آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

الجواب : إنّ هذا الرأي بعيد عن الصواب ومجانب للواقع ، لأن الشواهد التاريخية تدلُّ على أن أبا ذرّ الغفاري لم يتعرض لحادثة مهمة تهدد حياته بالخطر في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه لا يمكن التصديق بأن هذه الآية الشريفة نازلة في حقّه رغم أن شخصية أبي ذرّ وخدماته العظيمة وخاصّة بعد رحلة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عصر السكوت والإرهاب لا غبار عليها ولا يمكن إنكارها.

٣ ـ إنّ الآية الشريفة تتعلّق بجميع المهاجرين والأنصار

وذهب البعض إلى أن آية ليلة المبيت تتعلّق بجميع المهاجرين والأنصار (١) ، أي أن جميع المسلمين في زمان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وحين نزول هذه الآية كانوا مشمولين لمضمونها ، وعليه فإنّ الآية محل البحث لا تختص بالإمام علي ابن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

الجواب : إنّ بطلان هذا الكلام من أوضح الواضحات لأن الآية الشريفة تصرّح بأن هذا الافتخار والكرامة يختصّ ببعض المسلمين وغير شاملة لجميع أفراد المجتمع الإسلامي ، وعليه لا يمكن ادعاء أن جميع المهاجرين والأنصار مشمولين لآية ليلة المبيت.

٤ ـ هل يعلم الإمام علي عليه‌السلام بموته أو حياته؟

سؤال : هل إنّ الإمام علي عليه‌السلام كان عالماً بعاقبة هذا العمل؟ وهل إنه كان يعلم بأنه سوف ينجو من هذا الخطر الكبير ويبقى حيّاً بعد هذه الواقعة أم لا؟

إذا كان يعلم أن المشركين لا يتمكنون من قتله وانه سيبقى على قيد الحياة فإن مبيته في فراش النبي لا يمثّل قيمة وافتخار كبير ، وإن لم يكن يعلم فسيكون لهذا العمل قيمة كبيرة ولكنّ الإشكال يردُ من جهة اخرى ، وهو أن الأئمّة يعلمون الغيب فكيف لم يعلم الإمام علي عليه‌السلام بعاقبة هذا العمل؟

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٠١.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٠١.

٢٢١

الجواب : طبقاً لتحقيقات العلماء وتصريح بعض الروايات أن علوم الأئمّة بالنسبة إلى الغيب والمستقبل هي من العلوم الإرادية ، أي أنهم لو أرادوا أن يعلموا لعلموا ، وإن لم يريدوا ذلك لا يعلمونه (١) ، فمن الممكن في هذه الواقعة إنّ الإمام علي عليه‌السلام لم تتعلق إرادته بمعرفة عاقبة هذا العمل ونهايته ، ولذلك كان احتمال الخطر مرتسماً في ذهنه ، ومع ذلك كان مستعداً للتضحية والإيثار العظيم ، وعلى هذا الأساس فإن الواقعة المذكورة تعدّ افتخاراً كبيراً لأمير المؤمنين عليه‌السلام ولا تتنافى مع علم الغيب للأئمّة ، والالتفات إلى هذه النكتة بإمكانه أن يزيل الكثير من الشبهات والإشكالات حول علم الأئمّة للغيب.

سؤال : لقد قلت «إنّ الإمام علي عليه‌السلام لم تتعلق إرادته بأن يعلم مصيره ولذلك فإنّ احتمال الخطر موجود ومع ذلك بات الإمام علي عليه‌السلام على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ذلك فضيلة كبيرة ومنقبة عظيمة له» في حين أنه قد ورد في بعض الروايات إنّ الإمام كان مطّلعاً على أنه سوف لا تصيبه مصيبة وسوف لا يواجه مشكلة في هذه العمل وقد ضمن له النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله السلامة والنجاة من الخطر (٢) ، وعليه فكيف تعدّ آية ليلة المبيت فضيلة ومنقبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام؟

الجواب : يمكننا الجواب على هذا الإشكال بصورتين :

الف : إنّ هذه الرواية مرسلة ولا سند لها وقد أوردها العلّامة الأميني بصورة مرسلة عن تفسير الثعلبي (٣) ، وبما إنها تفتقد إلى السند فلا يمكن الاعتماد عليها (٤).

ب : هناك ثلاث شروط لقبول الرواية : الأوّل هي أن يكون سند الرواية معتبر ، الثاني : أن لا تكون الرواية مخالفة لآيات القرآن الكريم ، الثالث : أن تكون مقبولة لدى علماء الدين ،

__________________

(١) للمزيد من التفاصيل يرجى مراجعة نفحات القرآن : ج ٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٦٢.

(٣) الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨.

(٤) يقول أبو جعفر الإسكافي استاذ ابن أبي الحديد في جوابه على هذا الإشكال بأن هذا الكلام كذب صريح ولم ويرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه تكلم بهذا الكلام ، والرواية المذكورة إنما هي من المجعولات لرجل يدعى (أبو بكر الاصم) الذي أخذ عنه الجاحظ هذه الرواية (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٦٣).

