آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

الجواب : أوّلاً : إنّ الشواهد والقرائن الموجودة في الآيات الشريفة لا يمكن تطبيقها على جميع الأبرار ، بل تنطبق على أبرار معينين ، مثلاً يستفاد من هذه الآيات أن الأبرار المقصودين فيها هم الذين نذروا لله تعالى وعملوا بذلك النذر وتحركوا من موقع الإيثار العظيم في إنفاقهم على المسكين واليتيم والأسير ، وعليه فإنّ الآيات محل البحث لا تستوعب الأبرار الذين لم يتصفوا بهذه الصفات كالنذر وأشباهه.

ثانياً : على فرض أن الآيات المذكورة عامّة وشاملة لجميع الأبرار ولكن بدون شك أنها شاملة لشأن نزولها أيضاً بل إنّ الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام من أبرز مصاديق الأبرار قطعاً.

والخلاصة إنّ آيات سورة الدهر تعد من مناقب أهل البيت عليهم‌السلام وفضائلهم ومن معالم أحقيتهم لمقام الإمامة والخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

توصيات الآية

١ ـ أهميّة إسداء المعونة إلى المحتاجين

إنّ المحور الأساس الذي تدور حوله الآيات الثمانية عشر في هذه السورة والذي استوجب كلّ هذه المثوبات العظيمة هو مسألة إسداء يد العون إلى المحتاجين والمحرومين ، وهذا يدلُّ بوضوح على أهميّة هذه المسألة في دائرة المفاهيم القرآنية وأن الله تعالى يولي أهمية خاصّة إلى هذا الموضوع ، فكلُّ من أراد الدخول تحت مظلّة عناية الله ورحمته الواسعة يجب أن يهتم بقضاء حوائج المحتاجين وإشباع جوعة الجائعين ورفع حرمان المحرومين ، ولو انه ارتفع في مدارج الكمال أكثر من ذلك وتحرّك من موقع الإيثار إلى المحتاجين فلا شكّ أنّ عناية الله ولطفه ورحمته ستشمل هذا الإنسان ، ومن أجل توضيح هذا الموضوع وبيان أهمية مساعدة المحرومين والمحتاجين نذكر روايتين في هذا المجال :

١ ـ يقول الإمام علي عليه‌السلام في كتابه ووصيته إلى ابنه الإمام الحسن عليه‌السلام :

وَاعْلَمْ أَنَّ امَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً ، الْمُخِفُّ فِيهَا احْسَنُ حَالاً مِنَ الْمُثْقِلِ ، وَالْمُبْطِئ عَلَيْهَا اقْبَحُ حَالاً مِنَ الْمُسْرِعِ ، وَانَّ مَهْبِطَكَ بِهَا لَا مَحَالَةَ امَّا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ ، فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ

١٨١

قَبْل نُزُولِكَ ، وَوَطِّىءِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ ، وَلَا إلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ (١).

وهكذا نرى أن أفضل وسيلة لعبور هذا المضيق الخطر والعقبة الكئود وأفضل زاد لسفر القيامة والورود في صحراء المحشر هو مساعدة الفقراء والمحتاجين والإحسان إليهم ، فهذا العمل في الحقيقة يشبه ما إذا دفعنا ما نحتاجه في صحراء المحشر إلى هؤلاء الفقراء والمساكين في الدنيا ليحملوه عنا ثمّ يعيدونه إلينا في ذلك اليوم العسير ، فهل هناك أفضل من هذه المعاملة المربحة؟

٢ ـ وينقل المحدّث الكليني وهو من كبار علماء الشيعة حديثاً في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال :

ثَلَاثٌ مَنْ اتَى اللهَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اوْجَبَ اللهُ لَهُ الْجَنَّةِ ؛ الْانْفاقُ مِنْ اقْتَارٍ (٢) ، وَالْبِشْرُ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ (٣) ، وَالْانْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ. (٤)

وهكذا ندرك أهمية أن يرى الإنسان حقّه وحقوق الآخرين بعين واحدة وينصف الناس من نفسه ، ولهذا ورد في رواية اخرى قوله عليه‌السلام :

انَّ اللهَ يُحِبُّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ الَّذِي يُحِبُّ لأِخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَيُكِرْهُ لَهُ مَا يُكْرِهُ لِنَفْسِهِ. (٥)

٢ ـ المعيار في العمل ليس كميّته

والشيء الآخر الذي يمكن أن نستوحيه من آيات سورة الدهر هي أن الإسلام يرى أن

__________________

(١) نهج البلاغة : الرسالة ٣١.

(٢) ورد في بعض الروايات أنه «إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة» (وسائل الشيعة : ج ٦ ، ص ٢٥٩).

(٣) وفي رواية : «صنائع المعروف وحسن البشر يكسبان المحبّة ويدخلان الجنّة» (الكافي : ج ٢ ، باب حسن البشر ، ح ٥.

(٤) الكافي : ج ٢ ، ص ١٠٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب حسن البشر ، ح ٢.

(٥) بحار الأنوار : ج ٢٧ ، ص ٨٩.

١٨٢

المعيار الصحيح للأعمال يكمن في كيفية العمل لا كميته ومقداره ، لأن جميع ما أنفقه هؤلاء الأولياء في هذه الاسرة الطاهرة لا يتجاوز عدّة كيلوغرامات من الشعير ، ولكن بما أن هذا العمل كان متوائماً مع الاخلاص وكان بدافع رضا الله تعالى فقط فإنّ هذا الدافع هو الذي رفع قدر ذلك العمل وترتبت عليه تلك المثوبات العظيمة التي وردت في هذه السورة ، فعنصر «الإخلاص» يحقّق معجزة في تغيير ماهيّة العمل ، فأحياناً يوصل قيمة العمل إلى ألف ضعف وأحياناً اخرى إلى مليون ضعف وثالثة إلى مليارد ضعف ، وقد يصل بالعمل أحياناً إلى ما يستوعب في قيمته جميع عبادات الجن والانس إلى يوم القيامة (١) ، وعلامة مثل هذا الاخلاص هي أن الإنسان الذي يتحرك في عمله من موقع الإخلاص لا يرى سوى الله تعالى في عمله هذا ولا يتوقع أجراً من أحد غيره بل لا يتوقع الشكر عليه ، وقد يصل الإنسان بدرجة من الإخلاص أن يتساوى عنده الشكر مع الإهانة فلا يفرح بالشكر ولا يتألم من السبّ والإهانة في مقابل هذا العمل ، فهنيئاً لمن يعيش هذا المقام وهذه الروحية المخلصة.

