوم القيامة يحكي عن واقع دنيوي بهذا المعنى بسبب ارتكابه لهذا الذنب الكبير ، فهو في الحقيقة انعكاس لأعماله في الدنيا (١).

وإذا كان الظالم في الآخرة يواجه الظلمات ويسير كالأعمى في عرصات المحشر فذلك بسبب أنه كان يحوّل الدنيا في نظر المظلومين إلى ظلام بحيث لا يرون كلّ شيء في حياتهم الدنيوية يعبّر عن الخير والسعادة والهناء ، إذن فالظلمات التي تحيق بالظالم في الآخرة هي انعكاس ونتيجة للظلمات التي كان يقدمها للمظلوم في حياته الدنيوية.

وإذا قرأنا في النصوص الدينية أن المؤمن يحشر يوم القيامة ومعه نور بين يديه وفي أيمانه يقوده إلى رضوان الله ومغفرته فإنما ذلك بسبب أن الكثير من الأشخاص قد اهتدوا بنور إيمانه في الدنيا وسلكوا طرق الحقّ والحقيقة وابتعدوا عن خطّ الباطل والانحراف.

والخلاصة أن جميع المثوبات والعقوبات في عالم الآخرة هي انعكاس لأعمال الإنسان في الدنيا.

ومع الالتفات إلى هذا المطلب فإذا كان الإمام علي عليه‌السلام هو المؤذّن للنبي في دار الدنيا والمبلغ رسالته إلى المشركين في مكّة وفقاً لما ورد في الآية الثالثة من سورة التوبة فإنه

__________________

(١) وتفصيل الكلام في هذا الموضوع المتعلق بالربا مذكور في كتابنا «الربا والبنك الإسلامي».

٢٦٨

سيكون في الآخرة هو «المؤذّن» الذي يوصل النداء الإلهي إلى أهل النار ويخبرهم بأن اللعنة الإلهية قد شملتهم بسبب ظلمهم الذي ارتكبوه في الدنيا.

إذا كان الإمام علي عليه‌السلام في الآخرة هو المؤذن والشخص الذي يختم الحوار الدائر بين أهل الجنّة وأهل النار فانّ ذلك بسبب كون كلامه في الدنيا فصل الخطاب بين الحقّ والباطل وقد أبلغ المشركين الكلام الأخير والإنذار النهائي ، فهل هذه فضيلة قليلة؟

هل هناك شخص آخر غير الإمام علي من المسلمين أو من أتباع الأديان الإلهية الاخرى يتمتع بمثل هذه الفضيلة؟

الحكمة في تغيير المأمور بإبلاغ آيات سورة البراءة

سؤال : تقدّم أن جميع المفسّرين من الشيعة وأهل السنّة اتفقوا على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل في البداية أبا بكر لإبلاغ آيات سورة التوبة ثمّ عزله ونصب الإمام علي مكانه ، فهل ندم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عمله الأوّل بحيث تحرّك على مستوى تغييره وتبديله ، أو أن كلا الأمرين كان بتعليم الوحي وبأمر إلهي؟ والخلاصة أنه ما هي الحكمة في هذا التبديل والتغيير؟

الجواب : وجواب هذا السؤال واضح فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مدركاً لما يفعله في كلا الحالين وكان هدفه هو إعلام الناس وإخبارهم بالشخص الأفضل وإلفات نظرهم إلى هذه الحقيقة ليخرجوا تصورهم الساذج عن الأفضل الموهوم وليهديهم ويرشدهم إلى الأفضل الحقيقي والواقعي ، ولهذا الغرض قام في البداية بتسليم هذه المأمورية إلى أبي بكر ثمّ عزله ونصب عليّاً مكانه ليفهم الناس بأن الإمام علي عليه‌السلام أفضل من أبي بكر ومن جميع المسلمين.

ولم تكن هذه أوّل مرّة يقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا العمل بل سبق ذلك موارد اخرى من هذا القبيل كلُّها تصب في هذا الهدف المهم.

