آيات الولاية في القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-32-6
الصفحات: ٣٧٦

مرض الاستفادة من هذا اللطف والمداراة وأمعنوا في توغلهم في أعمال الشر والجريمة ، ولكنّ استخدام اسلوب يجمع بين الخشونة والمداراة كلٌّ في موقعه المناسب بإمكانه أن يحلُّ الكثير من المشكلات ، ولذلك كان من اللازم استخدام «الشدّة» و «اللطافة» وأيضاً «العقوبة» و «التوبة».

ب) زمان نزول آيات سورة التوبة

إنّ الآيات الاولى من سورة التوبة نزلت في أواخر السنة التاسعة للهجرة يعني سنة واحدة قبل وفاة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطبقاً لما ذكره المفسّرون فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه السنة وعلى أساس التعليمات الواردة في هذه الآيات أمر الإمام علي عليه‌السلام (١) بالتوجه إلى مكّة في مراسم الحجّ والإعلان عن أربعة امور :

١ ـ أنه لا يحقّ بعد هذا العام وهو العام التاسع للهجرة أن يطوف بعض الناس وهم عراة.

سؤال : وهل أن البعض يطوف حول البيت عارياً إلى ذلك الزمان ولما ذا؟

الجواب : نعم فإن بعض الرجال وحتّى بعض النساء كانوا يطوفون حول البيت وهم عراة تماماً لأنّ أحد عقائد الوثنيين الخرافية هي أنه إذا طاف الشخص بثيابه يجب عليه أن يتصدّق بهذه الثياب على الفقير ، ولهذا السبب فإنّ الأشخاص الذين لم يكن لديهم سوى ثوب واحد كانوا يقومون باقتراض ثوب لهم من شخص آخر حين الطواف ويطوفون به لكي لا يشملهم الحكم المذكور. وأما الأشخاص الذين لم يتهيأ لهم اقتراض ثوب من شخص آخر ولا يرغبون في التصدّق بثوبهم كانوا يطوفون وهم عراة تماماً.

٢ ـ انه لا يحقّ للمشركين وعبّاد الأوثان الطواف بالكعبة بعد هذا العام.

سؤال : أليس الإسلام يرى الحرية في العقيدة ، إذن لما ذا منع أتباع سائر الأديان بالطواف حول الكعبة؟

__________________

(١) يتفق جميع المفسّرين والمؤرّخين تقريباً على أنه لما نزلت الآيات الاولى من سورة براءة وفيها الغاء للعهود مع المشركين ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في البداية أبا بكر بابلاغها إلى الناس في وقت الحجّ في مكّة ، ثمّ أخذها منه وسلّمها إلى علي عليه‌السلام وأمره بابلاغها في مراسم الحجّ (وتفصيل الواقعة التاريخية التي أراد البعض إخفاءها ، مذكورة في التفسير الأمثل : ج ٥ ، بداية سورة التوبة).

١٠١

الجواب : إنّ الإسلام يرى حرية المذاهب والأديان ولكن الشرك وعبادة الأوثان لا يحسب ديناً ومذهباً بل هو مجموعة من العقائد التي تقوم على أساس خرافي.

٣ ـ إنّ المسلمين يلتزمون بعهودهم ومواثيقهم مع المشركين إلى آخر المهلة المقررة في الميثاق ولكنهم بعد ذلك لا يقومون بتجديد هذا العهد والميثاق مع المشركين.

٤ ـ إنّ المشركين الذين لا تربطهم مع المسلمين رابطة عهد وميثاق سوف يُمهلون لمدّة أربعة أشهر لإصلاح عقائدهم ونبذ الشرك وعبادة الأوثان وإلّا فإنهم سيتعرضون لقتال المسلمين.

وعلى أيّة حال فانّ الآيات الاولى من سورة التوبة والتي وردت الإشارة إلى مضمونها نزلت في أواخر السنة التاسعة للهجرة ، ويحتمل قوياً أن بقية سورة البراءة ومنها هذه الآية محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة ، أي في السنة الأخيرة من عمر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعلى هذا الأساس فإنّ «آية الصادقين» نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبذلك عملت على تهيئة الأرضيّة اللازمة لولاية وخلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

الشرح والتفسير

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) نرى في هذه الآية الشريفة أن الله تعالى يخاطب المؤمنين والمسلمين ويأمرهم بأمرين :

الأوّل : أن يلتزموا بتقوى الله تعالى والتي تعدُّ أهم رأس مال المؤمن وميزان القرب من الله تعالى ، وكلّما ازدادت حالة التقوى في السالك إلى الله فإنه سيكون أقرب إلى الله تعالى ، وكلّما قلّ منسوب التقوى في الإنسان كان ذلك علامة على ابتعاده من الله تعالى حيث نقرأ في الآية ١٣ من سورة الحجرات :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

ونقرأ في الآية ٦٣ من سورة مريم أن التقوى هي بمثابة جواز عبور الإنسان على الصراط ودخوله الجنّة :

١٠٢

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)

فالتقوى في نظر الإسلام مهمة في عملية الصعود بالإنسان إلى مدارج الكمال وتعني أن يعيش الإنسان الخوف والخشية من الله تعالى بحيث يدفعه ذلك إلى اجتناب الذنوب ولا يحتاج معها إلى ضوابط خارجية.