٣ ـ انعكاس آيات سورة الدهر في الأشعار

إنّ شأن نزول آيات سورة الدهر في الإمام علي عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام كان إلى درجة من الوضوح والبداهة حتّى أننا نجدها في أشعار الشعراء أيضاً ، حيث نقرأ في أشعار محمّد بن إدريس المطلبي الشافعي الذي هو من أئمّة أهل السنّة (٢) أنه قال هذه الأشعار في الإمام علي عليه‌السلام :

__________________

(١) مثلاً ورد في ضربة علي يوم الخندق عند ما قتل عمرو بن ود العامري أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«لضربة عليّ خير من عبادة الثقلين» ، وجاء في رواية اخرى :

«لضربة علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عمل امتي إلى يوم القيامة». (بحار الأنوار : ج ٣٩ ، ص ٢).

(٢) وكان يحبّ أهل البيت عليهم‌السلام حبّاً جماً ، وقد سرت هذه المحبّة منه إلى أتباعه إلى درجة أن المذهب الشافعي يعدّ من أقرب المذاهب إلى مذهبنا نحن الشيعة ، بخلاف المذاهب السنّية الاخرى ، كالوهابية ، بل إن هؤلاء لا يلتقون مع أيّ من المذاهب السنّية الاخرى ويتهمون الجميع بالشرك والبدعة ويتحركون معهم من موقع العداوة والنزاع الدائم.

١٨٣

إلام إلام وَحَتّى مَتى

اعاتَبُ فِي حُبِّ هذَا الْفَتى

وَهَلْ زُوِّجَتْ فاطِمُ غَيْرَهُ

وفِي غَيْرِهِ هَلْ أَتى «هَلْ أَتى»؟(١)

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٨.

١٨٤

آية التوبة لآدم ١٠

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

«سورة البقرة / الآية ٣٧»

أبعاد البحث

الآية الشريفة أعلاه تبين من جهة بعض زوايا قصة آدم عليه‌السلام ومن جهة اخرى تعتبر دليلاً مهماً على مشروعية التوسل وطلب الشفاعة ، ومن جهة ثالثة تتحدّث عن عنصر التوبة والإنابة إلى الله تعالى ، وتعدّ من آيات الفضائل للخمسة الطاهرين ومضافاً إلى الامور المذكورة آنفاً في هذه الآية الشريفة فهناك روايات واردة في كتب العامّة والخاصّة تشير إلى ارتباط هذه الآية الشريفة بأهل البيت عليهم‌السلام كما سيتّضح ذلك في طيّات البحث.

الشرح والتفسير :

التوبة والإنابة إلى الله تعالى

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) فبعد أن جرى ما جرى من وسوسة إبليس وإخراج آدم وحواء من الجنّة التفت آدم إلى أنه ظلم نفسه ، وبسبب وساوس الشيطان تمّ إخراجه من تلكم الأجواء المرفّهة وذلك النعيم العظيم حيث خرج بعدها إلى أجواء المشقّة والبلاء في الحياة الدنيا ، ثمّ إنّ آدم فكّر هنا وصمم على جبران الخطأ الذي صدر منه وتوجه

١٨٥

بكلِّ وجوده إلى الله تعالى في حالة من الندم الشديد والحسرة العظيمة ، فشمله لطف الله تعالى في هذا الحال كما تقول الآية الشريفة :

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

وأما ما هي هذه الكلمات وما هو المراد منها؟ فسيتّضح ذلك في المباحث اللاحقة.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة في الأصل بمعنى «الرجوع» ووردت في الآيات القرآنية بمعنى الرجوع من الذنب ، هذا فيما لو نسبت هذه الكلمة إلى الشخص المذنب ، ولكن أحياناً تنسب هذه الكلمة إلى الله تعالى وتعني حينئذٍ الرجوع بالرحمة على العبد ، أي الرحمة التي سلبت من العبد بسبب معصيته وارتكابه للذنب تعود إليه عند ما يتحرك هذا الإنسان في خطّ الطاعة والإنابة إلى الله تعالى.

وعلى أيّة حال فإنّ الجملة أعلاه «انَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ» هي السبب في قبول توبة آدم.

دروس من قصة آدم وحواء

ونستوحي دروساً مهمة من قصة آدم وحواء الواردة في العديد من الآيات القرآنية الكريمة (١) وتتضمن مفاهيم بنّاءة ومؤثرة في حياة الإنسان المعنوية والأخلاقية ينبغي الالتفات إليها :

١ ـ إنّ الله تعالى يقرّر جعل آدم بعنوانه خليفة الله في الأرض (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٢)

فما هي الشروط التي لا بدّ أن تتوفر في هذا الخليفة؟ وهل أن جميع أفراد البشر هم خلفاء الله ، أو أن هذا المقام السامي وهذا اللباس الفاخر لا يناله ولا يرتديه إلّا من اوتي حظاً عظيماً منهم؟

لا بدّ من التدبّر في الآيات الشريفة لمعرفة هذه الامور والمعارف المهمة.

__________________

(١) وردت قصة آدم وحواء بشكل مفصّل في سورة البقرة الآية ٣٠ فصاعداً ، وفي سورة الأعراف ، الآية ١١ فصاعداً ، وفي سورة طه ، الآية ١١٥ فصاعداً.

(٢) سورة البقرة : الآية ٣٠.

