أسرار التكرار في القرآن

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني

أسرار التكرار في القرآن

المؤلف:

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني


المحقق: عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفضيلة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٩

٣٢ ـ قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) (١٧٠) ، وفى المائدة (لا يَعْلَمُونَ) (١٠٤) ، لأن العلم أبلغ درجة من العقل ، ولهذا جاز وصف الله به ، ولم يجز وصفه بالعقل (١) ، فكانت دعواهم فى المائدة أبلغ ، لقولهم : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (١٠٤). فادعوا النهاية بلفظ (حَسْبُنا). فنفى ذلك بالعلم وهو النهاية. وقال فى البقرة : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (١٧٠) ، ولم تكن النهاية (٢) فنفى بما هو دون العلم ، لتكون كل دعوى منفية بما يلائمها ، والله أعلم.

٣٣ ـ قوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (١٧٣). قدم (بِهِ) فى هذه السورة ، وأخرها فى المائدة (٣) ، والأنعام (١٤٥) ، والنحل (١١٥) ، لأن تقديم الباء (٣) الأصل ، فإنها تجرى مجرى الهمزة والتشديد فى التعدى ، فكانت كحرف من الفعل ، فكان الموضع الأول أولى بما هو الأصل ، ليعلم ما يقتضيه اللفظ. ثم قدم فيما سواها ما هو المستنكر (٤) وهو الذبح لغير الله ، وتقديم ما هو الغرض أولى ، ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل ، والحال على ذى الحال ، والظرف على العامل فيه ، إذا كان ذلك أكثر للغرض فى الإخبار.

٣٤ ـ قوله فى هذه السورة : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١٧٣) وفى السور الثلاث (٥) بحذفها ، لأنه لما قال فى الموضع الأول : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) صريحا كان نفى الإثم (٦) فى غيره تضمينا ، لأن قوله :

__________________

(١) لا يجوز وصف الله بالعقل ، لأن يعقل معناه : يحصر الشيء بإدراكه له عما لا يدركه ، ويقيده تمييزه له عن غيره مما لا يدركه ، أو معناه : حبس النفس عما تدعو إليه الشهوات. وليس فى الوجود شىء لا يدركه الله ، وليس له شهوة فيحتبس عنها (درة التنزيل ص ٣٩).

(٢) لأن قولهم : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) لا يمنع أن يرجعوا عن اتباعهم آباءهم.

أما قولهم : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فيفيد انتهاءهم إلى عقيدة آبائهم ، واستقرارهم عليها.

(٣) فى ب : لأن فى تقديم الباء فى الأصول ، وما أثبتناه أصح.

(٤) فى أ : المتكثر. وفى ب : المستكثر. والسياق يقتضى ما أثبتناه.

(٥) السور الثلاث : (الأنعام آية ١٤٥) ، و (المائدة آية ٣) ، و (النحل آية ١١٥).

(٦) فى الأصل : كان النفى ، وما أثبتناه أبعد من اللبس.

٨١

(غَفُورٌ رَحِيمٌ) يدل على أنه لا إثم عليه.

٣٥ ـ قوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٧٣) فى هذه السورة ، خلاف سورة الأنعام فإن فيها : (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥) ، لأن لفظ الرب تكرر فى الأنعام مرات ، ولأن فى الأنعام قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) (١٤١) الآية. وفيها ذكر الحبوب والثمار ، وأتبعها بذكر الحيوان ، من الضأن ، والمعز ، والإبل ، وبها تربية الأجسام ، فكان ذكر الرب فيها أليق (١).

٣٦ ـ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٤) الآية فى السورة على هذا النسق ، وفى آل عمران : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٧) لأن المنكر فى هذه السورة أكثر فالمتوعد (٢) فيها أكثر (٣) ، وإن شئت قلت : زاد فى آل عمران : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)

__________________

(١) لم يذكر المؤلف سر اختصاص آية البقرة وآية النحل بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) ، (فَإِنَّ اللهَ). والسر أنه تقدم على الآيتين الحديث عن الألوهية وما يختص بها. فتقدم فى البقرة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ، وختم بقوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ) ... كذا وكذا. فتقدم لفظ (اللهِ) وتقدم التحريم ولا يملكه إلّا الله ، والعبادة وهى واجبة لله. وفى النحل : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فأشبه ما فى البقرة. وكان لفظ (اللهُ) أولى وأخص بالآيتين. وانظر (درة التنزيل ص ٤٢).

(٢) فى أ : فالمتوكل.

(٣) كثرة المنكر فى آية البقرة بكثرة الذنوب التى ارتكبوها. فقال تعالى فى صدر الآية :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ...) الآية. فسجل عليهم : أنهم خالفوا الله فى أمره ، ونقضوا ما عاهدهم عليه ، فى قوله تعالى فى آل عمران : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ...) الآية [١٨٧]. فخالفوا وارتكبوا ما حرم الله ثم آثروا القليل من الدنيا على

٨٢

فى مقابلة : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).

٣٧ ـ قوله فى آية الوصية : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٨١) خص السمع بالذكر لما فى الآية من قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) ، ليكون مطابقا. وقال فى الآية الأخرى بعدها : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨٢) لقوله قبله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فهو مطابق معنى له.

٣٨ ـ قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) (١٨٤) قيد بقوله : (مِنْكُمْ) ، وكذلك : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) (١٩٦) ، ولم يقيد (١) فى قوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) (١٨٥) ، اكتفاء (٢) بقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (١٨٥) لاتصاله به.

