آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

فالناس بالنسبة إلى هذه الحالة معصومين لأن عقلهم لا يبيح لهم ارتكاب مثل هذا العمل الذي قبحه واضح وجلي ، إذن فجميع أفراد البشر يمكن أن تكون لهم عصمة جزئية بالنسبة إلى بعض الذنوب والأفعال.

ولو تقدّمنا خطوة إلى الامام رأينا أن بعض الناس قد تكون لهم عصمة جزئية بالنسبة إلى بعض الأفعال التي هي محال عادةً ، من قبيل أن من المحال أن يقوم رجل دين معروف في اليوم الواحد والعشرين من شهر رمضان المبارك وفي محراب المسجد وهو جالس على سجادة الصلاة بشرب الخمر أمام الناس ، فهذا من المحال ، ولكنه ليس من المحال العقلي بل إن صدوره من مثل هذا الشخص محال عادةً لأن عقله لا يسمح له بارتكاب مثل هذا العمل في هذا المكان وهذه الموقعيّة.

وأمّا المعصومون عليهم‌السلام فيتمتعون بمقام العصمة في مقابل جميع الذنوب والخطايا ، أي أنه رغم كونهم من الناحية العقلية يمكن صدور الذنب والمعصية منهم ، ولكنّه غير ممكن عادةً لأن عقلهم وتقواهم ومعرفتهم بالنسبة إلى جميع الذنوب والمعاصي كعلم الشخص العادي بالنسبة إلى الخروج عارياً إلى الشارع ، فكما أن الإنسان العادي معصوم من مثل هذا الذنب ، فالأئمّة المعصومون عليهم‌السلام أيضاً يتمتعون بمقام العصمة في مقابل جميع الذنوب ، فمن المحال عادةً أن يقوموا بارتكاب المعصية حتّى لو كان صدورها منهم ممكن عقلاً.

إذن فالعصمة هنا ليست أمراً جبرياً وليست بحيث تكون خارجة عن اختيار المعصومين عليهم‌السلام وإلّا فلا قيمة لمثل هذه الأعمال.

والنتيجة هي أن الإرادة الإلهية في هذه الآية الشريفة هي إرادة تكوينية ، والعصمة هنا لا تسلب الاختيار والإرادة من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ولا تجبرهم على ترك المعصية والذنوب بل إنّ هؤلاء الرجال لا يتوجهون نحو الذنوب بكمال حريتهم واختيارهم.

٣ ـ المراد من «الرِّجس»

الرجس بمعنى القبيح ، فتارةً يطلق على الامور المادية القبيحة ، واخرى على الامور المعنوية القبيحة ، وثالثة قد يطلق ويستعمل على كلا الأمرين كما ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

١٢١

ولكلِّ مورد من هذه الموارد الثلاثة في استعمال كلمة «الرجس» هناك شاهد من القرآن الكريم :

ألف ـ الرجس المعنوي : وهو ما ورد في الآية ١٢٥ من سورة التوبة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ)

فإنّ عبارة «في قلوبهم مرض» تطلق غالباً على المنافقين ومن كانوا يعيشون المرض القلبي حقيقةً في نفاقهم ، وإلّا فإنّ الإنسان السليم إمّا أن يقبل الأوامر الإلهية ويكون مسلماً أو يردّها ويكون كافراً ، ولكن أن يقبلها في الظاهر وفي عالم العمل والممارسة ولكنه لا يعتقد بها في قلبه ، فهذا هو النفاق وهو نوع من المرض القلبي.

وعلى أيّة حال فإنّ كلمة «الرجس» في هذه الآية الشريفة وردت بمعنى القبح المعنوي فإنّ النفاق نوع من القبح المعنوي لا القبح المادي الظاهري.

ب ـ الرجس الظاهري والمادي : وهو ما ورد في الآية ١٤٥ من سورة الأنعام :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ...)

ومن الواضح أن الرجس استخدم في هذه الآية الشريفة بمعنى القبح المادي والظاهري.

ج ـ الرجس المعنوي والمادي : ونقرأ في الآية ٩٠ من سورة المائدة أن «الرجس» استخدم بكلا المعنيين :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

وهنا نجد أن «الرجس» في هذه الآية الشريفة استخدم في كلا المعنيين المادي والمعنوي لأن الخمر له حكم النجاسة المادية ، ولكن القمار والأزلام ليست كذلك بل هي من الرجس المعنوي.

والنتيجة هي أن كلمة «الرجس» في الآيات الشريفة لها معنى عام وتشمل جميع القبائح الظاهرية والمعنوية والأخلاقية والعقائدية والجسمية والروحية ، وعليه فإنّ الله تعالى في آية التطهير وبإرادته التكوينية قد طهّر أهل البيت عليهم‌السلام من جميع أنواع الرجس بمعناه الواسع.

١٢٢

والدليل على أن الرجس استخدم في هذه الآية الشريفة في جميع أنواع الرجس المادي والمعنوي هو إطلاق هذه الكلمة ، أي أن هذه الكلمة لم ترد بالآية الشريفة مقيّدة بقيد أو مشروطة بشرط بل وردت بصورة مطلقة وبدون قيد أو شرط ، فلذلك تستوعب في مضمونها جميع أنواع الرجس.

(وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) هذه الجملة في الواقع تأكيد وتفسير للجملة السابقة (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فطبقاً لهذه الآية فإن «أهل البيت» طاهرون من الرجس وكلُّ عمل قبيح بالإرادة الإلهية التكوينية ، فهم يتمتعون بمقام العصمة المطلقة.