مثلاً نرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة خيبر قد أعطى الراية إلى أبي بكر ليقود جيش الإسلام ويفتح قلعة خيبر ولكنه استمر به الحال إلى العصر وهو يسعى جاهداً أن يتغلب على العدو ويفتح الحصن ولكنه لم يوفق بذلك ، وفي اليوم الثاني سلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الراية إلى عمر بن

٢٦٩

الخطّاب ولكنه فشل في هذه المأمورية كصاحبه ، وفي الليلة الثالثة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لأعطين الراية غداً لرجل يحبّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه». قال له أصحابه : إذا كان مقصودك هو علي بن أبي طالب فإنه أرمد.

فدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه فلما رآه أرمداً يشكو من عينيه تفل في عينه فانفتحت وشفي من ذلك المرض فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الراية وكان الفتح على يديه.

فلما ذا أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الراية في البداية إلى اثنين من أصحابه ثمّ أعطاها للإمام علي عليه‌السلام؟

الجواب على هذا السؤال واضح فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد أن يبيّن للناس عملاً أفضلية الإمام علي عليه‌السلام.

وهكذا في معركة الأحزاب عند ما جاء عمرو بن عبد ود بطل المشركين وعبر الخندق وطلب البراز فلم يبرز له أحد سوى الإمام علي عليه‌السلام ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله امتنع في البداية ، وفي المرّة الثانية طلب عمرو بن عبد ود البراز فلم يقم له إلّا علي عليه‌السلام ، ومرة اخرى طلب منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجلس.

وفي المرّة الثالثة طلب عمرو البراز أيضاً وأخذ يرتجز ويقول :

ولقد بححت من النداء في جمعكم هل من مبارز ...

إنكم تقولون بأن قتلاكم يذهبون إلى الجنّة أليس فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟

وفي هذه المرّة أيضاً لم يبرز له سوى علي ابن أبي طالب عليه‌السلام.

وهنا أذن له رسول الله بالبراز والتوجه إلى ميدان القتال وقد كتب الله النصر على يديه أيضاً واستطاع قتل عمرو بن عبد ود العامري (١) وهنا نرى أيضاً أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قام بهذه المناورة لاثبات أفضلية الإمام علي عليه‌السلام على مستوى العمل ليثبت للمسلمين مكانته ومنزلته الاجتماعية.

__________________

(١) فروغ أبدية : ج ٢ ، ص ١٣٥ فصاعداً.

٢٧٠

آية المحسنين ٧

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤))

«سورة الزمر / الآيات ٣٢ ـ ٣٤»

أبعاد البحث

تحدّثت هذه الآيات من سورة الزمر عن طائفتين من الناس : الاولى أظلم الناس والثانية أصدق الناس ، ثمّ استعرضت عقوبات الظالمين ومثوبات الصادقين ، والموضوع المهم الذي يجب دراسته والتأمل فيه في هذه الآيات هو : من هو أصدق الناس والذي عبّرت عنه الآية الشريفة بالمحسن؟

الشرح والتفسير :

أظلم الناس!

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) فهنا نرى نحوين من الكذب : ١ ـ الكذب على الله. ٢ ـ الكذب على رسول الله ، ولا شكّ أن جميع أنواع الكذب يُعتبر رذيلة أخلاقية ومن الذنوب الكبيرة ولكن من الواضح أن الكذب على الله وعلى رسوله

٢٧١

أقبح وأخطر أنواع الكذب وقد تترتب عليه إفرازات رهيبة ومعطيات مشئومة.

سؤال : ما هو الكذب الذي كان المشركون ينسبونه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

الجواب : إنّ بعض أشكال الكذب للمشركين هو :

ألف) إنهم كانوا يرون أن الملائكة بنات الله.

ب) كان البعض منهم يعتقدون بأن الله تعالى راض عن عبادة الأوثان ويرون أن الأوثان واسطة بينهم وبين الله تعالى لتشفع لهم عنده.