٣٩ ـ قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) (١٨٧) ، وقال بعده : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) (٢٢٩) ، لأن الحد الأول نهى وهو قوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) (١٨٧) ، وما كان من الحدود نهيا أمر بترك المقاربة ، والحد الثانى أمر ، وهو بيان عدد الطلاق (٣) بخلاف ما كان عليه العرب من المراجعة بعد الطلاق من غير عدد وما كان أمرا أمر بترك المجاوزة وهو الاعتداء (٤).

٤٠ ـ قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) (١٨٩) : جميع ما جاء

__________________

= العظيم من عهد الله. فكان غلظ الوعيد لذلك أعظم. أما فى آل عمران فلم يذكر فى صدر الآية إلا بعض ما فى آية البقرة ، إذ قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ...) الآية. انظر : [درة التنزيل ٤٤ ، ٤٥].

(١) فى ب : ولم يقيده.

(٢) فى ب : اكتفى بقوله.

(٣) وهو قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ...) إلى قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) [٢٢٩].

(٤) قال الإسكافى : الحدود ضربان : حد هو منع ارتكاب المحظور ، وحد فاصل بين الحلال والحرام. فالأول : ينهى عن مقاربته ، والثانى : ينهى عن مجاوزته. (درة التنزيل ص ٣٦).

٨٣

فى القرآن من السؤال وقع عقبه الجواب بغير الفاء ، إلّا فى قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي) «٢٠ : ١٠٥» ، فإنه أجيب بالفاء ، لأن الأجوبة فى الجميع كانت بعد السؤال ، وفى طه قبل (وقوع) السؤال ، فكأنه قيل : إن سئلت عن الجبال فقال : ينسفها ربى.

٤١ ـ قوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (١٩٣) فى هذه السورة ، وفى الأنفال : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ) (٣٩) ، لأن القتال فى هذه السورة مع أهل مكة ، وفى الأنفال مع جميع الكفار ، فقيده بقوله : (كُلُّهُ).

٤٢ ـ قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) (٢١٤). وقال فى آل عمران : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢).

وقال فى التوبة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ...) الآية (١٦) ، الخطيب أطنب فى هذه الآيات ، ومحصول كلامه : أن الأول : للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، والثانى : للمؤمنين ، والثالث : للمخاطبين جميعا (١).

٤٣ ـ قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) «٢١٩ ، ٢٢٠» ، وفى آخر السورة : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦) ، ومثله فى الأنعام (٢) ، لأنه لما بين (فِي) (٣) الأول مفعول التفكر وهو قوله : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) حذفه مما بعده للعلم به. وقيل : (فِي) متعلقه بقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢١٩).

__________________

(١) انظر : (الإسكافى ص ٤٧ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٠).

(٢) الذى فى الأنعام : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) [٥٠] و (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [١٥٢] وليس فيها (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

(٣) سقطت من ب.

٨٤

٤٤ ـ قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) (٢٢١) بفتح التاء ، والثانى بضمها (١) ، لأن الأول : من نكحت ، والثانى : من أنكحت ، وهو يتعدى إلى مفعولين (والمفعول) (٢) الأول فى الآية : (الْمُشْرِكِينَ) والثانى محذوف وهو (الْمُؤْمِناتِ) أى : لا تنكحوا المشركين النساء المؤمنات حتى يؤمنوا.

٤٥ ـ قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَ) (٢٣١) (٣) أجمعوا على تخفيفه إلّا شاذا (٤) وما فى غير هذه السورة قرئ بالوجهين ، لأن قبله (فَأَمْسِكُوهُنَ) (٢٣١) ، وقبل ذلك (فَإِمْساكٌ) (٢٢٩) فاقتضى ذلك التخفيف.

٤٦ ـ قوله : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ) (٢٣٢) ، وفى الطلاق : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ ...) (٢) الكاف فى (ذلِكَ) (٥) لمجرد الخطاب لا محل له (٦) من الإعراب ، فجاز الاختصار على التوحيد ، وجاز إجراؤه على عدد المخاطبين ، ومثله : (عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) (٥٢) ، وقيل : حيث جاء موحدا (٧) فالخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخص بالتوحيد فى هذه السورة لقوله : (مَنْ كانَ مِنْكُمْ) وجمع (فى) (٨) الطلاق لما (لم) (٩) يكن بعده (مِنْكُمْ) (١٠).

٤٧ ـ قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ

__________________

(١) وهو فى نفس الآية : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [٢٢١] بضم التاء.

(٢) سقطت من أ.

(٣) فى ب : تمسوهم. خطأ.

(٤) القراءة الشاذة عن ابن الزبير (ولا تماسكوهن) (مختصر شواذ القراءات لابن خالويه) نشر برجشتراسر. الرحمانية بمصر ١٩٣٤ م.

(٥) فى أ : ذلكم.

(٦) فى ب : لها.

(٧) فى أ : بواحد.

(٨) سقطتا من ب.

(٩) سقطتا من ب.

(١٠) انظر : (القول الأخير عند الإسكافى ص ٥١).

٨٥

بِالْمَعْرُوفِ) (٢٣٤) ، وقال فى (الآية) (١) الأخرى : (مِنْ مَعْرُوفٍ) (٢٤٠) ، لأن تقدير الأول [فيما فعلن بأمر الله وهو المعروف ، والثانى] (٢) فيما فعلن فى أنفسهن فعلا (٣) من أفعالهن معروفا ، أى : جاز فعله شرعا (٤).