من هم أهل البيت؟

يستفاد من الآية الشريفة محل البحث أن «أهل البيت» يتمتعون بخصوصية تميّزهم عن سائر المسلمين وهي مقام الطهارة والعصمة المطلقة ، ولكن هنا يثار هذا السؤال وهو : من هم أهل البيت؟

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال هناك نظريات مختلفة في تفسير كلمة «أهل البيت» حيث نكتفي هنا بذكر أربعة منها :

١ ـ ما ذكره بعض المفسّرين من أهل السنّة من أن المراد من أهل البيت هنا زوجات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وطبقاً لهذا التفسير لا يكون الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام من أهل البيت ، وبعبارة اخرى أن أهل البيت هم الذين يرتبطون بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله برابطة سببية لا نسبية.

ودليلهم على هذه النظرية هي أن آية التطهير وردت ضمن آيات قرآنية تتعلق بنساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهناك آيات قبلها وبعدها تتحدّث عن نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسياق الآية يقتضي أن هذه الآية الشريفة أيضاً متعلّقة بنساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكن هذه النظرية باطلة لِدليلين :

الأوّل : أنه كما تقدّم سابقاً من أن الآيات الخمسة قبل آية التطهير وكذلك صدر الآية

__________________

(١) القرطبي ـ تفسير الفرقان : ج ٦ ، ص ٥٢٦٤ ، وقد نقل هذه النظرية عن «الزجاج».

١٢٣

٣٢ من سورة الأحزاب التي وقعت آية التطهير في ذيلها تتضمن ٢٥ ضمير وفعل وردت بصياغة المؤنث وفي الآية التي تليها «الآية ٣٣» هناك فعل وضمير يختص بالمؤنث أيضاً ، ولكن ضمائر وأفعال آية التطهير كلّها تعود إلى المذكر أو تشمل المذكر والمؤنث وعليه لا تكون شاملة لبعض نساء النبي لوحدهنّ قطعاً.

وعلى هذا الأساس ونظراً إلى أن القرآن هو كلام الله تعالى وقد ورد بأبلغ بيان وأفصح عبارة ، ولذلك لا بدّ أن يكون هناك سبب في تغيير الضمائر والأفعال حيث يكون المراد من أهل البيت هم أفراد غير نساء النبي بحيث إن الله تعالى غيّر من سياق الآية وجعلها متميّزة عن بقية الآيات الشريفة.

فطبقاً لهذا البيان يكون المراد من أهل البيت ليس نساء النبي قطعاً بل المقصود أشخاص آخرون لا بدّ من البحث عنهم من خلال الأدلّة والبراهين.

الثاني : هو أنه بالالتفات إلى ما تقدّم من شرح وتفسير آية التطهير فإنّ أهل البيت يتمتعون بمقام العصمة المطلقة ، ولا نجد من العلماء والمفسّرين من الشيعة والسنّة يقولون بعصمة نساء النبي ، فإن نساء النبي رغم أنهنَّ نساء مؤمنات ولكن لا يمكن ادعاء العصمة لهنّ بل يمكن ادعاء أن البعض قد ارتكبن ذنوب كبيرة ثبتت بالأدلة القاطعة وكنموذج على ذلك :

كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الخليفة الوحيد الذي كان يتمتع من جهة بالتنصيب من قبل الله تعالى ، ومن جهة اخرى تمت خلافته بانتخاب المسلمين وكان هذا الانتخاب يختلف عن الانتخابات السابقة للخلفاء ، لأن الخليفة الأوّل لم ينتخبه سوى عدّة قليلة في سقيفة بني ساعدة ثمّ أجبروا الناس على بيعته لاحقاً ، وأما الخليفة الثاني فتم نصبه من قبل الخليفة الأوّل ، والخليفة الثالث تولّى سدة الخلافة بثلاث آراء من الشورى الذين نصبهم الخليفة السابق ، ولكن الإمام علي عليه‌السلام واجه في مسألة بيعته للخلافة رغبة جميع الناس وازدحامهم وإصرارهم على البيعة رغم أن ذلك كان على خلاف ميله ورغبته حتّى أنه قال :

«حتّى لقد وُطئ الحسنان». (١)

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٣ (الخطبة الشقشقية).

١٢٤

ولكن بالرغم من ذلك فإننا نرى أن إحدى نساء النبيّ رفعت لواء المعارضة والمخالفة لهذا الخليفة ووصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ ونقضت بيعته وتحركت على خلاف وصية النبي لنساءه بأن لا يخرجن من بيوتهن ، فتحركت وخرجت من المدينة وركبت الجمل متوجهة إلى البصرة ، وعند ما وصلت إلى منطقة الحوأب وسمعت صوت الكلاب تذكرت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها وقالت : «إنا لله وإنا إليه راجعون! ردّوني ردّوني ، هذا الماء الذي قال لي رسول الله : لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب». (١)

عند ما سمعت باسم هذه المنطقة وقيل لها أنها تدعى «الحوأب» عزمت على الرجوع ولكن الأشخاص المتصدين لتثوير الناس للحرب منعوها من ذلك بشتّى الحيل واستمرت في مسيرها.

فهل أن مثل هذه المرأة التي خالفت كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفعت لواء المعارضة والحرب على خليفته بالحقّ وسببت في سفك دماء أكثر من ١٧ ألف نفر من المسلمين هل أنها معصومة وطاهرة من الرجس والمعصية؟

والملفت للنظر أن هذه المرأة هي قد اعترفت بخطئها بنفسها ، وفي مقام الجواب على من سألها عن سبب إقامتها هذه الحرب الضروس وأنه من المسئول عن كلّ هذه الدماء؟ أظهرت الأسف وقالت انه من التقدير الإلهي وتمنت أن هذه الواقعة لم تكن قد وقعت.