١٨٦

٢ ـ إنّ الملائكة سألوا الله تعالى من موقع الاستفهام لا من موقع الاعتراض : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)(١)

فمن أين علمت الملائكة بسوابق الإنسان وأنه سيرتكب الجرائم في الأرض؟

٣ ـ إنّ الله تعالى خاطب الملائكة بقوله (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) ثمّ إنه تعالى علّم الأسماء لآدم ثمّ سأل الملائكة عن هذه الأسماء فأظهروا جهلهم بها وعدم اطلاعهم عليها ، وهنا أمر الله تعالى آدم أن يعلمهم بالأسماء فعند ما علّمهم وعرّفهم بها أدرك الملائكة خطأهم واعترفوا بجهلهم وقصورهم ، فهنا قد يتساءل : ما هو علم الأسماء؟ ما ذا كان يتضمن العلم بأسرار الخلقة والكائنات بحيث رفع مقام آدم إلى تلك الدرجة السامية؟

٤ ـ ثمّ إنّ الله تعالى أمر جميع الملائكة بالسجود لآدم (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا)(٣) فكيف نال آدم ذلك المقام الرفيع بحيث أصبح مسجوداً لجميع الملائكة؟ ومن هنا ندرك التفاوت والفرق بين المذهب الذي يرفع من قدر الإنسان إلى ذلك المستوى الرفيع وبين المذاهب الأرضية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى القردة والحيوانات.

٥ ـ في بداية الخلقة سكن آدم وحواء الجنّة ، فأين كانت هذه الجنّة؟ هل كانت بستان من بساتين الدنيا ، أو أنها جنّة الآخرة؟ وفي هذه الصورة كيف تمّ إخراج آدم وحواء منها؟

٦ ـ كيف استطاع الشيطان خداع آدم؟ وبأي شكل تمكّن الشيطان من دفع آدم باتجاه التلوّث بالخطيئة وترك الأولى «أي العمل الذي تركه أولى من فعله»؟

٧ ـ عند ما أكل آدم من الشجرة الممنوعة فإنه وجد نفسه عرياناً وسقطت جميع ملابسه عنه ولهذا اضطر إلى التستر بأوراق الشجر فما ذا كانت الشجرة الممنوعة؟ ومن أين صنعت تلك الملابس وما هو جنسها ونوعيتها؟

٨ ـ عند ما وجد آدم نفسه عرياناً التفت إلى خدعة الشيطان وندم على فعله.

٩ ـ ولأجل جبران خطئه وجب عليه التوبة والإنابة إلى الله تعالى ، وينبغي عليه

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٣٠.

(٢) سورة البقرة : الآية ٣١.

(٣) سورة الأعراف : الآية ١١.

١٨٧

لتحقيق هذا الغرض أن يتقرب إلى الله تعالى بشخص معيّن فمن هو هذا الشخص؟

١٠ ـ ورغم أن توبة آدم قد قُبلت ولكنه اخرج من الجنّة وسكن في الأرض ، فهل أنه سكن الجنّة هو وزوجته بشكل مؤقت من البداية ، أو أن المقرر أن يخلّد فيها ولكنه بسبب ارتكابه لترك الأولى اخرج منها؟

إنّ النقاط العشرة المتقدّمة تحتاج جميعها إلى دراسة دقيقة وبحث وافر ومفصّل ، ولكننا هنا سنشير فقط إلى النقطة التاسعة منها بما يتناسب مع الآية مورد البحث ، أي مسألة توسل آدم في هذه الآية.

توسل النبي آدم

عند ما تم إسكان آدم وحواء في الجنّة أباح لهما الله تعالى الاستفادة من جميع النعم والمواهب فيها إلّا شجرة واحدة أمره بالابتعاد عنها وعدم تناول شيء منها ، وهكذا استمر آدم وحواء في حياتهما السعيدة في الجنّة ولم يقتربا من الشجرة الممنوعة ، ولكنّ الشيطان الذي تلقّى ضربة قاصمة عند خلق آدم وتمّ إخراجه من الجنّة وأصبح مورد اللعنة الأبدية كان يتحين الفرصة للانتقام من آدم ، ولهذا شرع بالوسوسة لآدم وحواء ليدفعهما نحو الشجرة الممنوعة والتلوّث بالخطيئة.

ونعلم أن الشيطان عند ما يوسوس للإنسان بالخطيئة فإنه لا يتقدم بالإنسان باقتراح ممارسة الذنب بصورة مباشرة بل يغطّي الذنب بأقنعة زائفة وبرّاقة وجذّابة بحيث إنّ الإنسان عند ما يتحرّك نحو الذنب يتصور أنه يقدم على عبادة ويؤدي وظيفته الشرعية كما يحدّثنا القرآن الكريم عن ملكة سبأ وقومها المشركين الذين كانوا يعبدون الشمس :

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ)(١)

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٢٤.

١٨٨

وعلى هذا الأساس تقدّم الشيطان في خداعه ووسوسته لآدم بالقول :

(هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ)(١)

إنّ الإنسان يطلب البقاء والخلود بفطرته ويفزع من الفناء والعدم ، والأشخاص الذين يعيشون الخوف من الموت فإنهم يتصورون أن الموت يعني الفناء والعدم ، ولكنّ المؤمنين وأتباع أهل البيت لا يرون الموت سوى قنطرة ينتقلون منها إلى عالم أكبر وأوسع ، ولذلك فلا يشعرون بالخوف من الموت.

وعلى أيّة حال فإنّ الشيطان وبهذه الحيلة والخدعة من أن الشجرة الممنوعة تورث البقاء والخلود في الجنّة استطاع إغفال آدم عن النهي الإلهي وجرّه إلى التناول من الشجرة ، ثمّ إنّ آدم أدرك خدعة الشيطان وندم بشدّة على ما صدر منه وأراد التوبة إلى الله والإنابة إليه ولكنه لم يكن يعرف طريق التوبة هذا ، فعلّمه الله تعالى كيفية التوبة والتوسل بأن ألقى إليه كلمات استخدمها آدم في عملية التوبة ، فكانت النتيجة أن قبل الله تعالى توبته وأعاده إلى مقامه الكريم لدى الله تعالى ، واستطاع آدم بهذه التوبة أن يوجّه ضربة قاصمة اخرى للشيطان الرجيم والعدو الرئيسي للإنسان.