قال أبو مسلم حاكيا عن الخطيب : إنما جاء المعروف الأول معرّف اللفظ لأن المعنى : بالوجه المعروف من الشرع لهن ، وهو الوجه الذى دل الله عليه وأبانه. والثانى : كان وجها من الوجوه التى لهن أن يأتينه ، فأخرج مخرج النكرة لذلك.

قلت : النكرة إذا تكررت صارت معرفة ، فإن قيل : كيف يصح ما قلت والأول معرفة والثانى نكرة؟ وما ذهبت إليه يقتضى ضد هذا ، بدليل قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) «٧٣ : ١٥ ، ١١٦» ، فالجواب : أن هذه الآية بإجماع من المفسرين مقدمة على تلك الآية فى النزول ، وإن وقعت متأخرة فى التلاوة. ولهذا نظير فى القرآن فى موضع آخر أو موضعين وقد سبق بيانه (٥) ، وأجمعوا أيضا على أن هذه الآية منسوخة بتلك الآية (٦) ، والمنسوخ سابق على الناسخ ضرورة ، فصح ما ذكرت أن قوله :

__________________

(١) سقطت من ب.

(٢) ما بين الحاصرين سقط من أ.

(٣) فى أ : (فعل).

(٤) يفهم ذلك من صدر آية : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

أى : لا جناح عليكم فى أن يفعلن فى أنفسهن فعلا هو بأمر الله وهو ما أباحه لهن من التزوج بعد انقضاء العدة فصار المعروف هنا محددا مشهورا. وفى الآية الثانية تخييرا لهن بين أمرين مشروعين هما : القعود ، والزواج. وهما مشروعان ، فلم يكن المعروف الثانى إلا وجها من الوجوه المشروعة غير محدد ، فلهذا خرج مخرج النكرة.

(٥) انظر : الفقرة [٢٦] سورة البقرة.

(٦) أخرج البخارى عن الزبير أنه قال لعثمان : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ...) الآية. قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها؟ فقال عثمان : يا ابن أخى ، لا أغير شيئا من مكانه.

انظر : (البخارى ، هامش فتح البارى ٨ / ٣٣ طبع الهند ، كذلك انظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ٧٢ ـ ٧ ط الخانجى).

٨٦

بالمعروف ، هو ما ذكر فى قوله : من معروف. فتأمل فيه فإن هذا دليل على إعجاز القرآن (١).

٤٨ ـ قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) (٢٥٣). كرّر هنا تأكيدا. وقيل : ليس بتكرار ، لأن الأول : للجماعة ، والثانى : للمؤمنين. وقيل : كرّر تكذيبا لمن زعم (أن ذلك) (٢) لم يكن بمشيئة الله تعالى.

٤٩ ـ قوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) (٢٧١) فى هذه السورة بزيادة (مِنْ) موافقة لما بعدها ، لأن بعدها ثلاث آيات فيها (مَنْ) على التوالى وهى قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) ثلاث مرات (٣).

٥٠ ـ قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) (٢٨٤). (يغفر) مقدم فى هذه السورة وغيرها ، إلّا فى المائدة فإن فيها : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ) (٤٠) ، لأنها نزلت بعدها فى حق السارق والسارقة (٤) ، وعذابهما يقع فى الدنيا ، فقدم لفظ العذاب ، وفى غيرها

__________________

(١) الآية دليل على أن القرآن من عند الله ، فلو كان من عند النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوضع الآية الثانية أو لا بمقتضى كونها منسوخة ، وبمقتضى المتعارف من لغة العرب حتى تتعرف النكرة بتكرارها حسب قواعد اللغة. ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يتقدم الناسخ فى الترتيب باعتباره حكما يجب العمل به ، على الفور ، فهو مقدم لذلك ، وأن يتأخر المنسوخ باعتباره مستبعدا من ناحية العمل به ، ومع ذلك يأخذ حكم المقدم باعتباره سبقه فى النزول ، فيتعرف بالتكرار وإن لم يكن جاريا على الترتيب المتعارف فى اللغة ظاهرا ، وليس هذا صنيع إنسان أمي ، بل هو الله منزل الكتاب.

(٢) سقطت من ب. وهو يقصد قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (المراجع).

(٣) كررت (مَنْ) ثلاث مرات فى قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [٢٧٢] وكررت كذلك فى قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [٢٧٣]

(٤) وذلك فى قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) [٣٨]. وتلك المراعاة الدقيقة للمعانى من دقائق إعجاز القرآن ، فالكلام البشرى يكثر فيه التجوز ونسيان السوابق واللواحق ، دون كلام الحكيم سبحانه وتعالى.

٨٧

(قدم لفظ) (١) المغفرة رحمة منه تعالى ، وترغيبا للعباد فى المسارعة إلى موجبات (٢) المغفرة (جعلنا الله تعالى منهم بمنّه وكرمه) (٣).

سورة آل عمران

٥١ ـ قوله تعالى : (إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩) أول السورة ، وفى آخرها : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤) ، فعدل من الخطاب إلى لفظ الغيبة فى أول السورة ، واستمر على الخطاب فى آخرها ، لأن ما فى أول السورة لا يتصل بالكلام الأول كاتصال ما فى آخرها ، فإن اتصال قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩) بقوله : (إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) (٩) معنوى ، واتصال قوله : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤) بقوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) (١٩٤) لفظى ومعنوى جميعا لتقدم لفظ الوعد ، (ولا يجوز أن يكون الأول استئنافا) (٣) ، والآخر من تمام الكلام (٤).

