آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

آية النصرة ٣

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢))

«سورة الأنفال / الآية ٦٢»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة التي تسمّى بآية النصرة هي آية اخرى من آيات فضائل ومناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

سؤال : إنّ موضوع البحث هو الآيات المتعلقة بمسألة الإمامة والخلافة لأمير المؤمنين عليه‌السلام فما هو ارتباط هذه الآية مع مسألة الإمامة؟

الجواب : إنّ الآيات المستخدمة لإثبات إمامة وخلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على قسمين :

القسم الأوّل : الآيات التي تدلُّ بصراحة ووضوح على إمامة أمير المؤمنين مثل آية «إكمال الدين» و «آية الولاية» وأمثال ذلك التي تقدّم الكلام عنها في الفصل الأوّل.

القسم الثاني : الآيات التي لا تدلُّ على مسألة الإمامة والخلافة بصورة مباشرة بل تتضمن فضائل أمير المؤمنين الخاصّة ، وبالإمكان مع الاستعانة بمقدمة عقلية إثبات الإمامة أيضاً بهذه الآيات الكريمة ، كما تقدّم نظير ذلك في الآيات السابقة وسيأتي أيضاً في شرح وتفسير آية النصرة وسائر الآيات من هذا القبيل.

٢٤١

الشرح والتفسير :

التعبئة الكاملة والاستعداد التام

لأجل توضيح مضمون آية النصرة نرى من اللازم الحديث عن آيات ٦٠ ـ ٦٣ من سورة الأنفال ، وهي قوله تعالى :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ)

هذه الآية الشريفة مطلقة وتستوعب جميع الأمكنة والأزمنة والأدوار التاريخية في المجتمعات الإسلامية ، لأنها لا تتحدّث عن أسلحة معيّنة وخاصّة ينتهي مفعولها بانتهاء زمانها وتخرج من حيّز الاستعمال ، بل ورد التعبير بكلمة «قوّة» أي أن المسلمين يجب عليهم التهيؤ دائماً للأعداء والتسلّح بأنواع الأسلحة التي تثير فيهم القوّة والقدرة على التصدي لأعداء الإسلام فيجب عليهم أن يتسلحوا بالأسلحة المتطورة ويجهّزوا جيوشهم بالأنظمة العسكرية المتقدمة ، وكلمة «قوّة» تشمل مضافاً إلى الأسلحة الأشياء الاخرى التي تستخدم في الحرب ضد الأعداء من قبيل : أجهزة الإعلام التي تعتبر في العصر الحاضر سلاحاً فعّالاً يستخدم في القضاء على روحية العدو ، كما أن هذه الكلمة تشمل أيضاً الامور الاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية كذلك ، والخلاصة إنّها تطلق على كلِّ ما ينفع المسلمين في جهادهم ضد العدو ويمكّن المسلمين من إجهاض محاولاته الرامية إلى الاستيلاء على البلاد الإسلامية والقضاء على الإسلام.

(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ)

في هذا المقطع من الآية الشريفة يتحدّث القرآن عن الهدف والغاية من تهيئة وسائل القوّة والسلاح للمسلمين ، فالهدف من هذا التهيؤ والاستعداد ليس هو قتل الناس وتخريب العالم والإغارة على المساكين والمحرومين بل الهدف هو الدفاع المشروع فيجب تعبئة جميع القوى والطاقات وتهيئة جميع أنواع الأسلحة لكيلا يتجرأ العدو على الهجوم على البلد الإسلامي بل لا يدور في ذهنه أن يهجم يوماً عليكم ، لأن الظالمين والجبّارين متى ما وجدوا فرصة للهجوم والغارة على الضعفاء والدول الفقيرة والضعيفة فإنهم لا يجدون رادعاً أمامهم من العدوان والحرب ، والقوّة العسكرية هي العامل الأساس لمنع هؤلاء من عدوانهم ،

٢٤٢

ولذلك فإنّ رفع المستوى العسكري بإمكانه أن يخيف الأعداء ، أي أعداء الله وأعداءكم ، والعدو الظاهر والعدوّ الخفي والمستور ، فالهدف من زيادة القوّة الدفاعية والقدرة العسكرية يجب أن يكون من منطلق الدفاع المنطقي والمشروع أمام تعدّي الآخرين.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)

بلا شك فإنّ تقوية البنية الدفاعيّة للبلد الإسلامي ورفع مستوى القوّة العسكرية لجيش الإسلام واستخدام مختلف الأسلحة المتطورة ورفع المستوى الفني ، الاقتصادي ، الإعلامي ، الأخلاقي ، الاجتماعي وأمثال ذلك رغم أنه يحتاج إلى رصيد مالي ضخم وكبير ولكن يجب على المسلمين تأمين هذه النفقات فكلّما ينفق في هذا السبيل وفي خطّ تقوية الإسلام والبلد الإسلامي فإنّ الله تعالى سيعيده إليكم وسوف لا تتضررون من ذلك حتماً.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

فرغم أن المسلمين ينبغي عليهم تعبئة جميع طاقاتهم ورفع مستواهم العسكري والنظامي ولكن إذا أراد العدو يوماً أن يمدّ إليكم يد الصلح فعلى المسلمين أن يقبلوا بذلك ولا ينبغي عليهم الإصرار على الحرب ، فهذه الآية الشريفة تعتبر جواباً قاطعاً لبعض الأبواق الاستعمارية التي تصر على أن الإسلام دين السيف ويدعو إلى الحرب دائماً ، فإنّ الإسلام إذا كان دين الحرب فلا معنى لأن يدعو إلى الصلح ويفرض على المسلمين أن يصافحوا اليد التي تمتد إليهم بالصلح والسلم.