ما ذا كانت الكلمات؟

أما المراد من «الكلمات» التي تلقّاها آدم من الله تعالى وتوسل بها إلى الله ليقبل توبته فهناك آراء مختلفة في تفسيرها ، ونكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاث نظريات منها :

١ ـ إنّ المراد من الكلمات هو ما ورد في الآية ٢٣ من سورة الاعراف في قوله تعالى:

(رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)

فعند ما نطق آدم وحواء بهذه الكلمات قبل الله تعالى توبتهما (٢).

٢ ـ إنّ المراد من الكلمات كما يرى «مجاهد» هي هذا الدعاء :

__________________

(١) سورة طه : الآية ١٢٠.

(٢) نقل هذا القول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : ج ١ ، ص ٨٩ عن علماء ومفسّرين مثل «الحسن» و «قتادة» و «عكرمة» و «سعيد بن جبير».

١٨٩

اللهُمَّ لا الهَ إلّا أنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي انَّكَ خَيْرُ الْغافِرينَ. اللهُمَّ لا الهَ إلّا أنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي ، انَّكَ انْتَ ارْحَمُ الرّاحِمِينَ. اللهُمَّ لا الهَ الّا انْتَ ، سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ، فَتُبْ عَلَيَّ انَّكَ انْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ. (١)

٣ ـ إنّ المراد من الكلمات هو : النبي محمّد ، الإمام عليّ ، فاطمة ، الحسن والحسين عليهم‌السلام أي أن آدم توسل إلى الله تعالى بهؤلاء الخمسة الطاهرين واستشفع إلى الله بهم فقبل الله تعالى توبته ببركتهم (٢).

وهناك أحاديث كثيرة وردت في مصادر الشيعة وأهل السنّة تؤيد النظرية الثالثة هذه ، رغم إمكانية الجمع بين النظريات الثلاث المذكورة آنفاً ولا منافاة فيما بينها ، أي أن آدم توسل بهؤلاء الخمسة الأطهار ، ولكنّ صيغة التوبة وردت على لسانه كما رأينا في النظرية الاولى والثانية.

وكما رأينا أن بعض علماء أهل السنّة رجّحوا النظرية الثالثة التي هي مورد اتفاق علماء الشيعة وأوردوا روايات تدلُّ على هذا المطلب ، نشير هنا إلى ثمانية منهم :

١ ـ العلّامة البيهقي في كتاب دلائل النبوّة (٣).

٢ ـ العلّامة ابن عساكر في المسند (٤).

٣ ـ العلّامة السيوطي في تفسير الدرّ المنثور (٥).

٤ ـ العلّامة السيوطي في جمع الجوامع (٦).

٥ ـ العلّامة الكاشفي في معارج النبوّة (٧).

__________________

(١) التبيان : ج ١ ، ص ١٦٩.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٨٩.

(٣) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٧٦.

(٤) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٧.

(٥) الدرّ المنثور : ج ١ ، ص ٦٠ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨).

(٦) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨.

(٧) معارج النبوّة : الركن ٢ ، ص ٩ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨).

١٩٠

٦ ـ العلّامة القندوزي في ينابيع المودّة (١).

٧ ـ العلّامة ابن المغازلي في المناقب (٢).

٨ ـ العلّامة النطنزي في الخصائص العلويّة (٣).

ونكتفي هنا بذكر عدّة نماذج من هذه الروايات الشريفة :

الف) ينقل ابن المغازلي عن ابن عبّاس قوله :

سُئِلَ رَسُولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عَنِ الْكَلِماتِ التي تَلَقّاهَا آدَمَ ، قال : سَألَهُ آدَمُ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ الّا ما تُبْتَ عَليّ فَتابَ عَلَيْهِ. (٤)

ب) وينقل ابن عساكر في مسنده عن الخليفة الثاني قوله :

قالَ آدَمُ : أَسألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الّا غَفَرْتَ لِي ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ وَلَوْ لا هُوَ ما خَلَقْتُكَ. (٥)

ورغم أن عمر بن الخطاب لم ينسب هذه الرواية إلى النبي الأكرم ولكنّ مثل هذه المفاهيم والمطالب لا يطلّع عليها غير النبي أو الإمام المعصوم عليهم‌السلام ولذلك فمن المسلّم أنه سمعها من نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ج) وينقل العلّامة النطنزي هذه الرواية في «الخصائص العلوية» :

إنَّ الْكَلِماتِ الَّتي تَلَقّاها آدَمُ مِنْ ربّه : اللهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ الّا تُبْتَ عَلَيْهِ فَتابَ اللهُ عَلَيْهِ. (٦)

وفي ذيل هذه الرواية ورد أنه عند ما قُبلت توبة آدم صنع آدم لنفسه خاتماً وكتب على فصه اسم نبي الإسلام بعنوان «رسول الله» واسم علي بن أبي طالب بعنوان «أمير المؤمنين».

__________________

(١) ينابيع المودّة : ص ٩٧ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٩).

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٧٧.

(٣) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨.

(٤) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٦.

(٥) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٧.

(٦) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨.

١٩١

الخلاصة أنه طبقاً للروايات الكثيرة الواردة في كتب الفريقين «وما ذكر آنفاً كانت نماذج من روايات كثيرة في هذا الباب» أن المراد من الكلمات التي توسل بها آدم إلى الله تعالى وقبلت توبته ببركة هذه الكلمات هم «الخمسة الأطهار» فهل أن هذا المقام السامي في عالم الوجود تحقّق لشخص آخر غير أهل البيت عليهم‌السلام؟

ألا تدلُّ هذه الفضيلة العظيمة على أن هؤلاء الأشخاص هم أفضل البشر على الإطلاق؟

إذا كان كذلك (وهو كذلك حتماً) وأراد الله تعالى أن يختار خليفة لنبيّه الكريم فهل يعقل أن تسمح حكمة الله تعالى بأن يكون أشخاص آخرون خلفاء لرسول الله مع وجود الشخص الأفضل؟

وإذا أراد الناس أن يختاروا لأنفسهم شخصاً بعنوانه إماماً وخليفة عليهم فهل يجيز العقل أن يختار العقلاء أشخاصاً آخرين مع وجود الأفضل منهم؟ والحكم إليكم.