وعلى الرغم من أنها اعترفت بخطئها بحيث لا يمكن قبول أيّ توجيه وتبرير لذلك فإنّ بعض العلماء المتعصبين من أهل السنّة ذهبوا إلى أن ذلك نوع من الاجتهاد وأن عائشة لم تكن على خطأ في ذلك.

فهل يصحّ هذا الكلام والادعاء؟ هل أن الاجتهاد في مقابل خليفة النبيّ بالحقّ والذي تقول عنه عائشة «انه أفضل الناس وكلُّ من أبغضه كافر» اجتهاد صحيح؟ فإذا فتحنا هذه الذريعة وقبلنا بهذا التبرير في هذا المورد فلا يبقى أيُّ مذنب على وجه الأرض ، لأن كلّ خطأ له تبرير واجتهاد ويمكن للإنسان أن يحمل معصيته على سبيل الاجتهاد والاستنباط.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ١٨١.

١٢٥

والنتيجة هي أن حرب الجمل لم يكن لها أيُّ تبرير منطقي ، ولا شكّ في أنّ الأشخاص الذين تولّوا إشعال هذه الحرب من المذنبين والخاطئين ولا يمكن القول أنهم مطهرون من الرجس والذنب.

٢ ـ النظرية الثانية أن المراد من أهل البيت هنا الرسول الأكرم والإمام عليّ والحسن والحسين وفاطمة عليهم‌السلام ونساء النبي (١).

وطبقاً لهذه النظرية فإنّ أحد الإشكالات الثلاثة المتقدمة على النظرية الاولى (الإشكال الأوّل) سينتهي ، وبما أن مجموعة النساء والرجال في مقام الخطاب فانه يستعمل في حقّهم ضمير المذكّر وصحّ مجيء هذه الآية بضمير المذكر ، ولكن يبقى الإشكالين الآخرين (حيث تقدّم بيانهما في الردّ على النظرية الاولى) وعليه فإنّ هذه النظرية غير قابلة للقبول.

٣ ـ وذهب بعض آخر من المفسّرين إلى أن المراد من «أهل البيت» هم القاطنون في مكّة المكرّمة ، وقالوا إنّ المراد من «أهل البيت» هنا هو بيت الله الحرام والكعبة المعظمة ، وعليه فإنّ «أهل البيت» في هذه الآية هم أهالي مكّة.

وبطلان هذه النظرية واضح أيضاً حيث يرد عليها الإشكالين السابقين في النظرية الاولى ، مضافاً إلى أن أهالي مكّة لا يمتازون عن أهالي المدينة حتّى يقال بأن الله تعالى أذهب عنهم الرجس وطهّرهم من الذنب.

٤ ـ وهي نظرية جميع علماء الشيعة والتي لا يرد عليها أي من واحد من الإشكالات السابقة وهي أن المراد من «أهل البيت» في هذه الآية هم أشخاص معينون من أهل البيت ، أي الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وعلى رأسهم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والشاهد على صحّة هذه النظرية انه لا يرد أيّ من الإشكالات الثلاثة المذكورة في النظرية الاولى ، مضافاً إلى الروايات الكثيرة الدالّة على صحّة هذه النظرية الرابعة حيث يقول العلّامة الطباطبائي في «الميزان» بأن عدد هذه الروايات يبلغ أكثر من سبعين رواية (٢) ،

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ٢٥ ، ص ٢٠٩.

(٢) الميزان مترجم : ج ٣٢ ، ص ١٧٨.

١٢٦

والملفت للنظر أن أكثر هذه الروايات مذكورة في مصادر أهل السنّة المعتبرة ومنها :

١ ـ صحيح مسلم (١) الذي هو من أهم الكتب الحديثية المعتبرة لديهم.

٢ ـ صحيح الترمذي (٢) وهو أحد الصحاح الستة لدى أهل السنّة.

٣ ـ المستدرك على الصحيحين (٣).

٤ ـ السنن الكبرى للبيهقي (٤) هذا الكتاب رغم أنه يحوي غالباً الروايات الفقهية إلّا أنه يتضمن روايات غير فقهية.

٥ ـ الدرّ المنثور للسيوطي. (٥)

٦ ـ شواهد التنزيل (٦) للحاكم الحسكاني النيشابوري.

٧ ـ مسند أحمد (٧).

وعلى هذا الأساس فإن الروايات التي تفسر «أهل البيت» بالخمسة من آل الكساء هي من جهة أكثر عدداً ، ومن جهة اخرى مذكورة في الكتب المعتبرة جداً لدى أهل السنّة.

الفخر الرازي يتحدّث عن هذه الروايات ومقدارها وميزان اعتبارها ويعترف بهذه الحقيقة ويقول في ذيل تفسير آية المباهلة «الآية ٦١ من آل عمران» :

واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث (٨).

والنتيجة هي أن الروايات التي تفسر «أهل البيت» بهؤلاء الخمسة لا تقبل النقاش من حيث المقدار والاعتبار ، ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة من مجموع هذه الروايات ، وهي رواية الكساء.

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٨٨٣ ، ح ٢٤٢٤ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ١٤٣).

(٢) احقاق الحقّ : ج ٢ ، ص ٥٠٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين : ج ٢ ، ص ٤١٦ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٢ ص ٥٠٤).

(٤) السنن الكبرى : ج ٢ ص ١٤٩.

(٥) الدرّ المنثور : ج ٥ ، ص ١٩٨.

(٦) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ١٠ ـ ٩٢.

(٧) مسند أحمد : ج ١ ، ص ٣٣٠ ، وج ٤ ، ص ١٠٧ وج ٦ ، ص ٢٩٢ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ١٤٤).

(٨) تفسير الفخر الرازي : ج ٨ ، ص ٨٠.

١٢٧

هذه الرواية ذكرت في المصادر الحديثية على نحوين :

١ ـ بالتفصيل ٢ ـ باختصار.