ثمّ إنّ الله تعالى يحذّر المسلمين :

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)

فرغم أن الإسلام يدعو إلى الصلح ويأمر المسلمين كذلك أن يستجيبوا لدعوات الصلح التي تصدر من العدو ولكنه يحذّر المسلمين أن يأخذوا جانب الحيطة والحذر من مكر الأعداء وخدعهم ، فحتّى في حال الصلح يجب على المسلمين أن يحتفظوا بقوّتهم العسكرية وقدرتهم الدفاعية بأعلى المستويات لكيلا يطمع فيهم العدو ويستغل هذه الفرصة في أجواء الصلح ويهاجم المسلمين على حين غرّة ، فقد يكون طلبه للصلح بسبب أنه وجد نفسه ضعيفاً ويريد أن يجدد قواه ويزيد من قدراته العسكرية فيقترح على المسلمين الصلح

٢٤٣

الكاذب ويشغلهم مدّة لمحادثات الصلح حتّى يتهيأ من جديد لإنزال ضربة قاصمة بالمسلمين ، ولكنّ المسلمين إذا تحركوا في أجواء الصلح من موقع الحذر والاحتياط واحتفظوا بقواهم العسكرية فإنهم سيأمنون من كيد العدو ، الإمام علي عليه‌السلام يوصي قائده الشجاع مالك الأشتر في عهده له بأن يستغل أية فرصة للصلح مع العدو ولكنه يحذّره من مكر الأعداء ويقول :

«ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضى ... ولكن الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه ، فإنّ العدوّ ربّما قارب ليتغفّل فخذ بالحزم ، واتّهم في ذلك حسن الظّن». (١)

ثمّ إنّ الله تعالى في ختام الآية الشريفة يقول للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الله تعالى سيكفيك مكرهم في هذه الصورة فهو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين :

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

فليس بإمكانك أن تؤلف بين قلوب العرب والقبائل العربية المتنازعة والمتعادية بأدوات المال والقوّة وأمثالها فلو أنك أنفقت عليهم جميع ثروات الأرض لم تتمكن من تأليف قلوبهم ولكنّ الله تعالى هو الذي ألّف بينهم ، وهذه نعمة عظيمة عليك وعلى المسلمين.

إنّ الآيات الأربع المذكورة آنفاً تحتاج إلى أبحاث معمّقة ودراسات كثيرة لاستكشاف مضامينها واستجلاء معانيها ولكننا نكتفي بهذا المقدار ونصرف النظر إلى مباحث اخرى.

من هم المؤمنون؟

سؤال : في حقّ من نزلت آية النصرة هذه ، ومن هو المقصود بالمؤمنين؟

الجواب : وردت روايات كثيرة في هذا المجال ذكرها العلّامة الأميني في «الغدير» (٢)

__________________

(١) نهج البلاغة : الكتاب ٥٣.

(٢) الغدير : ج ٢ ، ص ٤٩ فصاعداً.

٢٤٤

وكذلك ذكرها صاحب «احقاق الحقّ» (١) وهذه الروايات على قسمين :

الأوّل : الروايات التي تقول : بأن أوّل ناصر ومعين للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الإمام علي عليه‌السلام وهذه الآية الشريفة تشير إلى الإمام علي.

الثاني : الروايات التي تتحدّث عن نصرة الإمام علي عليه‌السلام للنبي ولكنّها لا تذكر شيئاً عن تطبيق آية النصرة عليه ، ونكتفي بذكر رواية واحدة من كلٍّ من هذين القسمين :

١ ـ ما أورده ابن عساكر صاحب كتاب «تاريخ دمشق» عن أبي هريرة (٢) أنه قال :

«مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ لا الهَ إلّا أنَا وَحْدِي ، لا شَريكَ لي ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدي (٣) وَرَسُولي ، ايَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ وَذلِكَ قَوْلُهُ (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)». (٤)

وهنا لا بدّ من التلميح بثلاث نقاط :

أوّلاً : بالرغم من أن أبا هريرة لم يصرّح بنسبة هذه الرواية إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ» يتّضح جيّداً أن أبا هريرة سمعها من النبي لأنه لا يمكنه أن يدّعي هذا بنفسه.

ثانياً : إنّ شأن نزول آيات القرآن على نحوين : الأوّل : شأن النزول المنحصر بفرد معيّن مثل آية «إكمال الدين» و «آية الولاية» وأمثالهما من الآيات التي نزلت في شأن عليّ ابن أبي طالب بالخصوص ولا تستوعب في أجوائها غيره من المسلمين.

الثاني : شأن النزول العامّ والذي لا ينحصر بفرد معيّن ولكن هناك مصداق أكمل لمضمون هذه الآيات الشريفة حيث يرد ذكر هذا المصداق عادةً في الروايات من قبيل «آية النصرة» الواردة في حقّ المسلمين بشكل عامّ ولكنّ الإمام علي عليه‌السلام هو المصداق البارز والكامل لها.