٥٢ ـ قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ) (١١) ، كان القياس : فأخذناهم ولكن لما عدل فى الآية الأولى إلى قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩) عدل فى هذه الآية أيضا ، لتكون الآيات على منهج واحد.

٥٣ ـ قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١٨) ، ثمّ كرّر فى هذه الآية فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، لأن الأول جرى مجرى الشهادة وأعاده ليجرى الثانى مجرى الحكم بصحة ما شهد به الشهود.

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) فى أ : إلى مرضاته والمغفرة.

(٣) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(٤) لأن جمع الناس ليوم لا ريب فيه يقتضى تنفيذ المواعيد.

٨٨

٥٤ ـ قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٢٨) ، كرّره مرتين (١) لأنه وعيد عطف عليه وعيد آخر فى الآية الأولى ، فإن قوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) معناه : مصيركم إلى الله ، والعذاب معدّ لديه فاستدركه (٢) فى الآية الثانية بوعد ، وهو قوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠) والرأفة أشد من الرحمة. وقيل : من رأفته تحذيره.

٥٥ ـ قوله : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) (٤٠). قدّم فى هذه السورة ذكر الكبر ، وأخّر ذكر المرأة. وقال فى سورة مريم : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨) فقدم ذكر المرأة ، لأن فى مريم قد تقدم ذكر الكبر فى قوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (٤) وتأخر ذكر المرأة فى قوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) (٥) ثم أعاد ذكرها فأخّر ذكر الكبر ليوافق (عِتِيًّا) ما بعده من الآيات وهى : (سَوِيًّا (١٠)) و (عَشِيًّا (١١)) و (صَبِيًّا (١٢)) (٣).

٥٦ ـ قوله : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) (٤٧). وفى مريم : (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) (٢٠) ، لأن فى هذه السورة تقدم ذكر المسيح ، وهو ولدها (٤) ، وفى مريم ذكر الغلام ، حيث قال : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١٩).

٥٧ ـ قوله : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) (٤٩). وفى المائدة : (فَتَنْفُخُ فِيها) (١١٠). قيل : الضمير فى هذه السورة يعود إلى الطير. وقيل :

__________________

(١) المرة الثانية قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [٣٠].

(٢) فى أ : فاستدرك.

(٣) فى أ ، ب : عتيّا ، وصليا ، وليس كذلك ما بعد (عِتِيًّا) ويلاحظ أن المؤلف ترك (شيئا ـ ٩).

(٤) وذلك فى قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) [٤٥].

٨٩

إلى الطين. وقيل : إلى المهيأ (١). وقيل : إلى الكاف (٢) فإنه فى معنى : مثل ، وفى المائدة يعود إلى الهيئة. وهذا جواب التذكير والتأنيث ، لا جواب التخصيص ، وإنما الكلام وقع فى التخصيص ، وهل يجوز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر أم لا؟ فالجواب أن يقال : فى هذه السورة إخبار قبل الفعل فوحّده ، وفى المائدة خطاب من الله له يوم القيامة وقد تقدم (٣) من عيسى ـ عليه‌السلام ـ الفعل مرات ، والطير صالح للواحد وصالح للجميع.

٥٨ ـ قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) (٤٩). ذكر فى هذه الآية مرتين. وقال فى المائدة : (بِإِذْنِي) أربع مرات (٤) ، لأن ما فى هذه السورة كلام عيسى ، فما يتصور أن يكون من فعل البشر أضافه إلى نفسه ، وهو : الخلق الذى معناه التقدير ، والنفخ (الذى) (٥) هو : إخراج الريح من الفم. وما يتصور إضافته إلى الله تعالى (أضافه إليه) (٦) وهو قوله : (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) بما يكون فى طوق البشر ، فإن الأكمه (٧) عند بعض المفسرين : الأعمش ، وعند بعضهم : الأعشى ، وعند بعضهم : الذى يولد أعمى ، وإحياء الموتى من فعل الله فأضافه إليه.

وما فى المائدة من كلام الله سبحانه وتعالى فأضاف جميع ذلك إلى صنعه إظهارا لعجز البشر ، ولأن فعل العبد (٨) مخلوق لله تعالى.

وقيل : (بِإِذْنِ اللهِ) يعود إلى الأفعال الثلاثة (٩) ، وكذلك

__________________

(١) فى أ : المهيئ ، خطأ. والمراد بالمهيإ قوله تعالى : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ).

(٢) يعنى فى قوله : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ).

(٣) فى ب : سبق.

(٤) المرات الأربع فى قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠].

(٥) سقطت من ب.

(٦) ما بين الحاصرين سقط من ب

(٧) فى ب : الكمه ، والبرص.

(٨) فى ب : وأن فعل العبد.

(٩) الأفعال الثلاثة فى آية آل عمران هى : (أَخْلُقُ) ـ (فَأَنْفُخُ) ـ (فَيَكُونُ طَيْراً).

٩٠

الثانى يعود إلى الثلاثة الأخرى (١).

٥٩ ـ قوله : (إِنَّ اللهَ) (٢) (رَبِّي وَرَبُّكُمْ) (٥١) ، وكذلك فى مريم : (رَبِّي وَرَبُّكُمْ) (٣٦). وفى الزخرف فى هذه القصة : (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) (٦٤) بزيادة (هُوَ).