هل أن التوسل مشروع؟

مع الأسف أن مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة ومقدّرات هاتين المدينتين المباركتين قد وقع بيد الوهابيين الذين يعيشون الاعتقادات الجافّة والخشنة ويرتدون ثياب القداسة الزائفة في مخالفتهم الشديدة لمسألة التوسل هذه ويمنعون المسلمين من زيارة قبر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والتوسل بمقامه وكرامته عند الله تعالى وكذلك زيارة قبور أئمّة البقيع الطاهرين عليهم‌السلام وسائر عظماء الإسلام المدفونين في البقيع ، فمن أين لهم الحقّ في تحميل عقائدهم الخشنة على سائر المسلمين حتّى على الكثير من أهل السنّة أيضاً؟

لو كان لهم مثل هذا الحقّ فلما ذا لا يتحركون لفرض كيفية الصلاة التي يعتقدون بها في وجوب التكتف على سائر المسلمين؟

هذه بعض الأسئلة وعلامات الاستفهام التي تراود كلّ مسلم يزور مكّة والمدينة ولا يجد جواباً لها ... أجل إن الوهابيين يخالفون بشدّة مسألة التوسل ويرون أنها تتنافى مع التوحيد وأنها من قبيل الشرك بالله تعالى! وقد حان الكلام لبحث مسألة التوسل ومشروعيته من خلال الآيات القرآنية وروايات المعصومين عليهم‌السلام.

١٩٢

أقسام التوسل

للتوسل أقسام مختلفة :

١ ـ تارةً يكون المخاطَب لنا هو النبي أو الإمام نفسه ، من قبيل ما ورد في دعاء التوسل حيث يخاطب الداعي كلُّ واحد من المعصومين فرداً فرداً ويطلب من هؤلاء الطاهرين أن يشفعوا له عند الله بما لديهم من الجاه والمقام والكرامة عنده ، ففي هذا النوع من التوسل نحن نطلب حاجتنا في الحقيقة من الله تعالى ونجعل هؤلاء المعصومين وسائط في هذا الطلب.

٢ ـ وتارةً اخرى يكون المخاطَب هو الله تعالى ، ولكنّ الداعي يخاطب الله تعالى بحقِّ الشخص الذي يعتبره وجيهاً عند الله ليضمن استجابة حاجته وطلبه كما توسل آدم إلى الله تعالى بالخمسة الطاهرين :

«اللهُمَّ يا حَميدُ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَيا عالِيُ بِحَقِّ عَلِيٍّ وَيا فاطِرُ بِحَقِّ فاطِمَةَ وَيا مُحْسِنُ بِحَقِّ الْحَسَنِ وَيا قَديمَ الْاحْسانِ بِحَقِّ الْحُسَيْنِ».

وفي هذا النحو من التوسل يطلب المتوسل حاجته من الله أيضاً ويجعل كرامة هؤلاء الأولياء واسطة لضمان الاستجابة.

٣ ـ وفي قسم ثالث يكون الله تعالى هو المخاطَب أيضاً ولكننا نقسم عليه بحقِّ الشخص الذي له وجاهة عند الله ليستجيب لنا دعاءنا ويقضي حاجتنا ، من قبيل أن يقال : إلهنا نقسم عليك بنبي الإسلام أو بالقرآن الكريم أو بغير ذلك من المقدّسات ، إلّا ما قضيت حاجتنا.

ولكنّ الوهابيين يحرّمون جميع أقسام وأنواع التوسل هذه ويعتبرونها نوعاً من الشرك ، وهنا نلفت النظر إلى بعض مقولات رموزهم وعلمائهم :

١ ـ يقول محمّد بن عبد الوهاب في كتابه «التوحيد» الذي ينبغي أن يسمّى بكتاب «الشرك» :

إنّ هذا الشّرك الأكبر (١) (أي التوسل).

__________________

(١) نقلاً من كشف الارتياب : ص ٣٠١.

١٩٣

٢ ـ يقول الصنعاني أحد علماء الوهابية أيضاً :

من توسّل بمخلوق فقد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحلّ اعتقاده. (١)

٣ ـ ويقول ابن تيمية المؤسس الحقيقي للفكر الوهابي :

من توسّل بعظيم عند الله ... فهذا من أفعال الكفّار والمشركين. (٢)

والخلاصة هي أن من يعتقد بمذهب الوهابية يرى أن أي نوع من التوسل هو شرك بالله تعالى وأن المتوسل منحرف عن الإسلام الحقيقي ، ولذلك يتحركون في مكّة والمدينة بذريعة «الشرك» و «البدعة» من موقع إلحاق الأذى وإيجاد المشاكل لحجاج بيت الله الحرام وزوار المدينة المنوّرة.

مقام التوحيد ومكانته السامية

ولأجل بيان هذه الحقيقة وهي أن التوسل لا يتنافى إطلاقاً مع التوحيد نرى من اللازم في البداية توضيح معنى التوحيد وبيان مقامه السامي في دائرة المعتقدات الإسلامية ، وباعتقادنا أن التوحيد هو أصل وأساس الدين ويلعب دوراً أساسياً في جميع الامور المتعلّقة بالدين والسلوك الديني ، إنّ الله تعالى واحد ، وجميع الأنبياء دعوا أقوامهم إلى شيء واحد ، وأن جميع الناس سوف يبعثون بعد الموت ، وأن الكعبة هي قبلة المسلمين ، والقرآن لدى جميع المسلمين واحد ، والخلاصة أن التوحيد يمثل الأصل والأساس لجميع اصول الدين وفروعه ، ولهذا فإنّ التوحيد ليس أصلاً من اصول الدين فقط بل يستوعب جميع اصول الدين وفروعه ، والتوحيد بمثابة خيط المسبحة الذي يربط جميع حباتها بحيث لو لا التوحيد لا يبقى للدين من معنى كما أنه لو لا خيط المسبحة لا يبقى معنى لوجود المسبحة ، وبالالتفات إلى هذا المعنى للتوحيد ومكانته العليا بين العقائد والمفاهيم الإسلامية فإننا نعتقد بأن كلّ أمر يتنافى مع التوحيد فهو مرفوض ومردود.