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٩٤ فصاعداً.

(٢) لقد وردت هذه الرواية بطرق اخرى أيضاً غير طريق أبي هريرة ، ومنها عن ابن عبّاس ، وجابر ، وأنس.

(٣) مسألة العبودية إلى درجة من الأهمّية أنها ذكرت قبل الرسالة والنبوة كما أن المصلّي في التشهد يذكر الشهادة بالعبودية قبل الشهادة بالرسالة لرسول الله.

(٤) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٩٤.

٢٤٥

ثالثاً : مضافاً إلى ابن عساكر هناك مؤرّخين وعلماء نقلوا في كتبهم هذه الرواية أيضاً ومنهم :

الف) محبّ الدين الطبري في «الرياض» (١).

ب) السيوطي في «الدرّ المنثور» (٢).

ج) القندوزي في «ينابيع المودّة» (٣).

د) العلّامة الگنجي في «كفاية الطالب». (٤)

٢ ـ وقد ذكر العلّامة الأميني روايات كثيرة بأسناد اخرى أن الإمام علي عليه‌السلام هو أوّل ناصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّها لا تصرّح بأن المراد من الآية الشريفة هو عليّ بن أبي طالب ، ومن جملة هذه الروايات ما ورد عن «أنس بن مالك» عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال :

«لَمَّا عُرِجَ بِي : رَأَيْتُ عَلى ساقِ العَرْشِ مَكْتُوباً : لا الهَ إلَّا اللهُ ، محمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، ايَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ ، نَصَرْتُهُ بِعَلِيٍّ» (٥).

الحديث الشريف هذا مذكور في مختلف كتب أهل السنّة ومنها :

١ ـ ذخائر العقبى (٦).

٢ ـ مناقب الخوارزمي (٧).

٣ ـ فرائد الحمويي (٨).

٤ ـ الخصائص الكبرى للسيوطي (٩) وكتب اخرى (١٠).

__________________

(١) الرياض : ج ٢ ، ص ١٧٢ نقلاً من الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٣ ، ص ١٩٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٩٤.

(٣) ينابيع المودّة : ص ٩٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٩٤.

(٤) كفاية الطالب : ص ١١٠ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٩٤.

(٥) تاريخ بغداد : ج ١١ ، ص ١٧٣ نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٦) ذخائر العقبى : ص ٦٩ نقلاً من الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٧) مناقب الخوارزمي : ص ٢٥٤ نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٨) فرائد الحمويي : باب ٤٦ نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٩) الخصائص الكبرى : ج ١ ، ص ٧ نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥١.

(١٠) راجع الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠ و ٥١.

٢٤٦

امّا ما ذكر في هذا الحديث «على ساق العرش مكتوباً» فيدلُّ على أهمية هذه المسألة بحيث أنها كتبت على ساق العرش الإلهي وذكرت إلى جانب اسم الله تعالى واسم رسوله اسم علي ابن أبي طالب أيضاً ، وهذا يدلُّ على أن الإمام علي عليه‌السلام هو المصداق البارز والفرد الكامل لعنوان الناصر ، وبديهي أن الله تعالى إذا أراد أن يختار خليفة لرسوله الكريم فإنه يختار من بين المسلمين الأفضل والأكمل منهم لهذا المقام ، وإذا أراد المسلمون أن يختاروا شخصاً لهذا المقام فإنّ العقل يحكم بضرورة اختيار مثل هذا الشخص.

توصية الآية

الدفاع عن الإسلام بكلّ القوى

رأينا في الآيات الشريفة المذكورة آنفاً دور الإمام علي عليه‌السلام وأهميته الكبيرة في نصرة النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله وحماية الرسالة السماوية ، إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد حصل على هذا المقام في ظلّ تحركه الدائب وسعيه المستمر في الدفاع عن قائد المسلمين في أحلك الظروف وأشد الأزمات ، وعند ما كان الإسلام على شرف الانهيار والسقوط فإنّ الإمام علي عليه‌السلام كان يبذل كلّ ما اوتي من قوّة للدفاع عن هذا الدين الإلهي ، مثلاً في حرب احد حيث انهزم جميع المسلمين وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده في ميدان القتال نجد أن الإمام علي عليه‌السلام استمر في قتال الأعداء ومناجزتهم ولم يكن له علم بحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنه كان يعلم أن النبي ما زال في الميدان وأنه ليس بالإنسان الذي يفر من قتال العدو ، ولهذا ففي حين أنه كان مشغولاً في قتال الأعداء كان يبحث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الميدان فرآه في أحد الجوانب وقد كسرت ثنيته المباركة وسال الدم من فمه وجبهته ، فما كان من الإمام علي عليه‌السلام إلّا أن أخذ يدور حوله ويذبّ الأعداء عنه حتّى تحمّل جراحاً بليغة في سبيل الدفاع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وعلى الشيعة أيضاً أن يبذلوا كلّ شيء من نفس ومال وأخلاق وحُسن معاشرة ومحبّة وعلم وجميع القابليات والإمكانات التي لديهم في سبيل الدفاع عن الإسلام لكي يردوا يوم القيامة مرفوعي الرأس ولا يردون عرصات المحشر في حالة الخجل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام.

