أسرار التكرار في القرآن

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني

أسرار التكرار في القرآن

المؤلف:

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني


المحقق: عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفضيلة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٩

محمود العقاد ، والأستاذ محمد الغمراوى ، رحمهم‌الله جميعا.

والذى يسترعى الانتباه أن العلماء على ما لهم من الاقتدار وسعة المعرفة وقفوا هم الآخرون مبهورين أمام إعجاز القرآن ، فراحوا يرددون وجوها عامة وغير محدودة أحيانا ، كقولهم : إن الإعجاز فى جودة الرصف ، وحسن النظم ، وما أشبه ذلك من الصفات العامة التى لا تكشف عن وجه الإعجاز فى جودة الرصف ، ولا حسن النظم. وأحيانا أخرى ذكروا وجوها قالوا : إنه لا يمكن وصفها ، كما قال السكاكى فى مفتاح العلوم : «إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة ، وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ، ولا يدرك تحصيله لغير ذوى الفطرة السليمة إلّا بإتقان علمى المعانى والبيان والتمرين فيهما».

فإذا كانت تلك المحاولات تنطق بالعجز عن إدراك وجوه الإعجاز ، فقد صرح بعض العلماء بهذا العجز. قال أبو حيان التوحيدى فى (المقابسات) : «سئل بندار الفارسى عن موضع الإعجاز فى القرآن؟ فقال : هذه مسألة فيها حيف على المعنى ، وذلك أنه شبيه بقولك : ما موضع الإنسان من الإنسان .. فالقرآن لشرفه لا يشار إلى شىء فيه إلّا وكان المعنى آية فى نفسه ، ومعجزة لمحاوله ، وهدى لقائله ، وليس فى طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله فى كلامه ، وأسراره فى كتابه ، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر».

وقد قرر أبو سليمان الخطابى عجز جمهور العلماء عن إبراز تفاصيل وجوه الإعجاز فقال فى كتابه (بيان إعجاز القرآن) : «ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أن وجه الإعجاز من جهة البلاغة ، لكن صعب عليهم تفصيلها ، وصغوا فيه إلى حكم الذوق».

ومع ذلك فقد كان الإعجاز البلاغى للقرآن سببا فى زلل الرأى عند المفسر الكبير ابن عطية شيخ القرطبى إذ قال بعد كلام طويل فى مقدمة

٤١

تفسيره : «ونحن تتبين لنا البراعة فى أكثره ، ويخفى علينا وجهها فى مواضع ، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ فى سلامة الذوق ، وجودة القريحة ، وقامت الحجة على العالم بالعرب ، إذ كانوا أرباب الفصاحة ، وفطنة المعارضة». فقوله : إن الحجة قامت على العالم بالعرب لا يمكن تسليمه على إطلاقه هكذا. إذ لا يمكن أن تكون البلاغة القرآنية الخارقة لبلاغة العرب هى سبب هداية الترك والفرس قديما ، والأوربيين حديثا ، بل يمكن أن يكون عجز العرب عن المعارضة عاملا مساعدا ، وعنصرا واحدا من عناصر الدعوة عن طريق التفوق القرآنى فى جميع الميادين.

وهناك محاولات تفصيلية بعيدة عن العمومات تدور حول النظر التحليلى فى أسلوب القرآن للتعرف على وجوه إعجازه من وجهة النظر العربية يمكن الإشارة إليها على سبيل المثال لا الحصر.

أولا : الموازين الدقيقة بين اللفظ والمعنى. وفى هذا يقول ابن عطية : «إذ ترتبت اللفظة من القرآن علم الله بإحاطته ، أى لفظة تصلح إن تلا الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول ... وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد».

وقد أكمل ابن سراقة هذا المعنى فقال : «إن من اقتصر على معانيه وغير حروفه أذهب رونقه ، ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه أبطل فائدته ، فكان ذلك أبلغ فى الدلالة على إعجازه».

ولقد أدخل الفخر الرازى فى هذا الباب علم مناسبات الآيات والسور ، وارتباط بعضها ببعض حتى تصير شيئا واحدا ، وبناء متينا لا خلل بين أجزائه ، حتى لقد قال : «إن الإعجاز يكاد ينحصر فى هذا المعنى الذى لا يوجد أبدا فى كلام البشر». وقد أخرجنا بعون الله كتابا مستقلّا فى هذا الباب ، وزودته بدراسة وافية ، وهو (أسرار ترتيب القرآن).

٤٢

ثانيا : تفرد القرآن بطريقة بيانية غير طرق العرب. وفى هذا المعنى يقول الأصبهانى فى تفسيره : «بيان كون النظم معجزا يتوقف على بيان نظم الكلام ، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه ، فمراتب تأليف الكلام خمس : الأولى : ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث : الاسم ، والفعل ، والحرف. والثانية : تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة ، ويقال له : منثور الكلام. والثالثة : ضم بعض ذلك إلى بعض ضمّا له مباد ومقاطع ، ومداخل ومخارج ، ويقال له : المنظوم. والرابعة : أن يعتبر فى أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ، ويقال له : المسجع. والخامسة : أن يجعل له مع ذلك وزن ، ويقال له : الشعر.

