آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

التوسل في القرآن

ومضافاً إلى ما تقدّم فهناك آيات قرآنية عديدة تذكر مسألة التوسل بصراحة وإليك بعض النماذج والأمثلة على ذلك :

١ ـ نقرأ في الآية ٩٧ من سورة يوسف قوله تعالى :

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ)

عند ما وصل خبر يوسف وأنه في كامل الصحّة والعافية إلى أبيه واخوته تحرّك الأخوة لجبران خطئهم واشتباههم من موقع التوبة والاستغفار وجاءوا إلى أبيهم وتوسطوا إليه ليستغفر لهم الله تعالى وجعلوه واسطتهم إلى الله تعالى ليغفر لهم شنيع فعلتهم ، فأجابهم يعقوب بقوله :

(سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١)

وطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ أبناء يعقوب المذنبين توسلوا إلى أبيهم النبي وطلبوا منه أن يتوسط لهم إلى الله تعالى ليغفر لهم ويعفو عنهم ، وعليه فلا إشكال في أن نتوسل بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام أو القرآن الكريم أو المقدسات الاخرى ونجعلها واسطتنا إلى الله تعالى لطلب الفرج واستجابة الدعاء وأمثال ذلك.

٢ ـ ونقرأ في الآية ٦٤ من سورة النساء :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)

إنّ الله تعالى في هذه الآية الشريفة يعلّم الناس طريق التوسل ، وفي مقابل هاتين الآيتين من القرآن الكريم نرى أن الوهابيين يحرّمون ويمنعون التوسل ، فما هو المسوغ لهم لهذا المنع؟

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٩٨ ، والسبب في أن يعقوب لم ينفذ طلبهم في ذلك الوقت هو أن لكلّ شيء زمان خاص ، والدعاء قد يستجاب في بعض الأوقات أسرع من غيرها ، ولهذا أوكل يعقوب الدعاء لأبنائه إلى المستقبل ، وقد ورد في بعض الروايات أنه كان يريد أن يدعو الله لهم في ليلة الجمعة وهو الوقت المناسب جدّاً لاستجابة الدعاء ، والملفت للنظر أنه ورد في تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٤٩١ ، أن يعقوب كان يقصد الدعاء في ليلة الجمعة التي تصادف ليلة عاشوراء.

٢٠١

التوسل بالعظماء والأولياء بعد وفاتهم

إنّ الوهابيين يفتقدون إلى الجواب المنطقي في مقابل هذه الآيات القرآنية والبراهين العقلية ولذلك اضطروا إلى تعديل مواقفهم من مسألة التوسل وأجازوا التوسل بالنبي في حياته ومنعوه بعد وفاته.

إنّ هؤلاء لم يلتفتوا إلى لوازم هذا الرأي ، لأن ذلك يعني أن الشرك وفقاً لهذه العقيدة مباح في حياة النبي ولكنه حرام بعد وفاته ، وبعبارة اخرى أن لازم ذلك أن يكون الشرك على نحوين : ١ ـ الشرك المباح ، ٢ ـ الشرك المحرّم والممنوع.

فهل سمعتم عالماً ينطق بمثل هذا الكلام؟

هل سمعتم أحد المسلمين يقول بأن الشرك مباح في بعض الأحيان؟

إنّ بطلان الشرك بمثابة قانون عقلي كلّي لا يقبل الاستثناء ، ولكنّ الوهابيين هم طائفة متخلّفة فكرياً وعلمياً دون سائر المذاهب الإسلامية حيث لا يمكن قياسهم بعلماء دمشق ولا بعلماء الأزهر ولا بعلماء الشيعة وفضلاء الحوزات العلمية.

مضافاً إلى ذلك نقول : كيف اختلف الحال بين وجود النبي على قيد الحياة وبعد الوفاة؟

فرغم أن بدن النبي قد مات ودفن في التراب ولكن بدون شكّ أن روحه بعد خروجها من البدن الشريف ستكون أقوى على مستوى التأثير والإدراك.

والقرآن الكريم يقرر الحياة البرزخية للشهداء ويقول في الآية ١٦٩ من سورة آل عمران :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)

فعند ما يكون الشهداء أحياء بعد موتهم ويتناولون الطعام عند ربّهم كما تقول الآية التي بعدها أنهم يشهدون أعمال أحبتهم ورفقاءهم في هذه الحياة الدنيا ، فهل أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يتمتع بمقام أسمى بكثير من مقام الشهداء لا تكون له حياة برزخية؟

بلا شكّ أن النبي يعيش الحياة البرزخية في أعلى المستويات ، ولذلك نرى أن المسلمين في ختام كلِّ صلاة يسلمون عليه ويقولون :

«السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ».