__________________

(١) نور الأبصار : ص ٩٦ ـ ٩٧.

٢٤٧
٢٤٨

آية علم الكتاب ٤

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

«سورة الرعد / الآية ٤٣»

أبعاد البحث

الآية الاخرى من آيات فضائل الإمام علي عليه‌السلام التي يمكن اعتبارها دليلاً على إمامته هي آية «علم الكتاب» حيث تقرر هذه الآية أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله استشهد بشاهدين على صدق ادعائه : أحدهما الله تعالى ، والآخر «من عنده علم الكتاب» فكيف تقرر شهادة هذين على صدق دعوى النبي ، ومن هو المراد ب «من عنده علم الكتاب»؟ فذلك ما سيأتي تفصيله لاحقاً ، ولكن قبل استعراض تفسير الآية نرى أن من الضروري الإشارة إلى مقدمة :

لا تقبلوا أمراً بدون دليل

إنّ أحد تعليمات القرآن الكريم الأساسية هو أنه يوصي جميع المسلمين بل جميع الناس أن لا يقبلوا شيئاً وفكرة وعقيدة بدون دليل ، أجل فإنّ الإسلام يؤكد على قبول العقيدة إذا كانت مقترنة مع الدليل والبرهان.

ونقرأ في القرآن الكريم أربع آيات تشير إلى هذا الموضوع حيث تقول :

٢٤٩

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ)(١)

المخاطَب في هذه الآيات تارةً هم اليهود والنصارى حيث يأمر الله تعالى نبيّه الكريم بأن يقول لهم أن يأتوا بدليل وبرهان على صدق مدّعياتهم (من قبيل أنه لا يرد أحد غيرهم الجنّة).

وتارةً اخرى يكون المخاطب هم المشركون الذين يدّعون ادعاءات زائفة في شأن الأصنام ، فهؤلاء يجب عليهم أن يقدّموا الدليل العقلي على دعواهم وإلّا فلا يقبل منهم ما يقولون.

بل إنّ أحد الآيات هذه تشير إلى يوم القيامة أيضاً ، فهناك لو أن أحداً ادعى شيئاً يجب أن يكون ادعاؤه مقروناً بالدليل والبرهان.

وعلى هذا الأساس يستفاد من الآيات أعلاه أنه لا بدّ لكلّ قوم وأتباع كلّ مذهب أن يأتوا بالدليل على أفكارهم وعقائدهم (٢) ، وهذه الثقافة القرآنية الراقية إذا تمّ تجسيدها على مستوى الممارسة والعمل فإنّ من شأنها أن تقف حائلاً أمام الخرافات والأفكار الزائفة

__________________

(١) جاءت هذه الجملة في الآيات ١١١ من سورة البقرة ، و ٢٤ من سورة الأنبياء ، و ٦٤ من سورة النمل ، و ٧٥ من سورة القصص.

(٢) سؤال : كيف يرجع الناس إلى العلماء والمراجع في مسائلهم الدينية من دون المطالبة بالدليل بل يجب عليهم اتّباعهم في الفتوى حتّى لو لم يقيموا لهم دليلاً على فتواهم؟

الجواب : إن الدليل يكون على نحوين : (أ) الدليل التفصيلي ، (ب) الدليل الإجمالي ، وبالنسبة إلى اصول الدين والاعتقادات فلا بدّ من الدليل التفصيلي بما يناسب حال المسلم ووضعه العلمي ، وعليه أن يعتقد بالاصول من قبيل التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد عن دليل وبرهان ، ولكن في فروع الدين لا حاجة إلى الدليل التفصيلي بل لا يمكنه ذلك لأنه يستغرق من كلّ شخص عشرات السنين من البحث والدرس في الحوزات العلمية وترك الأعمال الاخرى ممّا يستلزم انهدام النظم في المجتمع ، وعليه فكما أن المريض يجب أن يراجع الطبيب الملتزم والمتخصص ليصف له الدواء من دون حاجة إلى الدليل ، فكذلك في المسائل الدينية على المكلّف مراجعة الفقيه الذي قضى عمره في البحث والدرس والتحصيل في الحوزات العلمية وله تجربة كافية في استنباط الأحكام الشرعية ، ويتّصف بالعدالة والأمانة ولا يحتاج حينئذٍ إلى دليل لاثبات صحة الفتوى لكلّ حكم من الأحكام الشرعية ، والنتيجة أن الناس في تقليدهم للفقهاء لا يرجعون إليهم بدون دليل ، بل يوجد دليل اجمالي وهو لزوم رجوع الجاهل إلى العالم.

٢٥٠

والعقائد الواهية وحتّى أمام الشائعات وأنواع التهم والتخرّصات ، وفي مثل هذا المجتمع القرآني لا يمكن لأي فئة مغرضة إيجاد حالة من التشويش والاضطراب في الذهنية المسلمة ليصطادوا السمك في الماء العكر ويركبوا أمواج الضلالة والأزمات الاجتماعية وبالتالي يذبحوا الإسلام عند عتبة أغراضهم ومنافعهم الشخصية ، وعلى هذا الأساس فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله استشهد لصدق دعواه بدليلين وشاهدين معتبرين بحيث يقبل شهادتهم كلُّ إنسان.