٢٢٢

والرواية المذكورة مضافاً إلى ضعف سندها فهي غير مقبولة ومخالفة للقرآن الكريم ، لأن الله تعالى ذكر هذا العمل لأمير المؤمنين في آية ليلة المبيت من موقع المدح والثناء والتمجيد وعبّر عنه بأنه معاملة مع الله تعالى في حين أن الرواية المذكورة على فرض اعتبار سندها فإنّ عمل أمير المؤمنين عليه‌السلام وفقاً لهذه الرواية ليست له قيمة وأهميّة خاصّة بل هو بمثابة أمر عادي ، وعليه لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية المخالفة لآية من آيات القرآن الكريم بحيث يمكن من خلالها تهميش هذا العمل العظيم الذي قام به أمير المؤمنين عليه‌السلام (فتدبّر).

٥ ـ من هو المخاطب للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

سؤال : ويرى البعض أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما أراد أن يضع شخصاً مكانه في الفراش في تلك الليلة قال للمسلمين : أيكم مستعد لأن يبيت في فراشي في هذه الليلة؟ ولم يتقدّم أحد سوى علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث أظهر موافقته على استقبال هذا الخطر.

فهل هذا المطلب صحيح ، أو أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدّث في هذا المورد إلى الإمام علي عليه‌السلام خاصّة؟

الجواب : نحن لم نر في الكتب المعتبرة أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله طرح هذا الموضوع بين أصحابه ، مضافاً إلى أن هذا المطلب لا ينسجم مع العقل ، لأن هذا الموضوع لو سمعه جميع الأصحاب فسوف يفتضح الأمر ويصل الخبر إلى أعداء الإسلام الذين كانوا يتآمرون على حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالتالي سيتحركون للتصدي لهذا العمل وإجهاضه ، ولهذا نعتقد بأن هذه الخطّة والفكرة تمّت بسريّة كاملة ، ولم يعلم بها سوى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام وبعض الأشخاص الآخرين ، وأما سائر المسلمين فكانوا لا يعلمون بها.

بقي هنا امور

١ ـ أشعار حسّان ابن ثابت في وصف الواقعة

كان حسّان ابن ثابت (١) من الشعراء المعاصرين للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وله علاقة خاصّة في

__________________

(١) ولد حسان بن ثابت قبل ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بثمان سنوات وبقي بعده مدّة طويلة فكان من الشعراء المعمّرين

٢٢٣

الخليفة الحقيقي للنبي فقد أنشد قصائد رائعة في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وخاصّة في واقعة غدير خم التاريخية وبعض أبياتها يتعلق بحادثة ليلة المبيت كما وردت في كتب المؤرّخين :

مَنْ ذا بِخاتَمِهِ تَصَدَّقَ راكِعاً

وَاسَرَّها فِي نَفْسِهِ إسْراراً

مَنْ كانَ باتَ عَلى فِرَاشِ مُحَمَّدٍ

وَمُحَمَّدٌ اسْرى يَؤُمُّ الْغارا

مَنْ كانَ فِي الْقُرْآنِ سُمّىَ مُؤْمِناً

فِي تِسْعِ آياتٍ (١) تُلينَ غَزاراً (٢)

والخلاصة إنّ حادثة ليلة المبيت كانت معروفة ومشهورة إلى درجة أنها انعكست في قصائد شعراء العرب.

٢ ـ مصير الإمام علي عليه‌السلام في تلك الليلة

بعد أن عقد أعداء الإسلام العزم على مؤامرتهم في القضاء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرروا أن يهجموا على بيته ليلاً وينفذون مؤامرتهم ، ولكن أحد قادة المشركين «أبو جهل أو أبو لهب» منعهم من هذا العمل وقال : لا تهجموا عليه ليلاً لأن من المحتمل أن تكون في البيت زوجته وأطفاله وسيصيبهم الخوف والرعب وهم أبرياء (٣).

__________________

حيث ناهز عمره على المائة وعشرين سنة ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوضع منبر خاص لحسّان في مسجده وأحياناً كان يأمره بأن يرتقي هذا المنبر وينشد الشعر ، وقد أخذ البعض عليه بأن المسجد ليس محلاً لإنشاد الشعر ، ولكن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم بأن أشعار حسّان أثرها «أشدّ من النبال» ، وبعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعرض حسّان إلى نوع من عدم الاهتمام به من قبل الخليفة الأوّل والثاني حيث منعاه من إنشاد الشعر في مسجد النبي ، ولا يخفى على القارئ الكريم السبب في هذا المنع ، نعم إن جريمته هي الدفاع عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام بطل واقعة الغدير ، وقد ترك هذا الشاعر المخضرم ديواناً موجوداً لحدّ الآن أودع فيه قصائده وأشعاره في وصف الخليفة الحقيقي للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(١) وقد ذكر العلّامة الأميني هذه الآيات التسع وأضاف إليها واحدة ، وهي كالتالي : ١ ـ الآية ١٨ من سورة الكهف ، ٢ ـ الآية ٦٢ من سورة الأنفال ، ٣ ـ الآية ٦٤ من سورة الأنفال ، ٤ ـ الآية ٢٣ من سورة الأحزاب ، ٥ ـ الآية ٥٥ من سورة المائدة ، ٦ ـ الآية ١٩ من سورة التوبة ، ٧ ـ الآية ٩٦ من سورة مريم ، ٨ ـ الآية ٢١ من سورة الجاثية ، ٩ ـ الآية ٧ من سورة البيّنة ، ١٠ ـ سورة والعصر. (الغدير : ج ٢ ، ص ٤٩ ـ ٥٨).