٢٠٢

فلو لم يكن النبي حيّاً فلما ذا هذا السلام ، وعلى من يكون ، وما ذا يعني؟

النتيجة هي أن التوسل بالأولياء جائز في حال حياتهم وبعد موتهم ، ولا فرق هناك بين موت هؤلاء وحياتهم في هذه المسألة.

التوسل في الروايات

لقد ورد التوسل في روايات الفريقين الشيعة والسنّة بشكل واسع ، ونشير هنا إلى بعض هذه الروايات الواردة في مصادر أهل السنّة :

١ ـ ينقل البيهقي أحد علماء أهل السنّة عن أنس «الخادم الخاصّ للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله :

جاء رجل من الأعراب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنشد يقول :

اتَيْناكَ وَالْعُذْراءُ يُدْمِي لِبانَها

وَقَدْ شَغَلَتْ امُّ الصَّبِيَّ عَنِ الطِّفْلِ

وَلَيْسَ لَنا الّا الَيْكَ فِرَارُنَا

وَايْنَ فِرَارُ الْخَلْقِ الّا الى الرُّسُلِ

فعند ما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحال هذا الرجل المؤلمة تأثّر كثيراً وتوجّه إلى المسجد وهو يجرّ بردائه من شدّة الهمّ والحزن ، فصعد المنبر ورفع يديه للدعاء ، وما زال يدعو حتّى نزل المطر ونجى الناس من القحط (١).

فطبقاً لهذه الرواية فإنّ ذلك الأعرابي توسل في زمان حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، ولم يمنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك أو ينهاه.

٢ ـ ويورد البخاري في كتابه رواية في هذا المجال ، وهي أن الناس أصيبوا بالقحط في أيّام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاءوا إليه يشكون إليه حالهم ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزل المطر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لَوْ كانَ أَبُو طالِبٍ حَيّاً لَقَرَّتْ عَيْناهُ» (١).

__________________

(١) كشف الارتياب : ص ٣١٠ ، وللاطلاع على البحوث المتعلقة بصلاة الاستسقاء راجع كتابنا «تحقيق حول صلاة الاستسقاء».

٢٠٣

وهذه الجملة من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إشارة إلى ما كان من النبي قبل البعثة من دعاء أبي طالب لنزول المطر وكان النبي يومذاك رضيعاً ، فأخذه أبو طالب وأقسم على الله تعالى بحقّ هذا الطفل إلّا ما أنزلت علينا المطر. فاستجيب دعاؤه ونجا الناس من الهلاك والقحط ، ثمّ إن أبا طالب أنشد أبياتاً من الشعر مطلعها :

وَابْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمامُ بِوَجْهِهِ

ثَمالُ الْيَتامى عِصْمَةٌ لِلْأَرامِلِ (٢)

والخلاصة أن الناس طبقاً لهذه الرواية كانوا قبل البعثة وبعدها يتوسلون إلى الله تعالى بالنبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولن يتحرك النبي الأكرم لمنعهم من هذا العمل بل إنه أثنى عليه بحيث إنه طلب من البعض أن يقرءوا أشعار أبي طالب التي قالها بمناسبة واقعة الاستسقاء فتكفل الإمام علي عليه‌السلام بهذه المهمة.

٣ ـ قال السمهودي أحد كبار علماء أهل السنّة في كتابه «وفاء الوفاء» عن مالك أحد أئمّة المذاهب الأربعة لأهل السنّة : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(٣) ، ومدح قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(٤) ، وذمّ قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٥)

فقال منصور : هذا كان في حياته لا بعد مماته.

فقال مالك : «حُرْمَتُهُ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ حَيّاً». (٦)

__________________

(١) كشف الارتياب : ص ٣١٠.

(٢) كشف الارتياب : ص ٣١١.

(٣) سورة الحجرات : الآية ٢.

(٤) سورة الحجرات : الآية ٣.

(٥) سورة الحجرات : الآية ٤.

(٦) وفاء الوفاء : ج ١ ، ص ٤٢٢ نقلاً من كشف الارتياب : ص ٣١٧.

٢٠٤

وطبقاً لهذا الكلام فإن احترام النبي واجب في حال حياته وبعد مماته والتوسل به جائز أيضاً على أيّة حال.