والمنظوم إما محاورة ، ويقال له : الخطابة. وإما مكاتبة ، ويقال له : الرسالة. فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ، ولكل من ذلك نظم مخصوص ، والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شىء منها. فلا يصح أن يقال للقرآن : رسالة أو خطابة ، أو شعر ، أو سجع ، كما لا يصح أن يقال : هو كلام. والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من الكلام».

وقال الرمانى : بعد أن ساق أنواع الكلام : «فأتى القرآن بطريقة مفردة ، خارجة عن العادة ، لها منزلة فى الحسن تفوق كل طريقة ، وتفوق الموزون الذى هو أحسن الكلام».

ثالثا : جمع القرآن لمراتب البيان فى أسلوب واحد. قال أبو سليمان الخطابى : «إن أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها فى درجات البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح الغريب السهل ، ومنها الجائز الطلق الرسل ، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ، وأخذت من كل نوع شعبة ، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع بين صفتى الفخامة ، والعذوبة ، وهما على الانفراد فى نعوتهما كالمتضادتين ، لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة يعالجان

٤٣

نوعا من الزعورة ، فكان اجتماع النوعين فى نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن ، ليكون آية بينة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

رابعا : روعته فى القلوب : وقد فطن إلى هذا الوجه بعض المؤمنين بل وكثير من الجاحدين المنكرين أيضا. فيقول الخطابى : «وقد قلت فى إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس ، وهو صنيعه فى القلوب وتأثيره فى النفوس ، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة فى حال ، ومن الروعة والمهابة فى حال آخر ما يخلص منه إليه. قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (١) ، وقال : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) (٢)». ويقول الزركشى : «فمنها الروعة التى فى قلوب السامعين وأسماعهم ، سواء منهم المقر والجاحد ، ومنها أنه لم يزل غضّا طريّا فى أسماع السامعين ، وعلى ألسنة القارئين». ويكتشف القاضى عياض أن هذه الروعة وتلك الهيبة كانت سببا فى إسلام بعض الكفار من العرب فيقول : «ومنها الروعة التى تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم ، والهيبة التى تعتريهم عند تلاوته ، وقد أسلم جماعة عند سماع آياته منهم جبير بن مطعم ، فإنه سمع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فى المغرب بالطور. قال : فلما بلغ قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ...) (٣) إلى قوله : (... الْمُصَيْطِرُونَ) كاد قلبى أن يطير ، وذلك أول ما وقر الإسلام فى قلبى».

خامسا : ما وراء التكرار فى القرآن : وهذا الوجه يمكن أن نسميه تجاوزا (بالتركيب الكيميائى للقرآن). وذلك أن أسلوب القرآن من هذه الوجهة مركب تركيبا دقيقا بالغ الدقة ، بحيث تقرب منه التركيبات

__________________

(١) سورة الحشر : ٢١.

(٢) سورة الزمر : ٢٣.

(٣) سورة الطور : ٣٥.

٤٤

المعملية التى توزن على مقادير بالغة الدقة ، ولا تؤتى النتيجة المأمولة منها إذا اختلت هذه التراكيب فى جزء من مائة منها.

هذا توجيه من توجيهات المكررات القرآنية يمكن أن نتبينه واضحا من قوله تعالى فى سورة البقرة : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١) ، وقوله فى سورة المائدة : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (٢). فقوله تعالى على لسان الكفار : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) لا يمنع أن يرجعوا عن اتباع آبائهم ، فهم لم يبلغوا النهاية فى دعوى إيمانهم بالأوثان ، ولهذا استعمل الله تعالى فى نفى هدايتهم لفظا لا يبلغ النهاية فى اليقين وهو قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً). فإن فوق العقل فى اليقين (العلم). أما فى المائدة فقد بلغ الكفار النهاية فى الاعتداد بالأوثان ، وقطعوا على أنفسهم طريق العودة عنها بقولهم : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا). ولهذا استعمل الله فى نفى هدايتهم نفى العلم الذى هو أبلغ درجات اليقين فقال : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً). والدليل على أن العلم أرفع من العقل أن الله لا يوصف بالعقل ، وإنما يوصف بالعلم. فهل ترى أدق وزنا لمعانى الألفاظ ، ومراعاة تناسبها من هذا الوزن الحق الذى نزل به القرآن؟؟

ومن أمثلة هذه الدقة الرائعة التى لا تبلغها دقة العالم فى معمله ما جاء فى قوله تعالى : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) (٣) فاستعمل الفاء فى عطف النظر على السير ، وهى للتعقيب بلا تراخ بينهما. وقد

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٠.

(٢) سورة المائدة : ١٠٤.

(٣) سورة النحل : ٣٦.

٤٥

تكرر هذا الاستعمال فى سورة النحل (٣٦) ، والنمل (٦٩) ، والروم (٤٢) وهكذا فى القرآن كله ما عدا سورة الأنعام فقد قال تعالى فيها : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) (١) فاستعمل فى عطف النظر على السير (ثُمَ) التى هى للتراخى ، فلم كان ذلك ، وما ذا وراء هذا التكرار مع اختلاف العطف بين التعقيب والتراخى؟

أقول : إن الآيات كلها تجمع على حث المؤمنين على النظر فى عواقب المكذبين ، وهذا نهج عام يشترك فيه العلماء وغير العلماء من المسلمين على طريق الدعوة إلى الله ، يهتدى به الجاحدون إلى الحق ، ويزداد به الذين آمنوا إيمانا ويقينا ، وهو أن يتعظوا بمجرد رؤية آثار الكفار السابقين ، وكيف دمرت حضاراتهم وبادت حتى صارت أثرا بعد عين ، إذ يكفى : أن يلقى الإنسان نظرة عابرة على آثار الفراعنة فى مصر ، أو على مدائن صالح بالمملكة السعودية ، ليدرك من خلال عظمة الحضارة وسطوة الخراب عظمة الله وسلطانه على الكون ، وتكفى زيارة واحدة يقوم بها الإنسان للحصول على هذه النتيجة العاجلة.