(٢) الغدير : ج ٢ ، ص ٤٧.

(٣) قارن بين هذا العمل وبين مدّعيات القوى التي تدعي حقوق الإنسان ليتضح جيداً أنهم أكثر توحشاً

٢٢٤

ولهذا السبب أخّروا هجومهم إلى بواكر الصباح ، وعند ما حانت اللحظة المناسبة وهجموا على بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يقصدون قتله ، قام الإمام علي عليه‌السلام من الفراش قبل أن يصلوا إليه وصاح بهم : ما ذا تريدون؟

وعند ما تفاجأ المشركون بهذا الأمر ورأوا علي ابن أبي طالب في فراش النبي أخذتهم الدهشة وقالوا : يا عليّ نحن نريد محمّداً فأين هو؟

فأجابهم : هل أودعتموه عندي حتّى تطلبوه مني؟

فتحيّروا في جوابه وما ذا يصنعون به ، هل يقتلونه أو يتركونه؟ فقال أبو جهل : لنترك هذا الشاب المغامر فقد خدعه محمّد وأنامه في فراشه لينجو بنفسه.

فلمّا سمع الإمام علي عليه‌السلام بهذه الكلمات الموهنة له ولرسول الله قال بمنتهى الشجاعة والجرأة :

أَلي تَقُولُ هذا يا ابا جَهْل! إن الله قَدْ اعْطانِي مِنَ الْعَقْلِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ حُمَقاءِ الدُّنْيا وَمَجانينِها لَصاروُا بِهِ عُقلاءَ ، وَمِنَ الْقُوَّةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ ضُعَفاءِ الدُّنْيا لَصاروُا بِهِ اقْويَاءَ ، وَمِنَ الشُّجاعَةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلَى جَميعِ جُبَناءِ الدُّنْيا لَصاروُا بِهِ شَجْعاناً. (١)

فأنا قد عرفت نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمنت بالإسلام عن معرفة ولذلك تقدّمت إلى هذا العمل بكلِّ إخلاص وإيمان ، وبعد أن حدثت بينهما مشادّة خرج أعداء الإسلام من بيت النبوّة خجلين وآيسين وخرج الإمام علي عليه‌السلام من هذه الواقعة مرفوع الرأس ومسروراً لأدائه المهمة الرسالية.

٣ ـ الله تعالى يباهي بإيثار أمير المؤمنين عليه‌السلام

لقد أورد «الثعلبي» وهو أحد مفسّري أهل السنّة المعروفين للآية مورد البحث ، رواية

__________________

وهمجية من العرب الجاهليين ، لأننا نرى في هذا العصر هجوم أمريكا وبريطانيا على افغانستان بصورة وحشية حيث لم يرحموا النساء والأطفال والشيوخ ، وحتّى المرضى في المستشفيات لم يسلموا من تعرضهم وأذاهم.

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٨٣.

٢٢٥

جميلة وجذّابة حول حادثة ليلة المبيت نذكرها هنا كما رواها هو :

«لما عزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الهجرة إلى المدينة ، ترك علي بن أبي طالب في مكّة ليؤدي الديون التي عليه والأمانات إلى أهلها ، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه ، وقال له : اتشح ببردي الأخضر ونم على فراشي فإنه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله ، ففعل ذلك علي عليه‌السلام فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل علي؟ آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، أهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي :

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا بْنَ ابِي طالِبٍ ، مَنْ مِثلُكَ؟ وَقَدْ باهَى اللهُ بِكَ مَلائِكَةَ السَّمَاوَاتِ وَفَاخَرَ بِكَ(١)».

فهل يتصور مقام أعلى من هذا المقام؟!

ومن هنا ندرك أن الشيعة عند ما يعظّمون أهل هذا البيت ويتبعون أمير المؤمنين عليه‌السلام فإن ذلك لا يعني التعصّب الأعمى على مستوى الحساسيّة المذهبية بل بسبب مقاماته المعنوية السامية وفضائله الكثيرة.

توصية الآية

كلّ شيء في سبيل نيل رضا الله

بالرغم من أن الآية الشريفة كما أشرنا سابقاً ، نزلت في ليلة هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي شأن الإمام علي عليه‌السلام ، ولكنها كسائر الآيات القرآنية تتضمن حكماً كلياً وعاماً ، فمن حيث إن هذه الآية تقع في مقابل الآية السابقة «وَمِنَ النّاس مَنْ يُعْجِبُكَ ...» فيتضح جيداً أن هذه الطائفة من الناس التي تشير إليها هذه الآية محل البحث تقع في مقابل الطائفة السابقة ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٨٥.