٤ ـ وقد ذكر «ابن حجر» من علماء أهل السنّة المعروفين والإنسان المتعصب جدّاً في كتابه «الصواعق المحرقة» اعترافات مهمة لصالح الشيعة ، ومن تلك الاعترافات ما أورده من شعر الإمام الشافعي حيث يقول :

آلُ النَّبيِّ ذَريعَتي

وَهُمْ الَيْهِ وَسيِلَتِي

ارْجُو بِهِمْ اعْطى غَداً

بِيَدِ الْيُمْنى صَحيفَتِي (١)

النتيجة : أن التوسل بأولياء الدين والمقدّسات كالقرآن الكريم لا تتنافى إطلاقاً مع التوحيد الأفعالي ، وقد ورد التمجيد والترغيب في القرآن والروايات الشريفة للمسلمين لمثل هذا العمل.

لا تجوز العبادة لغير الله

سؤال : لقد قلتم أن العبادة خاصّة بالله تعالى ولا ينبغي عبادة غير الله لأن ذلك يحسب من الشرك في حين أننا نجد في بعض الآيات القرآنية أنها تتحدّث عن السجود لغير الله تعالى من قبيل :

١ ـ ما ورد في قصة آدم وحواء عند ما خلق الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له :

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٢)

فلو كانت العبادة لغير الله تعالى شرك فلما ذا ورد الأمر في هذه الآية الشريفة بالسجود لآدم؟

٢ ـ وفي سورة يوسف عند ما تحرك الاخوة مع الوالدين من الصحراء متوجهين إلى مصر بعد أن علموا بحياة يوسف ، حيث يحدّثنا القرآن الكريم عن اللحظة التي التقى فيها هؤلاء بالنبي يوسف وقال :

__________________

(١) الصواعق المحرقة نقلاً من كشف الارتياب : ص ٣١٩.

(٢) سورة الحجر : الآية ٣٠ وسورة ص : الآية ٧٣.

٢٠٥

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)(١)

فطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ أبناء يعقوب سجدوا ليوسف ، فلو كان السجود لغير الله شركاً ، فكيف نفسر ما ورد في هذه الآية الشريفة؟

٣ ـ عند ما ورد بنو إسرائيل بيت المقدّس فإنّ الآية تذكر هذه الواقعة وأن بني إسرائيل سجدوا عند ورودهم المعبد في بيت المقدّس كما نقرأ ذلك في الآية ٥٨ من سورة البقرة :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)

والخلاصة أن هذه الآيات الثلاث تتحدّث عن السجود لغير الله فكيف يتناغم ذلك مع التوحيد في العبادة؟

الجواب : تقدم أن حرمة الشرك وعدم جواز السجود لغير الله واختصاص العبادة بالله تعالى إنّما هو قانون كلّي لا يقبل الاستثناء ، فالشرك لا يمكن أن يتواءم مع التوحيد في أي مرتبة من مراتبه ، وعليه فإنّ السجود الوارد في الآيات المذكورة لا يعني العبادة بل هو سجود الشكر والتعظيم لله تعالى على نعمه ومواهبه العظيمة.

عند ما سجد الملائكة لآدم ففي الحقيقة أنهم سجدوا لله تعالى الذي خلق مثل هذا المخلوق العظيم ، إذن فالسجود في الواقع كان لله تعالى ولكن بسبب خلق آدم.

وهكذا في اخوة يوسف فإنهم سجدوا شكراً لله تعالى لأجل النعمة العظيمة التي أولاها الله تعالى لأخيهم يوسف ، ولأجل نجاتهم من الحياة الصعبة والشاقّة في صحراء كنعان ورؤيتهم أخيهم بعد سنوات من الفراق وبالتالي انتقالهم إلى مصر ليعيشوا حياة طيبة ومرفهة وكريمة ، فلأجل ذلك سجدوا شكراً لله تعالى ، كما هو الحال في بني إسرائيل الذين سجدوا لله تعالى لا لمسجد بيت المقدّس.

عند ما يقوم المسلمون والحجاج بأداء صلاة الجماعة حول الكعبة ويسجدون لله تعالى في صلاتهم هذه أمام بيت الله الحرام ، فهل معنى هذا أنهم سجدوا للكعبة ، أو أن أحداً من المسلمين لا يسجد للكعبة بل يسجد لله تعالى ويعبده وحده ولكن في مقابل الكعبة؟

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ١٠٠.

٢٠٦

وعلى هذا الأساس فإنّ السجود في جميع الموارد هو لله تعالى ، وفي الحقيقة هو مصداق بارز لعبادة الله رغم أن الدوافع قد تكون متفاوتة ومختلفة ، والنتيجة هي أن الآيات الثلاثة المذكورة آنفاً لا تعدُّ استثناءً من القاعدة الكليّة في توحيد العبادة.