أما آية سورة الأنعام فهى تطالب بمنهج آخر فيه تريث وتراخ ودراسة علمية متأنية يخرج منها الباحثون بمزيد من التفاصيل ، ومزيد من النتائج والدلالات على وجود الله وعظمته. ولهذا كانت الملابسات التى تحيط بآية الأنعام تشير إلى المطالبة بهذه الدراسة المتأنية المتراخية التى تحتاج بطبيعتها إلى وقت طويل ، ففي الآية (٦) أشار الله تعالى إلى القرون الماضية ، وإلى القرون التى أنشأها من بعدهم فى قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٢). فما دام موضوع السير هو البحث فى القرون الماضية والمتتابعة ، والتى أصبحت

__________________

(١) سورة الأنعام : ١١.

(٢) سورة الأنعام : ٦.

٤٦

موضوع دراسة وبحث عن أسباب تحول الرى إلى جفاف ، والخصب إلى قفر والعمران إلى خراب ، كما أشارت إليه الآية التاسعة من سورة الأنعام ما دام الأمر هكذا فإن الأمر يحتاج إلى دراسة وبحث يقوم على العلم والتحليل ، وتسجيل الأسباب والنتائج ، ومخاطبة العالم كله بهذه الدراسات الهادفة. وكما قال الكرمانى فى كتابه هذا : «أمروا باستقراء الديار ، وتأمل الآثار ، وفيها كثرة ، فيقع ذلك سيرا بعد سير وزمانا بعد زمان ، ليعلم أن السير مأمور به على حدة ، والنظر مأمور به على حدة ، ولم يتقدم فى سائر السور مثله».

والعجب العجاب من أمر تكرار القرآن وما يتراءى خلاله من إعجاز آيتان ، إحداهما من سورة الأنعام : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) (١) ، وقوله فى سورة القلم : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) (٢) ، فأكثر ما يستعمل وزن (أفعل) فى لغة العرب مع الفعل الماضى ، كقولهم : أعلم من دب ودرج ، وأحسن من قام وقعد ، وأفضل من حج واعتمر. فلما ذا استعمل مع الفعل المضارع فى سورة الأنعام ولم يستعمله مع الماضى كما فى سورة القلم ، وكما هو الغالب فى لغة العرب. ولما ذا الباء فى آية (القلم) ، وحذفت فى آية الأنعام؟

أما استعمال (أفعل) مع المضارع فى الأنعام فلأن سياق الكلام دائر حول المستقبل لبيان أصل عام ، وماض إلى الأبد ، فى شأن الرأى العام ، أو رأى (الجماهير) فيما يتصل بالعقيدة وشئون الدين بوجه خاص ، فالآية السابقة على آية الأنعام هى قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٣). بخلاف ما فى سورة القلم ، فإن الكلام فيها عن قوم ضلوا بالفعل ، هم الكافرون من قريش : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ

__________________

(١) سورة الأنعام : ١١٧.

(٢) سورة النجم : ٣٠.

(٣) سورة الأنعام : ١١٦.

٤٧

الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) (١). يعنى : ضل فقال عن الرسول : إنه مجنون ، وعن القرآن : إنه سحر مبين .. فلما جاء (أفعل) مع المضارع فى الأنعام انقطعت مظنة الضلال إلى الله تعالى ، كما هو جائز فى المعنى إذا استعمل مع الماضى ، فصار معنى الآية فى الأنعام : إن الله أعلم بمن يضلون عن طريقه فى المستقبل ، فصار ورود أفعل مع المضارع اتباعا للسياق ، وقطعا لمعنى الإضافة المؤكد فى استعمالها مع الماضى كما هو الغالب فى لغة العرب ، فلما استعمله مع الماضى فى سورة القلم استعمله مع الباء ، إذ لو لم تذكر الباء لصار المعنى أنه تعالى أعلم الضالين عن سبيله ، وتعالى الله علوا كبيرا.

فانظر كيف خالف الغالب من لغة العرب فى الأنعام ، ولم يزد حرفا لا معنى لزيادته مع فعل المستقبل حفظا للقرآن من الحشو ، وكيف كان الاحتياط للمعنى فى سورة القلم حينما تعارض المعنى مع الاستعمال اللغوى الشائع فى لغة العرب ، فلم تكن الباء زائدة فى سورة القلم. ولهذا عقب الكرمانى على كلامه هنا بقوله : «فتنبه فإنه من أسرار القرآن».

ثم انظر كيف يستعمل الكتاب والباحثون كلمتى (ينفع ويضر) مقترنتين بتقديم أيهما شاءوا ، وليس فى ذلك خلل فى معانيهم على أى حال ، ولكن كتابا لا يقدم النفع على الضر ، أو الضر على النفع إلّا لأن السياق و (هندسة النظم) و (والتركيب الكيميائى) و (الإبداع الجمالى) يدعو إلى ذلك ، بحيث لا تجد نشازا فى التركيب لا لفظا ولا معنى ـ هذا الكتاب لم نعثر عليه إلى الآن إلّا فيما بين دفتى كتاب الله العزيز الحكيم الذى لا يأتيه الباطل أبدا.