٢٢٦

ويتمتع أفرادها بصفات وخصائص تقع في النقطة المقابلة لصفات اولئك وخصائصهم ، فاولئك أفراد يتسمون بالأنانية والغرور والعناد والتكبّر ويتعاملون مع الناس بلغة النفاق والرياء ويتظاهرون أنهم إنما يريدون الإصلاح ويتحركون في خطّ الإيمان ظاهراً ولكنّ سلوكهم وأفعالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وهلاك الحرث والنسل ، ولكن هذه الطائفة في آية ليلة المبيت لا يتعاملون مع أحدٍ سوى الله تعالى ولا يبخلون بشيءٍ في سبيله ولا يطلبون سوى رضاه ولا يرون العزّة والكرامة إلّا تحت ظلّه وعنايته ، ولذلك فإنّ أمر الدين والدنيا يتقوّم بتضحية هؤلاء وحركتهم الإصلاحية في خطّ الرسالة والمسئولية والحقّ والحقيقة (١).

إنّ توصية هذه الآية الشريفة لجميع المسلمين هو أن يخرجوا من أجواء الطائفة الاولى ويدخلوا في أجواء الطائفة الثانية ...

وطبعاً ليس هذا بالأمر الهيّن.

__________________

(١) التفسير الأمثل : ذيل الآية مورد البحث.

٢٢٧
٢٢٨

آية سقاية الحاج ٢

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

«سورة التوبة / الآيات ١٩ ـ ٢٢»

أبعاد البحث

في هذه الآية الشريفة التي تعرف بين المفسّرين بآية «سقاية الحاج» نواجه فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه‌السلام حيث تفضي إلى إثبات إمامته وخلافته بعد رسول الله ، وتبيّن أن الأشخاص الذين يرون أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام تساوي الإيمان بالله والهجرة والجهاد في سبيله ، بعيدون عن طريق الصواب ، وسيأتي تفصيل ذلك في طيّات البحث.

شأن النزول

إنّ آية «سقاية الحاج» تخبرنا عن حادثة وقعت في عصر الرسالة ولا تهدف إلى بيان

٢٢٩

قانون كلّي في ذلك ، أي أن هذه الحادثة والمقارنة المذكورة في الآية الشريفة وقعت عملاً في الواقع الخارجي ، فللآية الشريفة شأن نزول خاصّ ولهذا ذكر لها موارد عديدة في شأن نزولها وخلاصة ما ورد في شأن النزول المعروف لها هو :

إنّ العبّاس ابن عبد المطلب وشيبة قعدا يفتخران في المسجد الحرام فقال العبّاس لشيبة : أنا أشرف منك ، أنا عمّ رسول الله ووصي أبيه وساقي الحجيج (١).

فقال شيبة : أنا أشرف منك أنا أمين الله على بيته وخازنه (٢) ، أفلا ائتمنك كما ائتمنني؟

فاطلع عليهما عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام فأخبراه بما قالا فقال علي : أنا أشرف منكما ، أنا أوّل من آمن وهاجر «وعليه فإنه لا افتخار في سقاية الحاج أو عمارة المسجد الحرام» بل الفخر بالإيمان بالله والهجرة في خطِّ الإيمان به والجهاد في سبيله.

فلما سمع العبّاس ذلك انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر له ما جرى بينه وبين الإمام علي عليه‌السلام وشكاه عنده على أساس أن الإمام علي عليه‌السلام قد ادحض حجّته وأهمل مقامه ومنزلته.

فأرسل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله شخصاً في طلب الإمام علي فعند ما حضر بين يديه سأله النبي عن الواقعة وقال له : ما ذا قلت لعمّك العبّاس حتّى أغضبته؟

فقال عليّ عليه‌السلام : لم أقل سوى الحقّ ولكن عمّي غضب من كلام الحقّ ، ثمّ بيّن لرسول

__________________

(١) المراد من «سقاية الحاج» هو إيصال الماء إلى الحجاج في منى وعرفات والمشعر الحرام حيث لا يوجد في هذه الأمكنة الثلاثة ماء إطلاقاً ، وحتّى في هذا الزمان يتم إيصال الماء إلى هذه المناطق بواسطة أنابيب من مناطق اخرى ، وكان الحجاج في قديم الزمان مضطرين لحمل الماء معهم في أيّام الحجّ إلى هذه الأماكن ، ولهذا قيل عن اليوم الثامن من ذي الحجّة «يوم التروية» ، وعلى أيّة حال فقد كان العبّاس في ذلك الزمان مسئولاً عن إيصال الماء إلى الحجيج ، وبديهي أن هذه المسئولية كانت مهمة جدّاً في ذلك الوقت لأن أهم حاجة للحجاج في تلك الأماكن هو الماء.

(٢) نظراً إلى أهمية «المسجد الحرام» والذي يعبّر عنه القرآن الكريم أنه أوّل بيت وضع للناس ويعدّ أقدس مكان على ظهر الأرض بحيث ورد في الروايات أن ركعة واحدة عنده تعادل مليون ركعة في مناطق اخرى ، فإنّ استلام مفاتيح هذا البيت المقدّس و «عمارة المسجد الحرام» لها أهمية خاصّة ومكانة مميزة حيث تكون لصاحب هذه المكانة مسئولية حفظ وحراسة الكعبة المشرّفة وترميم المسجد الحرام ورعايته.