__________________

(١) تطهير الاعتقاد نقلاً من كشف الارتياب : ص ٣٠١.

(٢) كشف الارتياب : ص ٣٠٢.

١٩٤

أقسام التوحيد

للتوحيد أقسام ومراتب متعدّدة ، ونشير هنا إلى أربعة مراتب مهمّة للتوحيد :

١ ـ توحيد الذات : يعني الاعتقاد بأن الله تعالى واحد في ذاته ، وليس المراد بأنه واحد في العدد أي موجود واحد لا اثنين لأنه على أساس المعنى الأوّل للتوحيد أن الله واحد ، بمعنى أن الإنسان لا يتصور له شبيه ومثيل ، ولكن على المعنى الثاني يمكن تصور الشبيه والمثيل رغم انعدام الوجود الخارجي لهذا الشبيه.

وعلى هذا الأساس فإنّ الآية الاولى من سورة التوحيد (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تفسر بمعنى قوله تعالى في هذه السورة أيضاً (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فلا نظير له ولا شبيه ولا يمكن تصور النظير والشبيه له.

٢ ـ توحيد الصفات : فجميع صفات الله تعالى تعود إلى حقيقة واحدة ، فليست صفة العلم شيءٌ آخر غير القدرة ، والقدرة الإلهية أيضاً ليست شيئاً آخر غير الأزلية ، وهكذا سائر الصفات الاخرى تعود في الحقيقة على الذات ، ولكن بالنسبة إلى الإنسان فيمكن القول أن علمه في روحه ، وشجاعته وقدرته في عضلاته ، ورحمته في قلبه ، ولا يصحّ هذا القول بالنسبة إلى الله تعالى فإنّ ذاته المقدسة هي علم وقدرة وحياة وغير ذلك.

٣ ـ توحيد الأفعال : إنّ كلُّ فعل أو حركة أو ظاهرة في هذا العالم هي في الواقع من تجليّات الذات المقدسة ولا شيء بإمكانه أن يؤثر في عالم الوجود بدون إذنه ومشيئته «لا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ الَّا اللهُ» فعند ما تحرق النار شيئاً فإنّ ذلك بإذن الله ، ولذلك رأينا أن نار نمرود لم تستطع إحراق إبراهيم لأن الله تعالى لم يأذن لها بذلك ، وعند ما يطفئ الماء النار فذلك أيضاً بمشيئة الله ، وكلُّ ما نعمل من عمل فإن ذلك بإذن الله لأنه تعالى هو الذي أقدرنا على ذلك ومنحنا الاختيار والحرية والقدرة والعقل لنتصرف كيف ما نريد ، فكلُّ ذلك حصلنا عليه من الله تعالى ، وكلُّ حركة من حركاتنا تعود إلى ذاته المقدسة ، والخلاصة أن المؤثر للاستقلال هو الله تعالى وما بقي من الأسباب فليس لها قدرة على التأثير إلّا بمشيئة الله وإرادته.

٤ ـ توحيد العبادة : إنّ العبادة لا ينبغي أن تكون إلّا لله تعالى ولا يوجد موجود يليق

١٩٥

بالعبادة غير الله تعالى ، كما يشاهد من بعض الشيعة عند ما يدخلون المشاهد المشرّفة لأحد الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام فإنّهم يقبلون الأرض أو عتبة الباب ، فهو في الحقيقة من قبيل سجدة الشكر لله تعالى أنه وفقهم لزيارة أوليائه لا أنها سجود للإمام (والعياذ بالله) لأن الشيعة لا يعتقدون بأي موجود يستحق العبادة والسجود غير الله تعالى ولا يسجدون لغير الله ، ولذلك نوصي الشيعة أن يتركوا هذا العمل أيضاً أي سجدة الشكر أمام الضريح المقدّس دفعاً لهذا التوهم وألا يكون ذلك ذريعة بيد البعض ليتحركوا ضد الشيعة من موقع التهويل والاتهام ، وعلى أيّة حال فإنّ العبادة لا تكون إلّا لله تعالى.

هذه المراتب الأربع للتوحيد تعتبر المراتب الأصلية للتوحيد رغم وجود مراتب اخرى متفرعة عليها نظير : توحيد الحاكمية (١) ، توحيد الشارعية (٢) ، توحيد المالكية (٣) ، وأمثال ذلك (٤).

ومن هنا يتضح أن الإنسان المسلم إذا اعتقد بما ذكر أعلاه من حقيقة التوحيد فإنه كامل الإيمان وموحد في نظر الإسلام ، ولكن الوهابيين الذين يدّعون التوحيد ويرفضون الشرك لم يدركوا عمق هذه المراتب للتوحيد الواردة في تعاليم أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ولذلك فهم يتهمون الآخرين بالشرك دائماً.

الأشاعرة والتفسير الخاطئ للتوحيد الأفعالي

الأشاعرة وهم أحد مذاهب أهل السنّة عند ما لم يستوعبوا الفهم الصحيح للتوحيد

__________________

(١) المراد من توحيد الحاكمية هو أن تكون مشروعية الحكومات البشرية مستمدة من الله تعالى لا من الناس ، وحتّى عند ما يشترك الناس في الانتخابات ويختاروا لهم حاكماً ورئيساً فإن ذلك يقتبس مشروعيته من أمر الله تعالى.

(٢) «توحيد الشارعية» يعني أن المقنّن والمشرّع للقوانين هو الله تعالى ، فكلّ قانون ينتهي إلى القوانين الإلهية فهو مشروع.

