أسرار التكرار في القرآن

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني

أسرار التكرار في القرآن

المؤلف:

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني


المحقق: عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفضيلة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٩

لأنهم قومه دون سائر الأقوام ، ولا يلعن قوما لأنهم ورثوا اللعنة من الآباء والأجداد ، حق الإنسان الإيمان بالله رب العالمين. كلاهما معجزة إلهية تجلت بها قدرة الله على غير مثال سابق متسلسل عن أسبابه فى بيئته ، ولا فيما جاورها من البيئات ، فإن السوابق التى سلفت قبل الإسلام كانت كسوابق المرض الذى يتطلب الشفاء ، ولم تكن كسوابق العلاج الذى ينتهى إلى الشفاء. وتلك هى السوابق التى تتجلى فيها قدرة الله على يد رسول من رسله ، ينبعث بالهداية ، موفقا بوحى من الله فيصنع المعجزة التى لم تمهد لها أسبابها ودواعيها ، لأن أسبابها الخفية ، ودواعيها الكامنة فى السريرة الإنسانية تفوق ذرع العقول ، ولا تدخل فى الحساب .. المرض الذى يؤدى إلى الموت سبب ، والمرض الذى ينتهى إلى العلاج سبب ، فإذا اختلط علينا السببان ، وجاء الشفاء من حيث نتوقع الهلاك ، فتلك معجزة إلهية علمها عند الله ، وأسبابها غير الأسباب التى نقدرها قبل وقوعها».

وهكذا يمتد نور القرآن ، فيداخل العقول فى كل مكان على ظهر الأرض يكاد يشبه فعله فيها فعل الصدمات الكهربية فى أدمغة المرضى العقليين ، إذ يفيقون بعدها وقد تفتحت عيونهم على الكون برؤية جديدة ، وإدراك رشيد ، ولم تكن تلك الموجات التى تروى الفكر فى أرجاء الأرض هى موجات اللغة والأسلوب. كل ما فى الأمر أن روح هذا القرآن صنعت المعجزة بين قوم عجزوا عن معارضته فأسلموا له القياد ، وبدأت بعد ذلك مسيرة القرآن فى العالم الناطق بمختلف الألسنة واللغات ، واكتشف هؤلاء الأعاجم من أسرار القرآن ودلائل إعجازه وعظمته وتفوقه على كل الدساتير والمناهج العلمية فى العالم كل ما لم يمارسه الناطقون بالعربية فى عصرنا الحاضر.

ألم يأن للمؤمنين أن يفتحوا أعينهم بعد؟

ألم يأن لهم أن يجانبوا السفسطة وحب الظهور على حساب غمز القرآن؟

٦١

ألم يأن لهم أن يتفرغوا للقرآن بدلا من تفرغهم لأوهام ذوى المآرب العالمية؟

ألم يأن لهم أن يرتفعوا عن ضيق الأفق والعنصرية التى تهدد الزحف القرآنى نحو العالم؟

بل : ألم يأن لنا أن ننشئ أكاديمية للدراسات القرآنية؟

إن فى هذا فتحا جديدا للعرب والمسلمين إن فعلوا ، والله نسأل لنا ولهم التوفيق.

عبد القادر أحمد عطا

القاهرة :

محرم ١٣٩٧ ه‍

يناير ١٩٧٧ م

* * *

٦٢

مقدّمة المصنّف (١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الشيخ الإمام العالم العلامة ، تاج القراء أبو القاسم محمود (٢) ابن حمزة نصر الكرمانى ـ رضى الله عنه ورحمه ـ :

الحمد لله الذى أنزل الفرقان (٣) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون للعالمين نذيرا ومعجزا للإنس والجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، نحمده على تفضّله علينا بكتابه (٤) فضلا كبيرا ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا.

ونصلى ونسلم على المبعوث بشيرا ونذيرا ، وداعيا (٥) إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، صلاة (دائمة) (٦) تتصل ولا تنقطع بكرة وهجيرا (٧).

وبعد :

فإن هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات (٨) التى تكرّرت فى القرآن وألفاظها متّفقة ، ولكن وقع فى بعضها زيادة أو نقصان ، أو تقديم أو إبدال (٩) حرف مكان حرف ، أو غير ذلك مما يوجب اختلافا بين الآيتين أو الآيات التى تكرّرت من غير زيادة ولا نقصان ، وأبين (ما) (١٠)

__________________

(١) العنوان من عندنا لزيادة الفائدة (المراجع).

(٢) فى أ : محمد. والمثبت عن ب ومعجم الأدباء لياقوت ١٩ / ٢٥ وطبقات المفسرين للداودى ٢ / ٢٤٢ وبغية الوعاة ٢ / ٢٧٧ وطبقات القراء ٢ / ٢٩١.

(٣) فى ب : (القرآن).

(٤) فى ب : (بكتابه تفضيلا).

(٥) فى ب : (ودعانا).

(٦) سقطت من : ب.

(٧) الهجير : وقت الظهيرة.

(٨) فى ب : (المتشابهة).

(٩) فى ب : (بإبدال).

(١٠) سقطت من أ.

٦٣

السبب فى تكرارها (١) ، والفائدة فى إعادتها ، وما الموجب للزيادة والنقصان ، والتقديم والتأخير والإبدال ، وما الحكمة فى تخصيص الآية بذلك دون الآية الأخرى ، وهل كان يصلح (ما) (٢) فى هذا السورة مكان ما فى السورة التى تشاكلها (٣) أم لا؟ ليجرى ذلك مجرى علامات تزيل إشكالها ، وتمتاز (بها) (٤) عن أشكالها ، من غير أن أشتغل بتفسيرها وتأويلها ، فإنى بحمد الله (قد) (٥) بيّنت ذلك كله (بشرائطه) (٦) فى كتاب «لباب التفسير وعجائب التأويل» (٧) مشتملا على أكثر ما نحن بصدده ، ولكنى (٨) أفردت هذا الكتاب لبيان المتشابه ، فإن الأئمة ـ رحمهم‌الله تعالى ـ قد شرعوا فى تصنيفه واقتصروا على ذكر الآية ونظيرتها (٩) ، ولم يشتغلوا بذكر وجوهها وعللها والفرق بين الآية ومثلها. (وهو) (١٠) المشكل الذى لا يقوم بأعبائه إلّا من وفّقه الله لأدائه.