ومع الالتفات إلى هذه المقدمة نشرع في تفسير الآية الشريفة :

الشرح والتفسير :

الشهود على النبوّة

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) وعليه فإنه ينبغي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لإثبات صدق دعواه ورسالته أن يأتي بالدليل والبرهان وفقاً لما قرّره القرآن الكريم من قاعدة وقانون في دائرة الفكر والمعتقدات ، ولهذا فإنّ الله تعالى يقول في سياق الآية الشريفة :

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)

فهنا ذكر النبي شاهدين : الأوّل هو الله تعالى ، والثاني هو الشخص الذي عنده «علم الكتاب» أي الشخص الذي يعلم بجميع ما في الكتاب لا بجزء منه ، وهذان الشاهدان كافيان لمن كان يتحرك في طلب الحقّ والحقيقة.

كيفية شهادة الله

سؤال : إنّ الله تعالى غائب عن الأنظار ولا يستطيع أحد من الناس أن يراه فكيف يشهد بصدق رسالة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق دعواه؟

الجواب : إنّ الله تعالى من خلال المعجزات التي يضعها تحت اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يمثّل شاهد صدق على رسالة نبي الإسلام لأنه من المحال على الله الحكيم أن يضع أكثر من معجزة بل مئات المعاجز بيد مدّعي النبوّة الكاذب ليضل عباده ، فالله تعالى لا يمكن أن يضل عباده بهذه الصورة ، وعليه فعند ما يضع الله تعالى العديد من المعجزات بيد النبي فإنه يشهد بذلك على صدقه.

٢٥١

من هو الذي «عنده علم الكتاب»؟

يذكر العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ثلاث نظريات في هذا المجال :

١ ـ أن المراد بقوله (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هو الله تعالى ، وفي الحقيقة فهذه الجملة بمثابة عطف تفسيري على «بالله» الذي ورد في صدر الآية ، فكليهما بمعنى واحد ، وعليه ففي هذه الآية الشريفة لا يوجد أكثر من شاهد واحد يشهد على صدق ادعاء نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الله تعالى (١).

ولكنّ هذه النظرية مردودة ، لأن الأصل الأولي في العطف هو التعدد والجملة المعطوفة تقرر مطلباً جديداً غير المعطوف عليه ، والعطف التفسيري خلاف الأصل ، وهذه الحقيقة يذعن لها علماء اللغة والأدب العربي ، وعليه فما لم يتوفر لنا دليل معتبر على أن الجملة أعلاه هي عطف تفسيري ، فلا بدّ من حملها على معنىً آخر غير المعطوف عليه لئلّا نقع في إشكالية التكرار ، ولذلك فالنظرية الاولى غير مقبولة.

٢ ـ ومنهم من ذهب إلى أن المراد من جملة (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هم اولئك الأشخاص من أهل الذمّة الذين اعتنقوا الإسلام ومنهم «عبد الله ابن سلام» (٢) العالم اليهودي ، ولكنه كان منصفاً وقد قرأ علامات نبوّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة وعند ما رآها منطبقة على محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم أنه مرسل من الله تعالى آمن به في حين أنه لو بقي على دين اليهودية كان يحظى بمنزلة كبيرة بينهم وقد يحصل من ذلك الكثير من الأموال والثروات ، ولكنه عند ما علم بحقيقة الأمر سحق أهواءه النفسية واعتنق الإسلام ، ولهذا فإن هذا الشخص هو الذي عنده «علم الكتاب» أي كان يعلم بعلائم النبي في التوراة ويشهد بذلك ، إذن فإن هذه الآية تقرر شاهدين على صدق ادعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعبارة اخرى إنّ الله تعالى والكتب السماوية السابقة تشهد بصدق نبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكنّ هذه النظرية أيضاً غير مقبولة ، لأن سورة الرعد من السور المكية في حين أن

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٣٠١.

(٢) نفس المصدر السابق.

٢٥٢

عبد الله ابن سلام اعتنق الإسلام في المدينة ، وعلى هذا الأساس فإنّ زمان نزول الآية محل البحث قبل إيمان عبد الله بن سلام بعدّة سنوات فلا يمكن أن تشير الآية إلى إيمان هذا الشخص وشهادته.

٣ ـ وهي النظرية التي وردت في الكثير من كتب التفسير والتاريخ والحديث حيث تقرر أن المراد بجملة «من عنده علم الكتاب» هو الإمام علي ابن أبي طالب عليه‌السلام (١).

يقول أبو سعيد الخدري من علماء الإسلام وصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمقبول لدى أهل السنّة والشيعة :

«سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه الآية : الذي عنده علم من الكتاب (٢) قال : ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليه‌السلام ، وسألته عن قول الله عزوجل : قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ، قال ذاك أخي علي بن أبي طالب» (٣).

ويروي هذه الرواية مضافاً إلى أبي سعيد الخدري : عبد الله ابن عبّاس ، سلمان ، سعيد ابن جبير ، محمّد ابن الحنفية ، زيد بن علي وآخرون أيضاً ، ومن جملة من ذكر هذه الرواية في كتابه : القرطبي (٤) ، السيوطي (٥) ، العلّامة الدشتكي الشيرازي (٦) ، الترمذي (٧) وآخرون ، وعليه فإن أفضل تفسير لجملة «من عنده علم الكتاب» هو أن المراد منها الإمام علي ابن أبي طالب عليه‌السلام.