الثاني : هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين في هذه الآية الشريفة أن يكونوا مع الصادقين.

من هم الصادقين؟

سؤال : هل أن المراد من «الصادقين» في هذه الآية الشريفة ، والذين أمر الله تعالى المسلمين باتباعهم هم أشخاص معيّنون ، أو أن المراد هو المعنى اللغوي لهذه الكلمة ، أي أن يتبع الإنسان كلُّ شخص صادق؟

الجواب : نحن نرى أن المراد من «الصادقين» في هذه الآية الشريفة ليس كلُّ إنسان صادق بل أفرادٌ مخصوصون ، والشاهد على ذلك وجود قرينتين في هذه الآية :

١ ـ أنه لو كان المراد من كلمة «الصادقين» هو المعنى العام لا الخاصّ فيجب أن يقول «كونوا من الصادقين» لا «مع الصادقين» لأن الواجب على جميع المسلمين أن يكونوا صادقين لا مجرد أن يكونوا مع الصادقين ، وعلى هذا الأساس يتّضح من وجوب اتباع الصادقين والكون معهم أن المراد بهم هم أشخاص معيّنون بحيث يجب على المسلمين إتباع هؤلاء الأشخاص.

٢ ـ والشاهد الآخر على هذا المعنى أن ظاهر الآية يدلّ على أن إتباع هؤلاء غير مقيّد بقيود أو شروط ، وعليه فإنّ إطلاق وجوب اتباعهم يدلُّ على ضرورة أن يكون هؤلاء الصادقون معصومين ومصونين من الخطأ والاشتباه والزلل لأنه لو لم يكونوا كذلك فلا يصحّ للمسلمين اتباعهم مطلقاً بل عليهم الابتعاد عنهم في حالات الزيغ والخطأ والمعصية.

وعلى هذا الأساس فبما أن وجوب اتباع «الصادقين» ورد بصورة مطلقة لزم أن يكون هؤلاء الصادقين أشخاصاً معينين ومعصومين من الخطأ والذنب ليتسنّى للآخرين اتباعهم بصورة مطلقة.

١٠٣

والنتيجة هي أنه إما أن يكون اتباع هؤلاء الصادقين ورد بصورة مطلقة فيكون «الصادقون» يراد بهم أشخاص معينون ، أو أن ترد كلمة «الصادقين» بصورة مطلقة وتشمل جميع من كان صادقاً فيلزم التقيد في اتباعهم ، ونظراً لما تقدّم من القرينتين في هذه الآية الشريفة فإنّ الاحتمال الأول هو الصحيح ، فعليه فإنّ كلمة «الصادقين» مقيّدة والاتّباع مطلق ، والمراد منه أشخاص معيّنين الذين يمكن للمسلمين اتّباعهم بصورة مطلقة.

نظرية علماء أهل السنّة

أما المفسّرون من أهل السنّة فقد انقسموا في تفسيرهم لهذه الآية إلى قسمين ، فبعضٌ لم يبحث هذه المسألة بصورة جيدة ولم يهتم لتفسير كلمة «الصادقين» فيها ومرّ عليها مرور الكرام.

وبعض آخر ذكر مطالب متنوعة في تفسيرها حتّى أنهم ذهبوا إلى أن «الصادقين» يجب أن يكونوا معصومين أيضاً لأنّ الاطاعة والإتباع ورد بصورة مطلقة ولا يصحّ ذلك إلّا باتّباع المعصوم ولكن مع ذلك فإنّ المسبوقات الفكرية والأحكام الذهنية لم تسمح لهؤلاء أن يصلوا إلى الحقيقة في تفسيرهم لهذه الآية.

الفخر الرازي من جملة المفسّرين من الطائفة الثانية فمضافاً إلى أنه يرى أن «الصادقين» يجب أن يكونوا معصومين يعتقد كذلك أن هذه الآية لا تختص بعصر نزول النصّ وزمان حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل في كلّ زمان يكون هناك شخص صادق معصوم في الامّة الإسلامية يجب على المسلمين إطاعته شرعاً.

ولكنه عند ما أراد تشخيص مصداق «الصادقين» تورط في مسبوقاته الذهنية وابتلى بالتفسير بالرأي وقال : «نحن نعترف بأنه لا بدّ من معصوم في كلّ زمان ، إلّا أنا نقول : ذلك المعصوم هو مجموع الامّة».

أي أن الامة الإسلامية لو اتفقت على رأي واحد في مسألة معيّنة فيجب على الجميع إتباع هذا الرأي ، والنتيجة هي أن قوله تعالى «كونوا مع الصادقين» هو أن يكون المسلمون في كلّ عصر وزمان يسيرون جنباً إلى جنب مع مجموع الامّة الإسلامية.

١٠٤

ولكننا نسأل من الفخر الرازي : هل أن هذا التفسير كان يتبادر إلى ذهن المسلمين في عصر نزول الوحي وفي أذهان الصحابة في وقت نزول الآية؟ وأساساً فإنّ مسألة «الإجماع» طرحت بعد قرون من عصر النزول فكيف يستنبط الفخر الرازي من هذه الآية «إجماع الامّة»؟

ولا شكّ أن هذا التفسير مجانب للصواب وأن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفهموا من كلمة «الصادقين» سوى عدّة من الأشخاص المعينين الذين يتمتعون بمقام العصمة.