وقد قال أبو مسلم (١١) فى تفسيره عن أبى عبد الله الخطيب (١٢) فى تفسيره كلمات معدودات منها ، وأنا أحكى لك كلامه فيها إذا بلغت إليها ، مستعينا بالله ، ومتوكلا عليه.

وسميت هذا الكتاب «البرهان فى متشابه القرآن ، لما فيه من الحجة والبيان» (١٣) وبالله وعليه التكلان.

__________________

(١) فى ب : (تكريرها).

(٢) سقطت من أ.

(٣) فى ب : (تشابهها).

(٤ ، ٥ ، ٦) سقطت من ب.

(٧) كتاب «لباب التفسير وعجائب التأويل» ذكره ياقوت فى معجم الأدباء ١٩ / ٢٥ والداودى فى طبقات المفسرين ٢ / ٢٤٢ ، وهو مطبوع فى مجلدين (المراجع).

(٨) فى أ : (ولكن).

(٩) فى ب : (ونظيرها).

(١٠) سقطت من أ.

(١١) أبو مسلم هو : محمد بن محمد على بن الحسين بن مهرايزد النحوى المعلم الأصبهانى الأديب. كان نحويّا غاليا فى الاعتزال ، صنّف تفسيرا فى عشرين مجلدا. ولد عام ٢٦٦ ه‍ ومات فى ٤٥٩ ه‍. انظر (بغية الوعاة ١ / ٦٥٥ ، شذرات الذهب ٣ / ٣٠٧ ، لسان الميزان ٥ / ٢٩٨ ، ميزان الاعتدال ٣ / ٦٥٥ ، والوافى بالوفيات ٤ / ١٣٠).

(١٢) هو : أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالخطيب الإسكافى أحد علماء اللغة والأدب من أهل أصبهانى ، وكان إسكافا ، ولى خطابة الرى ومات سنة ٤٢٠ ه‍. له كتب فى اللغة والأدب.

(١٣) وقد سميناه «أسرار التكرار فى القرآن الكريم» لما بيّنّاه فى المقدمة ، للعدول عن التسمية الأصلية (المراجع).

٦٤

سورة الفاتحة

١ ـ أول المتشابهات قول : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ) فيمن جعل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) آية (١) من الفاتحة. وفى تكراره قولان : قال على بن عيسى (٢) : إنما كرّر للتوكيد ، وأنشد قول الشاعر :

هلّا سألت جموع كن

دة يوم ولّوا أين أينا

وقال قاسم بن حبيب (٣) : إنما كرّر لأن المعنى : وجب الحمد لله لأنه الرحمن الرحيم.

قلت : إنما كرّر لأن الرحمة هى : الإنعام على المحتاج. وذكر فى الآية الأولى المنعم ولم يذكر المنعم عليهم ، فأعادها مع ذكرهم وقال : (رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ) لهم جميعا (٤) ، ينعم عليهم ويرزقهم (الرَّحِيمِ) بالمؤمنين خاصة يوم الدين ، ينعم عليهم ويغفر لهم.

٢ ـ قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). كرر (إِيَّاكَ) وقدّمه ، ولم يقتصر على ذكره مرة ، كما اقتصر على ذكر أحد المفعولين فى آيات كثيرة منها : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٥). أى : ما قلاك. وكذلك الآيات التى بعدها معناها : (فآواك ـ فهداك ـ فأغناك) ، لأن فى التقديم فائدة ، وهى : قطع الاشتراك ، ولو حذف لم يدل على

__________________

(١) الذين جعلوا البسملة آية من الفاتحة : ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، ومكحول ، وطاوس ، وابن المبارك ، وابن شهاب وطائفة لا تحصى والشافعى وابن وهب المالكى ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وطائفة من أهل النظر والأصول (العلوم والمعانى ورقة ١٥).

(٢) على بن عيسى أبو الحسن الرمانى مفسر من كبار النحاة. ولد ببغداد ومات بها سنة ٣٨٤ ه‍. له مؤلفات منها : التفسير وهو مفقود ، والمعلوم والمجهول ، والأكوان ، ورسائل فى إعجاز القرآن ... وغيرها. انظر ترجمته فى : (بغية الوعاة ٢ / ١٨٠ ، ١٨١ ، وفيات الأعيان ، وتاريخ بغداد ٢ / ١٦ ، ونزهة الألباء ٢٨٩ ، وإنباء الرواة ٢ / ٢٩٤).

(٣) قاسم بن حبيب ذكره الزبيدى فى الطبقة الرابعة من النحاة بالقيروان. (طبقات النحويين واللغويين ٣٧٢) ، وذكره السيوطى فى بغية الوعاة ٢ / ٢٥٢ / ١٩١٧.

(٤) فى أ : أجمعين.

(٥) سورة الضحى ، الآية ٣.

٦٥

التقديم ، لأنّك لو قلت : إياك نعبد ونستعين ، لم يظهر أن التقدير : إياك نعبد وإياك نستعين ، أم : إياك نعبد ونستعينك ، فكرّره (١).

٣ ـ قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). كرّر (الصِّراطَ) لعلّه تقرب ممّا ذكرت فى (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وذلك أن الصراط هو : المكان المهيأ للسلوك ، فذكر فى الأول المكان ، ولم يذكر السّالكين ، فأعاده مع ذكرهم فقال : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). أى : الذى يسلكه النبيون والمؤمنون. ولهذا كرّر أيضا فى قوله : (... إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ) (٢) لأنه ذكر المكان المهيّأ ، ولم يذكر المهيّئ. فأعاده مع ذكره فقال : (صِراطِ اللهِ) ، أى الذى هيّأه للسالكين.