ج) بعض المشركين كانوا يعتقدون بأن لله تعالى ولداً ويذهبون إلى أن المسيح ابن الله.

د) أحياناً يحرّمون بعض الأشياء ويحللون اخرى وينسبون ذلك إلى الله تعالى كذباً وزوراً.

هذه الامور وأمثالها من الأكاذيب كانوا ينسبونها إلى الله عزوجل ، وبما أنها تتزامن مع عدم التصديق بالرسالات الإلهية والأنبياء الإلهيين والتحرّك في حياتهم الدنيوية على مستوى التصدّي للدعوة السماوية ومحاربة أهل الحقّ الذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر فإنّ عملهم هذا يفضي في النهاية إلى تكذيب الأنبياء وإنكار دعوتهم الإلهية ، ولذلك كان هؤلاء الأفراد هم أظلم الناس ليس لأنفسهم فحسب بل ظلم لجميع الناس ولجميع الرسالات السماوية والكتب الإلهية.

أمّا ظلمهم لأنفسهم لأنهم أوصدوا أبواب السعادة والفلاح على أنفسهم بتكذيبهم هذا وسلكوا بأقدامهم في خطّ الضلالة والانحراف والباطل متجهين إلى جهنم.

وأما ظلمهم للناس فذلك لأنهم عملوا على إضلالهم وقادوهم نحو وادي الشقاء والضلالة ، فحالهم حال أهل البدع الذين قد تستمر بدعتهم وآثار عملهم القبيح آلاف السنين وأحياناً إلى يوم القيامة بحيث إنهم لا يستطيعون جبران ما صدر منهم وإصلاح الخلل حتّى في صورة الندم.

أما ظلمهم للآيات الإلهية والرسالات السماوية فكما ورد في الآية الشريفة ١٠٣ من سورة الأعراف حيث يقول الله تعالى :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)

٢٧٢

وطبقاً لصريح هذه الآية الشريفة فإنّ عدم قبول الآيات الإلهية وإنكار الكتب السماوية ومعجزات الأنبياء يعدّ نوعاً من الظلم لهذه الآيات الإلهية لأنّ الإنسان عند ما يتحرك لمنع الشيء القابل لهداية الناس من التأثير والفاعلية ، ففي الحقيقة إنه يرتكب ظلماً بحقّه ، مضافاً إلى أنه ظلم الناس حقّهم في الاستفادة منه ، وعليه فإنّ الأشخاص الذين يعملون على تشويه سمعة الإسلام أو يقومون بالإساءة إلى الإسلام من خلال أعمالهم القبيحة أو يتحركون على مستوى تفسير وتأويل قوانين الإسلام حسب رأيهم وأفكارهم فكلُّ ذلك من أشكال الظلم للإسلام.

والخلاصة هي أن أظلم الناس هو الشخص الذي يكذب على الله وعلى رسوله ، وعقوبة مثل هذا الشخص شديدة جدّاً كما وردت في الآية الشريفة :

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) فإنّ مصير مثل هذا الإنسان الظالم الذي ظلم نفسه ومجتمعه والآيات الإلهية هو جهنم ، فهي مثوى للكافرين ، فهنا نرى أن الآية الشريفة لا تصرّح ببيان عاقبة أظلم الناس بل طرحت المسألة على شكل سؤال واستفهام ، وهذا بنفسه تعبير دقيق ويحتاج إلى التأمل حيث إنّ مثل هذا المصير ومثل هذه العقوبة لهؤلاء الأشخاص تكون متوقعة لدى جميع الناس.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