قال الشيخ : إذا قلت : زيد هو قائم ، فيحتمل أن يكون تقديره : وعمر قائم ، فإذا قلت : زيد هو القائم ، خصصت القيام به ، فهو كذلك فى الآية ، وهذا مثاله ، لأن (هو) يذكر فى مثل هذه المواضع إعلاما أن المبتدأ مقصور على هذا الخبر ، وهذا الخبر مقصور عليه دون غيره.

والذى فى آل عمران وقع بعد عشر آيات من قصتها (٣) ، وليس كذلك ما فى الزخرف ، فإنه ابتداء كلام منه ، فحسن التأكيد بقوله : (هُوَ) ، ليصير المبتدأ مقصورا على الخبر المذكور فى الآية ، وهو إثبات الربوبية ، ونفى الأبوّة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

٦٠ ـ قوله : (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٥٢) فى هذه السورة ، وفى المائدة : (بِأَنَّنا) (١١١) ، لأن ما فى المائدة أول كلام الحواريين ، فجاء على الأصل ، وما فى هذه السورة تكرار لكلامهم ، فجاز فيه التخفيف ، لأن التخفيف فرع ، والتكرار فرع ، والفرع بالفرع أولى.

٦١ ـ قوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ) (٦٠) فى هذه السورة ، وفى البقرة : (فَلا تَكُونَنَ) (١٤٧) ، لأن ما فى هذه السورة جاء على الأصل ولم يكن فيها ما أوجب إدخال نون التأكيد فى الكلمة ، بخلاف سورة البقرة ، فإن فى أول القصة : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) (١٤٤) بنون التوكيد ، فأوجب الازدواج إدخال النون فى الكلمة ، فيصير

__________________

(١) الثلاثة الأخرى هى : (أُبْرِئُ) ـ (أُنَبِّئُكُمْ) ـ (أُحْيِي).

(٢) فى الأصول : وإن الله. خطأ.

(٣) من أول قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ ...) الآيات [٤٢ ـ ٥١].

٩١

التقدير : فلنولينك قبلة ترضاها ، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١). والخطاب فى الآيتين للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به غيره.

٦٢ ـ قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) (٧٣) فى هذه السورة ، وفى البقرة : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) (١٢٠) ، لأن الهدى فى هذه السورة هو الدين ، وقد تقدم فى قوله : (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) (٧٣) ، وهدى الله : الإسلام ، فكأنه قال بعد قولهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ). قل : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) كما سبق فى أول السورة.

والذى فى البقرة معناه : القبلة ، لأن الآية نزلت فى تحويل القبلة ، وتقديره : قل : إن قبلة الله هى الكعبة.

٦٣ ـ قوله : (مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) (٩٩) ليس هاهنا (به) ولا واو العطف ، وفى الأعراف : (مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها) (٨٦) بزيادة (به) وواو العطف ، لأن القياس : آمن به كما فى الأعراف ، لكنها حذفت فى هذه السورة موافقة لقوله : (وَمَنْ كَفَرَ). فإن القياس أيضا : كفر به ، وقوله : (تَبْغُونَها عِوَجاً) هاهنا حال ، والواو لا تزداد مع الفعل إذا وقع حالا ، نحو قوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) «٧٤ ـ ٦» و (دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) «٣٤ : ١٤» وغير ذلك. وفى الأعراف عطف على الحال ، والحال قوله : (تُوعَدُونَ) ، و (تَصُدُّونَ) عطف عليه ، وكذلك (تَبْغُونَها عِوَجاً).

٦٤ ـ قوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦). هاهنا بإثبات (لَكُمْ) وتأخير (بِهِ). وحذف (إِنَّ اللهَ) ، وفى الأنفال (١٠) بحذف (لَكُمْ) وتقديم (بِهِ) وإثبات (إِنَّ اللهَ) ، لأن البشرى هنا للمخاطبين (١) ، فبين وقال : (لَكُمْ). وفى الأنفال قد تقدم

__________________

(١) ما بين الحاصرين سقط من ب.

٩٢

(لَكُمْ) فى قوله : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) (٩) فاكتفى بذلك.

وقدم (قُلُوبُكُمْ) هنا ، وأخّر (بِهِ) ازدواجا بين المخاطبين (١) فقال : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) (١٢٦).

وقدم (بِهِ) فى الأنفال ازدواجا بين الغائبين فقال : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ) (١٠).

وحذف (إِنَّ اللهَ) هاهنا ، لأن ما فى الأنفال قصة بدر ، وهى سابقة على ما فى هذه السورة ، فإنها فى قصة أحد ، وأخبر هناك بأن الله عزيز حكيم ، وجعله فى هذه السورة صفة ، لأن الخبر قد سبق.

٦٥ ـ قوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦) بزيادة الواو ، لأن الاتصال بما قبلها أكثر من غيرها (٢) ، وتقديره : ونعم أجر العاملين المغفرة والجنات والخلود.

٦٦ ـ قوله : (رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١٦٤) بزيادة الأنفس ، وفى غيرها (رَسُولاً مِنْكُمْ) «٢ : ١٥١» لأنه سبحانه منّ على المؤمنين

__________________

(١) والمخاطبون فى هذه السورة هم المؤمنون فى قوله تعالى : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية [١٢٤] ، وبعدها : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) [١٢٥].

(٢) مراده بغيرها فى سورة العنكبوت : (خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [٥٨].