٤ ـ قوله : (عَلَيْهِمْ) ليس بتكرار ، لأن كل واحد منهما متصل بفعل غير الآخر ، وهو : الإنعام ، والغضب. وكل واحد منهما يقتضيه اللفظ ، وما كان هذا سبيله فليس بتكرار ولا من المتشابه.

سورة البقرة

٥ ـ قوله تعالى : (الم) هذه الآية تتكرر فى أوائل ست سور ، فهى من المتشابه لفظا ، وذهب جماعة من المفسرين إلى أن قوله :

(وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (٣) هى هذه الحروف الواقعة فى أوائل السور ، فهى أيضا من المتشابه لفظا ومعنى ، والموجب لذكره أول البقرة من

__________________

(١) والفرق بينهما : أن معنى الأول : لا نعبد غيرك ، ولا نستعين بسواك ، والثانى : لا نعبد غيرك ونستعين بك وبسواك. فكرّر إياك لقطع الاشتراك فى أىّ من الفعلين.

(٢) سورة الشورى ، آية ٥٢ ، ٥٣ والصراط : الطريق والسبيل ، وذلك لقطع دعوى استقامة الطرق السلوكية التى يخترعها الناس ، ولتخصيص الاستقامة بطريق الله وحده. وفى آية الفاتحة ذكر هذا المعنى مفهوما من نتيجة السلوك على الصراط ، وهى : الإنعام على السالكين من الله. فإنعام الله على سالكيه دليل على أنه طريقه المرضى عنده.

(٣) سورة آل عمران آية ٧. والقول الذى نقله المؤلف هو قول مقاتل بن حيان. انظر (تفسير ابن كثير ٢ / ٥).

٦٦

القسم وغيره ، وهو بعينه الموجب لذكره فى أوائل سائر السور المبدوءة به ، وزاد فى الأعراف صادا لما جاء بعده : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) (١) ولهذا قال بعض المفسرين : معنى (المص) (٢) ألم نشرح لك صدرك. وقيل : معناه المصور. وزاد فى الرعد راء لقوله بعده : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) (٣).

٦ ـ قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) (٤) ، وفى يس : (وَسَواءٌ) (٥) بزيادة واو ، لأن ما فى البقرة جملة هى خبر عن اسم إن ، وما فى يس جملة عطفت بالواو على جملة.

٧ ـ قوله : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٦) ليس فى القرآن غيره تكرار العامل مع حرف العطف لا يكون إلّا للتأكيد ، وهذه حكاية كلام المنافقين ، وهم أكّدوا كلامهم نفيا للريبة ، وإبعادا للتهمة ، فكانوا فى ذلك كما قيل : (يكاد المريب يقول خذونى). فنفى الله الإيمان عنهم بأوكد الألفاظ فقال : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٧) ، ويكثر ذلك مع النفى ، وقد جاء فى القرآن فى موضعين : فى النساء : (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٣٨) ، وفى التوبة : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢٩).

٨ ـ قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (٢١) ليس فى القرآن غيره ، لأن العبادة فى الآية : التوحيد (٨).

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢.

(٢) سورة الأعراف : ١.

(٣) سورة الرعد : ٢.

(٤) سورة البقرة : ٦.

(٥) سورة يس : ١٠.

(٦) سورة البقرة : ٨.

(٧) سورة البقرة : ٨.

(٨) انظر فى تفسير هذه الآية القرطبى ١ / ٢٣٨ ، والكشاف ١ / ٨٠ ، والبيضاوى ١ / ١٦ ، ومثل قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات : ٥٦. أى يوحدون ، ومثل قوله تعالى : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) الزخرف ٨١. أى الموحدين انظر تفسير الطبرى ٢٧ / ٢٢٨ ، والقرطبى ١٧ / ٥٥ (المراجع).

٦٧

والتوحيد أول ما يلزم العبد من المعارف ، فكان هذا أول خطاب خاطب الله به الناس فى القرآن ، فخاطبهم بما ألزمهم أولا ، ثم ذكر سائر المعارف ، وبنى عليها العبادات فيما بعدها من السور والآيات.

فإن قيل : سورة البقرة ليست من أول القرآن نزولا ، فلا يحسن فيها ما ذكرت.

قلت : أول القرآن سورة الفاتحة ، ثم البقرة ، ثم آل عمران ، على هذا الترتيب إلى سورة الناس ، وهكذا هو عند الله فى اللوح المحفوظ ، وهو على هذا الترتيب كان يعرضه عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه‌السلام كل سنة أى : ما كان يجتمع عنده منه ، وعرضه عليه الصلاة والسلام فى السنة التى توفى فيها مرتين (١) ، وكان آخر الآيات نزولا : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (٢) ، فأمره جبريل أن يضعها بين آيتى الرّبا والدين (٣).

وذهب جماعة من المفسرين إلى أن قوله فى هود : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) (١٣) معناه : مثل البقرة إلى هود ، وهى العاشرة ، ومعلوم أن سورة هود مكية ، وأن البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة مدنيات نزلن بعدها.

__________________

(١) نقل القرطبى ١ / ٦٠ عن أبى بكر بن الأنبارى : أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ثم فرق على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عشرين سنة. وكانت السورة تنزل فى أمر يحدث ، والآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ، ويوقف جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موضع السورة والآية ...

فمن أخّر سورة مقدّمة ، أو قدّم سورة مؤخّرة ، فهو كمن أفسد نظم الآيات. وحديث عرض القرآن مرتين فى آخر حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه أحمد فى المسند عن ابن عباس المسند ١ / ٢١٣ ، وموافقة ما فى مصحف عثمان للعرضة الأخيرة نقله القسطلانى عن الإمام أحمد ، وابن أبى داود فى المصاحف ، والطبرى من طريق عبيدة السلمانى ، ومحمد بن سيرين (لطائف الإشارات ١ / ٣٠ ، وانظر الإتقان ١ / ٧٧ ـ ٧٩) فقد استوعب السيوطى آراء العلماء فى ترتيب السور والآيات وأنها من الوحى ، وكذلك انظر مقدمة (تناسق الدرر فى تناسب السور) للسيوطى أيضا.