٢٠٧
٢٠٨

الفصل الثالث

آيات الفضائل الخاصّة

بالإمام عليّ عليه‌السلام

آية ليلة المبيت

آية سقاية الحاج

آية النصرة

آية علم الكتاب

آية المؤذّن وآية الأذان

آية المحسنين

آية السابقون الأولون

آية المحبّة

آية السابقون

آية اذُن واعية

آية صالح المؤمنين

آية الإنذار والهداية

آية خير البريّة

آية الحكمة

٢٠٩
٢١٠

آية ليلة المبيت ١

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

«سورة البقرة / الآية ٢٠٧»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة المعروفة بآية «ليلة المبيت» تعتبر إحدى أهم الآيات الواردة في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي الفضيلة العظيمة التي لم تتحقق لأحد من المسلمين غير الإمام علي عليه‌السلام حيث تشير الآية الشريفة أعلاه إلى ما قام به الإمام علي في ليلة هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ومنامه في فراشه كما سيأتي توضيحه لاحقاً.

شأن النزول

يرى كثير من علماء الشيعة وأهل السنّة أن الآية مورد البحث نزلت في حقِّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، حيث ذكروا هذا الموضوع في كتبهم إلى درجة أن هذه الواقعة قد وصلت إلى حدّ التواتر ، أي أنها من الكثرة بحيث لا يمكن إنكارها.

وخلاصة قصة ليلة المبيت كما يلي :

عند ما أحسّ أعداء الإسلام ومشركو مكّة المعاندون بخطر الإسلام والدعوة السماوية بدءوا يتحركون على مستوى التآمر والتخطيط لقمع هذا الدين الجديد في المهد وطرحوا

٢١١

ثلاث خطط خطرة لمواجهة دعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : «إما أن نقتل هذا النبي ، أو نلقيه في السجن بحيث لا يتمكن أيُّ شخص من رؤيته والحديث معه ، أو نقوم بإبعاده عن أرض الحجاز» (١).

إنّ الشواهد التاريخية تشير إلى أنهم اختاروا الرأي الأوّل الذي هو أخطر الثلاثة ، واختاروا من أجل تجسيد هذه الفكرة على أرض الواقع الخارجي أربعين شخصاً من مختلف قبائل العرب يتصفون بالشجاعة والمهارة ليقوموا بمحاصرة بيت النبوّة ليلاً ثمّ يتمكنوا من قتل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا صنع هؤلاء الأشخاص وجاءوا ليلاً وأحاطوا ببيت النبوّة ثمّ تسلّقوا الجدار أو نفذوا من كوة فيه وانتظروا حتّى تحين الفرصة المناسبة لقتل النبي.

ولكنّ الله تعالى أخبر نبيَّه الكريم بواسطة الوحي بمؤامرة المشركين فعزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الخروج من مكّة ، ولكنه لتحقيق هذا الهدف والتخلّص من هذه المؤامرة الشيطانية ينبغي أن يقوم بأمرين :

الأوّل : أن يقوم بالتوجّه إلى خارج مكّة وفي الطريق المعاكس لطريق المدينة ، أي أنه بدلاً من أن يتوجّه شمالاً نحو المدينة فإنّه تحرك إلى الجنوب منها لكي لا يلتفت الأعداء إلى خروجه من مكّة وهجرته إلى المدينة وليمنعهم من ملاحقته.

الثاني : لا بدّ وأن يجد الشخص المناسب لينام في مكانه لإيهام الأعداء بعدم خروج النبي من البيت فيؤخرهم عن ملاحقته والقبض عليه.

ولهذا الغرض قال لعلي ابن أبي طالب عليه‌السلام : «اتشح ببردي الأخضر ونم على فراشي».

فقال الإمام علي عليه‌السلام : إذا نمت على فراشك فهل ستنجو من الخطر وتصل إلى المدينة بسلام؟ (٢)

فقال النبيّ : نعم يا عليّ ، فسجد الإمام علي عليه‌السلام شكراً لله تعالى ، ويقال أنها أول سجدة شكر كانت في الإسلام.

__________________

(١) وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الواقعة في الآية ٣٠ من سورة الأنفال في قوله تعالى «وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين».

(٢) هنا ينبغي الالتفات إلى أن الإمام علي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسأل عن الخطر الذي يهدد حياته هو ، بل كان همّه هو سلامة النبي ونجاته ، وعند ما اطمأن لسلامته رضي بالمبيت على فراش النبي بكل طيب خاطر.