أما الطائفة الثانية فتقع في النقطة المقابلة للطائفة الاولى فهم الذين يصدّقون بمن جاء بالنبوّة الصادقة ويصدّقون كذلك برسالتهم فهؤلاء هم المتّقون ، فرغم أن الآية الشريفة لا تذكر مفردة «أتقى» ولكننا يمكننا أن نفهم بدليلين أن هاتين الفئتين هم أتقى الناس : أحدهما بقرينة المقابلة مع الطائفة السابقة وهم أظلم الناس ، أي أن الآية عند ما تجعلهم في مقابل المكذّبين لله ورسوله وفي مقابل أظلم الناس فإنّ هؤلاء المصدّقين بالله ورسوله هم أتقى الناس حتماً ، والآخر إنّ جملة «هم المتقون» تدلُّ على الحصر ، وتعني أن هؤلاء هم أهل التقوى فقط وهم المتقون الحقيقيون ، وعلى هذا الأساس فإنّ المثوبات المقررة لهؤلاء المتقين في القرآن الكريم تختص بهؤلاء الأشخاص الذين أشارت إليهم هذه الآية الشريفة مضافاً إلى ما يناله المتقون في الجنّة من النعم والمواهب العامّة التي ينالها جميع المؤمنين من أهل الجنّة

٢٧٣

فإنّهم يختصون بمواهب خاصّة ورد ذكرها في الآية التي بعدها :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ)

وهكذا نرى أن درجات ومقامات هؤلاء المتقين في الآخرة إلى درجة من العظمة والسمو بحيث إنهم ينالون من المواهب ما لا يعدُّ ولا يحصى فكلُّ ما يريدون ويطلبون فإنهم سيحصلون عليه ، وهذه النعمة لا يمكن أن يتصور فوقها شيء.

من هو «الذي جاء بالصدق» ومن «صدّق به»؟

سؤال : ما هو المراد من جملة (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) وجملة «الَّذِي صَدَّقَ بِهِ»؟

الجواب : إنّ المراد من الجملة الاولى هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد من الجملة الثانية هو الإمام علي عليه‌السلام ، رغم أن الجملة الثانية تشمل جميع المؤمنين برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين آمنوا وصدّقوا برسالته ولكن بلا شكّ أن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام هو المصداق الأكمل والأتم لهذه العبارة.

وقد ورد هذا المعنى في الكثير من كتب الشيعة وأهل السنّة ، ونكتفي بالإشارة إلى بعض منها :

١ ـ نقل «ابن المغازلي» وهو من أساطين علماء أهل السنّة في كتابه المعروف ب «المناقب» عن المفسّر المعروف «المجاهد» قوله :

«فِي قَوْلِهِ تَعالى : (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) ؛ رَسُولُ اللهِ و «الَّذِي صَدَّقَ به» عَلِيٌ (١).

٢ ـ ونقل «ابن عساكر» هذه الرواية أيضاً (٢).

٣ ـ وكذلك العلّامة «الگنجي» في «كفاية الطالب» نقل هذه الرواية من بعض العلماء (٣).

٤ ـ وصرّح «القرطبي» بهذا المطلب في تفسيره (٤).

__________________

(١) المناقب : نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٧.

(٢) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٧.

(٣) كفاية الطالب : ص ١٠٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٧٧.

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ، ص ٢٥٦ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٧٨.

٢٧٤

٥ ـ واختار «أبو حيّان الأندلسي» هذا التفسير أيضاً (١).

٦ ـ وذهب «السيوطي» في تفسيره «الدرّ المنثور» إلى هذا الرأي (٢).

٧ ـ وذهب «الترمذي» صاحب كتاب «المناقب المرتضوية» إلى هذا الرأي أيضاً (٣).

٨ ـ «الآلوسي» ذهب في تفسيره «روح المعاني» إلى اختيار هذا التفسير من بين جملة علماء أهل السنّة (٤).

الفخر الرازي المخالف الوحيد

فعلى رغم كلّ هؤلاء المفسّرين والرواة الذين فسّروا الآية الشريفة مورد البحث بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام فإنّ الفخر الرازي رفع لواء المعارضة والمخالفة وزعم : «أن المراد من الجملة الثانية هو أبو بكر لأنه هو الملقّب بالصدّيق».