(٢) سورة البقرة : ٢٨١.

(٣) تفسير القرطبى ١ / ٦٠ ، ٦١ أخرجه عن ابن عباس ، خلافا لما روى عن البراء : أن آخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ...) [سورة النساء : ١٧٦].

٦٨

وفسّر بعضهم قوله : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) «٧٣ : ٤» أى : اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم وتأخير ، وجاء النكير على من قرأه معكوسا (١) ، ولو حلف إنسان أن يقرأ القرآن على الترتيب لم يلزمه إلّا على هذا الترتيب ، ولو نزل جملة كما اقترحوا عليه بقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) «٢٥ : ٣٢» لنزل على هذا الترتيب ، وإنما تفرقت سوره وآياته نزولا لحاجة الناس حالة بعد حالة ، ولأن فيه الناسخ والمنسوخ ، ولم يكونا ليجتمعا نزولا.

وأبلغ الحكم فى تفرقة ما قاله سبحانه : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) «١٧ : ١٠٦» وهذا أصل تنبنى عليه مسائل ، والله أعلم.

٩ ـ قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) «٢ : ٢٣» بزيادة (مِنْ) السورة ، وغيرها (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) «١٠ : ٣٨» ، لأن (مِنْ) تدل على التبعيض ، ولما كانت هذه السورة سنام القرآن (٢) وأوله بعد الفاتحة ، حسن دخول (مِنْ) فيها ليعلم أن التحدى واقع على جميع سور القرآن من أوله إلى آخره ، وغيرها من السور لو دخلها (مِنْ) لكان التحدى واقعا على بعض السور دون بعض ، ولم يكن ذلك بالسهل.

والهاء فى قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) تعود إلى (مِمَّا) (٣) وهو القرآن ، وذهب بعضهم إلى أنه يعود على محمد عليه الصلاة والسلام (٤) ، أى :

__________________

(١) هذا هو رأى ابن مسعود وابن عمر. انظر تفسير القرطبى ١ / ٦١. وقد فسره القرطبى بقراءة السورة منكوسة أى من آخرها إلى أولها.

(٢) أخرجه أحمد فى المسند ٥ / ٢٦ عن معقل بن يسار عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البقرة سنام القرآن وذروته ...» الحديث ، وفى الترمذى ٨ / ١٨١ عن أبى هريرة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل شىء سنام وإن سنام القرآن البقرة» أخرجه الطبرانى وأبو حاتم وابن حبان فى صحيحه (مجمع الزوائد ٢ / ٤٤٧) ، والدارمى فى فضائل القرآن ٢ / ٤٤٧ عن ابن مسعود.

(٣) إشارة إلى ما فى قوله تعالى فى نفس الآية : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا ...).

(٤) وهو مدلول عليه فى الآية بقوله : (عَلى عَبْدِنا).

٦٩

فأتوا بسورة من إنسان مثله ، وقيل : يعود إلى الأنداد (١) وهو ضعيف. لأن الأنداد جماعة ، والهاء لفرد. وقيل : مثله : التوراة ، والهاء تعود إلى القرآن. والمعنى : فأتوا بسورة من التوراة التى هى مثل القرآن ليعلموا وفاقهما. (وهو) خطاب لليهود.

١٠ ـ قوله : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) «٢ : ٣٤» ذكر هذه الخلال فى هذه السورة جملة ، ثم ذكرها فى سائر السور مفصلا ، فقال فى الأعراف (٢) : (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١). وفى سبحان (الإسراء) (٣) : (إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٦١). وفى الكهف : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (٤) (٥٠). وفى طه : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) (١١). وفى ص : (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٧٤) (٥).

١١ ـ قوله : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا) (٣٥) بالواو. وفى الأعراف : (فَكُلا) (١٩) بالفاء. (اسْكُنْ) فى الآيتين ليس بأمر بالسكون الذى هو ضد الحركة ، وإنما الذى فى البقرة من السكون الذى معناه الإقامة (وذلك يستدعى زمانا ممتدا) فلم يصح إلّا بالواو ، لأن المعنى : اجمع بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها. ولو كان الفاء مكان الواو لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة ، لأن الفاء للتعقيب والترتيب. والذى فى الأعراف من السكنى الذى معناها : اتخاذ الموضع مسكنا ، لأن الله تعالى أخرج إبليس من الجنة بقوله :

__________________

(١) الأنداد فى قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) آية ٢٢ من نفس السورة. والأنداد : النظراء والشركاء. (المراجع)

(٢) فى أ ، ب : فى الفرقان ، والآية فى الأعراف كما أثبتناه وليست فى الفرقان.

(٣) إضافات من المراجع.

(٤) الآية : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ...) [الكهف : ٥٠].

(٥) لم يذكر المؤلف علّة الإجمال والتفصيل. وأقول : إن هذه قضية تتعلق بالعقيدة ، وكل ما كان من أصول العقيدة فى القرآن بدئ فيه بالكلى ، ثم بالجزئيات ، إلزاما لصيانة الاعتقاد. وكل ما هو من أصول التشريع جاء تدريجيا ، من الجزئى إلى الكلى.

٧٠

(اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) (١٨) وخاطب آدم فقال : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (١٩) أى : اتخذاها لأنفسكما مسكنا (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) (١٩) ، فكانت الفاء أولى ، لأن اتخاذ المسكن لا يستدعى زمانا ممتدا ، ولا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه ، بل يقع الأكل عقيبه.

وزاد فى البقرة (رَغَداً) لما زاد فى الخبر تعظيما بقوله : (وَقُلْنا) ، بخلاف سورة الأعراف ، فإن فيها (قالَ). والخطيب ذهب إلى أن ما فى الأعراف خطاب لهما قبل الدخول ، وما فى البقرة بعد الدخول (١).