وعلى هذا الأساس ، فلا شكّ في أن «الصادقين» يتمتعون بمقام العصمة من الذنوب والأخطاء ، هذا أوّلاً ...

وثانياً : أنهم موجودون في كلّ عصر وزمان ولا يختص وجودهم في زمان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثالثاً : أن عددهم معيّن ومحدد.

فالامور الثلاثة أعلاه تستفاد من نفس هذه الآية الشريفة كما مرّ تفصيل الكلام عنه آنفاً (١) ولكنّ مصداق «الصادقين» لا يتضح ويتبين من الآية نفسها بل لا بدّ من الاستفادة من الروايات الشريفة.

تفسير آية الصادقين بضميمة الآيات الاخرى

لو جلسنا في مقابل القرآن جلسة التلميذ وأبعدنا أذهاننا عن المسبوقات الذهنية والمذهبية وتدبرنا في آيات هذا الكتاب العظيم بإخلاص ورغبة صادقة فإنّ القرآن الكريم يعرّف لنا الصادقين في آيات اخرى حيث يقول تعالى في الآية ١٥ من سورة الحجرات :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ

__________________

(١) لو تخلّى الإنسان من قيود التعصّب والمسبوقات الذهنية وتدبّر في مفهوم الآية الشريفة والآيات المشابهة لها لحصل على نتائج جيدة ، ومن هؤلاء الأشخاص الدكتور التيجاني الذي كان من علماء أهل السنّة وقد اهتدى إلى الحقّ بعد التدبّر في الآية الشريفة وأمثالها وفي جوابه لمن سأله : لما ذا اخترت مذهب التشيع؟ كتب كتاباً باسم «لأكون مع الصادقين» حيث يدور البحث فيه حول الآية الشريفة المذكورة أعلاه.

١٠٥

وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)

فطبقاً لهذه الآية الشريفة فإن «الصادقين» مضافاً إلى إيمانهم بالله ورسوله أو إيمانهم بالمبدإ والنبوّة التي يشترك في هذه العقيدة جميع المسلمين فإنّهم يختصون بخصوصيات اخرى لا يشترك معهم سائر المسلمون :

١ ـ إنهم بعد الإيمان بالله ورسوله لم يعيشوا الريب والشك ولا للحظة واحدة بل كانوا يعيشون الإيمان واليقين الراسخ في جميع مراحل حياتهم.

٢ ـ والآخر أن هذا الإيمان المذكور لم ينحصر في عالم القلب واللسان فحسب ، بل إنّ آثاره تجلت بوضوح على مستوى الممارسة والعمل ، ولهذا فإنّهم يتحركون في جهادهم في سبيل الله من موقع القرب من الله وبدافع من طلب رضاه فقط لا بدوافع اخرى فيبذلون المال والأنفس في هذا السبيل.

ومع الالتفات إلى هاتين الخصوصيتين النادرتين يجب علينا التفتيش والفحص بين أصحاب الرسول الأكرم لنعثر على الشخص الذي يتمتّع بهذه الصفات والخصوصيات ويكون من الصادقين.

ولدى رجوعنا لتاريخ صدر الإسلام نصل إلى هذه الحقيقة ، وهي أن الشخص الوحيد الذي يتمتع بهذه الصفات هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لأن جميع حياته كانت مليئة بالجهاد بالمال والنفس ولم يشك أو يتردد طرفة عين في إيمانه وعقيدته.

ومن أجل إثبات هذه الحقيقة نذكر ثلاث وقائع مختلفة مما يذكره التاريخ الإسلامي عن حياة هذا الإمام وجهاده بالمال والنفس وإيمانه الراسخ بالله ورسوله :

١ ـ عند ما تحرك المشركون في مكّة للقضاء على الإسلام وتآمروا في كيفية الطريق إلى تحقيق هذه الغاية وصمّموا على تنفيذ مؤامرة قتل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومن أجل أن لا تقوم عشيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالانتقام من القاتل أو الاقتصاص منه قرّروا أن يقوم بهذه العملية عدّة أشخاص من جميع القبائل فاختاروا لذلك أربعين شخصاً من الأقوياء والشجعان في القبائل العربية ليهجموا على بيت النبوّة ليلاً وينفّذوا هذه العملية.

ولكنّ الله تعالى أخبر نبيّه الكريم بواسطة الوحي بهذه المؤامرة الخطيرة ، فقام النبي

١٠٦

لأجل التخلص من هذه المؤامرة بالهجرة إلى المدينة ولكن من أجل أن لا يلتفت الأعداء إلى غيبته لزم أن يختار شخصاً شجاعاً مستعداً للموت لينام على فراش النبي في الليلة المقررة فكان أن اختار النبي الإمام علي عليه‌السلام لهذه المهمة.