٢١٢

وبعد أن وضع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً في فراشه خرج من مكّة متستّراً وتحرّك إلى جهة الجنوب على عكس مسير المدينة حتّى وصل إلى غار ثور ، وبعد أن يأس الأعداء من العثور عليه تحرّك إلى المدينة ووصل إليها بسلام.

لا شكّ أن ليلة المبيت كانت ليلة حسّاسة ومهمة جدّاً ومصيرية بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين وكان بطل هذه الليلة هو أمير المؤمنين عليه‌السلام وعند ما كان النبي متوجّهاً إلى المدينة أوحى الله تعالى إليه بهذه الآية محل البحث حيث تحدّثت هذه الآية عن إيثار وتضحية الإمام علي عليه‌السلام العظيمة.

اعترافات علماء أهل السنّة

رأينا آنفاً ما ورد في شأن نزول هذه الآية الشريفة ولا يختص ذلك بعلماء الشيعة بل نقله الكثير من علماء أهل السنّة ، ومنهم : «الطبري» (١) ، «ابن هشام» (٢) ، «الحلبي» (٣) ، «اليعقوبي» (٤) (وكلّهم من مشاهير مؤرّخي أهل السنّة) و «أحمد» (٥) من فقهاء أهل السنّة و «ابن الجوزي» (٦) ، و «ابن الصبّاغ المالكي» (٧).

والملفت للنظر ما أورده «أبو جعفر الإسكافي» الشارح المشهور لنهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ، حيث قال في هذا الصدد :

قد ثبت بالتّواتر حديث الفراش ... ولا يجحده إلّا مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة ... وقد روى المفسّرون كلّهم : إنّ قول الله تعالى : ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله انزلت في عليّ عليه‌السلام ليلة المبيت على الفراش (٨).

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٩٩ ـ ١٠١ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٢) سيرة ابن هشام : ج ٢ ، ص ٢٩١ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٣) السيرة الحلبيّة : ج ٢ ، ص ٢٩ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٩).

(٤) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٢٩ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٥) مسند أحمد : ج ١ ، ص ٣٤٨ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٦) تذكرة ابن الجوزي : ص ٢١ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٧) فصول ابن الصبّاغ المالكي : ص ٣٣ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٨) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٦١.

٢١٣

والنتيجة هي أن جميع علماء الإسلام من الشيعة والسنّة متّفقون على أن آية ليلة المبيت نزلت في شأن أمير المؤمنين عليه‌السلام وما قام به من تضحية وإيثار عظيم.

الشرح والتفسير :

التجارة الرابحة

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) فبعض الناس يضحّون بأنفسهم في سبيل مرضات الله والتقرّب إليه ، وكما تقدّم أن عليّ بن أبي طالب قام بهذا العمل العظيم وباع نفسه في تلك الليلة ابتغاء مرضات الله وكان المشتري هو الله تعالى ، وقيمة هذه البضاعة هو رضا الله تعالى.

(وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فهل يمكن أن يتصور مفهوم اللطف والرأفة أعلى من كون الله تعالى هو الذي يشتري روح الإنسان بأغلى ثمن؟

المعاملة مع الله

هناك ثلاث آيات في القرآن الكريم تتحدّث عن المعاملة مع الله تعالى ولا بأس بالإشارة إليها وإجراء مقارنة بين مضامينها :

الآية الاولى : ما ورد في سورة التوبة الآية ١١١ :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

في هذه المعاملة والتجارة العظيمة نرى أن الله تعالى من جهة هو المشتري ، والمؤمنون والمجاهدون هم البائع ، والبضاعة الموضوعة للتجارة هي نفوس المؤمنين وأرواحهم ، والثمن هو الجنّة ، واللطيف في الأمر أن سند أو وثيقة هذه المعاملة مكتوبة في ثلاث كتب سماوية معتبرة (القرآن والإنجيل والتوراة) ، وهذه المعاملة المباركة تحدّثت عنها هذه الآية الشريفة بأنها «فوز عظيم» وباركت للبائعين على هذه الصفقة ، والحقيقة أن هذه المعاملة والتجارة

٢١٤

عظيمة جدّاً ، لأن المشتري فيها يشتري ما يتعلّق به وما هو ملكه بأغلى الأثمان من البائع ، ألا تعتبر هذه المعاملة من قبيل «الفوز العظيم» ، ألا تستحق التبريك والتهنئة؟

الآية الثانية : ما ورد في الآيات ١٠ ـ ١٣ من سورة الصف من موضوع تجارة اخرى بين الله وعباده حيث نقرأ في هذه الآيات الأربع :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

في هذه المعاملة المربحة نجد أيضاً أن البائع هو المؤمنين ، والمشتري هو الله تعالى ، والبضاعة أو المبيع هو نفس روح الإنسان المؤمن ، وقيمتها غفران الذنوب ودخول الجنّة ، المساكن الطيبة فيها ، النصر القريب (فتح مكّة) ، وهكذا نرى أن الله تعالى يعبّر عن هذه المعاملة والتجارة الكبيرة بعبارة «الفوز العظيم» ويبارك ويهنئ هؤلاء المتاجرون.