١٢ ـ قوله : (اهْبِطُوا مِنْها) (٣٨) ، كرّر الأمر بالهبوط (٢) لأن الأول من الجنة والثانى من السماء.

١٣ ـ قوله : (فَمَنْ تَبِعَ) (٣٨) ، وفى طه : (فَمَنِ اتَّبَعَ) (١٢٣) تبع واتبع بمعنى ، وإنما اختار فى طه (اتَّبَعَ) موافقة لقوله تعالى : (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) [طه : ١٠٨].

١٤ ـ قوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) (٤٨) قدم الشفاعة فى هذه الآية وأخّر العدل ، وقدم العدل فى الآية الأخرى (٣) من هذه السورة وأخّر الشفاعة. وإنما قدم الشفاعة قطعا

__________________

(١) انظر : (درة التنزيل وغرة التأويل ص ١١) نشر دار الآفاق الجديدة فى بيروت ١٩٧٣ م وفيه كذلك أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالابتداء. وكان الأول مع الثانى بمنزلة الشرط والجزاء ، فالأصل فيه عطف الثانى على الأول بالفاء ، وما لم يكن كذلك فالعطف بالواو. ومن الأول الآية رقم (١٩ ، ١٦١) الأعراف ، و (٥٨) البقرة. ومن الثانى آية البقرة هنا (٣٥).

(٢) التكرار فى نفس السورة : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة : ٣٦].

والآية الأخرى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] (المراجع).

(٣) الآية الأخرى فى نفس السورة (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) (١٣٢) ، والعدل هنا : الفدية.

٧١

لطمع من زعم أن آباءهم تشفع لهم ، وأن الأصنام شفعاؤهم عند الله (١) ، وأخرها فى الآية الأخرى لأن التقدير فى الآيتين معا : لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة ، لأن النفع بعد القبول ، وقدم العدل فى الآية الأخرى ليكون لفظ القبول مقدما فيها.

١٥ ـ قوله : (يُذَبِّحُونَ) «٤٩» بغير واو هنا على البدل من (يسومونكم) (٢) وفى الأعراف : (يَقْتُلُونَ) «١٤١». وفى إبراهيم : (وَيُذَبِّحُونَ) «٦» بالواو ، لأن ما فى «هذه السورة» و «الأعراف» من كلام الله تعالى ، فلم يرد تعداد المحن عليهم ، والذى فى «إبراهيم» من كلام موسى ، فعدد المحن عليهم ، وكان مأمورا بذلك فى قوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) «١٤ : ٥».

١٦ ـ قوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) «٥٧» هاهنا ، وفى الأعراف «١٦٠». وقال فى آل عمران : (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) «١١٧» لأن ما فى السورتين إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا ، وما فى آل عمران مثل (٣).

١٧ ـ قوله : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا) «٥٨» بالفاء ، وفى الأعراف «» بالواو ، لأن الدخول سريع الانقضاء ، فيتبعه الأكل ، وفى (الأعراف) (٤) : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا) «١٦١»

__________________

(١) ويرى الإسكافى أن الآية الأولى جمعت على الترتيب كل الأمور التى يدفع بها المكروه عن الأعزة ونفت حدوثها فى الآخرة. فالعرب تدافع عن العزيز بغاية القوة والجلد كما يدفع الوالد عن ولده ، فإذا عجزوا عادوا بوجوه الضراعة والشفاعة ، فإذا عجزوا عرضوا الفداء بالمال أو غيره.

وعلى مقتضى التقاليد العربية نفت الآية جدوى تلك التقاليد فى الآخرة (درة التنزيل ص ١٢).

(٢) قال الزجاج : يسومونكم : يولونكم سوء العذاب. وقال الليث : السوم : أن تجشم إنسانا مشقة أو سوءا أو ظلما (لسان العرب ١٢ / ٣١٢).

(٣) سياق الآيات فى البقرة والأعراف عن بنى إسرائيل ، وكان المخاطبون بها قد ماتوا وانقرضوا قبل البعثة المحمدية. والمثل فى آل عمران قوله : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٧٧).

(٤) سقطت من ب.

٧٢

المعنى : أقيموا فيها ، وذلك ممتد ، فذكر بالواو ، أى : اجمعوا بين الأكل والسكون ، وزاد فى البقرة (رَغَداً) لأنه سبحانه أسنده إلى ذاته بلفظ التعظم وهو قوله : (وَإِذْ قُلْنا) خلاف ما فى الأعراف ، فإن فيه : (وَإِذْ قِيلَ).

وقدم (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) على قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) فى هذه السورة ، وأخّرها فى الأعراف ، لأن السابق فى هذه السورة (ادْخُلُوا) فبيّن كيفية الدخول (١).

وفى هذه السورة (خَطاياكُمْ) (٥٨) بالإجماع. وفى الأعراف (خَطِيئاتِكُمْ) (١٦١) مختلف (٢) لأن خطايا صيغة الجمع الكثير ، ومغفرتها أليق فى الآية بإسناد الفعل إلى نفسه سبحانه.

وفى هذه السورة (وَسَنَزِيدُ) ، وفى الأعراف (سَنَزِيدُ) بغير واو ، لأن اتصالها فى هذه السورة أشد ، لاتفاق اللفظين. واختلفا فى الإعراب لأن اللائق (سَنَزِيدُ) محذوف الواو ليكون استئنافا لكلام (٣).

__________________

(١) قال الإسكافى : إن ما أخبر الله به من قصة موسى وبنى إسرائيل وسائر الأنبياء لم يقصد به حكاية الألفاظ بأعيانها ، وإنما قصد اقتصاص معانيها ، وكيف لا يكون كذلك واللغة التى خوطبوا بها غير العربية ، فحكاية اللفظ إذن زائلة ، وتبقى حكاية المعنى ، ومن حكاية المعنى كان مخبرا بأى لفظ أراد ، وكيف شاء من تقديم وتأخير بحرف لا يدل على الترتيب كالواو. وعلى هذا يقاس نظائره فى القرآن (درة التنزيل ص ١٧).