كيف يشهد الإمام علي عليه‌السلام بالنبوّة؟

سؤال : مع الالتفات إلى الروايات الكثيرة الواردة في شأن نزول هذه الآية الشريفة التي

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٣٠١.

(٢) سورة النمل : الآية ٤٠.

(٣) ينابيع المودّة : ص ١٠٢ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨١.

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ج ٩ ، ص ٣٣٦ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٠.

(٥) الإتقان : ج ١ ، ص ١٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٠.

(٦) روضة الأحباب : ج ١ ، وقائع السنة التاسعة نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٠.

(٧) مناقب المرتضوي : ص ٤٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٠.

٢٥٣

تؤيد أنها واردة في شأن الإمام علي عليه‌السلام ، يثار هنا سؤال آخر وهو : كيف يمكن أن يشهد الإمام علي عليه‌السلام على نبوّة ورسالة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال نذكر مثالين على ذلك :

ألف) إذا دخل أحد الأشخاص مدينة معيّنة ولم يكن له فيها أيُّ شخص يعرفه ، وحينما يحين وقت يتوجه إلى المسجد ليدرك فضيلة صلاة الجماعة وفضيلة الصلاة أوّل الوقت ، فمع العلم بأنه لا يعرف أحداً من هذه المدينة كيف يمكنه أن يتثبت من عدالة إمام الجماعة ويقتدي به؟

يقول الفقهاء : إنّ مجرد حضور مجموعة من الأشخاص من أهل الاطلاع والفضل واقتداءهم به يمكنه أن يكون بمثابة الشهادة على عدالة إمام الجماعة ، من قبيل أن مئات من رجال الدين والشيوخ يقتدون به في صلاتهم ، فمن هنا يتبيّن لنا عدالة إمام الجماعة من خلال اقتداء المأمومين هؤلاء.

ب) إذا رأينا شخصاً من أهل الخبرة والفضل ومورد احترام الناس يأتي إلى استاذ من الأساتذة ويجلس بين يديه ليتعلم ويتتلمذ على يد هذا الاستاذ الذي لا نعرفه إطلاقاً ، فمن خلال معرفتنا بعلم وفضل التلميذ ندرك عظمة الاستاذ وعلمه الواسع ، وعلى سبيل المثال إذا رأينا الشيخ الأنصاري أو العلّامة الحلّي يدرسان ويتعلمان عند استاذ غير معروف ، فمن خلال التلميذ ندرك عظمة الاستاذ.

وبالنظر إلى هذين المثالين نجيب على السؤال المذكور :

عند ما نطالع شخصية الإمام علي عليه‌السلام ونراه متفوقاً في جميع الصفات الأخلاقية والإنسانية نرى أنّ مثل هذا الإنسان مع عظيم علمه ومعرفته بحيث إنّ الإنسان الذي يقرأ «نهج البلاغة» ويتدبر فيه وفيما يتضمنه من معارف عميقة وعلوم غزيرة لا يصدّق أن هذا الكتاب هو حصيلة ترشحات من فكر إنسان ، ولهذا قيل عن نهج البلاغة : «دون كلام الخالق وأعلى من كلام المخلوق».

الإمام علي مع ذلك القضاء العجيب والمحيّر في أدق المشكلات والمحاكمات والذي نجح بأفضل وجه في ردّ حقوق المظلومين ...

٢٥٤

الإمام علي مع شديد عبادته وتقواه والتزامه الديني بحيث إنه في حال الصلاة لا يلتفت إلى شيء آخر سوى الله تعالى ولذلك كانوا في الموارد التي لا يستطيعون معالجته في غير الصلاة ينتظرونه ليصلّي حتّى يخرجوا السهام من بدنه الشريف وهو غافل عنها ...

الإمام علي مع شهامته وشجاعته المحيّرة والتي تضرب بها الأمثال بحيث لم يغلب في أيِّ حرب وقتال ولم يفر ولا مرّة واحدة من الأعداء ...

الإمام علي مع التزامه الشديد بالعدالة بحيث لا يمكن لأحد من الناس أن يخرجه عن حدّ العدالة وأخيراً استشهد بسبب هذا الالتزام والانضباط الأخلاقي بالعدالة.

أجل ، فإنّ الإمام علي عليه‌السلام بهذه الصفات والخصائص الاخرى يمثل رمز الإنسان الكامل ، وهذا الشخص قد آمن بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل حياته وقفاً لتبليغ هذا الدين واعتبر نفسه عبداً من عبيد محمّد ، ألا يتبين لنا من خلال إيمان الإمام علي عليه‌السلام حقانية إدّعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة السماوية؟ وبهذا يكون الإمام علي شاهداً آخر على نبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ونعتقد أن هذا الشاهد على نبوّة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى درجة من الأهمّية بحيث إنه لو فرضنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأتِ بأي دليل آخر سوى شهادة علي ابن أبي طالب لكفى.