٢٣٠

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المحادثة التي جرت بينهم وأضاف إنني لم أكن في مقام التظاهر بالفخر والتعريف بنفسي بل أردت أن أقول أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا تعتبر أرقى افتخار يناله الإنسان بل هناك مقامات أعلى وافتخارات أكبر من ذلك ، وهنا نزلت الآية الشريفة محل البحث وأيّدت كلام الإمام علي عليه‌السلام (١).

وقد ورد شأن النزول هذا في اثني عشر كتاباً على الأقل معروفاً لدى أهل السنّة تتحدّث عن تفسير القرآن ، أو التاريخ الإسلامي ، أو الروايات الشريفة فمن ذلك :

١ ـ أسباب النزول لمؤلفه العلّامة الواحدي (٢).

٢ ـ تفسير العلّامة خازن البغدادي (٣).

٣ ـ تفسير العلّامة القرطبي (٤).

٤ ـ تفسير الفخر الرازي (٥).

٥ ـ الدرّ المنثور للعلّامة السيوطي (٦).

٦ ـ تفسير أبو البركات النّسفي (٧).

٧ ـ الفصول المهمّة للصبّاغ المالكي (٨).

٨ ـ كفاية الطالب للگنجي الشافعي (٩).

٩ ـ تاريخ الخطيب البغدادي (١٠).

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٤٩ ببعد.

(٢) أسباب النزول : ص ١٨٢ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٣).

(٣) تفسير الخازن : ج ٣ ، ص ٥٧ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٢٣).

(٤) تفسير القرطبي : ج ٨ ، ص ٩١ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٥).

(٥) تفسير الفخر الرازي : ج ١٦ ، ص ١٠ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٥).

(٦) الدرّ المنثور : ج ٣ ، ص ٢١٨ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٦).

(٧) تفسير النّسفي : ج ٢ ، ص ٢٢١ (نقلاً من الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤).

(٨) الفصول المهمّة : ص ١٠٦ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٦).

(٩) كفاية الطالب : ص ١١٣ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٥).

(١٠) تاريخ الخطيب البغدادي : نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤ و ٥٥.

٢٣١

١٠ ـ مناقب ابن المغازلي (١).

١١ ـ تاريخ ابن العساكر (٢).

١٢ ـ ربيع الأبرار للزمخشري (٣).

وعلى هذا الأساس فإن شأن النزول المذكور لا يدانيه شك ولا ريب.

ملاحظة مهمّة!

بلا شكّ كان العبّاس ابن عبد المطلب عند نزول آية سقاية الحاج مؤمناً مجاهداً وهكذا الحال مع «شيبة» فقد كان مؤمناً وله سوابق جهادية ، إذن فكيف افتخر الإمام علي عليه‌السلام بإيمانه وجهاده عليهما والحال أنهما يتصفان بصفة الإيمان والجهاد أيضاً؟

وجواب هذا السؤال هو أن الإمام علي عليه‌السلام أراد أن يقول لهما أنا أوّل شخص آمنت بالله وبرسوله من الرجال وأوّل شخص هاجر إلى المدينة بعد هجرة النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّل مجاهد في سبيل الله ورسوله ، وبهذا فقد سبقهما في الإسلام والهجرة والجهاد ، وهذه الفضيلة منحصرة في عليّ بن أبي طالب.

الشرح والتفسير : الإيمان بالله ، أفضل الامور!

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ)

من هذا السياق للآية الشريفة يتّضح جيّداً وقوع مثل هذه المقارنة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة ، وبين الإيمان بالله والجهاد في سبيله من جهة اخرى ، ولكن الله تعالى قرّر أنّ هذه المقارنة غير صحيحة وغير سليمة فإنّ الإيمان بالله واليوم الآخر

__________________

(١) مناقب ابن المغازلي : نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤ و ٥٥.

(٢) تاريخ ابن العساكر نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤ و ٥٥.

(٣) ربيع الأبرار نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤ و ٥٥.

٢٣٢

والجهاد في سبيل الله لا يقارن مع سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لأن الإيمان والجهاد بلا شكّ أعلى وأفضل من السقاية والعمارة.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ولعلّ هذا التعبير يشير إلى أن المقارنة المذكورة ليست فقط غير صحيحة بل هي نوع من الظلم للشخص الذي سبق الناس في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) فهؤلاء الذين تحركوا بهدف حفظ إيمانهم ونشر الدين والرسالة السماوية من موقع الهجرة وضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وإعلاء كلمته هم أفضل عند الله وأعظم درجة.

وبعد أن يردّ الله تعالى في الآية الاولى أصل المقارنة المذكورة يعبّر عنها بأنها نوع من الظلم ويصرّح في هذه الآية بأن الإيمان والهجرة والجهاد أهم وأعظم من السقاية والعمارة.