الآية الثالثة : ما ورد في سورة البقرة الآية ١٠٧ (الآية محل البحث) ، وكما رأينا أن البائع هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والمشتري هو الله تعالى ، والبضاعة في هذه المعاملة هو روح عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والثمن هو رضا الله تعالى.

المقارنة بين المعاملات الثلاث

رأينا أن الآيات الكريمة تتحدّث عن ثلاث معاملات وردت في سورة التوبة ، الصف ، البقرة ، وقد تقدّم شرحاً لما ورد فيها ونجد أوجه للتشابه فيما بينها من قبيل أن الله تعالى في كلّ هذه المعاملات الثلاث هو المشتري ، والبائع هم المؤمنون ، والبضاعة مورد المعاملة هي أرواح المؤمنين وأنفسهم ، ولكن هنا تفاوت في قيمة هذه الأجناس في كلِّ واحدة منها ، فتارة يشتري الله تعالى نفوس المؤمنين في مقابل الجنّة ، واخرى يشتريها بثمن أعلى ، فمضافاً إلى الجنّة هناك المساكن الطيبة وغفران الذنوب والنصر الدنيوي ، ولكن في المعاملة الثالثة وهي الآية محل البحث (آية ليلة المبيت) نرى أعلى الأثمان والقيم ألا وهو رضا الله تعالى ،

٢١٥

وبديهي أن رضا الله تعالى لا يمكن قياسه مع الجنّة وأمثالها من المواهب الاخروية ، واللطيف أن هذا الثمن متناسب جدّاً مع روحية الإمام علي عليه‌السلام حيث نقرأ في كلماته الجذّابة يخاطب الله تعالى ويقول :

«إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك». (١)

مقارنة اخرى

بالرغم من أن الإمام علي عليه‌السلام كان يواجه خطراً كبيراً في ليلة المبيت ولكنه نام على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مسرور ولم يسمح للخوف أن يتسرب إلى نفسه ، وفي الصباح الباكر عند ما هجم الأعداء على بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورأوا بكامل الدهشة أن خطتهم قد أجهضت وأن النائم في الفراش هو عليّ بن أبي طالب ، فما كان منهم إلّا أن خاطبوا الإمام علي بكلمات موهنة ، فأجابهم من موقع الدفاع عن الدين والنبي بكلمات جميلة جدّاً تعكس شجاعة أمير المؤمنين وعقله الكبير وبأسه الشديد وسوف يأتي لاحقاً ما ورد في هذا الصدد إن شاء الله.

وأما أبو بكر فقد خرج مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتخلص من الخطر ولجأ إلى غار ثور ، وعند ما سمع صوت أقدام الأعداء الذين خرجوا من مكّة في أثر النبي ، اصفر لونه وملأ الخوف والرعب قلبه ووجوده بحيث يمكن إدراك ذلك بنظرة بسيطة إلى وجهه ، ولهذا بدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتسليته ليزيل بعض الوحشة والخوف الذي سيطر عليه ، وعليك أن تدرك مضمون هذه الحادثة من هذا المختصر.

جمال التعبير في آية ليلة المبيت

نقرأ في آيات سورة التوبة وسورة الصف قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) و (هَلْ أَدُلُّكُمْ

_________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٧ ، ص ١٨٦.

٢١٦

عَلى تِجارَةٍ) ففي هذه العبارات نفهم أن الله تعالى هو المشتري ، وهو الذي يرغّب البائعين إلى بيع متاعهم وبضاعتهم ، ولكننا نقرأ في آية ليلة المبيت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) ومعنى هذه العبارة أن البائع هنا يتقدّم بعرض بضاعته ويبتدأ بالمعاملة. ومن الواضح أن التعبير الأدبي في هذه الآية الشريفة أروع وألطف ، لأن الشخص الذي يقدم نفسه على طبق الإخلاص ويعرضها للبيع لا يجد في نفسه رغبة إلّا بعد ترغيب المشتري رغم أن عمله هذا لا يخلو من التقدير بلا شك.