المقارنة بين آصف بن برخيا وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام

كان آصف بن برخيا وزير النبي سليمان عليه‌السلام وقد وردت قصته في سورة النمل وهي:

«عند ما تحركت ملكة سبأ من اليمن باتجاه النبي سليمان لتسلم على يده خاطب سليمان وزراءه ومشاوريه من الجن والإنس وقال :

أيكم يقدر على أن يأتيني بعرش الملكة من اليمن قبل أن تصل إلينا؟

فقال أحد العفاريت من الجنّ : أنا آتيك به ولكنّ ذلك يحتاج إلى مدّة من الزمان قد تصل إلى بضع ساعات وسوف أحضره عندك قبل إتمام هذه الجلسة.

والظاهر أن النبي سليمان لم يقبل هذا الاقتراح وأراد حضور العرش بأسرع من هذا الوقت ولهذا قال شخص آخر وكان لديه علم من الكتاب وهو «آصف بن برخيا» : إنني

٢٥٥

قادر على إحضاره عندك قبل أن تطرف عينك ، فما أن فتح سليمان عينه وإذا به يرى عرش الملكة حاضراً عنده ، وحينذاك توجه سليمان بالشكر إلى الله تعالى على هذه النعم والمواهب العظيمة (١).

إن آصف بن برخيا وبسبب اطلاعه على بعض علم الكتاب والاسم الأعظم استطاع أن يقوم بهذا العمل الخارق للعادة ، في حين أنّ الإمام علي عليه‌السلام لديه علم الكتاب أجمع وكذلك الاسم الأعظم فهل يمكن قياس قدرة آصف ابن برخيا بقدرة الإمام علي عليه‌السلام؟

من هذا البحث يمكننا التطرق إلى الولاية التكوينية للأئمّة الأطهار ، لأن معنى العلم التكويني ليس هو أننا نعتقد بأن الإمام علي عليه‌السلام خالق السماوات والأرض «ونعوذ بالله» بل يعني أنّ هؤلاء الأولياء يتصرفون بعالم الوجود بإذن الله تعالى ومشيئته ويشبه تصرفهم عمل آصف ابن برخيا.

__________________

(١) ما ورد أعلاه كان شرحاً مختصراً عن آصف بن برخيا الوارد في الآيات ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ من سورة النمل.

٢٥٦

آية المؤذّن وآية الأذان ٥ ـ ٦

ومن جملة الآيات التي تتعلق بفضائل الإمام علي عليه‌السلام هي الآيات ٤٤ من سورة الأعراف ، والآية ٣ من سورة التوبة حيث يقول تعالى في الآية ٤٤ من سورة الأعراف :

ويقول في الآية ٣ من سورة التوبة :

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣))

أبعاد البحث

إنّ كلمة «مؤذّن» وردت في القرآن الكريم مرّتين حيث تتحدّث عن عالم الآخرة ، وقد وردت في الآية ٤٤ من سورة الأعراف ، وفي الآية ٧٠ من سورة يوسف وهكذا كلمة «أذان» وردت مرّة واحدة في الآية ٣ من سورة التوبة ، وكلُّ واحدة من هاتين الآيتين ترتبط بشأن الإمام علي عليه‌السلام.

٢٥٧

«أذان» في الاصطلاح يراد به مجموعة الأذكار الخاصّة التي تقال حينما يحين وقت الصلاة لدعوة الناس إلى الصلاة والمسجد ولكن في اللغة يراد بها مطلق الإعلان ، فتارةً يكون الإعلان مقارناً للتهديد ، واخرى لإعلان الحرب ، وثالثة لإعلان وقت الصلاة ، وبتعبير آخر أن «الأذان» تعني إخبار الناس بالخبر بصورة علانية ، إذن فالأذان لا يختصُّ بالإعلان عن وقت الصلاة بل يستوعب معنىً واسعاً.

تفسير الآية ٤٢ من سورة الأعراف

حوار أهل الجنّة وأهل النار

ولأجل توضيح معاني ومفاهيم آية المؤذّن نرى من اللازم أن نبدأ بالآيات التي قبلها :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

جملة (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جاءت كجملة معترضة في الآية أعلاه وتشير إلى نكتة مهمة ، وهي أن جميع الأشخاص لا يستوون في الإيمان والعمل الصالح ولا يصحّ أن يتوقع الإنسان من جميع الناس التساوي في الإيمان والعمل الصالح ، بل كلُّ شخص يُكلّف بمقدار قدرته وإدراكه ولياقته ، وبدون شك أن إيمان الإمام علي عليه‌السلام وسلمان وأبي ذرّ ليس بمستوى إيمان سائر الناس ، ولذلك فالمتوقع من هؤلاء الأشخاص الأولياء غير ما يتوقع من الأشخاص العاديين ، والخلاصة هي أن كلُّ إنسان مؤمن يدخل الجنّة بحسب قابليته وإيمانه وعمله الصالح.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)

فهنا تتحرّك الآية الشريفة لبيان صفات المستحقين للجنّة بعد ورودهم إليها فأوّل ما يواجه المؤمن لدى دخوله الجنّة هي أن الله تعالى يطهر قلبه من أدران الحسد والحقد تماماً ويعود إليها الصفاء والطهر والخلوص ، وكلمة «غلّ» تقال لحركة الماء الخفية تحت النباتات ، وبما أن عنصر الحسد والحقد يتحرك في قلب الإنسان بصورة خفية ومستورة فلذا قيل عنه بأنه «غلّ».