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) فبعد أن يردّ على المقارنة المذكورة ويصرح بأن الإيمان والجهاد والهجرة أفضل وأعظم يشير في الآيتين التاليتين إلى عاقبة أهل الإيمان والجهاد والهجرة ويبشّرهم بما يلي :

١ ـ إنّ الله تعالى يبشّر هؤلاء بأنهم مشمولين برحمته ومرتبة القرب منه.

٢ ـ البشارة الاخرى هي أن الله تعالى قد رضي عنهم ، وما أعظم النعمة في أن يعلم الإنسان بأن محبوبه ومعبوده راضٍ عنه!

٣ ـ (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ* خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وليست البشارة بجنّة واحدة بل ورد التعبير بجنّات ونِعم ومواهب خالدة في ذلك العالم ، ومعلوم أن أحد معايب النِّعم الدنيوية هي أنها معرّضة للزوال والفناء ولكنّ النِّعم والمواهب الاخروية خالدة وباقية أبداً.

(أَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فهل أن هذه الجملة بشارة إلى نعمة اخرى قد أعدّها الله تعالى لأهل الإيمان والجهاد والهجرة مضافاً إلى رحمة الله ورضوانه والجنّات الخالدة ، وهي النعمة التي لا يمكن للإنسان أن يتصورها ولا يقدر على وصفها ولذلك أجملت الآية بيانها ، أو أنها إشارة إلى النِّعم والمواهب المذكورة آنفاً وهي تأكيد لها.

كلا الاحتمالين واردان في مفهوم الآية الشريفة.

٢٣٣

ارتباط آية سقاية الحاج مع الإمامة

بما أن الإمام علي عليه‌السلام يتمتع بفضيلة السبقة إلى الإيمان والجهاد وليس أحد من المسلمين غيره يتمتع بهذه الفضيلة ، فعليه يكون الإمام علي عليه‌السلام أفضل المسلمين ، ومن الواضح أن الله تعالى إذا أراد نصب خليفة لرسوله فإنه لا يتجاوز الأفضل فيختار المفضول بل وحتّى الفاضل ، لأن الله تعالى حكيم وتقديم المفضول على الفاضل والفاضل على الأفضل يخالف مقتضى الحكمة الإلهية ، ولو كانت مسألة الخلافة انتخابية فإنّ عقلاء الناس لا يتوجهون ويختارون الفاضل أو المفضول مع وجود الأفضل ، وعليه فإنّ هذه الآية الشريفة يمكنها أن تكون دليلاً لإثبات إمامة أمير المؤمنين.

اعتراف أحد علماء السنّة

وقد ذكر أحد علماء السنّة أنه :

«أنتم الشيعة يمكنكم إثبات جميع اصول الدين التي تعتقدون بها بواسطة الروايات الموجودة في كتبنا ، لأن كتبنا ومصادرنا الروائية مليئة بالروايات التي تؤيد عقائدكم وآراءكم».

ثمّ أضاف يقول : «إنّ قدماءنا كانوا سطحيين وساذجين حيث كانوا ينقلون أيّة رواية تصل إليهم في كتبهم» (١).

ونحن نتعجب من هذا التناقض ، لأنهم يذكرون بالنسبة إلى كتبهم ومصادرهم وخاصّة «الصحاح الستة» على مستوى التعريف والثناء والمدح :

«إنّ روايات هذه الكتب منتخبة بدقّة كبيرة وجميع الروايات المذكورة فيها معتبرة لأنه أحياناً يتمُّ انتخاب عدد قليل من الروايات من بين ألف رواية» (٢).

__________________

(١) ما هو المراد من هذا الكلام؟ هل أن مرادهم هو أن هذه الروايات معتبرة إلّا أنه لا ينبغي ذكرها لأنها تخالف ذوق هؤلاء الأشخاص؟ أو أن هذه الروايات غير معتبرة أساساً؟ وفي هذه الصورة فما هي الضمانة لاعتبار سائر الأحاديث والروايات الواردة في كتب الصحاح؟!

(٢) يقول الإمام البخاري أحد أصحاب الصحاح الستة : «إنّ أحاديث هذا الكتاب (والتي تبلغ أكثر من سبعة

٢٣٤

ألا يتناقض هذا الكلام مع كلام ذلك العالم السنّي المذكور آنفاً؟ إنّ هذه الأشكال من التناقض هي نتيجة نوعية التفكير لدى الإنسان الذي يؤمن أوّلاً ثمّ يتوجه نحو الآيات والروايات الشريفة ويحاول إسقاط عقائده عليها ، ولو أن الإنسان حضر مقابل الآيات والروايات وجلس متتلمذاً عندها ومستوحياً من مضامينها ومرتوياً من منهلها فإنه سوف لا يواجه مثل هذا التناقض العجيب.