أما حديث الكساء المفصّل والذي يُقرأ عادةً لشفاء المرضى وحل المشكلات فليس بحديث متواتر ، ولكن حديث الكساء المختصر متواتر في مضمونه حيث تقول الرواية :

«عن امّ سلمة (زوجة النبي) أن النبي كان في بيتها وجاءته فاطمة بالطعام ، فقال لها : ادع لي بعلك وابنيك. فجاءوا فتناولوا الطعام ثمّ نشر صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم الكساء وقال :

اللهُمَّ إنَّ هؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتي وَخاصَّتي اذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ ، فَنَزَلَ جَبْرَئيلُ (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

فقلت : يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال : إنَّكِ على خير» (١).

وفي حديث آخر نقلت هذه الواقعة عن عائشة أيضاً (٢).

والنتيجة أن أهل البيت طبقاً لهذه الروايات هم الخمسة من أهل الكساء.

سؤال : ما هي الحكمة من هذا العمل؟ ولما ذا أقدم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على ضمّ أهل بيته تحت الكساء وأن يقول هذه العبارة الجميلة؟ ولما ذا لم يأذن لُامّ سلمة وعائشة أن يدخلا تحت الكساء؟

الجواب : إنّ هدف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من كلّ هذه التشريفات والدقائق المحفوفة بهذه الواقعة هو أنه أراد أن يميّز أهل البيت ويعرّفهم للناس بحيث لا يبقى معه أيُّ غموض أو إبهام وحتّى لا يقول الأشخاص الذين يأتون بعد ذلك الزمان أن المراد من «أهل البيت» هم أشخاص آخرين.

ولهذا السبب فإنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتفِ بهذه التشريفات أيضاً بل طبقاً للرواية المذكورة في مصادر مختلفة منها «شواهد التنزيل» نقلاً عن أنس بن مالك الخادم الخاص لرسول الله تقول : أن رسول الله بعد هذه الحادثة كان يأتي كلّ يوم قبل أذان الصبح وقبل إقامة صلاة الجماعة إلى بيت عليّ وفاطمة ويقف أمام البيت ويكرر هذه العبارة :

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٤ و ٣١.

(٢) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٣٧ و ٣٨.

١٢٨

«الصَّلاةَ يا أَهْلَ الْبَيْتِ. (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

وهذا العمل استمر إلى ستة أشهر بلا انقطاع (١).

هذه الرواية أعلاه نقلت أيضاً عن أبي سعيد الخدري حيث يقول أيضاً :

«إنّ النبي الأكرم كان يعمل هذا العمل لمدّة ثمانية أشهر» (٢).

ولعلّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد استمر على هذا العمل أكثر من هذه المدّة ولكن أنس ابن مالك اقتصر على ستة أشهر وأبو سعيد الخدري اقتصر على ثمانية أشهر (٣).

وعليه فإنّ هدف النبي في فصل أهل البيت عن نسائه وتعيين المصداق الكامل والواضح لكلمة «أهل البيت» هو بيان هذه الحقيقة للمسلمين بشكل واضح وجلي بحيث لا نجد مورداً آخر قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتكرار عمل معيّن إلى هذه الدرجة ، فهل أن كلّ هذه التأكيدات والتوصيات والتوضيحات لا تكفي للقول بأن أهل البيت هم هؤلاء الخمسة؟ وهل من الصحيح أن نفسّر هذه الآية بتفسيرات بعيدة عن أجوائها؟

لما ذا يذهب البعض في مثل هذه القضية الواضحة كالشمس في رابعة النهار إلى مذاهب متفرقة ويوقعوا أنفسهم والآخرين في مزالق الضلالة والانحراف؟

الجواب على هذا السؤال واضح أيضاً ، وهو أن التفسير بالرأي والمسبوقات الفكرية لهؤلاء تشكل حجاباً سميكاً على بصيرتهم فلا يدركوا معه ما يخالف نظراتهم المسبقة حتّى وإن كانت كوضح الصبح أو لا يريدون أن يقبلوا بالحقيقة.

ربّنا! نسألك أن تأخذ بأيدينا في طريق الهداية والحقّ دائماً ولا تحرمنا من أنوار هدايتك لحظة واحدة.

إلهنا! جنبنا من الوقوع في التفسير بالرأي وخاصة بالنسبة إلى القرآن الكريم والمعارف الدينية وأعنّا بالبرهان القاطع على الوصول إلى الحقّ والحقيقة.

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ١١ و ١٢ و ١٣ و ١٤ و ١٥.

(٢) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٨.

(٣) وقد نقل عن أبي سعيد الخدري أن المدّة كانت ٩ أشهر (انظر : شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٩).

١٢٩

الجواب على الأسئلة

قد تثار بعض الأسئلة وعلامات الاستفهام حول آية التطهير ، حيث نستعرض هنا نماذج من هذه الأسئلة ونجيب عليها :

السؤال الأوّل : إنّ أكثر ما تدلُّ عليه آية التطهير هو عصمة أهل البيت ، أي الإمام علي ، وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وعلى رأسهم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الآية محل البحث لا ترتبط بمسألة الإمامة والولاية.

وبعبارة اخرى : إننا نبحث هنا عن الآيات الشريفة التي تدلُّ على ولاية وإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والآية المذكورة لا تدلُّ على هذا الأمر بل غاية ما تدلُّ عليه هو عصمة أهل البيت ، فلما ذا نستدلّ بهذه الآية الشريفة على الإمامة؟

الجواب : لو ثبت مقام العصمة لأهل البيت عليهم‌السلام فإنّ الإمامة سوف تثبت لهم أيضاً ، لأنه كما تقدّم أن الطاعة للإمام هي مطلقة وغير مقيّدة بقيد أو شرط ، ولا يمكن تحقق هذا المعنى من الطاعة إلّا لمن كان يتحلّى بمقام العصمة ، أي أن الإمام يجب أن يكون معصوماً ، ومن جهة اخرى فلو تقرر أن يكون الإمام منتخباً من الناس أو منصوباً من قبل غيره فإنّه مع وجود المعصوم لا ينبغي التمسّك بإطاعة غير المعصوم.