وأجابه القاضي نور الله التستري بجواب قاطع وقال :

«لم يرد هذا المطلب الذي ذكره الفخر الرازي في أي كتاب قبله ، ونعلم أن الفخر الرازي لم يكن من أصحاب النبي ، إذن فكلامه في تفسير هذه الآية لا يقوم على أساس متين».

وعليه فإنّ بطلان هذا الرأي لا يحتاج إلى زيادة بيان وتوضيح (٥).

__________________

(١) البحر المحيط : ج ٧ ، ص ٤٢٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٨.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٥ ، ص ٣٢٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٨.

(٣) المناقب المرتضوية : ص ٥١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٨.

(٤) روح المعاني : ج ٣٠ ، ص ٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٨.

(٥) مضافاً إلى وجود العديد من الروايات في مصادر أهل السنّة والشيعة تخصّ الإمام علي بصفة «الصدّيق» و «الفاروق» كما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله «لكلّ امّة صدّيق وفاروق ، وصدّيق هذه الامّة وفاروقها عليّ بن أبي طالب» وقد وردت هذه الروايات في بحار الأنوار : ج ٣٨ ، ص ١١٢ ـ ٢١٢ ـ ٢١٣ ـ ٢١٦ ـ وفي أجزاء اخرى منه ، وورد مضمون الرواية المذكورة آنفاً في العشرات من كتب أهل السنّة (انظر الغدير : ج ٢ ، ص ٣١٣ فصاعداً).

٢٧٥
٢٧٦

آية السابقون الأولون ٨

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠))

«سورة التوبة / الآية ١٠٠»

أبعاد البحث

بالرغم من أن الآية الشريفة أعلاه تتحدّث عن ثلاثة طوائف من المؤمنين وتبشّر السابقين من كلِّ طائفة منهم ببشارات عظيمة ولكن من بين السابقين هؤلاء يوجد سابق يقع في الصف الأوّل ، وهو أوّل شخص من السابقين ، وطبقاً للروايات الكثيرة التي ستأتي لاحقاً إنّ هذا الشخص الذي حمل راية الصدق ليس هو إلّا عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام.

الشرح والتفسير :

السابقون في الإسلام

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) في هذه الآية الشريفة يحدّثنا القرآن عن ثلاث طوائف :

الطائفة الاولى : «المهاجرون» وهم المسلمون الذين أسلموا في مكّة المكرمة وواجهوا ضغوطاً كبيرة من المشركين وأعداء الدين ، وعند ما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة هاجروا معه

٢٧٧

لإنقاذ أنفسهم من تلكم الضغوط وأشكال الأذى والتعذيب ولغرض تقوية الدين الجديد ، فتركوا بيوتهم وأموالهم وأراضيهم وأقوامهم وقبيلتهم والخلاصة تركوا كلّ شيء وهاجروا إلى المدينة بأيدي خالية ، وهناك واجهتهم أخطار كثيرة ، فمن جهة خطر المشركين في مكّة الذين كانوا بصدد الانتقام منهم وقتلهم ، ومن جهة اخرى عدم وجود العمل المناسب وكذلك حالة الغربة وأجواء الوحدة والبعد عن القوم والوطن وأمثال ذلك من الأخطار والتبعات المترتبة على الهجرة ، ولكنّ هؤلاء المسلمين الحقيقيين استقبلوا هذه الأخطار وهاجروا إلى المدينة ، وقد كان البعض منهم يمر بحالة اقتصادية سيئة للغاية بحيث كانوا ينامون في «الصفّة» إلى جانب مسجد النبي وهم المعروفون بأصحاب الصفّة حيث كانوا يقضون ليلهم ونهارهم في ذلك المكان ولم يكن لديهم ممّا يقيم أودهم إلّا القليل جدّاً ومع ذلك كانوا على استعداد دائم لتقديم الخدمات للإسلام متى حلّت الحاجة إليهم.