جاء فى سورة الأعراف : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (٢) وعلى هذا الترتيب جاءت آيات فى سورة : الرعد ،

__________________

(١) سورة القلم : ٥ ـ ٧.

(٢) سورة الأعراف : ١٨٨.

٤٨

وسبأ ، والأنعام ، ويونس ، والأنبياء ، والفرقان ، والشعراء. وجاء تقديم الضرر على النفع فى سورة يونس : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (١). وعلى هذا الترتيب الأخير سارت معظم آيات القرآن إلّا فى المواضع الثمانية التى ذكرناها ، وإنما تقدم الضر على النفع لأنه أصل الفطرة التى نزل بها القرآن ، لأن العابدين يعبدون الله خوفا من عقابه أولا ، وطمعا فى ثوابه ثانيا ، وعلى هذا دلت الدلائل فى فطرة البدائيين وفى وجدان الموحدين ، وقد سجل الله تعالى هذه الفطرة البشرية فى قوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (٢). أما قوله تعالى : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) (٣) ، فقد جاء معبرا عن نوع راق ومتطور من الفطرة ألف العبادة حتى تحولت إلى معرفة وحب لله ورسوله.

فلما اختلفت هذه المواضع الثمانية من القرآن مع الأصل ، فتقدم فيها النفع على الضر إذن؟

اختلفت هذه المواضع الثمانية فتقدم النفع على الضر ، لأن السوابق من الآيات تدعو إلى هذا التركيب ، حرصا على النظام القرآنى البديع المعجز من حيث لا يمكن بأى حال أن يستمر الناس فى كتاباتهم على مراعاة هذا النظام ، بل تعمهم الغفلة غالبا. ففي سورة الأنعام جاءت الآية بعد قوله تعالى : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) (٤). فالولاية والشفاعة تناسب النفع ، وعدم أخذ العدل يناسب الضر ، فجاءت الآية على هذا النسق : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) (٥) ، وفى يونس : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٦) ، فناسب تقديم النفع رعاية للنجاة ، وهى نفع. وفى الأنبياء جادل الكفار إبراهيم فى أصنامهم فقالوا :

__________________

(١) سورة يونس : ٤٩.

(٢) سورة السجدة : ١٦.

(٣) سورة الأنبياء : ٩٠.

(٤) سورة الأنعام : ٧٠.

(٥) سورة الأنعام : ٧١.

(٦) سورة يونس : ١٠٣.

٤٩

(لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (١). حرصا على بقائهم لمنفعتهم فى زعمهم. فقال تعالى : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) (٢). وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (٣) ، واستمرت الآيات فى سياق يعدد نعم الله الجليلة فى عشر آيات ، ثم قال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) (٤).

وفى سورة (المؤمنون) قال تعالى : (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥). وفى الزخرف (فاكِهَةٌ) على التوحيد ، و (مِنْها تَأْكُلُونَ) بدون واو.

والسبب أن القرآن لما راعى لفظ الجنة ، ولما كان الحديث فى (المؤمنون) عن الجنات بالجمع كانت الفواكه جمعا ، ولما كان الحديث فى الزخرف عن الجنة مفردة كانت الفاكهة مفردة ، ثم يعود البحث إلى كشف جديد عن وجه بديع من وجوه الخلاف فى حذف الواو من آية الزخرف ، وإثباتها فى آية (المؤمنون) ، لأنها تتحدث عن جنات الأرض فى الدنيا ، وكان حق الكلام أن يقال : منها تبيعون ، ومنها تدخرون ، ومنها تأكلون ، فاقتضى الإيجاز المعجز أن يبقى ما به أساس الحياة مسبوقا بواو تدل على بقية المنافع المقصودة من حدائق الأرض دون إخلال بالمعنى. أما فى الزخرف فالحديث عن جنة الخلد ، وليست للأكل فحسب ، فحذف الواو للدلالة على ذلك.

ولا حاجة بنا إلى التعليق على هذه الأمثلة القليلة التى انتقيناها من كتاب الكرمانى (أسرار التكرار فى القرآن) لندل على أن هذا التكرار بمعانيه باب واسع من أبواب إعجاز القرآن ، لا يرومه ولا يقاربه بشر على الإطلاق.

وأنت يا أخى حيثما طوفت فى هذا الكتاب الذى نقدمه فى طبعته

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٦٥.

(٢) سورة الأنبياء : ٦٦.

(٣) سورة الفرقان : ٤٥.

(٤) سورة الفرقان : ٥٥.

(٥) سورة : المؤمنون : الآية ١٩.

٥٠

الثانية فإن دلائل الإعجاز من هذه الوجهة التى بحثها الكرمانى فى كتاب مستقل تواجهك دلالة بعد دلالة ، بحيث لا تمل أن تستكشفها من وراء التراكيب الموزونة بأدق الموازين ، والتى عبر عنها الكتاب الكريم بالحق وهذا التعبير بالحق يعنى أن هذا التحدى الموجه لأفصح أمة نطقت بلغة القرآن إنما يهدف إلى تقرير الحق.

