أسرار التكرار في القرآن

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني

أسرار التكرار في القرآن

المؤلف:

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني


المحقق: عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفضيلة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٩

التنزيل ، وغرة التأويل» وقد أطال القول فيه ، وغمض مقصده ، وأغفل كثيرا من مواضيع التكرار ، وإلّا «درة التنزيل» للرازى وهو مطبوع بمصر مختصرا غير واف بالغرض ، وإلّا متفرقات هنا وهناك فى بطون الكتب ، أو جانب واحد من جوانب التكرار الكلى كالقصص ، أما جزئيات التكرار واستقصائها فى القرآن على الوجه الذى سلكه الكرمانى فى البرهان من الإيجاز والوضوح فلا نجده ، ولذلك يعتبر هذا الكتاب هو الأول من نوعه وبابه فى المكتبة الإسلامية ، وتلك أولى دلائل أهميته.

منهج الكتاب (١) :

لقد حدد الكرمانى منهجه فى كتابه حين قال :

«هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التى تكررت فى القرآن وألفاظها متفقة ، لكن وقع فى بعضها زيادة أو نقصان ، أو تقديم أو تأخير ، أو إبدال حرف مكان حرف ، أو غير ذلك مما يوجب اختلافا بين الآيتين أو الآيات التى تكررت من غير زيادة ولا نقصان ، وأبين ما السبب فى تكرارها ، والفائدة فى إعادتها ، وما الموجب للزيادة والنقصان ، والتقديم والتأخير والإبدال ، وما الحكمة فى تخصيص الآية بذلك دون الأخرى ، وهل كان يصلح ما فى هذه السورة مكان ما فى السورة التى تشاكلها أم لا؟ ليجرى ذلك مجرى علامات تزيل إشكالها وتمتاز بها عن إشكالها.

فقد يرد فى القرآن كثيرا أمثال قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ـ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) ـ

__________________

(١) العنوان من عندنا للتوضيح (المراجع).

٢١

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) ـ كذلك نطبع ـ ... إلى أمثال ذلك».

ولقد بلغت هذه المكررات قمة الإعجاز ، بحيث يمكن اعتبارها من علامات التنبيه على الإعجاز الذى لا يدرك إلّا بعمق الفهم والفقه والتذكر فى كل سورة من سور القرآن ، حتى يدرك الإنسان المستوى الواجب من يقظة العقل والتدبر حين يقرأ القرآن ، إما لاكتشاف آفاق أخرى من آفاق إعجازه التى لا تنتهى ، وأما ما أدركه الأولون واستيعابه ، حتى تؤتى القراءة ثمارها من ذلك الكتاب المبارك المبين ، وتلك هى الأهمية الأخرى للكتاب.

ولقد نبّه الكرمانى على بعض مسائله بأنها براهين لإعجاز القرآن ، ومنها قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) (١) فى سورة الأنعام ، وقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) فى سورتى الروم (٢) ويونس (٣).

وما ذلك إلّا لأن ما فى الأنعام وقع بين أسماء الفاعلين وهو (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) ـ (فالِقُ الْإِصْباحِ) واسم الفاعل يشبه الاسم من وجه ، فيدخله الألف واللام والتنوين والجر وغير ذلك ، ويشبه الفعل من وجه فيعمل ، ولا يثنى ولا يجمع إذا عمل ولهذا جاز العطف عليه بالفعل نحو قوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) ... (وَأَقْرَضُوا) وبالاسم نحو قوله : (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ).

فلهذا وقع بينهما (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) بلفظ الفعل و (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ) لفظ الاسم عملا بالشبهين ، وأخّر لفظ الاسم لأن الواقع بعده اسمان والمتقدم اسم واحد بخلاف

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩٥.

(٢) سورة الروم : ١٩.

(٣) سورة يونس : ٣١.

٢٢

ما فى سورتى الروم ويونس ، لأن ما قبله وما بعده أفعال ، فتأمل فيه فإنه من معجزات القرآن.

وبمثل هذا الوعى العميق سار الكرمانى فى كتابه ممّا يجعله أوفى كتاب بحث إعجاز الأسلوب القرآنى ، إذ درج المؤلفون على تلمسه فى كلمة أو تعبير مفرد مقطوع عما قبله وما بعده ، أما استيعاب الأسلوب والنظر إلى القرآن فى وحدة متكاملة فهو الجديد فى هذا الكتاب ، وما ذلك إلّا لأن هذه الملاحظة تعطينا الفهم الحقيقى لحكمة منزل القرآن سبحانه وتعالى فى رعاية كل الاعتبارات والهيئات مما لا يتسنى لبشر على الإطلاق.

منهج التحقيق :

يوجد من الكتاب أربع نسخ خطية أرقامها ١٥٦ ، ١٤٩ ، ١١٧ مجاميع ، ١٢١ علوم قرآن بالمكتبة الأزهرية منها نسختان أختان لأن رقم ١٤٩ منسوخة من رقم ١١٧ نظرا لما أصاب الثانية من الأرضة ، والثانية رقم ١٥٦ حديثة الكتابة مشوهة الخط يبدو أن ناسخها لم يكن له دراية بالعلم فحرّف جلّها ، وأفسد معانيها ، ولذلك اعتمدنا على النسختين رقم ١٤٩ ، ١٢١ وقمنا بالعمل على الوجه التالى :

١ ـ نسخ النسخة الأم ١٤٩ والاستعانة بالثانية وإثبات الفروق.

٢ ـ أحيانا كانت تجمع النسختان على خطأ فكنا نحاول إصلاحه من السياق وقد نبّهت على ذلك فى الهامش.