٢٥٨

سؤال : هل يعقل أنّ أهل الجنّة يعيشون الحسد والحقد ومع ذلك يدخلهم الله الجنّة؟

الجواب : يستفاد من بعض الروايات أن بعض الدرجات الخفيفة للحسد والحقد يمكنها أن تكون لدى المؤمن وما لم يظهرها الإنسان لا تحسب ذنباً ومعصية ولا تتنافى مع الإيمان (١) ، وبهذا فإنّ الله تعالى يطهّر قلوب هؤلاء المؤمنين من أهل الجنّة من هذه الدرجة الضعيفة من الحسد والحقد ليعيشوا في الجنّة بكامل السعادة والطمأنينة والراحة النفسية.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) إنّ أهل الجنّة يسكنون في قصور وبيوت تجري من تحتها الأنهار ، أي أن الله تعالى قد بنى لهم هذه القصور والبيوت على الأنهار الجارية ، وهذا من جملة النعم الاخروية على أصحاب الجنّة والتي وردت في الكثير من الآيات الشريفة.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فعند ما يشاهد أهل الجنّة كلُّ هذه النعم العظيمة والألطاف الإلهيّة الجليّة يتوجهون إلى ربّهم من موقع الشكر والثناء ويقولون : الحمد الذي هدانا لهذه النعم والمواهب الكثيرة ولو لا عناية الله ورعايته ما كنّا لنهتدي إليها ولا نسلك الطريق إلى الجنّة ، وأنّ رسل الله وأنبياءه كانوا يقولون الحقّ ، أجل ، فإنّ أهل الجنّة يعترفون بأن الهداية التشريعية للأنبياء والأولياء والكتب السماوية وكذلك الهداية التكوينية المنبعثة من الجوانب النفسانية والفطرية المودعة في وجود الإنسان هي التي أدّت بهم إلى اختيار طريق الجنّة وكسب رضا الله تعالى ونيل ألطافه وعناياته.

(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فبعد أن يشكر أهل الجنّة الله تعالى على عظيم نِعمه التي لا تحصى يقال لهم أن أدخلوا الجنّة فهي التي ورثتموها بأعمالكم.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) فعند ما يستقر أهل الجنّة في مساكنهم وقصورهم وينظرون إلى ما حولهم بحثاً عن أصدقائهم ومعارفهم لا يجدون أفراداً منهم ويدركون أنهم صاروا من أهل النار وحرموا الورود إلى الجنّة وبذلك يخاطبون أهل النار :

__________________

(١) المنار ، ج ٨ ، ص ٤٢١ نقلاً عن التفسير الامثل : ذيل الآية مورد البحث.

٢٥٩

«إننا قد وجدنا ما وعد ربُّنا حقّاً وقد تبيّن لنا صحّة الطريق الذي سلكناه في الدنيا وأوصلنا هذا الطريق من خلال الإيمان والعمل الصالح إلى الجنّة وحظينا بجميع ما وعد الله تعالى للمؤمنين فهل وجدتم ما وعد ربُّكم حقّاً؟ هل تحققت وعود الله في حقّكم من العقاب على ما ارتكبتم من الذنوب والجرائم؟

«قالُوا نَعَمْ» وهكذا يجيب أهل النار على هذا السؤال بالإيجاب وأن الله قد أنجز ما وعدهم من العذاب والعقاب الاخروي.

سؤال : لما ذا يسأل أهل الجنّة هذه الامور من أهل النار؟

الجواب : يحتمل أن سؤالهم كان لغرض تحصيل اطمئنان أكثر وإيمان أعلى بما وعد الله رغم أن أهل الجنّة يؤمنون بجميع ما وعدهم الأنبياء من امور الغيب ويعتقدون به ولكنهم عند ما يرون ذلك بامّ أعينهم أو يسمعون من أهل النار تحقّق الوعيد الإلهي بحقّهم فإنّ إيمانهم سيزداد ويتعمق أكثر.

الاحتمال الآخر هو أنهم يسألون أهل النار من أجل التهكم والذم والتقريع لهم كما كان أهل النار يلومون المؤمنين في الدنيا ويذمّونهم ويسخرون منهم على اعتقاداتهم وإيمانهم بالغيب فهذه المساءلة نوع من المقابلة بالمثل.

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) كختام للمحاورة المذكورة بين أهل الجنّة وأهل النار لا بدّ وأن يكون هناك من يختم هذا الحوار ولذلك ورد النداء الإلهي «أن لعنة الله على الظالمين» وتنتهي بذلك المساءلة ويسدل الستار على هذه المحاورة.

من هو المؤذّن؟

سؤال : من هو المؤذّن في الآية ٤٤ من سورة الأعراف؟ ومن هو هذا الشخص الذي يختم الحوار المذكور بالنداء الإلهي والذي توحي الآية أن له سلطة على الجنّة والنار والقيامة؟ ومن هو هذا الشخص الذي يسمعه جميع الناس في ذلك اليوم ويختم بكلامه عملية المحاورة بين أهل الجنّة وأهل النار؟

الجواب : هناك روايات متعددة مذكورة في مصادر الشيعة وأهل السنّة تؤكد على أن

٢٦٠