وإنك لا تنتهى من فقرة من فقرات هذا الكتاب إلّا وقد تفاعلت مع كل مشاعرك ومداركك ، حتى تنتهى بك إلى نوع من الإذعان والرضا يمس أعماق القلب بلون هادئ وقوى من الأمن والطمأنينة إلى الحق الذى نزل به القرآن. ولا تبدأ فى فقرة أخرى إلّا بدأت استكشاف مزيد من دقائق الأسلوب القرآنى يزيد به الأمن إلى جناب الله ، والإيمان بالحق ، وهكذا يزداد بك الإيمان قوة إلى أن تستقر فى أعماقك العزة والبذل والفداء فى سبيل دعوة القرآن إيمانا بالقرآن ورسول القرآن : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (١).

وهذا المعنى هو الذى أشار إليه الزملكانى حين قال فى كتابه (نهاية التأمل فى أسرار التنزيل) : «إن الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص بالقرآن ، لا مطلق التأليف ، حيث اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة ، وعلت مركباته معنى ، بأن وقع كل فن فى مرتبته العليا فى اللفظ والمعنى». ويؤكد المراكشى هذا المعنى بقوله : «الدليل التفصيلى على إعجاز القرآن مقدمته التفكر فى خواص تركيبه ، ونتيجته العلم بأنه تنزيل من المحيط بكل شىء علما».

سادسا : القرآن وتيرة واحدة : يقول الله سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢). وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالى مشيرا إلى إعجاز القرآن من هذه الوجهة : «المراد : نفى

__________________

(١) سورة الأنفال : ٢.

(٢) سورة النساء : ٨٢.

٥١

الاختلاف عن ذات القرآن. يقال : هذا كلام مختلف ، أى لا يشبه أوله آخره فى الفصاحة ، أو هو مختلف الدعوى ، أى بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا ، أو هو مختلف النظم ، فبعضه على وزن الشعر ، وبعضه منزحف ، وبعضه على أسلوب مخصوص فى الجزالة ، وبعضه على أسلوب يخالفه ، وكلام الله منزه عن هذه الاختلافات فإنه على منهاج واحد فى النظم مناسب أوله آخره ، وعلى درجة واحدة فى الفصاحة ، فليس يشتمل على الغث والسمين ، ومسوق لمعنى واحد ، وهو دعوة الخلق إلى الله ، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين.

وكلام الناس تتطرق إليه هذه الاختلافات ، إذ كلام المترسّلين والشعراء إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف فى منهاج النظم ، ثم اختلاف فى درجات الفصاحة ، بل فى أصل الفصاحة ، فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان ، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة ، وأبيات سخيفة ، وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة ، لأن الشعراء والفصحاء فى كل واد يهيمون ، فتارة يمدحون الدنيا ، وتارة يذمونها ، وتارة يمدحون الجبن ويسمونه حزما ، وتارة يذمونه ويسمونه تهورا ، ولا ينفك آدمى عن هذه الاختلافات ، لأن منشأها اختلاف الأغراض ، والأحوال ، والإنسان.

وكذلك تختلف أغراضه ، فيميل إلى الشيء ، تارة ، ويميل عنه أخرى ، فيوجب ذلك اختلافا فى كلامه بالضرورة ، فلا يصادف إنسان يتكلم فى ثلاث وعشرين سنة وهى مدة نزول القرآن ، فيتكلم على غرض واحد. ومنهاج واحد ، ولقد كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرا تختلف أحواله ، فلو كان هذا كلامه ، أو كلام غيره من البشر ، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا».

وهذا المعنى فطن إليه صاحب (منهاج البلغاء) حين قال : «وجه الإعجاز : استمرار الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها فى جميعه ،

٥٢

استمرارا لا توجد له فترة ، ولا يقدر عليه أحد من البشر ، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة من جميع أنحائها فى العالى منه إلّا فى الشيء اليسير المعدود ، ثم تعرض الفترات الإنسانية ، فينقطع طيب الكلام ورونقه ، فلا تستمر الفصاحة فى جميعه ، بل توجد فى تفاريق وأجزاء منه.

وهذا الوجه الذى فطن إليه القدامى لا يحتاج إلى دليل على صحته ، فهذا القرآن بين أيدى الناس فى كل مكان على مدى أربعة عشر قرنا ، وهذه كتب الأدباء ودواوين الشعراء هى الأخرى فى كل مكان ، وهذا علم النقد الأدبى مكتمل المنهج لدى جميع النقاد ، وما وجدنا النقاد إلّا ويتناولون الإنتاج الإنسانى بالتشريح وكشف ما فيه من ظواهر المد والجزر فى درجة الفصاحة والبلاغة ، وكشف ما يتداخله لا معنى له سوى المحافظة على جرس الكلام ، أو مداراة ما اعترى الفكر من فتور بتكرار الجمل على وجه الترادف والتكرار الخطابى الذى لا يبتدئ ولا يعيد.

أما القرآن فلم يستطع النقاد أن يصلوا فيه إلى ثغرة ، أو إلى وجه من وجوه النقص الكثيرة فى كلام البشر. كل ما قالوه : إن فيه تكرارا ، وقد رد عليهم الكرمانى بكتابه هذا الذى نقدمه للقراء أبلغ رد وأفحمه لمكابر حقود. وقالوا : إن القرآن موضوعات شتى وسور لا رابط بينها ، وقد أخرجنا كتابا فى هذا الموضوع هو كتاب (أسرار ترتيب القرآن) للإمام السيوطى.