وطبقاً للروايات (١) الواردة في هذه الحادثة فإن رسول الله قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام عندها : إنني قد امرت أن اهاجر إلى المدينة ولكنّ هناك أربعين رجلاً مسلّحاً من أربعين قبيلة يحاصرون هذا البيت وينتظرون طلوع الفجر ليهجموا على هذا البيت ويقتلونني فهل أنت يا عليّ مستعد لتنام في فراشي لأتمكن من التحرك نحو المدينة؟

فأجاب علي عليه‌السلام الذي ملأ قلبه العشق للنبيّ وللرسالة ولم يتردد أو يشك لحظة في إيمانه وعقيدته : «يا رسول الله إذا أنا نمت في فراشك فهل تصل سالماً إلى المدينة؟»

كان هذا السؤال مهماً جداً بالنسبة إلى الإمام علي عليه‌السلام فلم يسأل عن مصيره هو والخطر المحدق به في هذه الليلة بل كان فكره مشغولاً فقط بسلامة معشوقه وحبيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم سأصل سالماً إن شاء الله.

فوقع الإمام علي عليه‌السلام من فوره على الأرض ساجداً لله تعالى سجدة الشكر على سلامة الرسول ولعلّ هذه كانت أوّل سجدة شكر في الإسلام.

فهل نجد شخصاً غير علي ابن أبي طالب يعيش العشق والحبّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذه الدرجة؟

نحن بدورنا نعشق هذا الإمام ونتّبع في عقيدتنا وسلوكنا هذا الإنسان الكامل.

وهكذا نام الإمام علي عليه‌السلام في فراش النبي ووصل النبي سالماً إلى المدينة فلما أصبح الصباح هجم الأعداء على بيت النبي فنهض الإمام علي عليه‌السلام عند ما سمع الضجة من فراشه ، فوجد الأعداء أن هذا النائم ليس هو مرادهم ومقصودهم فسألوا عليّاً : أين محمّد؟

وبدون أن تتخلل ذرة من الخوف في قلب الإمام علي عليه‌السلام قال : وهل أودعتموه عندي حتّى تسألوا هذا السؤال؟

__________________

(١) وقد أورد المحدّث القمّي رحمه‌الله في منتهى الآمال : ج ١ ، ص ١١٠ هذه الواقعة بالتفصيل.

١٠٧

فبهت الأعداء من هذا الجواب القاطع لهذا الشاب الشجاع وقالوا فيما بينهم : إنّ هذا شاب ساذج وقد خدعه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلمّا سمع الإمام علي عليه‌السلام ذلك منهم وأنهم يتحدّثون عن حبيبه بلغة الإهانة قال لهم كلاماً جميلاً جداً وعميق المغزى :

إنّ اللهُ قَدْ أَعْطانِي مِنَ الْعَقْلِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَمِيع حُمَقاءِ الدُّنيا وَمَجانِينها لصارُوا بِهِ عُقَلاء وَمِنَ القُوَّةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَمِيعِ ضُعَفاءِ الدُّنْيا لَصارُوا بِهِ أَقْوياءَ ، وَمِنَ الشُّجاعَةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ جُبَناءِ الدُّنْيا لَصارُوا بِهِ شَجْعاناً. (١)

عند ما سمع الأعداء هذا الجواب تملكهم اليأس وأطرقوا برءوسهم خارجين من المنزل.

فلو كان لدى الإمام علي عليه‌السلام ذرة من الشك والتردد بالنسبة إلى إيمانه بالله والرسول فهل يعقل أن يخاطر بحياته مثل هذه المخاطرة؟

٢ ـ في واقعة احد تمكن الأعداء من تحقيق نصر عسكري على المسلمين بسبب غفلة المسلمين وطمعهم في حطام الدنيا ومضافاً إلى ذلك فقد استفاد الأعداء من هذه الغفلة وتحركوا من موقع الحرب النفسية ضد المسلمين حيث صاح أميرهم لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جريحاً في ميدان القتال «لقد قُتل محمّد!» ولما سمع المسلمون هذا النداء هرب الكثير منهم من ميدان القتال كما تقول الرواية ، ولكنّ الإمام علي عليه‌السلام الذي كان مؤمناً بانتصار الإسلام وبوعد الله تعالى ولم يتردد لحظة في هذه العقيدة الراسخة لم يلتفت إلى هذا النداء وبقي مستمراً في قتال الأعداء حتّى أصاب جسده الشريف جراح كثيرة ولكنه استمر في القتال والدفاع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث أدّت شجاعته وإيمانه وسعيه البالغ في دفع الخطر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى إجهاض كيد العدو وأدرك المسلمون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقتل لحد الآن ، ولذلك عاد الكثير منهم إلى ميدان القتال ، وعلى أيّة حال انتهت الحرب بكلِّ ما تضمنته من صعوبات وتحديات واندحر الأعداء وهم مصابون باليأس من الغلبة على الإسلام وتوجهوا إلى مكّة ، وهكذا اصيب الإمام علي عليه‌السلام في هذه المعركة بما يقارب من ٩٠ جرحاً فأرسل له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طبيبين ليعالجاه ويضمدا جراحه ولكنهم سرعان ما عادوا إلى

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٨٣.