(٢) قرأ نافع وابن عامر (تغفر) بالتاء مضمومة وفتح الفاء ، والباقون بالنون مفتوحة (نغفر). وقرأ أبو عمرو (خطاياكم) على لفظ قضاياكم ، من غير همز ، وابن عامر (خطيئتكم) بالهمز وضم التاء من غير ألف ، على التوحيد ، ونافع كذلك إلّا أنه على الجمع ، والباقون كذلك إلّا أنهم يكسرون التاء (التيسير ص ١١٤) طبعة إستانبول ١٩٢٠ م.

(٣) بيان ذلك : أن (ادْخُلُوا) من قوله تعالى فى البقرة : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا) وقعت فى موضع المفعول من (قُلْنَا). والمفعول يكون مفردا ، ويكون مكانه جملة ، والفاعل عند البصريين لا يكون إلّا مفردا ، ولا تصح الجملة مكانه ، ولذلك يقولون فى قوله فى سورة يوسف : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) (٣٥). إن فاعل (بَدا) هو البداء الذى دل عليه الفعل ، لأن الفعل دال على مصدر ، وكذلك قوله تعالى فى السجدة :(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا) (٢٦). فاعل (يَهْدِ) عند البصريين يكون الفاعل فى قوله فى الأعراف : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا) مفردا ، ولا يصح أن يكون جملة ، ولا يجوز أن يكون

٧٣

وفى هذه السورة (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً) «٥٩». وفى الأعراف «١٦٢» (ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ، (لأن فى الأعراف) (١) (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) «١٥٩» ، ولقوله : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) «٧ : ١٦٨».

وفى هذه السورة (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) «٥٩» ، وفى الأعراف (فَأَرْسَلْنا) «١٦٢» ، لأن لفظ الرسول والرسالة كثرت فى الأعراف ، فجاء ذلك وفقا لما قبله ، وليس كذلك فى سورة البقرة.

١٨ ـ قوله : (فَانْفَجَرَتْ)««٦٠» ، وفى الأعراف : (فَانْبَجَسَتْ) «١٦٠» ، لأن الانفجار : انصباب الماء بكثرة. والانبجاس : ظهور الماء. وكان فى هذه السورة (كُلُوا وَاشْرَبُوا) فذكر بلفظ بليغ. وفى الأعراف : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) وليس فيه : واشربوا. فلم يبالغ فيه.

١٩ ـ قوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) «٦١» فى هذه السورة ، وفى آل عمران : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) «٢١» وفيها وفى النساء : (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) «١٥٥» ، لأن ما فى البقرة إشارة إلى الحق الذى أذن الله أن تقتل النفس به ، وهو قوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) «٦ : ١٥١» فكان الأولى أن يذكر (٢)

__________________

= (اسْكُنُوا) مكان الفاعل كما كان (ادْخُلُوا) مكان المفعول ، فى قوله : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا). فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل لفظا مفردا ، هو القول ، كما كان البداء فاعل قوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) ، وإذا خرج قوله : (اسْكُنُوا) عن كونه فاعلا وكان لفظه فى موضع الفاعل ، ولم يتعلق بالفعل الذى قبله تعلق الفاعل بفعله ، ولا تعلق المفعول بفعله الواقع فيه فى قوله : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا) صار كأنه منفصل عن الفعل فى الحكم ، وإن كان متصلا به فى اللفظ ، وجواب الأمر الذى هو اسكنوا قوله : (نَغْفِرْ لَكُمْ). والجواب فى حكم الابتداء ، ينفصل كما يتصل ، ولا دليل فى اللفظ على انفصاله إلّا بفصل ما أصله أن يكون متعلقا به بحرف عطف ، وهو (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ، بحذف الواو منه ، واستئنافه خبرا مفردا. (درة التنزيل ص ١٧ ، ١٨).

(١) ما بين الحاصرين سقط من ب.

(٢) فى أ : فكان الأولى الذكر.

٧٤

معرفا ، لأنه من الله تعالى ، وما فى آل عمران والنساء نكرة ، أى بغير حق فى معتقدهم ودينهم ، فكان هذا بالتنكير أولى. وجمع النبيين جمع السلامة فى البقرة لموافقة ما بعده من جمعى السلامة وهو (النَّبِيِّينَ) ـ (الصَّابِئِينَ) ، وكذلك فى آل عمران (إِنَّ الَّذِينَ) ـ و (ناصِرِينَ) ـ و (مُعْرِضُونَ) بخلاف (الْأَنْبِياءَ) فى السورتين.

٢٠ ـ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) (٦٢) ، وقال فى الحج : (وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى) (١٧) ، وقال فى المائدة : (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) (٦٩) ، لأن النصارى مقدمون على الصابئين فى الرتبة ، لأنهم أهل كتاب (١) ، فقدمهم فى البقرة. والصابئون مقدمون على النصارى فى الزمان ، لأنهم كانوا قبلهم ، فقدمهم فى الحج. وداعى (٢) فى المائدة (بين) (٣) المعنيين ، وقدمهم فى اللفظ ، وأخرهم فى التقدير (٤) ، لأن تقديره والصابئون كذلك (٥).

قال الشاعر :

فإن يك أمسى بالمدينة رحله. فإنى وقيار بها لغريب (٦)

__________________

(١) فى أ : أهل الكتاب.

(٢) فى أ : وراعى.

(٣) سقطت من أ.

(٤) فى ب : التقديم.

(٥) الصابئون : يزعمون أنهم على دين نوح ، وفى الصحاح : جنس من أهل الكتاب قبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار. وفى التهذيب : يشبه دينهم دين النصارى ، وقبلتهم نحو مهب الجنوب (لسان العرب ١ / ١٠٧).