يقول تبارك وتعالى في الآية ١٢٤ من سورة البقرة في حديثه عن النبي إبراهيم عليه‌السلام عند ما نصبه الله تعالى إماماً للناس بعد أن نجح في الابتلاءات والامتحانات الصعبة وبعد أن كان يتحلّى بمقام النبوّة وكان من اولي العزم وخليلاً للرحمن ، فإنّ إبراهيم بعد أن نال مقام الإمامة طلب من الله تعالى استمرار الإمامة في ذرّيته (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فأجابه الله تعالى :

(لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)

ومن هنا نعلم أن العصمة جزءٌ لا يتجزأ من الإمامة ، والأشخاص الذين تلوثوا بالظلم لا يصلحون لهذا المقام الشريف حتّى لو كانوا قد انحرفوا وتلوثوا بالمعصية في أزمنة سابقة.

السؤال الثاني : سلمنا أن الإمام يجب أن يكون معصوماً ، ولكن هل يعني هذا أن كلّ معصوم إمام؟ ألم تكن فاطمة الزهراء عليها‌السلام معصومة ، إذن فلما ذا لم تكن إماماً؟

الجواب : إنّ العصمة بالنسبة إلى النساء لا تستلزم مقام الإمامة ، ولكنها بالنسبة إلى

١٣٠

الرجال هناك ملازمة بينهما ، ولهذا لا نجد معصوماً بين رجال العالم غير النبيّ والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام.

السؤال الثالث : تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ اختلاف الضمائر في آية التطهير مع الضمائر قبلها وبعدها والتي تتحدّث فيها الآية الشريفة عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو السبب في أن يكون المخاطب في آية التطهير غير نساء النبي ، في حين أننا نجد مثيلاً لهذا الاختلاف في الضمائر في قصة البشارة لإبراهيم عليه‌السلام بالولد في شيخوخته ، لأنّ المخاطب في الآية الشريفة هو زوجة النبيّ إبراهيم عليه‌السلام في قوله تعالى :

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(١) فطبقاً لهذه الآية أنّ المخاطب بضمير «عليكم» هو زوجة النبيّ إبراهيم.

الجواب : إنّ المخاطب في جملة «أتعجبين» هو زوجة إبراهيم فقط ، ولهذا ورد الفعل بصورة المفرد للمخاطب المؤنث ، ولكنّ المخاطب بكلمة «عليكم» هو جميع أفراد اسرة النبيّ إبراهيم من الزوج والزوجة ، في حين أن المخاطب في آية التطهير وطبقاً للأدلّة السابقة لا يمكن أن يكون نساء النبي لا بالاستقلال ولا بالانضمام إلى الخمسة أصحاب الكساء.

السؤال الرابع : إذا كان المخاطب في آية التطهير هو الخمسة من أصحاب الكساء فقط ، إذن فلما ذا وردت آية التطهير ضمن الآية التي تتحدّث عن نساء النبي؟

الجواب : إنّ آيات القرآن الكريم كما ذكر العلّامة الطباطبائي (٢) وآخرون لم تنزل في وقت واحد ، بل كانت الجمل المذكورة تنزل أحياناً في آية واحدة على فترات متباعدة ، حيث إنّ آيات القرآن نزلت بحسب الحاجة والحوادث الواقعة ، وعلى هذا الأساس فمن الممكن أن تكون الآية التي تتحدّث عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نزلت في فترة معيّنة ثمّ نزلت بعد ذلك آية التطهير وبعد طلب النبيّ الكريم المبني على طهارة أهل البيت ، وبعد ذلك نزلت آيات اخرى تتعلق بظروف خاصّة وحوادث معيّنة اخرى ، وعليه فلا يلزم من ذلك أن يكون هناك ارتباط وثيق بين آيات القرآن الكريم أجمع.

__________________

(١) سورة هود : الآية ٧٣.

(٢) الميزان ، ذيل الآية أعلاه.

١٣١

النتيجة : إن آية التطهير تدلُّ من جهة على عصمة الخمسة من أصحاب الكساء عليهم‌السلام ، وتدلُّ أيضاً على ولاية وإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من جهة اخرى.

١٣٢

آية المودة ٧

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

«سورة الشورى / الآية ٢٣»

أبعاد البحث

عند ما نستعرض آراء ونظرات علماء أهل السنّة ومفسّريهم حول هذه الآية نجد أنهم قد تورطوا في ظاهرة التفسير بالرأي نتيجة المسبوقات الفكرية والذهنية لديهم ، ولهذا نرى أن تفسيرهم لهذه الآية الشريفة عجيب وغريب جدّاً حيث سنتطرق إليه لاحقاً ، وأما علماء الشيعة فنجد لديهم تفسيراً واضحاً وجليّاً لهذه الآية الشريفة من خلال الاستيحاء من تعاليم أهل البيت عليهم‌السلام.

نظرة إلى الآيات السابقة

ونرى من اللازم لأجل توضيح المطلب في تفسير آية المودّة أن يكون لدينا بحث إجمالي حول الآية السابقة ، أي الآية ٢٢ من سورة الشورى ، وكذلك صدر آية المودّة الذي لم نذكره آنفاً.