العنصر العالمى فى إعجاز القرآن

أشرنا إلى خطأ الإمام ابن عطية فى تعميمه القول بأن الحجة قامت على العالم بالعرب فى مسألة الإعجاز القرآنى.

ونزيد هنا : أن هذا القول قد يكون له بعض الوجاهة إذا فسرناه على أن عجز العرب المطبق عن معارضة القرآن بمثله ، وهم فى الذروة

٥٣

العليا من البلاغة والتحكم فى زمام القول ، وجودة القريحة ، وصفاء السليقة ، هذا العجز من هؤلاء القوم الذى أنزل القرآن بلغتهم يشكل عنصرا واحدا من حجة القرآن على العالم ، وهذا العنصر يضع القرآن موضع الاعتبار أمام غير العرب من الناطقين بلغات أخرى ، والذين لا يجيدون إلّا تذوق المعنى فى القرآن ، وهم عن تذوق الأساليب العربية بمعزل.

وذلك لأن العرب لو نجحوا فى معارضة القرآن لأسقطوا على الفور حجة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه رسول يبلغ عن ربه دعوة الإسلام الخاتمة ، ولو سقطت هذه الحجة القائمة للرسول لاندثرت الدعوة ، وأصبحت فى عداد النحل الكاذبة التى زخرت بها المراجع الإسلامية.

أما وقد عجز العرب تماما عن معارضة القرآن ، فقد قامت حجة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العرب ، وكان قيام هذه الحجة عاملا رئيسيّا فى إبراز حجة أخرى تشير بوضوح إلى روح القرآن وأثره العجيب فى بناء القوة من الضعف ، والتماسك من التمزق ، وسمو الهدف من ماديته وأرضيته ، والعالمية من النعرة العصبية ، والنبل والإيثار من السعار المالى الرهيب ، وتواضع الرءوس من تعاليها ، إلى غير ذلك من معجزات التاريخ التى دبت فى الوسط العربى فى قوة وسرعة وعزم فسمت بهم من وهدة التحلل ، وفرقة التجمع حول شيوخ القبائل المختلفى النزعات والأغراض ، وهلهلة العقيدة فى الأحجار والكهان إلى الوحدة حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أساس متين من عقيدة الوحدانية التى رفضت كل الشوائب ، وأحالت القتام الذى كان يسود الجزيرة العربية إلى صفاء ونقاء.

ودالت دول الشرك تماما فى الجزيرة ، وكان جيش تبوك وبعث أسامة بن زيد ، الذى توفى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل إنفاذه ، كان هذان العملان العسكريان بمثابة الإشارة النبوية إلى ساعة الصفر التى يتحول فيها جهاد الإسلام إلى الواقع العالمى ، بعد أن أقام حجته الناصعة بالقرآن العربى على العرب الناطقين بالعربية ، وأفصح من نطق بها.

٥٤

من هنا يصلح العرب أن يكونوا حجة على العالم ، بعد ما قامت حجة القرآن عليهم بأنه صالح لبناء أمة لها خصائص الأمم الراقية إذا قيس الرقى بموازين العلم والعقل ، لا بمقاييس الشطط والهوى. وكانت صورة الإنسان المسلم الذى بناه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن حجة على صلاحية القرآن للدعوة العالمية.

لم يكن الأسلوب العربى إذن مهما بلغ من الإعجاز حجة على الروم والفرس والقبط ، لأن هؤلاء لا يدركون من ذوق العربية لا قليلا ولا كثيرا ، وإنما كانت فاعلية القرآن ، وأعاجيب الفدائية التى كانت ماثلة أمام تلك الشعوب من جهة ، وتسامى السلوك ، وارتفاع الإنسانية إلى مستواها الحق الذى تهفو إليه الدنيا كلها هى الحجة الماثلة أمام الشعوب غير العربية ، مما جعلها بعد أن اطمأنت إلى العدل الذى حمله العرب إلى غيرهم تتحرق شوقا إلى بحث هذا الكتاب الذى هدى العرب ، وبنى منهم تلك الأعجوبة الماثلة أمامهم.

ومن هنا أيضا كان غزو اللغة العربية للغات الأخرى ، لأن هذا التطلع الملح الذى يتحرك فى أعماق غير العرب إلى استكشاف أسرار القرآن ومفاهيمه دفعهم إلى تعلم العربية ، وكان ذلك بالفعل ، حتى كان الغزو اللغوى العربى فى صف واحد مع الغزو العسكرى فى سبيل تأصيل العقيدة الخاتمة.

وكان أن تحول الجم الغفير من تلك الشعوب غير العربية إلى علماء فى العربية ، وإلى أصوليين ومفسرين ومحدثين ودعاة لا يقلون شأنا عن الدعاة العرب فى نطاق دعوة الإسلام ، وما زالت الآلاف من تلك الأسماء غير العربية تدوى فى آفاق الأرض شاهدة على إعجاز القرآن من نواح غير النواحى الأسلوبية والبلاغية.