(٣) «توحيد المالكية» يعني أن المالك في الحقيقة هو الله تعالى ، وأما ما يملكه الناس فهو في الحقيقة أمانة بأيديهم ، فكلّ ما لدينا في الحياة هو أمانة موقتة جعلها الله في اختيارنا لأيام معدودة.

(٤) للمزيد من التفاصيل حول أقسام التوحيد ، انظر : نفحات القرآن : ج ٤ ، للمؤلف.

١٩٦

الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وأن الإنسان مجبور على أفعاله ، لأنهم تصوروا إنّ الإنسان إذا كان مختاراً في أفعاله فإنّ ذلك يعني الشرك في دائرة التوحيد الأفعالي ، في حين أن هذه العقيدة (وهو الجبر) تثير علامات الاستفهام في كافة اصول العقيدة من النبوّة والقيامة والإمامة والعبادات التي أمر بها الإسلام.

والحقيقة أن الإنسان لو كان مخيّراً ومجبوراً في أفعاله وكان يعيش فقدان الإرادة والاختيار في حركته في الحياة فما معنى مؤاخذته ومساءلته يوم القيامة؟

كيف يمكننا توجيه عقاب المذنبين وثواب المطيعين في الحياة الآخرة؟ لأن كلاً من المطيع والعاصي كانا يتحركان في سلوكهما من دون اختيار وإرادة ، فلا المذنب اختار أن يكون مذنباً ولا المطيع اختار أن يكون مطيعاً ، فلما ذا إذن يستحق الأوّل العقوبة والثاني المثوبة؟

إذا قلنا بالجبر فلا ينبغي لأي محكمة أن تعاقب المجرم على جريمته لأنه مجبور حسب الفرض على ذلك.

هل يصحّ أن نعاقب النار على إحراقها لإنسان بريء؟

هل يعقل أن نحاكم البحر ونقضي عليه بالعقاب الصارم لأن إنساناً بريئاً غرق في مياهه؟

هل يمكننا محاكمة الكهرباء فيما لو أدّت إلى قتل شخص بريء؟

بديهي أن جواب هذه الأسئلة بالنفي وستكون مثل هذه المحاكمة مضحكة ومدعاة للسخرية ، وهكذا حال الإنسان المجبور على أفعاله فإنه يكون حاله حال الماء والنار والكهرباء فيما لو أقدم على ارتكاب جريمة.

والملفت للنظر أن أصحاب هذه النظرية يخالفون نظريتهم في مقام العمل والممارسة ، فلو أن أحداً صفعهم لرأيناهم يعترضون عليه ، ولو أنّ لصّاً دخل إلى بيوتهم وسرق منها شيئاً لقاموا بتقديمه إلى المحكمة ، في حين أن الإنسان إذا كان مجبوراً وفاقداً للإرادة فلا معنى للاعتراض والشكاية ، ولكننا نرى هذا التناقض بوضوح بين قول أصحاب عقيدة الجبر وبين أفعالهم وممارساتهم.

لعلّ القارئ العزيز يتصور أن هذه المطالب ما هي إلّا أفكار وتوهمات تجول في مدارات الذهن فقط من دون أن يكون لها رصيد واقعي من الأشخاص المؤيدين لها ، ولكن مع

١٩٧

الأسف فهناك الكثير من الأشخاص المغفلين الذين يتحركون في دائرة العقيدة والمذهب من موقع الدفاع الشديد عن هذه النظرية الباطلة وقد كتبوا في ذلك كتباً متنوعة.

أجل ، فإنّ هؤلاء الأشخاص عند ما لم يستطيعوا إدراك مغزى التوحيد الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وغفلوا عن أن الله تعالى هو الذي وهب للإنسان الاختيار والإرادة ، وعند ما نقول أن الإنسان حرٌّ ومختار في أفعاله فإنما ذلك على أساس أنّ كلّ هذه الامور متصلة بالله تعالى وبمشيئته ، وبذلك لا يكون هناك تقاطعاً بين اختيار الإنسان والتوحيد الأفعالي.

وقد ذهب الأشاعرة والجبرية إلى أكثر من ذلك ، فقد أنكروا عالم الأسباب والمسببات وقالوا : إنّ النار لا تحرق أبداً بل الله تعالى هو الذي يحرق ، وكذلك ذهبوا إلى أن الحجر لا يكسر الزجاج بل بمجرد أن يقترب منه ويمسه فإنّ الله تعالى يقوم بكسر الزجاج.

أجل ، فإنهم أنكروا مثل هذه الامور البديهية بسبب تفسيرهم الخاطئ للتوحيد الأفعالي ، ورأينا أن التوحيد الأفعالي لا يتنافى إطلاقاً مع اختيار الإنسان وإرادته ، وكذلك لا يتنافى مع عالم الأسباب لأن الإرادة السببية في عالم المخلوقات كلّها تعود في الأصل إلى الله تعالى ، فإنه هو الذي وهب الإنسان القدرة والقوّة والعقل والاختيار والإرادة ، وبما أن هذه الامور جميعاً من الله تعالى إذن يصحّ نسبتها جميعاً إليه رغم أن الإنسان لا يتجرد من المسئولية وحرية الانتخاب في دائرة الفكر والعقيدة والممارسة.

ولأجل توضيح المطلب أكثر نضرب لذلك مثالاً :

عند ما يدفع الأب بعض المال لولده لينفقه في مصارفه ومعيشته فالأب من جهة يمكنه في أي لحظة أن يأخذ هذا المال باعتباره ماله وملكه رغم أن الابن إذا اشترى بهذا المال شيئاً فإن المسئولية تقع عليه لا على الأب.

والنتيجة هي أن التوحيد الأفعالي لا يتنافى مع اختيار الإنسان وإرادته ولا ينبغي أن نتصور أن ذلك يدخلنا في دائرة الشرك.