ويمكن توضيح كلام الكرمانى : بأن آية آل عمران : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) ، وآية العنكبوت : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ). فآية آل عمران مبنية على تداخل الأخبار ، فأولئك مبتدأ ، وجزاؤهم مبتدأ ثان ، ومغفرة خبر المبتدأ الثانى ، والثانى وخبره خبر الأول والجزاء هو الأجر فكأنه قال : أولئك أجزيهم على أعمالهم : محو ذنوبهم وجنة عدن ودوام نعيمهم ، والخبر إذا جاء بعد خبر فى مثل هذا المكان الذى تفصل فيه المواهب المرغب فيها فحقه أن يعطف على ما قبله بالواو ، فصار المعنى جزاؤهم : ترك المؤاخذة بالذنب ، ودخول الجنة ، والخلود فيها ، وذلك تشريف وكرامة للعاملين.

أما فى العنكبوت فالكلام فيها مدرج على جملة واحدة هى تبوئة المؤمنين غرفا فى الجنة ، وهى جملة ابتداء وخبر لم يعطف عليها بالواو ، لأن الجملة فى موضع خبر المبتدأ ، كأنه قال : ذلك نعم أجر العاملين ، وتجرى مجرى ما هو من تمام الكلام كقوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

٩٣

به فجعله من أنفسهم ليكون موجب المنة أظهر ، وكذلك قوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) «٩ : ١٢٨» لما وصفه بقوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) جعله من أنفسهم ليكون موجب الإجابة والإيمان أظهر وأبين.

٦٧ ـ قوله : (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (١٨٤) هاهنا بباء واحدة ، إلا فى قراءة ابن عامر (١) ، وفى فاطر : (بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ) (٢٥) بثلاث باءات ، لأنه فى هذه السورة وقع فى كلام مبنى على الاختصار ، وهو إقامة لفظ الماضى فى الشرط مقام لفظ المستقبل ، ولفظ الماضى أخف ، وبنى الفعل للمجهول فلا يحتاج إلى ذكر الفاعل ، وهو قوله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) (١٨٤) ، لذلك حذفت الباءات ليوافق الأول فى الاختصار ، بخلاف ما فى فاطر ، فإن الشرط فيه بلفظ المستقبل ، والفاعل مذكور مع الفعل ، وهو قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ) (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٢٥). ثم ذكر بعدها الباءات ليكون كله على نسق واحد.

٦٨ ـ قوله : (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) (١٩٧) هاهنا ، وفى غيرها : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) «٩ : ٧٣ ، ٩٥ و ٦٦ : ٩» ، لأن ما قبلها فى هذه السورة : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ) «١٩٦ ، ١٩٧» أى : (ذلك) (٢) متاع (فى الدنيا) (٣) قليل ، والقليل يدل على تراخ وإن صغر وقل ، وثم للتراخى فكان طبقا له ـ والله (تعالى) (٤) أعلم ـ.

__________________

(١) انظر : (تفسير القرطبى ٤ / ٢٩٦) ، وقال : بزيادة باء فى الكلمتين (بالزبر والكتاب) ، وهو كذلك فى مصاحف أهل الشام.

(٢) سقطت من ب.

(٣) سقطت من أ.

(٤) سقطت من ب.

٩٤

سورة النّساء

٦٩ ـ قوله فى هذه السورة : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (١٢). ليس غيره ، أى : عليم بالمضارة ، حليم عن المضادة (١).

٧٠ ـ قوله : (خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٣) ، بالواو. وفى براءة : (ذلِكَ) «٨٩ ، ١٠٠» بغير واو ، لأن الجملة إذا وقعت (بعد جملة) (٢) أجنبية لا تحسن إلا بحرف العطف ، وإن كان فى الجملة الثانية ما يعود إلى الأولى حسن إثبات حرف العطف ، وحسن الحذف اكتفاء بالعائد ، ولفظ (ذلِكَ) فى الآيتين يعود إلى ما قبل الجملة ، فحسن الحذف والإثبات فيهما (٣) ولتخصيص هذه السورة بالواو وجهان لم يكونا فى براءة :

أحدهما : موافقة لما قبلها ، وهى جملة مبدوءة بالواو (٤) ، وذلك قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) (١٣).

والثانى : موافقة لما بعدها ، وهو قوله : (وَلَهُ) بعد قوله : (خالِداً فِيها) (٥).

وفى براءة (أَعَدَّ اللهُ) (٦) بغير واو ، ولذلك قال : (ذلِكَ) بغير واو.

٧١ ـ قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) (٢٤) ، فى أول

__________________

(١) ما أورده المؤلف تذييل لآية الميراث عقب الوصية فيها : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ). يعنى : غير مضار بوصيته أحدا من الورثة.

ثم قال والله أعلم بالمضارة ، حليم عند المضادة لأمره ، فلا يؤاخذ على الفور ، رجاء أن يعود الحق إلى أهله.

(٢) سقطت من أ.

(٣) فى ب : فيها.

(٤) فى ب : مبدوءة بواو.

(٥) وذلك فى الآية التى بعد هذه : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) [١٤].

(٦) وذلك فى آية براءة : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [٨٩].

٩٥

السورة ، وبعدها : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) (٢٥) ، وفى المائدة (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) (٥) ، لأن فى هذه السورة وقع فى حق الأحرار المسلمين ، فاقتصر على لفظ (غَيْرَ مُسافِحِينَ). والثانية الجوارى. وما فى المائدة فى الكتابيات ، فقال : (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) ، حرمة للحرائر المسلمات ، لأنهن إلى الصيانة أقرب ، ومن الخيانة أبعد ، ولأنهن لا يتعاطين ما يتعاطاه الإماء والكتابيات من اتخاذ الأخدان.