وترتيب الطوائف فى المائدة جامع للترتيب بالكتب وبالزمان ، فتقديم الصابئين فيها على النصارى يدل على ترتيب الزمان. ورفعها بين المنصوبات يدل على نية تأخيرهم ، والترتيب بالكتب السماوية. وترتيبهم فى البقرة بالكتب ، فأخّر المجوس لأنهم لا كتاب لهم. وترتيبهم فى الحج بالأزمنة ، فقدمهم لأنهم قبل النصارى ، ولم يقصد الترتيب بالكتب ، لأن أكثر المذكورين ممن لا كتب لهم. وأخر الذين أشركوا وإن تقدمت لهم أزمنة لأنهم كانوا أكثر من ابتلى بهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحادهم ، فكانوا أهل زمانه أيضا.

(٦) البيت من قصيدة لضابئ البرجمى. وكان عثمان رضى الله عنه اعتقله ، لأنه كان قد همّ بقتله. وقيّار : اسم رجل ، أو فرس ، أو جمل (لسان العرب ٥ / ١٢٤ ، ١٢٥).

٧٥

أراد : إنى لغريب وقيار كذلك. فتأمل فيها وفى أمثالها يظهر لك إعجاز القرآن.

٢١ ـ قوله : (أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٨٠) ، وفى آل عمران : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) (٢٤) ، لأن الأصل فى الجمع إذا كان واحده مذكرا أن يقتصر فى الوصف على التأنيث ، نحو قوله : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) «٨٨ : ١٣ ـ ١٦» ، وقد يأتى : سرر مرفوعات على تقدير : ثلاث سرر مرفوعة ، وتسع سرر مرفوعات ، إلّا أنه ليس بالأصل ، فجاء فى البقرة على الأصل ، وفى آل عمران على الفرع. وقوله : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) (٢٠٣). أى : فى ساعات أيام معدودات (١) ، وكذلك (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) «٢٢ : ٢٨».

٢٢ ـ قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) «٩٤ ، ٩٥» ، وفى الجمعة : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) (٧) ، لأن دعواهم فى هذه السورة بالغة قاطعة ، وهى : كون الجنة (لهم) (٢) بصفة الخلوص ، فبالغ فى الرد عليهم بلن ، وهو أبلغ (٣) ألفاظ النفى ، ودعواهم فى الجمعة قاصرة مترددة ، وهى زعمهم أنهم أولياء الله (٤) ، فاقتصر على (لا).

٢٣ ـ قوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠٠) ، وفى غيرها : (لا يَعْقِلُونَ) ـ (لا يَعْلَمُونَ) ، لأنهم بين ناقض عهد ، وجاحد حق ، إلّا القليل ، منهم عبد الله بن سلام وأصحابه ، ولم يأت هذان المعنيان معا (٥) فى غير هذه السورة.

__________________

(١) وذلك لأن المراد من (اذكروا) أن يكبروا فى اليوم الواحد فى أدبار الصلوات الخمس ، فحذفت الساعات ، وأقيم المضاف إليها مقامها.

(٢) سقطت من ب.

(٣) فى ب : بما هو أبلغ.

(٤) وذلك فى قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) [٦]. فدعواهم هنا ليست المطلوب الذى ليس وراءه مطلوب كدعواهم فى البقرة أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس.

(٥) وهما : نقض العهد ، وجحد الحق عند اليهود ، ويوضحه قوله تعالى فى نفس =

٧٦

٢٤ ـ قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) (١٢٠) ، وفيها أيضا : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) (١٤٥) فجعل مكان قول (الَّذِي ما) وزاد فى أوله (مِنْ) ، لأن العلم فى الآية الأولى علم بالكمال ، وليس وراءه علم ، لأن معناه : بعد الذى جاءك من العلم بالله وصفاته ، وبأن الهدى هدى الله ، ومعناه : بأن دين الله الإسلام ، وأن القرآن كلام الله ، فكان لفظ (الَّذِي) (١) أليق به من لفظ (ما) ، لأنه فى التعريف أبلغ ، وفى الوصف أقعد ، لأن (الَّذِي) تعرفه صلته فلا يتنكر قط ، وتتقدمه أسماء الإشارة ، نحو قوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) «٦٧ : ٢٠» ، (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) «٦٧ : ٢١» فيكتنف (الَّذِي) بيانان : (٢) هما الإشارة قبلها والصلة بعدها ، ويلزمه الألف واللام ، ويثنى ويجمع ، وليس لما شىء من ذلك ، لأنه يتنكر مرة ويتعرف أخرى ، ولا يقع وصفا لأسماء الإشارة ، ولا تدخله الألف واللام ، ولا يثنى ولا يجمع.

وخص الثانى (بِما) لأن المعنى : من بعد ما جاءك من العلم بأن قبلة (اللهِ) (٣) هى الكعبة ، وذلك قليل من كثير من العلم ، وزيدت (٤) معه (مِنْ) التى لابتداء الغاية ، لأن تقديره : من الوقت الذى جاءك فيه العلم بالقبلة ، لأن القبلة الأولى نسخت بهذه الآية ، وليست الأولى مؤقتة بوقت.

وقال فى سورة الرعد : (بَعْدَ ما جاءَكَ) (٣٧). فعبر بلفظ (ما) ولم يزد (مِنْ) لأن العلم هنا هو : الحكم العربى (٥) ، أى :

__________________

السورة : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [٩٣] ، وقوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [١٠٠].

(١) سقطت من أ.

(٢) فى أ : بنيانات.

(٣) سقطت من ب.

(٤) فى أ : وتزيدت.

(٥) الحكم العربى هو المذكور فى نفس الآية : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

٧٧

القرآن. فكان بعضا من الأول ، ولم يزد فيه (مِنْ) لأنه غير مؤقت ، وقريب من معنى القبلة ما فى آل عمران : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) (٦١) فهذا جاء بلفظ (ما) وزيدت فيه (مِنْ) (١).

٢٥ ـ قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) «٧ ، ٤٨ و ١٢٢ ، ١٢٣» هذه الآية والتى قبلها متكررتان ، وإنما كررت لأن كل واحدة منهما صادفت معصية تقتضى تنبيها ووعظا ، لأن كل واحدة وقعت فى غير وقت الأخرى. والمعصية الأولى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (٤٤) ، والثانية : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (١٢٠).