الطائفة الثانية : «الأنصار» وهم المسلمون الذين دخلوا الإسلام في المدينة واستجابوا لدعوة الرسول إلى الإسلام ودعوه ليهاجر إليهم وأبدوا استعدادهم لبذل كلِّ إمكاناتهم في سبيل الإسلام ، هؤلاء استقبلوا المهاجرين الذين هاجروا إليهم من مكّة ووضعوا بيوتهم وكلُّ ما يملكون تحت اختيارهم وتعاملوا معهم كإخوة لهم ، وطبعاً هؤلاء بذلوا كلَّ جهدهم وآثروا المهاجرين على أنفسهم رغم أن الوضع المالي لبعضهم لم يكن على ما يرام.

الطائفة الثالثة : «التابعون» وهم المسلمون الذين جاءوا إلى الدنيا بعد المهاجرين والأنصار وسلكوا مسلكهم وتحركوا مثلهم في خطّ الإيمان والرسالة ، وهؤلاء هم الذين يسمّون ب «التابعين» (١) أي الذين اتبعوا الطائفتين السابقتين ، وعليه فطبقاً لهذا التفسير يكون التابعون هم النسل الثاني للمسلمين ويشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة في كلِّ عصر ومكان ، أي أن المسلمين في الزمان الحاضر الذين تحركوا في خطّ نصرة الإسلام والهجرة نحو رضا الله تعالى يصدق عليهم عنوان «التابعين» الذين ورد ذكرهم في هذه الآية

__________________

(١) مصطلح «التابعين» في لسان أهل الحديث يطلق على الأشخاص الذين لم يدركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنهم أخذوا علومهم ومعارفهم من الصحابة ، وهذا المعنى أضيق دائرة من المراد بالتابعين بصورة عامّة وهم كلّ من لم يدرك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زماننا هذا.

٢٧٨

الشريفة ، لأنه كما تقدّم سابقاً أنّ الهجرة لا تختصّ بالمسلمين في أوائل البعثة بل هي ممكنة في كلِّ زمان ومكان ، وتعني الهجرة من أجواء الذنوب إلى أجواء الطاعة ، ومن دائرة الرذائل إلى دائرة الفضائل ، ومن الظلمات إلى النور.

سؤال : ما ذا تعني مفردة «بإحسان» التي وردت في الآية الشريفة لوصف «التابعين»؟

الجواب : هنا يوجد احتمالان في تفسير هذه المفردة :

الأوّل : أن لا يكون اتّباع المهاجرين والأنصار بالكلام فقط بل ينبغي أن يتجسّد في الواقع العملي في حركة الإنسان ، وبعبارة اخرى أن يتّبع المسلم المهاجرين والأنصار بشكل جيّد ودقيق.

الاحتمال الثاني : أن يتّبع الإنسان المهاجرين والأنصار في أعمالهم الحسنة لا في جميع الأفعال والسلوكيات الاخرى ، لأنه كان بين المسلمين الأوائل بعض الأشخاص الذين كانوا يتحركون في حياتهم الفردية والاجتماعية على خلاف تعليمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحكام الإسلام.

وخلافاً لما يراه أهل السنّة من عدالة وعصمة جميع صحابة النبي (١) فنحن نعتقد أن الصحابة ليسوا معصومين جميعاً ، والآية الشريفة أعلاه يمكنها أن تكون دليلاً جيّداً على

__________________

(١) في سفري الأخير إلى مكّة المكرمة (عام ١٤٢٢ ه‍. ق) اقترح عليّ بعض علماء أهل السنّة في مكّة المكرمة أن نعقد جلسة للحوار بيننا ، ومن جملة البحوث التي طرحت في تلك الجلسة بحث عدالة الصحابة حيث قلت لهم : إنكم تعتقدون بأن جميع الصحابة عدول ومنزّهون عن ارتكاب الذنوب في حين أنّ الصحابة هم الذين اشعلوا نار حرب الجمل والتي ذهب ضحيتها أكثر من ١٧ ألف من المسلمين ، فمن المسئول عن كلّ هذه الدماء؟ وإذا كان سفك دم مسلم واحد يوجب دخول النار فكيف بدماء ١٧ ألف إنسان؟