تقول الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة عاقبة الظالمين تتطرق هذه الآية لذكر مستقبل

١٣٣

المسلمين الذين يتحركون من موقع الإيمان والعمل الصالح ولا يقنعون بمجرد الشهادة بالتوحيد ونبوّة النبي الأكرم بل يتحركون على مستوى الممارسة والعمل للإتيان بالخيرات والأعمال الصالحة ، وفي هذه الآية الشريفة وضمن بيان العاقبة الحسنة للمؤمنين هؤلاء تقرر ثلاثة أنواع مهمة من الثواب الاخروي المعدّ لهم :

١ ـ «فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ» فأوّل ثواب يحصل عليه هؤلاء المؤمنين في الآخرة هو دخولهم إلى الجنّة.

سؤال : أين تقع «روضات الجنّات»؟

الجواب : عند ما نستقري الآيات القرآنية فإننا لا نجد هذه العبارة سوى في آية ٢٢ من سورة الشورى ، والعرب يطلقون على الحدائق الطرية والبساتين النضرة كلمة «روضة» وجمعها «روضات».

وبالطبع أحياناً تطلق هذه الكلمة على محل اجتماع الماء ، ولكن المراد بكلمة «روضة» في هذه الآية هو المعنى الأوّل ، إذن فروضات الجنّات تعني بساتين الجنّة اليانعة.

سؤال : نظراً إلى أن جميع أماكن الجنّة ومناطقها على شكل بساتين وحدائق نضرة ويانعة ، فما معنى عبارة «في روضات الجنّات»؟

الجواب : يستفاد من العبارة أعلاه أنه مضافاً إلى دخولهم الجنّة فإنّ بساتين خاصّة تكون من نصيب هؤلاء المؤمنين.

والنتيجة هي أن أوّل ثواب وامتياز للمؤمنين الذين يعملون الصالحات هو «روضات الجنّات».

٢ ـ «لَهُمْ ما يَشاءُونَ» فإنّ المؤمنين الذين يعملون الصالحات مضافاً إلى الامتياز الأوّل وسكنهم في روضات الجنّات فإنّهم ينالون هناك كلّ ما يشاءون ، وفي الحقيقة أننا لا نجد مسألة يمكن أن تتصور أعلى من هذا المعنى بالنسبة إلى النعم المادية ، بحيث إن الإنسان ينال كلّ ما يريده ويطلبه.

٣ ـ «عِنْدَ رَبِّهِمْ» ويشمل هذا النِّعم المادية والمعنوية في الجنّة ، فمن حيث النِّعم المادية فقد تقدّم أن المؤمنين الذين عملوا الصالحات يعيشون في أحسن الأحوال ، ومن الجهة المعنوية

١٣٤

كذلك أيضاً لأنهم يعيشون مقام القرب الإلهي «عند ربّهم» وهو المقام الذي ذكر للشهداء في سورة آل عمران الآية ١٦٩ ، وأما المراد بعبارة «عند ربّهم» ، وما هي البركات المترتبة على هذا المقام؟ فغير معلوم لنا.

«ذلِكَ هُوَ الْفَضلُ الْكَبيرُ» فبما أن هؤلاء المؤمنين يعيشون في أفضل الحالات المادية والمعنوية في روضات الجنّات فلذلك عبّر الله تعالى عن هذا المقام بأنه «فضل كبير» ، وعند ما يطلق الله تعالى هذه الكلمة على نعمة وموهبة من المواهب الإلهية يتبيّن من ذلك عظمة هذه النعمة والموهبة بحيث تفوق حدّ التصور.

والنتيجة : أن معيار العبودية لله تعالى أمران : الإيمان والعمل الصالح ، وعليه فإنّ الامور الاخرى من قبيل العلم والثروة والقدرة والاعتبار الاجتماعي وأمثال ذلك لا تكون ذات قيمة إلّا إذا قيست بهذا المعيار وتحرّك الإنسان معها في خطّ الإيمان والعمل الصالح.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ففي هذه الآية الشريفة تكرر القول بأن الامور المذكورة سابقاً «روضات الجنّات» ، «لهم ما يشاءُون» و «عند ربّهم» هي مواهب يبشّر الله تعالى بها المؤمنين من ذوي الأعمال الصالحة لكي تساهم هذه البشارة في رفع ثقل الطاعة وتحمل المسئولية وتمنح الإنسان قوّة في خط التصدي للأهواء والشهوات.

ومع الالتفات إلى ما ذكرنا أعلاه حول الآية الشريفة ، نبدأ بشرح وتفسير آية المودّة :

الشرح والتفسير :

مودّة أهل البيت ، أجر الرسالة

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لا شكّ أن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله تحمّل في طريق إبلاغ الرسالة ونشر الدعوة السماوية ، أتعاباً كثيرة ومشقّات باهظة ولكنه بالرغم من ذلك لم يطلب أجراً مقابل هذه الأتعاب والمشقّات ، وعند ما جاءه بعض المسلمين وقالوا له : إذا كنت تشكو من فاقة ونقص مالي فإننا نضع بين يديك أموالنا بدون قيد أو شرط ، فنزلت الآية أعلاه (١)

__________________

(١) التفسير الأمثل : سورة الشورى ، الآية مورد البحث.

١٣٥

وأكدت على أن النبي لا يريد أجراً في مقابل أداء الرسالة وتبليغ الدعوة.

(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وهنا يستثني القرآن الكريم من الأجر شيئاً واحداً ، وهو أن نبي الإسلام لا يطلب من المسلمين شيئاً بعنوان أجر الرسالة إلّا «المودّة» لأقربائه وأرحامه.

والنتيجة هي أن نبي الإسلام لم يطلب شيئاً بعنوان أجر في مقابل أتعابه وزحماته للإسلام والمسلمين سوى أمراً واحداً وهو «مودّة أقربائه وأرحامه».