مضافاً إلى ذلك فإنّ الآية محل البحث تبدأ بكلمة «مِنْ» التبعيضية في قوله «وَمِنَ النّاسِ» أي أن هذا العمل العظيم لا يتمكن من أداءه إلّا بعض الناس في حين أن الآيتين السابقتين تطرح مسألة المعاملة مع الله والمعاوضة بالجنّة والنجاة من النار في إطار عام وشامل «اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ».

ارتباط آية ليلة المبيت مع الآيات التي قبلها

إذا دققنا النظر في الآيات الثلاث قبل آية ليلة المبيت أدركنا عظمة عمل الإمام علي عليه‌السلام ومقامه الرفيع عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي ذلك يقول تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

أي أن بعض المنافقين الذين يتمتّعون بظاهر جميل وخادع عند ما يرونك يظهرون المحبّة والتملق ويتحدّثون بشكل تشعر فيه بالإعجاب في حين أن باطنهم شيء آخر.

(وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)

فإن الله تعالى عالم بما يخفي هؤلاء المنافقين المخادعين رغم أنهم يشهدون الله على ما في قلوبهم ، هؤلاء الأشخاص ذوو الظاهر الأنيق والكلام الجميل هم ألدّ (١) أعداء الإسلام وهم منافقون ، وتشير هذه الآيات إلى «الاخنس بن شريق» المنافق المعروف الذي يظهر من كلامه غير ما يبطن بحيث إنّ ظاهره وكلامه يجذب كلَّ مخاطب إليه لحسن بيانه وجمال

__________________

(١) كلمة «لدود» بمعنى شديد العداء ، و «ألدّ الخصام» تعني أشدّ الأعداء.

٢١٧

مظهره حيث كان يتظاهر بالقداسة والإيمان والتقوى ولكنه في الواقع شخصية منحطّة وسافلة ولا يعتقد بالله ولا برسوله إطلاقاً (١).

وفي الآية التي تليها يشير الله تعالى إلى واقع هذا الشخص «الأخنس» ونفاقه في حركة الحياة والواقع الاجتماعي :

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)

فمن علامات نفاق الأخنس وسائر المنافقين هو أنهم عند ما يخرجون من مجلسك يتحركون في حياتهم الفردية والاجتماعية من موقع الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل رغم علمهم بأن الله تعالى لا يحبُّ هذه الأعمال القبيحة (٢) ، وطبعاً هناك احتمال أن كلمة «تولّى» تعني الولاية والحكومة ، أي أن هؤلاء الأشخاص إذا استلموا زمام الامور وتولّوا أمر الحكومة والسلطة أفسدوا في الأرض وزرعوا بذور النزاعات والفساد والانحطاط وعملوا على تخريب المزارع وإهلاك الأنعام.

وقد ورد أنّ «الأخنس» جاء إلى منطقة في بلاد الإسلام وشرع في الإفساد وتخريب مزارع المسلمين في تلك المنطقة وقتل أغنامهم وحيواناتهم (٣) ، ولكنه عند ما جاء إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله شرع بالتملّق والتحدّث بكلمات معسولة خادعة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)

وعند ما يسعى المؤمن في نصيحة هؤلاء الأشخاص وتحذيرهم من مغبّة هذه الأعمال ويحثّهم على تقوى الله تعالى واجتناب الأعمال الإجرامية ، والخلاصة عند ما يتحرّك على مستوى أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فإن هؤلاء المنافقين ليس فقط لا يستمعون إلى

__________________

(١) التفسير الأمثل ، الآية مورد البحث.

(٢) هذه الآية الشريفة تقرر أن الإسلام قبل ١٤٠٠ عام كان يهتم بشكل خاصّ بالمحافظة على البيئة والطبيعة حيث يعبّر عن تخريب البيئة ب «الإفساد في الأرض» وجعل ذلك من علامات النفاق والعداوة للإسلام ، وتوجد في سائر الآيات القرآنية شواهد كثيرة على اهتمام الإسلام بحفظ الطبيعة.

(٣) التفسير الأمثل : ذيل الآية مورد البحث.

٢١٨

النصيحة بل يزدادون عناداً وغروراً وتعصّباً ويصرّون على أعمالهم الدنيئة من موقع العناد والتكبّر ، ومن الواضح أن مصير هؤلاء الأشخاص لا يكون سوى جهنم.