١٠٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهما يقولان : يا رسول الله إنّ جراح علي ابن أبي طالب إلى درجة من الكثرة والتقارب بحيث أننا كلّما سعينا لمعالجة جرح انفتح علينا جرح آخر.

يقول الشبلنجي العالم المعروف لدى أهل السنّة في كتاب «نور الأبصار» : إنّ عليّ بن أبي طالب بعد واقعة احد قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد أصابتني في هذه المعركة الشديدة مع المشركين ستة عشر ضربة عميقة بحيث إنني وقعت على الأرض أربع مرّات وفي كلّ مرّة كنت أرى شخصاً نورانياً يساعدني على النهوض من الأرض ويقول : انهض ودافع عن رسول الله ، فمن هو يا رسول الله؟ (١)

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتقر عينك يا عليّ هذا جبرئيل أمين الوحي.

نعم إنّ هذه الواقعة يصدقها القرآن الكريم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(٢)

والخلاصة هي أن هذه الحادثة تدلُّ على المرتبة العليا لجهاد الإمام علي عليه‌السلام بماله ونفسه من جهة وكذلك على إيمانه الراسخ ويقينه القوي بالله ورسوله وما وعده الله تعالى من نصر الإسلام على المشركين من جهة اخرى. إذن فهو مصداق كلمة «الصادقين» في هذه الآية الشريفة.

٣ ـ وفي حرب الأحزاب عند ما تقدّم عمرو بن عبد ود العامري بطل العرب وعبر الخندق وأخذ ينادي المسلمين ويطلب البراز فلم يستجب له إلّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وتكرر هذا العمل ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة ينهض الإمام علي عليه‌السلام من مكانه وهو مستعد لمبارزته.

وهكذا توجه علي بن أبي طالب نحو هذا العدو الغاشم بإيمان راسخ وشجاعة عظيمة فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصر ، ثمّ إن المعركة بين علي وعمرو بن عبد ود انتهت بغلبة الإسلام على الكفر ، وانتصر الإمام علي عليه‌السلام على عدوه في هذه المواجهة والمبارزة.

__________________

(١) نور الأبصار : ص ٩٧.

(٢) سورة فصّلت : الآية ٣٠.

١٠٩

وبينما كان الإمام علي عليه‌السلام جالساً على صدر عمرو بن عبد ود لحزّ رأسه ، بصق عمرو في وجه الإمام علي عليه‌السلام وشتمه (١) فما كان من الإمام علي عليه‌السلام إلّا أن نهض وأخذ يتمشّى في ميدان المعركة ، وكان المسلمون ينظرون إلى مجريات الحادثة بدقة وتعجب ، وبعد دقائق عاد بطل حرب الأحزاب إلى مكانه وقطع رأس عدو الله.

وبعد هذه الحادثة سُئل الإمام علي عليه‌السلام عن سبب قيامه وانتظاره لحظات قبل أن يقدم على قتل عمرو فقال :

قَدْ كانَ شَتَمَ امِّي وَتَفَلَ في وَجْهي فَخَشِيتُ أَنْ أَضْرِبَهُ لِحَظِّ نَفسي فَتَرَكْتُهُ حَتَّى سَكَنَ ما بي ثُمَّ قَتَلْتُهُ فِي اللهِ. (٢)

وفي هذا يقول الشاعر الشيخ الازري رحمه‌الله وهو يحكي هذه الواقعة المهمّة :

ظهرت منه في الورى سطوات

ما أتى القوم كلّهم ما أتاها

يوم غصّت بجيش عمرو بن ودّ

لهوات الفلا وضاق فضاها

فدعاهم وهم الوف ولكن

ينظرون الذي يشبّ لظاها

فابتدى المصطفى يحدث عما

يوجر الصابرون في اخراها

فالتووا عن جوابه كسوامٍ

لا تراها مجيبة من دعاها

فإذا هم بفارس قرشي

ترجف الأرض خيفة أن يطأها

قائلاً ما لها سواي كفيل

هذه ذمة عليّ وفاها

فانتضى مشرفيه فتلقى

ساق عمرو بضربة فبراها

يا لها من ضربة حوت مكرمات

لم يزن ثقل أجرها ثقلاها

هذه من علاه احدى المعالي

وعلى هذه فقس ما سواها

وعلى هذا الأساس فإنّ علائم الإيمان الراسخ مشهودة في حياة الإمام علي عليه‌السلام كلّها ، وحينئذٍ نفهم جيّداً بالاستفادة من القرائن وبمعونة الآيات القرآنية الاخرى أن المراد من «الصادقين» هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ، ص ٢٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤١ ، ص ٥١ (نقلاً من مظهر الولاية : ص ٣٦٥).