توصية الآية

الاتّباع العملي لأولياء الدين

إنّ بيان فضائل ومناقب الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وخصوصيّاتهم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية أمر جيّد وضروري ولكنه لا يكفي في مقام الاعتقاد والإيمان بل ينبغي على الإنسان أن يجعلهم اسوة وقدوة له في ممارساته وسلوكياته في حركة الحياة والواقع الاجتماعي ، وفي الآيات مورد البحث نقرأ ثلاثة امور بعنوان أنها أركان الدين ، وأن الإمام علي عليه‌السلام قد بلغ ما بلغ من المرتبة السامية بسبب حركته في خطّ هذه الأركان الثلاثة وهي : الإيمان ، الهجرة ، الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس. فإذا أردنا الاقتداء بالإمام علي عليه‌السلام وبأولياء الدين فلا بدّ من تجسيد هذه الاصول الثلاثة في حياتنا العملية وإحيائها في أعماق وجودنا وقلوبنا.

ومن أجل تقوية الإيمان في وجودنا هناك طريقان : الأوّل : مطالعة ودراسة الشيء الذي نؤمن به ، مثلاً لأجل تقوية إيماننا بالله وتعميقه في قلوبنا لا بدّ من النظر والتفكّر في أسرار عالم الخلقة والسعي إلى زيادة الآفاق العلمية في أسرار الكون وآيات الكتاب السماوي كما يحثّنا القرآن دائماً على ذلك ، والخلاصة هي أن تعميق الإيمان بأي شيء يحتاج إلى دراسة ذلك الشيء والانفتاح الفكري على تفاصيله.

__________________

آلاف حديثاً صحيحاً) قد استخلصها من بين ستمائة ألف رواية وفي مدّة ١٦ سنة» ـ انظر صحيح البخاري : ج ١ ، ترجمة الإمام البخاري ـ.

٢٣٥

الثاني : هو طريق بناء الذات وتهذيب النفس وتطهير القلب من شوائب التعلّقات الدنيوية ، لأن الإيمان نور يشرق على قلب الإنسان ، وكلّما كانت مرآة القلب صافية وشفافة انعكس النور عليها بصورة أفضل ، فلو كان القلب ملوثاً بالخطايا والذنوب فإنّ مرآة القلب لا تعكس نور الإيمان حينئذٍ بصورة جيّدة.

وأما بالنسبة إلى الهجرة فقد يتصور البعض أن هذا الأصل المهم في أجواء الدين السماوي خاصٌّ بالمسلمين في صدر الإسلام ، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة انتهى عهد الهجرة في حين أن روايات أهل البيت عليهم‌السلام تقرر خلاف هذا المطلب ، حيث نقرأ في الرواية الواردة عن الإمام علي عليه‌السلام قوله :

«الْهِجْرَةُ قائِمَةٌ عَلى حَدِّها الْاوَّل». (١)

وتأسيساً على هذا فإنّ الهجرة مستمرّة كالإيمان والجهاد إلى يوم القيامة ، والواجب على المسلمين أن يهاجروا في مختلف الظروف والأحوال ، وطبعاً ففي الكثير من الحالات يختلف شكل الهجرة ، ولذلك نقرأ قول الإمام علي عليه‌السلام :

«يَقُولُ الرَّجُلُ هاجَرْتُ وَلَمْ يُهاجِرْ ، انَّمَا الْمُهاجِرُ مَنْ هاجَرَ السَّيِّئاتِ وَلَمْ يَأْتِ بِها» (٢).

أجل ، فالمهاجر الحقيقي هو الشخص الذي ترك القبائح والرذائل والذنوب وتحرّك في خطّ الطاعة والعبودية والتقوى وهاجر من السيئات إلى الحسنات والأعمال الصالحة ، والمهاجر الواقعي هو الشخص الذي يهجر أصدقاء السوء ورفاق مجالس البطالين والملوثين بالذنوب ويبتعد عنهم ، الهجرة من المال الحرام ، من المقام الحرام ، من الذنوب ، واجبة ولازمة ، وبديهي أن هذا النمط من الهجرة لا يختصّ بالمسلمين في أوائل البعثة بل هو وظيفة جميع المسلمين إلى يوم القيامة.

وأمّا الأصل الثالث وهو الجهاد بالنفس والمال فذلك أيضاً مورد الابتلاء في كلّ عصر وزمان ، فالجهاد بالنفس والمال لا يقبل التعطيل والنسخ وخاصّة مع وجود الأعداء الحاقدين الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ)(٣) ، الأعداء

__________________

(١) ميزان الحكمة : ج ١٠ ، ص ٣٠٢ ، باب ٣٩٨٩ ، ح ٢٠٧٥٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٧ ، ص ٩٩.

(٣) سورة آل عمران : الآية ١١٨.

٢٣٦

الذين لا يلتزمون بأي مبدأ إنساني وأصل أخلاقي ومستعدون لارتكاب كلّ جناية وجريمة في سبيل المحافظة على منافعهم اللامشروعة ، ففي مقابل مثل هذا العدو الخطر ينبغي على المسلمين أن يكونوا مستعدين دائماً للتصدي له والجهاد ضده وأن يكونوا دائماً في حيوية ونشاط وحماسة ، ولهذا السبب فنحن نعتقد بأن الأشخاص الذين يتحركون على مستوى تضعيف أو إماتة روحية الشجاعة والجهاد والتصدي للظالمين في نفوس المسلمين بذريعة الألعاب الملوّثة أو حتّى التسليات الدنيوية الرخيصة فإنّ هؤلاء يقومون بخيانة كبيرة لبلدهم ولأنفسهم ولدينهم.