٧٢ ـ قوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) (٤٣). فى هذه السورة ، وزاد فى المائدة : (مِنْهُ) (٦) ، لأن المذكور فى هذه بعض أحكام الوضوء والتيمم ، فحسن الحذف ، والمذكور فى المائدة جميع أحكامها ، فحسن الإثبات والبيان.

٧٣ ـ قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٤٨). ختم الآية مرة بقوله : (فَقَدِ افْتَرى) (٤٨) ، ومرة بقوله : (فَقَدْ ضَلَ) (١١٦) ، لأن الأول نزل فى اليهود ، وهم الذين افتروا على الله ما ليس فى كتابهم ، والثانى نزل فى الكفار ولم يكن لهم كتاب ، فكان ضلالهم أشد (١).

٧٤ ـ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (٤٧) وفى غيرها : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) «٣ : ٦٥ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٩٩ و ٥ : ١٩ ، ٥٩ ... إلخ». لأنه سبحانه استخف بهم فى هذه الآية وبالغ ، ثم ختم بالطمس ورد

__________________

(١) الآيتان رقم ٤٨ ، ١١٦ من سورة النساء مكرّرتان فيما عدا تذييل كل منهما ، ففي الأولى : (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) ، وفى الثانية : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً). ولا تكرار ، لأن الأولى فى اليهود ، بدليل قوله تعالى قبلها : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) [٤٤]. ثم قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) الآية [٤٧]. ولما كانوا قد عرفوا صحّة نبوته وكذبوا ، فقد افتروا إثما عظيما. أما الثانية ففي الكفار ، وقد جاء قبلها : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [١١٥]. ومن فعل ذلك فقد ضل ضلالا بعيدا.

٩٦

الوجوه على الأدبار واللعن ، وبأنها (كلها) (١) واقعة بهم.

٧٥ ـ قوله : (دَرَجَةً) (٩٥) ، ثم فى الآيات الأخرى : (دَرَجاتٍ) «٩٦ و ٣ : ١٦٣ و ٤ : ٩٦ و ٦ : ٨٣ و ١٣٢» ، لأن الأولى فى الدنيا ، والثانية فى الجنة. وقيل : الأولى المنزلة ، والثانية المنزل (٢) وهو درجات. وقيل : الأولى على القاعدين (بعذر) (٣) ، والثانية على القاعدين بغير عذر.

٧٦ ـ قوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) (١١٥) ، بالإظهار فى هذه السورة ، وكذلك فى الأنفال (١٣). وفى الحشر بالإدغام (٤) ، لأن الثانى من المثلين إذا تحرك بحركة لازمة وجب إدغام الأول فى الثانى ، ألا ترى أنك تقول : اردد له بالإظهار؟ ولا يجوز : ارددا ، ارددوا ، أو : ارددى ، لأنها تحركت بحركة لازمة ، والألف واللام فى (اللهِ) لازمتان ، فصارت حركة القاف لازمة وليس الألف واللام فى الرسول كذلك. وأما فى الأنفال فلانضمام الرسول إليه فى العطف ، ولم يدغم فيها لأن التقدير فى القافات قد اتصل بهما ، فإن الواو توجب ذلك.

__________________

(١) سقطت من ب.

(٢) فى ب : الأولى بالمنزلة ، والثانية بالمنزل.

(٣) سقطت من أ.

(٤) الآية فى الحشر / ٤ : (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (المراجع).

ملحق :

(أ) ذكر الإسكافى فى التكرار آية لم يذكرها الكرمانى هى قوله تعالى فى النساء : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [١٢٨].

وقال بعدها : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ، وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [١٢٩] ، لم قال فى الأولى :

(وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) ، وفى الثانية : (وَإِنْ تُصْلِحُوا)؟ ولم ختم الثانية بقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)؟

والجواب عن الأول : أنه لما كان الكلام عن شحّ النساء بمهورهن عند خوف الزوجة نفور زوجها ، ورغبتها فى الخلع ، وهذا يقتضى غضب الزوج ، فخوطب بوجوب الإحسان فى القول والمعاملة.

أما الآية الثانية : فلما كان العدل بين النساء فى الشهوة والحب غير مستطاع ، اقتضى ذلك الميل إلى إحداهن وترك الأخرى معلّقة ، فاقتضى الحال حث الأزواج على إصلاح هذا الخطأ ،

٩٧

٧٧ ـ قوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) (١٣٥) ، وفى المائدة : (قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) (٨) ، لأن (لِلَّهِ) فى هذه السورة متصل ومتعلق بالشهادة بدليل قوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (١٣٥) ، أى : ولو تشهدون عليهم. وفى المائدة منفصل ومتعلق بقوامين ، والخطاب للولاة بدليل قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) الآية «٥ / ٨».

٧٨ ـ قوله : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) (١٤٩) فى هذه السورة ، وفى الأحزاب : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) (٥٤) ، لأن فى هذه السورة وقع الخبر فى مقابلة السوء فى قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) (١٤٨). والمقابلة اقتضت أن يكون بإزاء السوء الخير ، وفى الأحزاب وقع بعدها : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (٦٠). فاقتضى العموم ، وأعم الأسماء شىء ، ثم ختم الآية بقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٥٤).