٢٦ ـ قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (١٢٦) ، وفى إبراهيم : (هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (٣٥) ، لأن (هَذَا) (٢) هنا إشارة إلى المذكور فى قوله : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) (٣٧) قبل بناء الكعبة ، وفى إبراهيم إشارة إلى البلد بعد الكعبة (٣). فيكون (بَلَداً) فى هذه السورة المفعول الثانى ، و (آمِناً) صفته (٤) و (هَذَا الْبَلَدَ) فى إبراهيم المفعول الأول ، و (آمِناً) المفعول الثانى (٥).

__________________

(١) ومما يبين الأغراض المذكورة : ما اقترن بكل منها من الوعيد. ففي الآية الأولى منعه الله بعلمه عن الكفر فى قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) ، وختمها بقوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). وفى آية الرعد كان العلم مانعا من ترك شطر القرآن ، فكانت خاتمها : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ). أما اتباع أهوائهم فى أمر القبلة فلما كان مما يجوز نسخه كان الوعيد عليه أخف : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

(درة التنزيل ص ٢٨ ، ٢٩).

(٢) سقطت من أ.

(٣) فى ب : بعد البناء.

(٤) فى أ : نعته.

(٥) ما بين الحاصرين سقط من أ.

وفى (درة التنزيل ص ٢٩) : هذا هو المفعول الأول ، والبلد عطف بيان على مذهب سيبويه ، وصفة على مذهب أبى العباس المبرد ، وآمنا مفعول ثان.

٧٨

وقيل : لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة (١) ، وقيل : تقديره فى البقرة : البلد بلدا آمنا. فحذف اكتفاء بالإشارة ، فتكون الآيتان سواء (٢).

٢٧ ـ قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) (١٣٦) فى هذه السورة. وفى آل عمران (عَلَيْنا) (٨٤) ، لأن (إِلى) للانتهاء إلى الشيء من أى جهة كانت ، والكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أممهم جميعا. والخطاب فى هذه السورة لهذه الأمة (٣) ، لقوله تعالى : (قُولُوا) (١٣٦) فلم يصح إلّا (إِلى) و (عَلى) مختص بجانب الفوق (٤) ، وهو مختص بالأنبياء ، لأن الكتب منزلة عليهم ، لا شركة للأمة فيها.

وفى آل عمران (قُلْ) (٨٤) وهو مختص بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أمته ، فكان الذى يليق به (عَلى).

وزاد فى هذه السورة : (وَما أُوتِيَ). وحذف من آل عمران ، لأن فى آل عمران قد تقدم ذكر الأنبياء حيث قال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) (٨١) (٥).

٢٨ ـ قوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) (١٤٩) هذه الآية مكررة ثلاث مرات. قيل : إن الأولى لنسخ القبلة ، والثانية للسبب (٦) ، وهو قوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) (١٤٩) ، والثالثة للعلة ، وهو قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) (١٥٠) ، وقيل : الأولى فى مسجد المدينة ، والثانية خارج المسجد ، والثالثة خارج البلد.

__________________

(١) قال الإسكافى : هذا التعليل ليس بشيء ، وليس هذا مثالا له ، ولا هذا مكانه. (درة التنزيل ص ٣٠).

(٢) ويكون المراد فى الآيتين الدعاء للبلد بالأمن. كما تقول : كن رجلا كريما ، فليس المراد الأمر بأن يكون المخاطب رجلا ، وإنما المراد : بأن يكون كريما.

(٣) فى ب : للأمة.

(٤) فى أ : الفوت : تحريف.

(٥) يعنى : لأن قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ) هو معنى : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) ومع هذا فقد جاء بعده : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى). فكان هذا مغنيا عن تكرار الإيتاء للنبيين.

(٦) فى : السبب.

٧٩

وقيل : (فى) (١) الآيات خروجان : خروج إلى مكان ترى فيه القبلة ، وخروج إلى مكان لا ترى ، أى : الحالتان فيه سواء.

قلت : (إنّما) (٢) كرر لأن المراد بذلك : الحال ، والمكان ، والزمان ، وقلت فى الآية الأولى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) وليس فيها (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) فجمع فى الآية الثالثة بين قوله : (حَيْثُ خَرَجْتَ) ـ (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) ، ليعلم أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فى ذلك سواء.

٢٩ ـ قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) (١٦٠) ليس فى هذه (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ). وفى غيرها : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) «٣ : ٨٩» لأن قبله هنا : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ) (١٥٩) فلو أعاد التبس (٣).

٣٠ ـ قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤) خص العقل بالذكر لأن به (٤) يتوصّل إلى معرفة الآيات. ومثله فى الرعد (٤) ، النحل (١٢) ، والنور (٦١) ، والروم (٢٤).

٣١ ـ قوله : (ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (١٧٠) فى هذه السورة ، وفى المائدة (١٠٤) ، ولقمان (٢١) : (ما وَجَدْنا) لأن ألفيت يتعدى إلى مفعولين ، تقول : ألفيت زيدا قائما ، وألفيت عمرا على كذا. ووجدت يتعدى مرة إلى مفعول واحد ، تقول : وجدت الضالة ، ومرة إلى مفعولين ، تقول : وجدت زيدا جالسا. فهو مشترك. فكان الموضع الأول باللفظ الأخص (٥) أولى ، لأن غيره إذا وقع موقعه فى الثانى والثالث علم (أنّه) (٦) بمعناه.

__________________

(١) سقطت من ب.

(٢) سقطت من ب.

(٣) وجه الالتباس هو عدم وضوح متعلق قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ). هل هو متعلق بقوله :

(يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا) [١٥٩] أو متعلق بقوله : (تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) [١٦٠]. والمراد هنا الكتم بعد البيان ، والمراد من الآيات التى ذكر فيها (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التوبة بعد الكتم.

(٤) فى ب : لأنه يتوصل.

(٥) فى ب : بلفظ الأخص.

(٦) سقطت من ب.

٨٠