ربّنا ، زد في حرارة نور الإيمان في قلوبنا حتّى نتمكن بنور الإيمان أن نهاجر من أجواء الذنوب الظلمانية وننقذ أنفسنا والآخرين بسلاح الجهاد في سبيل الله.

بحثان

١ ـ لما ذا لم يرد اسم الإمام علي عليه‌السلام في القرآن؟

سؤال : إذا كان الإمام علي عليه‌السلام هو المنصوب من الله لأمر الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ـ كما تعتقدون بذلك وتسعون لإثبات هذا المطلب من خلال الآيات القرآنية ـ إذن فلما ذا لم يرد اسم الإمام علي بصراحة في القرآن الكريم حتّى ننتهي من كلِّ هذه الأبحاث والاختلافات؟

الجواب : نظراً إلى أن اسم «علي» لم يكن منحصراً بالإمام علي عليه‌السلام كما هو الحال في «أبو طالب» حيث لم تكن هذه الكنية منحصرة بوالده ، بل هناك العديد من الأشخاص بين العرب يسمون باسم «علي» و «أبو طالب» وعلى هذا الأساس لو ورد اسم «علي» بصراحة في القرآن الكريم فإن هؤلاء الأشخاص الذين لم يروق لهم قبول هذه الحقيقة سيتحركون بذرائع مختلفة إلى تطبيق هذا الاسم على شخص آخر ، ولهذا كان من الأفضل ذكر الصفات والخصائص المنحصرة بالإمام علي عليه‌السلام في القرآن الكريم وتعريفه للناس من هذا الطريق لكيلا يتم تطبيق هذه الصفات والخصائص على غيره من الأشخاص ، ولهذا اختار الله تعالى في القرآن الكريم هذا المنهج والسبيل لإرشاد الناس إلى الإمام علي عليه‌السلام بعنوانه وليّ المؤمنين

٢٣٧

وخليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل ، رغم أن الأشخاص الذين في قلوبهم مرض ويتحركون في خطّ الانحراف والزيغ يفسّرون هذه الآيات الكريمة بشكل آخر.

سؤال آخر : ورد في الحديث الشريف عن يونس بن عبد الرحمن قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : إن قوماً طالبوني باسم أمير المؤمنين في كتاب الله عزوجل ، فقلت لهم : من قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(١)

فقال : «صَدَقْتَ هُوَ هكَذا» (٢).

فهل أن هذه الرواية تتفق مع ما ذكرتم من عدم ذكر اسم الإمام علي عليه‌السلام صريحاً في القرآن الكريم؟

الجواب : بلا شكّ إنّ مفردة «عليّا» الواردة في الآية الشريفة هذه ليست اسم شخص معيّن (أي ليست اسم علم) بل هي وصف لكلمة «لسان» ، وأما الرواية المذكورة فغير معتبرة من حيث السند ، لأن أحد رواتها «أحمد بن محمّد السياري» وهو ضعيف جدّاً ، وهو الشخص الذي نقل الكثير من روايات تحريف القرآن ، ولهذا فالروايات التي يقع في سندها هذا الرجل غير مقبولة وغير معتبرة ، ويقول العلّامة الاردبيلي في شرح حاله : «هو رجل ضعيف وفاسد المذهب ورواياته فارغة وغير قابلة للاعتماد» (٣) وعلى هذا الأساس فالرواية أعلاه غير معتبرة.

٢ ـ لما ذا لم يقضِ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنافقين؟

سؤال : إنّ المنافقين وجّهوا بلا شكّ في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد رحلته ضربات قاسية للدعوة الإسلامية وللمجتمع الإسلامي وهم الذين تبنوا الانحراف الذي حصل في مسألة الخلافة والإمامة ، ولا شكّ أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف هؤلاء الأشخاص ويعلم بنفاقهم ، ومع الالتفات إلى هذا المعنى فلما ذا لم يتحرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حال حياته للقضاء

__________________

(١) سورة مريم : الآية ٥٠.

(٢) البرهان في تفسير القرآن : ج ٣ ، ص ١٤.

(٣) جامع الرواة : ج ١ ، ص ٦٧.

٢٣٨

عليهم ليضمن بذلك سلامة الدعوة الجديدة والامّة الإسلامية؟

الجواب : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أجاب على هذا السؤال في حديث شريف حيث قال :

«لو لا إنّي أكره أن يقال : إن محمّداً استعان بقوم حتّى إذا ظفر بعدوّه قتلهم ، لضربت أعناق قوم كثير» (١).

ولكن مع الالتفات إلى هذا الاتّهام الذي يفضي في الواقع إلى اهتزاز عقيدة الناس بالنبوّة والدين الجديد ، فمن أجل أن لا يثور هذا التوهم والتصور في أذهان الناس فإنّ النبي لم يحرك ساكناً ضد المنافقين بل كان يتحمل آذاهم ويصبر على مشاكساتهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ ، باب ٥ من أبواب حدّ المرتد ، ح ٣.

٢٣٩
٢٤٠