وقد أجاب بعض علماء أهل السنّة : إن طلحة والزبير وعائشة بالرغم من كونهم السبب الأساس في اشعال نار الحرب ، إلّا أنهم انسحبوا قبل بدء القتال ولم تتلوث أيديهم بدماء المسلمين!!

فقلت في جوابهم : على فرض صحة هذا الادعاء ، فهل يكفي لمن اشعل نار الحرب أن ينسحب من الميدان وينقذ نفسه ويترك الآخرين يحترقون بنارها؟ أو يجب عليه السعي لإطفاء نار الحرب والفتنة؟! ثمّ سألتهم : لقد قتل في حرب صفين حوالي مائة ألف نفر من المسلمين ، فمن هو المسئول عن ذلك؟

قالوا : إن معاوية اجتهد فأخطأ ولا مسئولية عليه. فقلت : إذا كانت دائرة الاجتهاد واسعة إلى هذه الدرجة ، إذن فلا ينبغي أن يطال العقاب أي مذنب أو مجرم لأنه أخطأ في اجتهاده ، فهل يقبل العقلاء هذا الكلام؟!

٢٧٩

مقولة الشيعة ، وعليه فإنّ التابعين يجب أن يتبعوا المهاجرين والأنصار في الأعمال الحسنة والأفعال الصالحة لا في جميع الأفعال والأقوال حتّى لو كانت على خلاف مسير الحقّ.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وهكذا نرى أن الله تعالى بعد أن ذكر هذه الطوائف الثلاث من السابقين في الإسلام أثنى عليهم ومدحهم وبشّرهم بالثواب العظيم المادي والمعنوي.

أمّا الثواب المعنوي فهو عبارة عن رضا الله تعالى عنهم ورضوانهم عن الله تعالى أيضاً ، أما رضا الله عنهم فواضح لأنهم تحركوا في خطّ نصرة الإسلام والمسلمين وسلكوا طريق الهجرة والطاعة والعبودية لله تعالى ، وهذه الامور تستوجب رضا الله عنهم ، والمراد من رضاهم عن الله تعالى هو أن الله في عالم البرزخ ويوم القيامة يعطيهم كلَّ ما يريدون ويطلبون ويتحقّق بذلك رضاهم عنه.

وأمّا المثوبات المادية لهؤلاء فهي الجنّات التي تتصف بصفتين : أحدهما أن المياه تجري تحت أشجارها دائماً ، والاخرى أن أهل الجنّة يمكثون فيها أبداً فليس هناك خوف من انتهاء النعيم بل هم مخلدون فيها ، وبلا شك فإنّ رضا الله عنهم ورضاهم عن الله تعالى وتمتعهم بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار تعدّ ثلاث مواهب عظيمة لأهل الجنّة بحيث لا يتصور فوز فوق هذا الفوز.

أوّل رجل مسلم

سؤال : يستفاد من الآية ١٠٠ من سورة التوبة أن السابقين هم ثلاث طوائف ولكنّ السؤال الذي يثار هنا هو : من هو الأسبق من هؤلاء؟ ومن هو أوّل شخص من المسلمين استجاب لدعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإيمان وآمن به؟

الجواب : هناك روايات كثيرة وردت في ذيل هذه الآية الشريفة تقرر أن أوّل مسلم من الرجال اعتنق الإسلام هو عليّ بن أبي طالب صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّل امرأة اعتنقت الإسلام هي السيّدة خديجة عليها‌السلام.

وهذا الرأي متفق عليه بين جميع علماء الإسلام من الشيعة وأهل السنّة ويعدّ من

٢٨٠