١١٠

الصادقين في الروايات

لو اقتصرنا على رواية الثقلين المهمة وضممناها إلى الآية الشريفة لرأينا أنها تلقي ضوءاً قوياً على مفهوم الآية وتوضح مصداق «الصادقين» وهم الأشخاص الذين ذكرتهم رواية الثقلين بأنهم أهل البيت الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام الذين ينبغي التمسّك بهم دائماً ، فيكون التمسّك بهم مانعاً من الضلال ، ومضافاً إلى الرواية المذكورة هناك روايات متعددة ناظرة إلى هذه الآية الشريفة ، وكمثال على ذلك نورد ما يلي :

١ ـ نقل خمس أشخاص من مشاهير وكبار علماء أهل السنّة وهم : السيوطي (١) ، الخوارزمي (٢) ، العلّامة الثعلبي (٣) ، العلّامة الكنجي (٤) ، والحاكم الحسكاني (٥) ، وهؤلاء كلّهم يروون عن الصحابي المعروف ابن عبّاس أو جابر بن عبد الله الأنصاري حيث يقول :

«كُونُوا مَعَ الصَ ادِقِينَ ، أيْ كُونُوا مَعَ عَلِيِّ بْنَ أَبي طالِبٍ».

ووردت بعض العبارات في هذه الروايات «هو عليّ بن أبي طالب» أو «نزلت في عليّ ابن أبي طالب» (٦) وهي كلّها تؤدي معنى واحداً.

٢ ـ نقل الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» مضافاً إلى الرواية المذكورة آنفاً رواية اخرى عن «عبد الله بن عمر» حيث قال :

«مَعَ الصَّادِقِينَ أَيْ مَعَ مُحَمّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِه». (٧)

والملفت للنظر أن هذه الرواية تذكر سائر أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام في عداد الصادقين.

٣ ـ ويروي سليم بن قيس الذي يقول عنه العلّامة المجلسي في بحار الأنوار أنه شخص ثقة حيث يقول في تفسير كلمة «الصادقين» :

__________________

(١) الدرّ المنثور : ج ٣ ص ٢٩٠.

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٢٩٨.

(٣) تفسير الثعلبي نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٢٩٧.

(٤) كفاية الطالب : ص ١١١ ، ونقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٩٧.

(٥) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٦٠.

(٦) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٦٠.

(٧) شواهد التنزيل : ج ١ ص ٢٦٢.

١١١

«فقال سلمان : يا رسول الله ، أعامة هي أم خاصّة؟ فقال : أما المؤمنون فعامة لأن جماعة المؤمنين امروا بذلك ، وأما الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة» (١).

وطبقاً لهذه الرواية فإن «الصادقين» هم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

٤ ـ ويقول العلّامة الكنجي في كتاب «كفاية الطالب» و «ابن الجوزي» في كتابه «التذكرة» : قال علماء السِير : معناه كونوا مع عليّ وأهل بيته (٢) وهكذا يروي المؤرّخون في معنى «كونوا مع الصادقين» أن المراد بهم هم عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام.

وطبقاً لهذا الحديث فإنّ «الصادقين» هم الأئمّة الاثنا عشر عليهم‌السلام للشيعة.

توصية آية الصادقين

ومما تقدّم من صفات وخصائص المعصومين عليهم‌السلام وأنهم المجاهدون ، العابدون ، الراكعون ، الساجدون ، القائمون ، الصائمون ، الزاهدون ، العالمون ، المتقون ، الذاكرون ، الخاشعون ، وأمثال ذلك فإنّ هذه الصفات تجتمع في مصداق كلمة «الصادقين» ، وهذا يعني أن حالة «الصدق» لها دور مهم جداً في مصير الإنسان «وليس المسلم فحسب» ، ولهذا السبب فإنّ الآية الشريفة وصفت أئمّة الهدى بهذه الصفات.

ومع الالتفات إلى أهمية هذا الموضوع نذكر بعض ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام في هذا الصدد :

١ ـ «الصِّدْقُ عِمادُ الإسْلامِ وَدَعامَةُ الإيمانِ». (٣)

فلو سقط عمود البناء لانهار البناء تماماً ، فلو أن المسلم لم يتّصف ويتحلّى بصفة الصدق فلا معنى لإسلامه وإيمانه.

__________________

(١) أسرار آل محمّد : ص ٢٩٧.

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٢٩٧.

(٣) ميزان الحكمة : باب ٢١٩٠ ، ح ١٠١٨٥.

١١٢

٢ ـ «الصِّدقُ أَقْوى دَعائِمِ الْإيمانِ» (١)

وهذا يعني أن الصدق يقترن مع مفهوم عمود الخيمة بحيث لو زال العمود لحظة لانهدمت الخيمة.

٣ ـ «الصِّدقُ صَلاحُ كُلِّ شَيءٍ وَالْكِذْبُ فَسادُ كُلِّ شَيءٍ» (٢).

وفي الحقيقة فإنّ الصدق لو ساد في المجتمع وكان جميع أفراد المجتمع يتحلّون بهذه الصفة وكان الرجل وزوجته يعيشان حالة الصدق في البيت ، وكذلك الموظفون في الإدارات والشركاء في محيط التجارة والحكّام في دائرة الحكومة والسياسة والطلاب والتلاميذ في أجواء المدرسة والجامعة ، والخلاصة لو كان جميع أفراد المجتمع يتحركون في تعاملهم وتفاعلهم مع الآخرين من موقع الصدق فإن ذلك بلا شكّ سوف يحلّ الكثير من المشاكل والتحدّيات التي يواجهها المجتمع البشري.

إنّ جميع المشاكل والمصاعب تنبع من عدم الصدق في التعامل وفي الكلام.