من هم القربى؟

إنّ جميع الأبحاث التي تدور حول هذه الآية الشريفة تتركز على كلمة «القربى» وتفسيرها ، فمن هم القربى في هذه الآية والذين طلب رسول الله من المسلمين مودّتهم ومحبّتهم بعنوان أجر الرسالة؟

بعض العلماء والمفسّرين مرّوا على هذه الآية مرور الكرام ولم يتعبوا أنفسهم في تدبّرها والتأمل فيها ، ولعلّ ذلك لأنهم لم يجدوا فيها انسجاماً مع تصوراتهم القبلية ومسبوقاتهم الفكرية ، في حين أن الآية الشريفة عميقة المغزى ، ولأجل أن ندرك عظمة هذه الآية بما فيها من معانٍ عميقة علينا أن نستوحي ونستعين لهذا الغرض من الآيات القرآنية الاخرى التي تتحدّث في هذه المسألة على لسان سائر الأنبياء عليهم‌السلام.

لو أمعنّا النظر في سورة الشعراء لرأينا أن مسألة أجر الرسالة قد طرحت قبل نبي الإسلام على لسان خمسة من الأنبياء العظام وهم : نوح ، هود ، صالح ، لوط ، وشعيب عليهم‌السلام ، ولكن هؤلاء الأنبياء لم يذكروا في استغنائهم عن الأجر مسألة المودّة في القربى ، حيث ذكروا جميعاً هذه المسألة بقولهم :

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)(١)

وهنا يثار هذا التساؤل : كيف لم يطلب هؤلاء الأنبياء أجراً في مقابل أداء الرسالة ولكن

__________________

(١) سورة الشعراء : الآيات ١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠. وقد ورد هذا المضمون في آيات اخرى من القرآن الكريم على لسان الأنبياء الكرام.

١٣٦

رسول الإسلام طلب الأجر عليها بعنوان «المودّة في القربى»؟

هل أنّ مقام هؤلاء الأنبياء أعلى من مقام نبي الإسلام؟

بلا شكّ أن محمّد المصطفى أفضل من جميع الأنبياء ، ولهذا ورد في القرآن الكريم أن كلُّ نبيٍّ من الأنبياء يأتي يوم القيامة شاهداً على امّته ولكنّ نبي الإسلام يأتي شاهداً على جميع هؤلاء الشهداء (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)(١)

والحقيقة أن هذه المسألة تزداد غموضاً وعمقاً ، فكيف يطلب نبي الإسلام الذي هو أفضل الأنبياء الإلهيين أجراً على عمله في حين أن جميع الأنبياء لم يطلبوا أجراً من أقوامهم؟

الحقيقة أن الآية الشريفة تحتاج إلى مزيد من البحث والدقّة والتدبّر ، رغم أن البعض قد تهاون في ذلك ومرّ عليها مرور الكرام ليمنع من يقظة الضمير ولئلّا يبتلى بعذاب الوجدان.

سؤال : ما هو غرض النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من طلب هذا الأجر؟ هل أنه يهدف من طلبه هذا إرضاء مصالحه الشخصية ، أو أنه يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق غايات مقدسة اخرى يعود نفعها على المسلمين أنفسهم؟

الجواب : وفي مقام الجواب على هذا السؤال نرى من الضروري أن نضع آيتين من القرآن الكريم إلى جانب آية المودّة لكي تفسّر الآيات بعضها بعضاً :

١ ـ نقرأ في الآية الشريفة ٤٧ من سورة سبأ :

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

هذه الآية الشريفة توضح بعض الإبهام في آية المودّة حيث يتّضح أن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطلب أجراً من قومه كما هو حال سائر الأنبياء ، إلّا أن مسألة «المودّة في القربى» في الحقيقة تعود للناس أنفسهم.

٢ ـ ونقرأ في الآية ٥٧ من سورة الفرقان والتي هي في الحقيقة مفسّرة للآية ٤٧ من سورة سبأ حيث تبيّن الفائدة والنفع من «المودّة في القربى» :

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٤١.

١٣٧

فالآية السابقة بيّنت على أن أجر الرسالة لم يكن بدافع المصلحة الشخصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يعود النفع فيها للناس ، وهذه الآية الشريفة تبيّن أن مسألة أجر الرسالة يستوحي مقوّماته من استمرار الأهداف الإلهية من الرسالة ، وفي الحقيقة أن النفع يعود إلى أصل الدين.

النتيجة هي أن مسألة «أجر الرسالة» لم يكن يقوم على أساس النفع الشخصي لنبي الإسلام بل كان النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كسائر الأنبياء في عدم طلبه الأجر الشخصي من الناس ، ولكنّ أجر الرسالة المذكور في آية المودّة هو في الحقيقة باعث على استمرار الرسالة ودوام الدين ، ومع الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أن «مودّة القربى» لها هذا الاعتبار الكبير بحيث تمثّل عاملاً مهماً لاستمرار الرسالة ، فهل يصحّ التعامل مع هذه الآية الشريفة من موقع عدم الاهتمام بالتدبّر فيها حذراً من انقلاب الآراء والأفكار المسبقة؟

تفسير «القربى» في نظر الشيعة

يتفق علماء الشيعة على أن المراد من «القربى» في هذه الآية الشريفة هم أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام ، ولا شكّ أن «الولاية» هي استمرار للرسالة وعدل النبوّة ، ولهذا فإنّ هذا الأجر «مودّة القربى» ينسجم مع الرسالة ، مضافاً إلى أن الولاية تقود الناس في خطّ الإيمان والتقوى والانفتاح على الله تعالى.