ويكفى لإدراك معجزة القرآن العملية بعد الأسلوبية أن تعلم أن الأزهر قد أنشئ فى مصر للقضاء على شريعة القرآن على أيدى الأدعياء

٥٥

الذين سموا أنفسهم بالفاطميين ، وحاولوا أن يحلوا محل شريعة القرآن مجموعة من المذاهب والنحل الفلسفية سجلها المقريزى فى خططه وكان مع الفاطميين الذهب ، وكان سب الشيخين يسطر على جدران جامع عمرو بن العاص ، وكان الإرهاب بالرءوس المحمولة على الرماح فى شوارع القاهرة. كان كل ذلك ، ولكن الناس لم يفتروا عن المظاهرات المعادية لتلك النحلة الغريبة وهم يرفعون شعارا يسموا على كل اعتبار ، إذ كانوا يهتفون فى مظاهراتهم قائلين : «معاوية خال على وخال المؤمنين» .. وأخيرا تحول الأزهر الشيعى إلى الأزهر السنى بشيوخه من أهل السنة والجماعة إلى اليوم؟

أليس ذلك إعجازا فى روح القرآن ومعناه؟

وإذا لم يكن إعجازا فبم نسمى هذا النصر الساحق العجيب؟

أليست تلك الواحدة أعجوبة فى التاريخ؟

أليست كافية فى شد أنظار العالم كله إلى القرآن؟

وهو ما حدث بالفعل. وهذه واحدة من إعجازات القرآن الروحية والمعنوية والسلوكية تضاف مثيلاتها إليها فى العصر الحديث.

بقيت واحدة نكتفى بها لضيق المقام يمكن أن تكون منطلقا إلى غيرها.

ذلك : أنه لا يوجد فى التاريخ كله كتاب سماوى ولا كتاب وضعه بشر ، يمكن أن يكون مصدرا لحقائق العلم والمعرفة كلها دون أن يشذ منها شىء إلّا القرآن.

كتاب ذو موضوع واحد ، تدور حقائقه كلها حول ذلك الموضوع لإثباته ، وفى تطوافه بين الحقائق لإثبات حقيقته العظمى يستبطن كل العلوم والمعارف ما كان منها موجودا من قبل تدوينه ، وما كان فى عصر تدوينه ، وما جد بعد عصر تدوينه إلى أن تقوم الساعة. كتاب مثل هذا الكتاب لم ولن يوجد إلّا فى كتاب الله المبين ، القرآن الحكيم العزيز

٥٦

المجيد الكريم .. هكذا سماه الله بأسمائه للدلالة الواضحة على أنه فوق متناول أى بشر أو ملك فى الكون.

موضوع واحد هو : إثبات وحدانية الله ، ونفى ما عداه من الأوثان وأوهام العقائد الملحدة.

وفى سبيل إثبات الوحدانية الإلهية استخدم القرآن كل المعارف والعلوم ، وشرع الشريعة الحارسة على هذا الاعتقاد الصحيح ، ووضع الضوابط لعلم الاجتماع الإنسانى ، وكيف لا تتضارب المصالح ، ولا تتصارع الأمم ، وأشار إلى مواطن النماء المالى فى الأرض وفى البحر ، ورسم الخط الواضح للسياسة المالية فى جميع العصور ، ومن منهجه التربوى كان منهج التعليم الأمثل الذى يجب أن يسير عليه الناس إذا طلبوا العافية والسلامة فى دنياهم وأخراهم ، ورفع همم المؤمنين عن الماديات إلى المعارف الروحية فيما وراء المادة.

وقد نقل الإمام السيوطى فى الإتقان عن أبى الفضل المرسى فى تفسيره أنه قال :

«جمع القرآن علوم الأولين والآخرين ، بحيث لم يحظ بها علما حقيقة إلّا المتكلم بها ، ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا ما استأثر الله بعلمه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ، مثل الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، حتى قال : لو ضاع لى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله. ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ، ثم تقاصرت الهمم ، وفترت العزائم ، وتضاءل أهل العلم ، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه ، فنوعوا علومه ، وقامت كل طائفة بفن من فنونه ، فاعتنى قوم بضبط لغاته .. واعتنى النحاة بالمعرب والمبنى منه من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها .. حتى إن بعضهم أعرب مشكله ، وبعضهم أعربه كلمة كلمة ..

واعتنى المفسرون بألفاظه ، فوجدوا لفظا يدل على معنى واحد ،

٥٧

ولفظا يدل على معنيين ، ولفظا يدل على أكثر ، فأجروا الأول على حكمه ، وأوضحوا معنى الخفى ، وخاضوا فى ترجيح أحد محتملات ذى المعنيين والمعانى ، وأعمل كل منهم فكره.

واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية ، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده ، وسموا هذا العلم : أصول الدين. وتأملت طائفة معانى خطابه ، فرأت منها ما يقتضى العموم ، ومنها ما يقتضى الخصوص ، إلى غير ذلك ، فاستنبطوا أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز ، وتكلموا فى التخصيص والإخبار ، والنص والاجتهاد ، والظاهر ، والمجمل والمحكم ، والمتشابه ، والأمر والنهى .. وسموا هذا الفن : أصول الفقه».

ثم عدد ابن أبى الفضل علوم الدين والأدب والأمثال والحكم والوعظ والمعاد ، وأصول تعبير الرؤيا ، والظواهر الكونية ، وعلوم الحقائق ، والطب ، والجدل ، والهيئة ، والهندسة ، والجبر ، والمقابلة ، وأصول الصناعات ، ونبه إلى مكانها من القرآن.