وهذا المعنى يصدق أيضاً في البعد العالمي للمجتمع البشري ، وعلى سبيل المثال إذا كانت الدول والحكومات التي تدّعي حقوق الإنسان صادقة في الاستفادة من هذا العنوان الجميل لكانت البشرية في عالمنا المعاصر تعيش حالة أفضل بكثير ممّا هي عليه الآن. ولكننا نرى أن هذا الادعاء قد انحرف عن مسيره فلا نجد معالم الصدق في التعامل بين الدول التي لا تفكر إلّا بمصالحها الذاتية وعلى حساب الظلم والجور والفساد الفاحش ، وعلى هذا الأساس فلو أن جاسوساً اسرائيلياً يقدم للمحاكمة في نقطة من العالم فإن صراخ هؤلاء المدّعون لحقوق الإنسان سيعلو ويطغى على كلّ شيء ، ولكن إذا تم سحق الشعب الفلسطيني وقتل آلاف الأشخاص من أفراد هذا الشعب المظلوم فلا نجد أي اعتراض من هؤلاء بل مع كثير التعجب والتأسف نجدهم يقدّمون معالم التأييد السياسي والاقتصادي والعسكري إلى الظالم على حساب المظلوم.

__________________

(١) ميزان الحكمة : باب ٢١٩٠ ، ح ١٠١٨٤.

(٢) ميزان الحكمة : باب ٢١٨٩ ، ح ١٠١٦٦.

١١٣

وهكذا ندرك جيداً عمق ما تحدّث به أمير المؤمنين : «إنّ الكذب فساد كلّ شيء».

والنتيجة هي أن آية «الصادقين» توحي لجميع المسلمين بل جميع البشرية بأن يكونوا مع الصادقين.

١١٤

الفصل الثاني :

آيات فضائل أهل البيت عليهم‌السلام

آية التطهير

آية المودة

آية المباهلة

آية سورة الدهر

آية التوبة لآدم

١١٥
١١٦

آية التطهير ٦

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣))

«سورة الأحزاب / الآية ٣٣»

أبعاد البحث

إن آية التطهير هي آية اخرى من الآيات التي تتعلّق بولاية أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام. هذه الآية الشريفة والتي ينبغي التدبّر في كلّ كلمة من كلماتها تدلُّ أيضاً على عصمة الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

مقدّمة

إنّ الآيات ٢٨ ـ ٣٤ من سورة الأحزاب كلّها وردت في خطاب نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بين هذه الآيات الشريفة السبعة وردت آية التطهير بلسان متفاوت ومضمون مختلف ، ومن ذلك تغيير الضمائر في هذه الآية ، فإننا نرى في الآيات الشريفة قبلها ورد خمس وعشرين ضمير أو فعل يدلُّ على المؤنث ، وبعد آية التطهير أيضاً نجد ضميرين وفعل كذلك يدلُّ على التأنيث ولكنّ جميع الضمائر والأفعال في آية التطهير التي تقع وسط ٢٧ ضميراً وفعلاً مؤنثاً قد وردت بلسان المذكر ، أو أن الضمير فيها يعود على المذكر والمؤنث كليهما ، والخلاصة أن الضمائر فيها لا تختصّ بالمؤنث.

١١٧

فهل أن هذا التفاوت هو من باب الاتفاق والصدفة ، أو أن له حكمة خاصّة؟

بلا شكّ أنه لم يقع صدفةً بل له علّة خاصّة لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار.

فإذا كان المراد من آية التطهير هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما ذا تبدّل الخطاب في هذه الآية ولم يرد فيها الضمائر الخاصّة بالمؤنث؟

لا شكّ أن مضمون الآية ومحتواها وتغيير الضمائر والأفعال يدلُّ على أن المراد منها ليس هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيأتي توضيح أكثر لهذا الموضوع في البحوث القادمة.

الشرح والتفسير :

آية التطهير ، برهان واضح للعصمة

تقدّم أنه ينبغي التدبر في كلّ كلمة من كلمات هذه الآية الشريفة مورد البحث لاستجلاء المراد الحقيقي منها :

١ ـ كلمة «إنّما» تستعمل للحصر في اللغة العربية ويتّضح من هذه الكلمة أن المضمون الوارد في هذه الآية الشريفة لا يتعلق بجميع المسلمين وإلّا لا معنى لاستخدام هذه الكلمة.

«الرجس» الذي تحدّثت عنه هذه الآية لم يرفع من الجميع بل أراد الله رفعه من بعض الأفراد بخصوصهم ، مضافاً إلى أن «الرجس» يراد به رجس خاصّ ، وقد أراد الله إزالته عن أفراد معينين وتطهيرهم منه.

وبما أن التقوى العادية تستوعب جميع المسلمين والواجب على جميع المسلمين تطهير أنفسهم من الرذائل والذنوب ، فإنّ المراد من هذه الآية وما يختصّ بهؤلاء الأفراد المعينين يجب أن يكون أعلى ممّا يراد من الأشخاص العاديين في تقواهم وحركتهم في خط الطاعة والإيمان.