والخلاصة أن القرآن الكريم يصوّر لنا في هذه الآيات الثلاث عناد أعداء الإسلام وسلوكياتهم المنحرفة ، وعند ما نضع هذه الآيات إلى جانب آية ليلة المبيت فلا بدّ أن يتحول الكلام إلى استعراض أحبّ الأشخاص إلى الله وأكثرهم إيماناً وانشداداً للإسلام والمسلمين ، وعليه فإنّ الإمام علي الذي نزلت في حقّة آية ليلة المبيت وقدّم نفسه على طبق الإخلاص فداءً للنبي هو أحبّ الأشخاص إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبلا شكّ إنّ علاقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأشخاص لا تكون إلّا على أساس إيمانهم وحبّهم لله تعالى لا على أساس العواطف الساذجة والميول الدنيوية.

ارتباط آية ليلة المبيت بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام

سؤال : ما هي علاقة الآية الشريفة «ليلة المبيت» مع إمامة وخلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعنوانه أوّل خليفة بعد رسول الله وإمام المسلمين؟ وبعبارة اخرى إنه على فرض قبول أهل السنّة بأن الآية أعلاه نزلت في شأن علي بن أبي طالب ، ولكن كيف يمكن إثبات أن هذه الآية تدلُّ على خلافة وإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة؟

الجواب : رأينا في الأبحاث المتقدّمة أن الإمام علي عليه‌السلام يعتبر أشجع المسلمين وأكثرهم تضحية وإيثاراً وأخلصهم لله تعالى ، ومن جهة اخرى نعلم أن إمام المسلمين وخليفة رسول الله يجب أن يكون أعلم الناس وأشجعهم وأكثرهم إيماناً وإيثاراً ، وعلى هذا الأساس فإنه إذا كانت مسألة الإمامة والخلافة انتصابية ، أي أن الله تعالى هو الذي ينصب الخليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه مع وجود الإمام علي عليه‌السلام الذي يحوز على الشرائط المذكورة للإمامة ، فلا معنى لأن يختار الله شخصاً آخر غيره ويعمل على خلاف مقتضيات الحكمة الإلهية ، وإذا كانت هذه المسألة انتخابية (كما يعتقد الاخوة من أهل السنّة) فإنّ مقتضى العقل هو أن لا يختار المسلمون شخصاً آخر غير من تتوفر فيه هذه الصفات ، وعليه فإنّ انتخاب غير الإمام علي عليه‌السلام يكون على خلاف مقتضيات العقل والشرع.

٢١٩

الجواب عن بعض الشبهات

وقد نرى من البعض أنهم يسعون في تفسير الآية الشريفة بعيداً عن المفهوم منها والمدلول الحقيقي لها وذلك لما تحمل هذه الآية الشريفة من مضامين تتعلق بمسألة الخلافة والإمامة ، حتّى لا يتمكن أحد من الاستدلال بها على خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهنا نستعرض بعض الشبهات وعلامات الاستفهام ونجيب عنها :

١ ـ آية ليلة المبيت تتعلق بالآمرين بالمعروف

العلّامة الطبرسي وهو المفسّر الشيعي المعروف نقل رواية مرسلة عن أهل السنّة تتحدّث عن هذه الآية الشريفة وأنها نزلت في شأن من قتل في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (١) وعليه فإنّ الآية محل البحث لا ترتبط بشكل أو بآخر بخلافة أمير المؤمنين وإمامته.

الجواب : إن سياق آية ليلة المبيت يدلُّ على أن الآية المذكورة ليست واردة في شأن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، لأنه طبقاً لما تقدّم من الشرح والتفسير أن هناك خطر كبير يهدد الشخص مورد نظر الآية ، وهو الخطر الذي يصل إلى حدّ الموت والقتل ، ومثل هذا الخطر قلّما يتفق للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وعليه فإن سياق الآية الشريفة يوحي إلى أنها لا ترتبط بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مضافاً إلى أن الرواية المذكورة مرسلة وليست بحجّة.

٢ ـ إنّ الآية مورد البحث واردة في شأن أبي ذرّ

ويرى البعض أن الآية الشريفة واردة في شأن أبي ذرّ الغفاري (٢) الصحابي المعروف للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ترتبط بمسألة إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام وخلافته.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٠١.

(٢) اسم أبي ذر «جندب» واسم أبيه «جنادة» وقيل «السكن» ، وكان من كبار صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجلاً عظيماً وجليلاً ، ويعدّ من الأشخاص الذين لم يبايعوا أبا بكر. (مستدركات علم الرجال : ج ٢ ، ص ٢٤٠).

٢٢٠