هل ينسجم التوسل مع التوحيد؟

سؤال : لما ذا يتصور الوهابيون أن التوسل هو نوع من الشرك؟ وكيف يتقاطع التوسل

١٩٨

مع أحد مراتب التوحيد المتقدّمة؟ وهل أن التوسل يتنافى مع توحيد الذات ، أو مع توحيد الصفات؟

بلا شكّ أن التوسل لا يتنافى إطلاقاً مع توحيد الذات والصفات ، ولكن هل يثير التوسل مشكلة في دائرة العبادات والتوحيد الأفعالي؟ إذا كان الجواب بالإيجاب من قبل الوهابيين فينبغي القول بأنهم وقعوا في اشتباه كبير لأن الشيعة عند ما يتوسلون بالنبي أو الأئمّة المعصومين أو القرآن الكريم لا يرون أن ذلك من العبادة لهؤلاء إطلاقاً كما هو الحال في عبادة المشركين للأصنام والأوثان وتصورهم أنها شفعاء لهم عند الله ، بل نحن نطلب من هؤلاء الأولياء أن يتوسطوا لنا بما لديهم من جاه ومقام عند الله تعالى لحلِّ مشاكلنا واستجابة دعائنا ، وعلى هذا الأساس فإنّ الفرق بين التوسل وبين عبادة المشركين واضح جدّاً ، والشخص الذي يتصور أن توسل الشيعة إنما هو مثل عبادة المشركين للأوثان في الحقيقة هو إنسان بعيد عن الإنصاف وجادة الصواب.

مضافاً إلى ذلك أن التوسل بالخشب والحجر لا يعود على الإنسان إطلاقاً بالنفع والضرر ، وهذا المعنى لا يقبل القياس بالتوسل بالإمام والنبي والقرآن والتقرّب بهم إلى الله تعالى ، والنتيجة هي أن التوسل لا يتنافى مع توحيد الذات ولا توحيد الصفات ولا التوحيد في العبادة. إذن فما هو مقصود الوهابيين من قولهم بأن التوسل شرك؟ وما هي المرتبة من مراتب التوحيد التي يرون أنها تتنافى مع التوسل؟

الجواب : الظاهر أن مقصود الوهابيين من أن التوسل شرك هو أنه يتنافى مع التوحيد الأفعالي ، لأن الشخص الذي يتوسل بالنبي أو الإمام ويطلب منه حلّ مشكلته فإنه يرى أن غير الله تعالى له تأثير في عالم الخلق ، ونعلم أن التأثير منحصر بالله تعالى ولو أن الإنسان اعتقد بأن غير الله يمكنه أن يؤثر في عالم الوجود فهو نحو من أنحاء الشرك.

والجواب على هذا الكلام هو أن الشيعة لا يرون للنبي والإمام والقرآن تأثيراً في عالم الخلقة في عرض الله تعالى ، بل في طول القدرة الإلهية ، ولا تكون قدرتهم مؤثرة إلّا بإذن الله ومشيئته ، وهذا المعنى لا يتنافى إطلاقاً مع التوحيد الأفعالي ، نعم إذا قلنا إنّ النبي أو الإمام يؤثر في عالم الخلقة بالاستقلال «نعوذ بالله» فهذا هو الشرك ، ولكن لا أحد يقول بهذا المعنى ،

١٩٩

فعند ما نقول أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع لنا عند الله ويتوسط في حلِّ مشكلاتنا ليكون الله تعالى هو الذي يحلّ هذه المشكلة أو يشافي المريض أو يرزق الفقير فإنّ ذلك ليس من الشرك بل هو عين التوحيد.

وبما أن هذا المعنى انعكس في دائرة المفاهيم القرآنية بوضوح فينبغي القول بأن هؤلاء الوهابيين لا يقبلون بالقرآن أيضاً ، لأن الآية ٤٩ من سورة آل عمران تردّهم ردّاً قاطعاً وتبطل ادعاءاتهم الفارغة واتهاماتهم الباطلة وذلك في قوله تعالى :

(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)

فنرى أن عيسى عليه‌السلام يخاطب بني إسرائيل ويقول بانني بعثت رسولاً إليكم من قبل الله تعالى ومعي معجزة ، ثمّ يذكر ثلاث معجزات :

١ ـ (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ)

وهكذا نرى أن المسيح عليه‌السلام يقول بأنني أصنع لكم طيراً من طين ثمّ أنفخ فيه الحياة والروح فيتحول هذا التمثال الطيني إلى طائر حي بإذن الله ، أي إنني لا أستطيع التأثير في هذه الأشياء في عرض قدرة الله ومشيئته بل إن قدرتي وتأثيري إنّما هي بإذن الله وليست مهمتي سوى أن أنفخ في هذا التمثال ليتحول إلى طائر فيه حياة وشعور بإذن الله.

٢ ـ (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ)

المعجزة الاخرى لعيسى بن مريم عليه‌السلام هي شفاء المرضى المزمنين والأعمى والأبرص وإحياء الموتى ، وطبعاً كلّ هذه الأعمال إنّما أقوم بها بمشيئة الله وإذنه ولا تتصوروا أنني إله أو ابن إله فلست سوى وسيلة لتحقيق هذه الأغراض ، والمصدر الحقيقي هو الله تعالى ، فإحياء الموتى وشفاء المرضى كلّها صادرة من ساحته المقدسة.

٣ ـ (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)

العلامة الثالثة لنبوّة عيسى ابن مريم انه كان يخبرهم بما لديهم من أطعمة وأغذية في بيوتهم ويخبرهم بما يأكلون من طعام وشراب كلُّ ذلك بتعليم الله تعالى.

وهذه الآية الشريفة تمثل ردّاً حاسماً على من ينكر الولاية التكوينية أو ينكر مشروعية التوسل ويتصور بأن ذلك يتنافى مع التوحيد الأفعالي ، وعليه فإذا نسبنا هذه الأفعال إلى غير الله تعالى واعتقدنا بأن الإنسان يمكنه أن يؤثّر في عالم الأسباب والمسببات بإذن الله ومشيئته فإن هذا المعنى لا يتنافى مع التوحيد إطلاقاً.

٢٠٠