٢ ـ (يُرِيدُ اللهُ)

فما هو المراد من إرادة الله؟ هل هي الإرادة التشريعية أو الإرادة التكوينية؟

الجواب : للإجابة على هذا السؤال يلزمنا بعض التوضيح حول مفهوم الإرادة التكوينية والتشريعية :

١١٨

الإرادة التشريعية : هي الإرادة التي تعني أوامر الله تعالى ودستوراته من الواجبات والمحرمات الواردة في الشريعة المقدّسة ، والآية ١٨٥ من سورة البقرة هي أحد الآيات التي وردت فيها الإرادة الإلهية بمعناها التشريعي حيث ذكر الله تعالى في هذه الآية الشريفة بعد بيان وجوب صوم شهر رمضان المبارك واستثناء هذا الحكم بالنسبة إلى المسافر والمريض يقول :

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)

فالمقصود من الإرادة الإلهية هنا هي الإرادة التشريعية ، أي أن أحكام الله تعالى في شهر رمضان سهلة ويسيرة للإنسان المؤمن بل إن جميع أحكام الإسلام هي كذلك ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ». (١)

«الإرادة التكوينية» هي الإرادة التي تستخدم في مقام الخلق والتكوين فقد أراد الله تعالى خلق العالم وخلق سائر الكائنات والمخلوقات.

وكمثال على هذه الإرادة الإلهية ما ورد في الآية ٨٢ من سورة يس حيث يقول تبارك وتعالى في هذه الآية :

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

فالمقصود من هذه الإرادة في الآية الشريفة هي الإرادة التكوينية ، وفي الحقيقة أن قدرة الله تعالى على هذا الكون وسلطته على الكائنات إلى درجة من الشدّة والاستحكام بحيث إنه إذا أراد أن يخلق مثل هذا العالم الذي نعيش فيه فيكفي أن يصدر أمره بذلك ، وطبقاً للأقوال العلماء أن الشمس أكبر من الأرض بمليون ومائتين ألف مرّة ويحتوي على مائة ميليارد نجم في المنظومة الشمسية في مجرتنا لوحدها وحجم كلُّ واحد منهما بحجم الشمس بالمقدار المتوسط ، فلو أراد الله أن يخلق مثل هذا العالم لكفى أن يأمر ويقول : كن فيكون «الْعَظَمَةُ للهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٥ ، ص ٣٤٦.

١١٩

وبعد أن تعرّفنا على هذين المعنيين للإرادة الإلهية نتساءل : هل أن المراد بالإرادة الإلهية في آية التطهير هي الإرادة التشريعية أو التكوينية؟ أي أن الله تعالى هل أراد من أهل البيت أن يعيشوا الطهارة والابتعاد عن الرجس والرذائل ، أو أن الله تعالى هو الذي سيقوم بتطهير هؤلاء الأشخاص من الرجس والرذيلة؟

الجواب : بلا شكّ أن المراد هنا الإرادة التكوينية ، لأن الأمر بالطهارة والتقوى لا يختص بأهل البيت بل هو دستور عام وتشريع شامل لجميع المسلمين ، في حين أننا قرأنا سابقاً أن مقتضى كلمة «إنّما» هو الحصر بدائرة معيّنة ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام ولا يشمل جميع المسلمين.

والنتيجة هي أن الله تعالى بإرادته التكوينية أراد أن يسجّل فضيلة وموهبة اخرى لأهل البيت عليهم‌السلام ويمنحهم «العصمة» في واقعهم الروحي وملكاتهم الأخلاقية بحيث يبتعدون عن كلّ رجس ورذيلة ويعيشون الطهارة من الذنوب والخطايا.

سؤال : هل أن العصمة في هؤلاء المعصومين تتمتع بحالة من الجبر؟

وبعبارة اخرى : هل أن هؤلاء العظماء يجتنبون المعاصي والذنوب من دون اختيار منهم؟ فلو كان كذلك فإنّ العصمة لا تعني شيئاً في دائرة الامتياز الأخلاقي والإيماني.

الجواب : إنّ الشيء إذا كان محالاً في دائرة أعمال الإنسان فهو على قسمين : ١ ـ المحال العقلي ، ٢ ـ المحال العادي.

«المحال العقلي» هو أن يكون وقوع الشيء محالاً كأن تكون هذه اللحظة من الزمان ليلاً ونهاراً في آن واحد ، فهذا عقلاً محال ، أو تقرأ كتاباً عدد صفحاته ٤٠٠ و ٥٠٠ صفحة في نفس الوقت ، فهذا من المحال عقلاً لأنه جمع بين النقيضين والجمع بين النقيضين محال عقلاً (١).

ولكن تارة يكون وقوع العمل ممكن عقلاً ولكنه عادة ممتنع ، ومثاله أن كلُّ إنسان عاقل لا يظهر في الشارع وأمام الناس عارياً ، فهذه المسألة ممكنة عقلاً ولكنها محالٌ عادةً ، وعليه

__________________

(١) للتعرف أكثر على هذا الاصطلاح المنطقي يراجع كتاب «التعرف على العلوم الإسلامية ، المنطق والفلسفة» للشهيد العلّامة المطهري : ص ٦٥ فما بعد.

١٢٠