إذا فسّرنا آية المودّة وفقاً لما ذكره علماء الشيعة ومفسّروهم فسوف يتّضح جيداً المعنى الكامل في آية المودّة مضافاً إلى الآيات الاخرى المتعلقة بها ، وسوف يتبين أن الارتباط فيما بينها هو ارتباط منطقي وصحيح ، والملفت للنظر أن دعاء الندبة الذي هو في الحقيقة دورة كاملة من المعارف الإلهية المشحونة بالولاية يذكر في مضامينه الآيات الثلاث المذكورة آنفاً ، ويستنتج منها نتيجة مهمة ويتّضح أن الأئمّة هم الطرق والوسائل إلى الله تعالى والذين يقودون الناس إلى رحمة الله ورضوانه.

١٣٨

نظرات أهل السنّة في معنى «القربى»

وقد ذكر أهل السنّة تفاسير مختلفة لهذه المفردة القرآنية لا تنسجم كلّها مع الآية الشريفة ، وإليك بعض النماذج منها :

١ ـ قيل إن المراد من «القربى» هو محبة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومودتهم ولكن من دون الولاية والإمامة والخلافة ، أي الاكتفاء بالارتباط العاطفي والعلاقة الظاهرية فقط بأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكن هل يمثل هذا المعنى والمفهوم من المودّة عدلاً للرسالة؟

هل أن المحبة العاطفية فقط وبدون الولاية والإمامة يمكنها أن تكون أجراً للرسالة وبمثابة العدل لها؟

مضافاً إلى ذلك كيف يطلب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أجر الرسالة بالمعنى الذي ذكروه لها ، في حين أن جميع الأنبياء السابقين لم يطلبوا من أقوامهم مثل هذا الأجر بل كانوا يطلبون أجرهم من الله تعالى؟ وعليه فإنّ مثل هذا التفسير لا يمكن قبوله.

٢ ـ وذهب آخرون إلى أن المراد من «القربى» هو الأعمال الصالحة التي تقرب الإنسان من الله تعالى ، وعليه فإنّ «المودّة في القربى» تعني العشق والشغف بالأعمال الحسنة والرغبة في الصلاة ، الصوم ، الحجّ ، الجهاد ، صلة الرحم ، احترام الكبار وأمثال ذلك ، فهذه الأعمال الصالحة والسلوكيات الحسنة هي التي تمثل أجر الرسالة.

٣ ـ وذهب البعض إلى أن كلمة «في» الواردة في هذه العبارة بمعنى «اللام» ، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية هو «أن أجر رسالتي وما عملته في تبليغ الرسالة الإلهية لكم هو أن تحبونني لأنني من أرحامكم وأقرباءكم» ثمّ ذكروا شجرة النسب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتفاصيل ارتباطه النسبي مع قريش لبيان مقصودهم بحيث تبيّن أن جميع القبائل العربية يرتبطون بشكل أو بآخر مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في النسب.

ولكن هذا التفسير واضح البطلان لأنه :

أوّلاً : إن استعمال «في» بمعنى «اللام» قليل جداً ونادر في لغة العرب وليس هناك دليل وشاهد على أن المراد من العبارة المذكورة هو هذا المعنى.

١٣٩

ثانياً : إن محبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لوحدها لا تمثل عدل النبوّة والرسالة ويجب أن يكون أجر الرسالة متناسبة مع الرسالة نفسها.

فهل أن قوله «عليكم أن تحبونني ولا تؤذونني لأنني من أقربائكم» يمثل عدل الرسالة؟

ألا يكون مثل هذا التفسير باعثاً على هبوط المعنى السامي للآية الشريفة؟

٤ ـ والتفسير الآخر الذي هو أوهن من التفسير السابق هو أن يقال : إنّ المراد من الآية الشريفة هو «المودّة في قرباكم وأن أجر رسالة النبي هو أن تحبّوا أقرباءكم وأرحامكم».

الإنسان يجد في نفسه رغبة شديدة في عدم تصديق وجود مثل هذا التفسير لدى هؤلاء العلماء ، ولكنّ مع الأسف نجد البعض يصرّحون بذلك.

إنّ بطلان هذا الرأي هو أوضح من أن يحتاج إلى كلام ، فهل أنّ مودّة الأقرباء للإنسان المسلم تمثل عدل للرسالة؟ وهل أن مودّة الأقرباء تعتبر استمراراً للنبوّة؟

أجل ، عند ما نتعامل مع الآيات الشريفة بسذاجة وسطحية ونحكّم المسبوقات الفكرية عليها فسوف نبتلي بمثل هذه الأخطاء والتفاسير التعسفية.

فهل أن هذا التفسير والتفسير السابق يتناسب وينسجم مع الآية الشريفة ، أو أن كلّ إنسان له اطلاع قليل على لغة العرب وبلاغتهم سوف يلتفت إلى عدم انسجام مثل هذه التفاسير مع الآية الشريفة؟ ولهذا السبب فإنّ هؤلاء العلماء أنفسهم اعترفوا أن هذه التفاسير مجازية وغير حقيقية ، أو أنها من قبيل الاستثناء المنقطع وهو أيضاً بدوره نوع من المجاز.

لما ذا نفسّر الآية القرآنية بشكل يوقعنا في هوة المعاني المجازية وغير الحقيقية؟

لما ذا لا نفسر المودّة في القربى بمعنى الولاية والإمامة والذي ينسجم تماماً مع الآية محل البحث وسائر الآيات المتعلّقة بها؟

اعتراف مفروض

ومن عجائب الأيّام أن الكثير من مفسّري أهل السنّة رووا حديثاً مفصّلاً عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذيل هذه الآية الشريفة حول محبّة أهل البيت ومودتهم ، بحيث إنّ الإنسان

١٤٠