بل إن السيوطى نقل : أن سكوت القرآن عن حقيقة من الحقائق يمكن استنباط الحقيقة منه. ومثل له باستدلال جماعة على أن القرآن غير مخلوق بأن الله تعالى ذكر الإنسان فى القرآن فى ثمانية عشر موضعا وقال : إنه مخلوق. وذكر القرآن فى أربعة وخمسين موضعا ، ولم يقل : إنه مخلوق. فلما جمع بينهما غاير فقال : (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ) (١).

ونقول : إن فى قوله تعالى : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) دليلا على أنه غير مخلوق لأنه أرجعه إلى ذاته يعلم به عباده ، لا إلى خلقه الذى وضعه بين عباده يتصرفون فيه حيث شاءوا.

ولقد جمع الإمام بن أسد المحاسبى من هدى القرآن ما يمكن أن

__________________

(١) سورة الرحمن : ١ ـ ٣.

٥٨

يسمى «علم النفس القرآنى». وذلك فى كتابيه : «الرعاية لحقوق الله» و «أدب النفوس» ، وفى كتاب ثالث يعتبر امتدادا للكتابين السابقين هو «أعمال القلوب والجوارح».

ولقد بذل المحدثون جهدا فى هذا السبيل نرى أنه يتطلب الزيادة والعمق فى كتاباتهم نحو نظم الحكم ، ونظام المال ، وغير ذلك من مواضيع الثقافة الجديدة ، وبحث أصولها فى القرآن.

كما تكلم المرحوم الدكتور محمد أحمد الغمراوى فى كتابه «الإسلام فى عصر العلم» بما يثبت الوصاية الشرعية على العلم الحديث وإعجازه للعقل البشرى.

ونبه الكثيرون من علماء الأجانب على هذا المعنى.

ومن ذلك ما قاله (جول لا بوم) : «القرآن أكثر من الوعظ والترغيب والترهيب ، بل إنه علم اجتماع ، فلم يوجه الكلام إلى الكبراء والقادة ، بل وجهه للناس جميعا بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) (١) و (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢) ولم يذكر السادة إلّا فى معرض النص على الأمم فى استسلامها لضلال قادتها وأهواء كبرائها فقال : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٣).

ويقول ديسون : «فى القرآن أمثلة كثيرة على هذه الدعوة العالمية. فالواقع أنه يساير الفلسفة الحديثة كل المسايرة ، ويتفق معها كل الاتفاق (؟) وأوامره لا تناقض المبادئ العلمية. فالقرآن ليس كتاب عقيدة وإيمان فحسب ، إذ لا يمكن أن تفرض العقيدة إلّا إذا جعلتها فى صورة يقبلها العقل ، ويطمئن إليها الفكر ، ولا يمكن للإنسان أن يعتقد عقيدة جديدة

__________________

(١) سورة التحريم : ٦.

(٢) سورة النساء : ١٧٤.

(٣) سورة الأحزاب : ٦٧.

٥٩

بدون مبرر قوى ، وبراهين واضحة. وهو ليس كتاب تشريع وأخلاق فحسب ، فالتشريع والأخلاق لا بدّ لهما من فلسفة قوية يقومان عليها ، والمشرع الأخلاقى يجب أن يكون فيلسوفا ، فلا يمكن أن يحث القرآن على الزهد إن لم يتحدث عن قيمة الحياة الآخرة ، والخلود ، والبعث ، وهذه مسائل فلسفية ، كما أن القرآن لا يمكن أن يبشر بالتوحيد إن لم يطرق البحث فى الخالق وصفاته وهذه مسائل فلسفية. فالقرآن تعرض لكل بحوث الفلسفة ، فتكلم فى الله وصفاته ، وعرض للروح ، وبحث فى الخلود والبعث ، وصور للإنسان مثلا أعلى يجب أن ينشده ، واختط له طريقا يجب أن يسلكه».

ويقول دريبر : «إننا لندهش حين نرى فى مؤلفات المسلمين من الآراء العالمية ما كنا نظنه من نتائج العلم الحديث فى هذا العصر ، ومن هذا : إن مذهب النشوء والارتقاء للكائنات العضوية الذى يعتبر مذهبا حديثا كان يدرّس فى مدارسهم ، ولقد أحس المسلمون إحساسا صادقا بتطور الحياة ، حتى إن الفقه الإسلامى ذاته تطبيق عملى لفكرة التطور البشرى وذلك أن مهمته الدائمة هى البحث عن حلول جديدة للمشكلات المتطورة المستجدة ، مستمدة من أصول الدين وروحه .. ولو كان رجال الدين فى أوربا على هذا الفهم الناجح فى القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر لما صدمتهم بحوث العالم الجديدة ، ولما قامت النفرة بينهم وبين العلم ، تلك النفرة التى أودت بأوربا كلها ، وتكاد تؤدى بالإنسانية كلها نحو الهاوية».

وأخيرا نسوق قول الأستاذ العقاد يؤيد الإعجاز الروحى والمعنوى للقرآن فى صورة ما يسمى الآن بالديمقراطية مذهبا سياسيا قرره الإسلام فى صورته المثلى. يقول : «معجزة أن تنبت الديمقراطية الإسلامية فى تربة الصحراء لا فى تربة الحضارة ، ولكنها معجزة إلهية مثلها فى الظهور بين الجاهلين كمثل الإيمان بالإله الواحد الأحد الذى لا يحابى قوما

٦٠