٧٩ ـ قوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٧٠).

__________________

فقال : (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا). ولذلك اقتضى تذييل الآية بقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). وتذييل الأولى بقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فهو العالم بحقيقة الإحسان فى المعاملة ، والخبير بما فى الصدور. انظر : (درة التنزيل : ٨٠ ، ٨١).

(ب) كذلك ذكر الإسكافى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فقد كررت ثلاث مرات فى سورة النساء ، [الآيات ١٢٦ ، ١٣١ ، ١٣٢]. وختمت الأولى بقوله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) ، والثانية : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) ، والثالثة بقوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). والأولى لم يتبعها ما أتبع الوسطى والأخيرة.

ولا تكرار ، لأن الكلام أعيد لأسباب مختلفة ، فالثانية : جاءت بعد الإذن للزوجين بالتفرقة لأنه يغنى كلّا منها من فضله ، لأن له ما فى السموات والأرض ، والثالثة : بعد وصية أهل الكتاب بالتقوى لأنه واسع الفضل ، وله ما فى السموات والأرض ، فناسب ختم الآية بقوله : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً). ولما وجبت طاعته لأنه ملك السموات والأرض اقتضى ذلك أن يخبر عن كمال كفايته وحفظه للمؤمنين ولا زيادة على كفايته فى حفظ ما هو موكول إلى تدبيره ، فاقتضى الختم بقوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). انظر : (درة التنزيل ٨٢ ـ ٨٣).

٩٨

وسائر ما فى هذه السورة : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) «١٢٦ ، ١٣١ ، ١٧١» ، لأن الله سبحانه ذكر أهل الأرض فى هذه الآية تبعا لأهل السموات ، ولم يفردهم بالذكر لانضمام المخاطبين إليهم ، ودخولهم فى زمرتهم ، وهم كفار عبدة أوثان ، وليسوا بمؤمنين ولا من أهل الكتب ، لقوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا) (١٧٠) وليس هذا قياسا مطردا ، بل علامة.

٨٠ ـ قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ) (١٧٦) بغير واو ، لأن الأول لما اتصل بما بعده وهو قوله : (فِي النِّساءِ) (١٢٧) وصله بما قبله بواو العطف والعائد جميعا ، (والثانى لما انفصل عما بعده) (١) اقتصر من الاتصال على العائد وهو ضمير المستفتين ، وفى الآية متصل بقوله :(يُفْتِيكُمْ) ، وليس بمتصل بقوله : (يَسْتَفْتُونَكَ) ، لأن ذلك يستدعى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). والذى يتصل بيستفتونك (٢) محذوف يحتمل أن يكون (فِي الْكَلالَةِ) (٣) ، ويحتمل أن يكون فيما بدا لهم من الوقائع.

سورة المائدة

٨١ ـ قوله : (وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ) (٤) (٣) ، بحذف الياء ، وكذلك : (وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا) (٥) (٤٤). وفى البقرة وغيرها : (وَاخْشَوْنِي) (٦) (١٥٠) بالإثبات ، لأن الإثبات هو الأصل ،

__________________

(١) ما بين الحاصرين سقط من أ.

(٢) فى أ : والذى يتصل به يستفتونك.

(٣) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(٤) الآية : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) الآية [المائدة : ٣] (المراجع).

(٥) الآية : (... فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ...) الآية [المائدة : ٤٤] (المراجع).

(٦) الآية : (... فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ...) الآية.

[البقرة : ١٥٠]

٩٩

وحذفت الياء من (وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ) من الخط لما حذفت من اللفظ ، وحذفت من (وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا) موافقة لما قبلها (١).

٨٢ ـ قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧) ثم أعاد فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٨) ، لأن الأول وقع على النية وهى بذات الصدور (٢) والثانى على العمل.

وعن ابن كثير : أن الأولى نزلت فى اليهود (٣) وليس بتكرار.

٨٣ ـ قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٩). وقال فى سورة الفتح : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩). رفع ما فى هذه السورة موافقة لفواصل الآى ، ونصب ما فى الفتح موافقة للفواصل أيضا ، ولأنه فى الفتح مفعول وعد.

وفى مفعول وعد فى هذه السورة أقوال :

أحدها : محذوف دل عليه وعد ، خلاف ما دل عليه أو عد ، أى (٤) : خيرا ، وقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يفسره. وقيل : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) جملة وقعت موقع المفرد ، ومحلها نصب كما قال الشاعر :

وجدنا الصالحين لهم جزاء

وجنات وعينا سلسبيلا

فعطف (٥) جنات على محل : لهم جزاء. وقيل : رفع على الحكاية ، لأن الوعد قول ، وتقديره قال الله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ). وقيل : تقديره :إن لهم مغفرة. فحذف إن فارتفع ما بعده.

__________________

(١) العبارة مضطربة فى ب هكذا : (وحذف واخشون ولا موافقة قبلها) وما قبلها هو ما فى الآية (١).

(٢) فى أ : ذات الصدور. والنية مفهومة من تشريع التيمم فى الآية رقم (٦) من سورة الأنعام ، وهى قبل هذه.

(٣) انظر : (تفسير ابن كثير ٢ / ٥٧) طبعة الشعب. رواه على بن طلحة عن ابن عباس.

وبه قال السدى ، واختاره ابن جرير. وانظر : (جامع البيان الطبرى ١٠ / ٩٣).

(٤) سقطت من ب.

(٥) فى ب : وعطف.

١٠٠