٣ ـ مراجعة جميع الآيات القرآنية الواردة فى الأصول ، إذ أن فيها تحريفا واضحا ، فصحّحناها وأثبتنا أرقامها.

٤ ـ إرجاع المسائل إلى أصولها من الكتب المعتمدة

٢٣

والتأكد منها لا سيما القراءات والأخبار ما وجدت إلى ذلك السبيل.

٥ ـ تخريج الأخبار والأحاديث والتعريف بالأعلام الواردة فى الكتاب.

٦ ـ أضفت كلمات أحيانا إما فى آيات القرآن متى ذكرها المؤلف مبتورة ، وإما فى صلب كلامه لتوضيح المعنى وجعلتها بين علامتين هكذا [  ].

٧ ـ قمت بترقيم الآيات التى تعرض لها المؤلف بالبحث حتى يسهل الرجوع إليها.

٨ ـ قمت بعمل الفهارس التى تسهل البحث فى الكتاب فهرسا للآيات القرآنية ، وفهرسا للأعلام ، والفرق ، والأحاديث ، وأقوال الصحابة ، والأمثال ، والأشعار (١).

٩ ـ ما سقط من إحدى النسخ نبهت عليه بوضعه بين () ولم أثبت من الفروق ما كان قليل القيمة كالنقط وغيرها ، فأصبحت النسخ الأصلية مستندات من التراث كما هى ، ولكنى أثبت الصحيح فى الصلب وأنزلت غيره إلى الهوامش.

والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه وأن ينفع به المسلمين ، وأن يكون بداية لحلقة من دراسات القرآن ينسخ على نهجها أهل الغيرة على كتاب الله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وتابعيه ... إنه سميع قريب.

القاهرة عبد القادر أحمد عطا

* * *

__________________

(١) هذه الفهارس من إضافات المراجع (أحمد عبد التواب).

٢٤

دراسة

فى إعجاز القرآن

٢٥
٢٦

ما هو الإعجاز وما مقاصده؟

القرآن بيان ومعجزة :

المعجزة : أمر خارق للعادة. مقرون بالتحدى ، سالم عن المعارضة .. فخرق العادة يعنى جريانه على غير ما ألف الناس .. والاقتران بالتحدى يقصرها على الرسل المبلغين عن الله ، إذ هو وحده الذى يملك قطع حجة الجاحدين والسلامة من المعارضة تعزل الشعوذة التى تبدو فى ظاهرها خرقا للعادة.

وقد اقتضت سنة الله فى خلقه أن يؤيد رسله بالآيات التى هى المعجزات بالمعنى الاصطلاحى فى مواجهة تحديات الجاحدين الذين ينكرون رسالات الله عنادا واستكبارا ، تحت سلطان الترف وتسفل الإدراك من جهة ، ومن جهة أخرى لإمداد المؤمنين على مدى الزمن بطاقات من قوة اليقين ، ونور البصيرة ، وثبات القلوب فى مواجهة التحديات المادية الهائلة التى يهاجم بها المعاندون المؤمنين فى ميدان الفكر وفى ميدان الحرب على السواء.

وذلك أننا استقصينا التاريخ الدينى كله فما وجدنا الجاحدين إلّا المترفين المستكبرين الذين لصقوا بالتراب : وأعماهم الهوى عن الخضوع للحجة والبيان. ولا يستبعد أن يكون قد وقر فى قلوب هؤلاء الجاحدين المعاندين وميض من الاقتناع بصحة ما جاء به الرسل ، ولكنهم فى سبيل الشهوات التى أحاطت بهم من كل جهاتهم ، وغلّفت كل مشاعرهم فأطاحت بإنسانيتهم ، جهروا بالنكران ، واصطنعوا له الحجة الساقطة ، تماما كما هو حادث الآن فى أوساط الشيوعية اليهودية التى تهدد العالم بالدمار فى سبيل إقامة المادية الإلحادية : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ

٢٧

إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١) ، والملأ الذين استكبروا والذين أترفوا ، هم أئمة العناد ، ودعاة الجحود والكفر فى كل ملة إلهية كما بيّن ذلك القرآن الكريم.

لم يكن البيان والوضوح فى تبليغ الدعوة إذن كافيا لقطع الحجة الكافرة ، وإقناع أنواع المدعوين إلى الشرائع على اختلاف أفهامهم ومداركهم وميولهم وشواكلهم ، بل إن البيان الواضح كاف لإقناع من رق حجاب الشهوة عن قلبه وبصيرته ، واستعلى عقله على هدى نفسه دون سواه من غلاظ القلوب والرقاب .. أما هؤلاء الغلاظ فلم يستجيبوا للبيان ، ولم يتخاذلوا أمام الوعيد بالهلاك فى الدنيا ولا فى الآخرة ، ولم تلن قلوبهم أمام دلائل الصدق الواضحة فى شخصيات رسل الله ، فراحوا يطالبون رسلهم بآيات ودلائل تدل على أنهم صادقون فى البلاغ عن إله غير منظور ولا مدرك بالحواس ، ولن تكون المطالبة بتلك الدلائل إلّا نوعا من التحدى الموجه للرسل أن يثبتوا للكفرة أن هناك شيئا وراء الحواس ، أو قانونا علميّا يعمل فى الكون غير القوانين التى ألفوها من خلال السبب والنتيجة فى عالم المحسوس المادى الذى يمارسونه فى حياتهم.

وكانت ناقة صالح ، وعصا موسى وبقية آياته التسع ، وإحياء الموتى على يد عيسى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ آيات مؤيدات لبيان اللسان وحجة العقل ، وتحديا لأهل العناد بأن قوة عظمى تحكم الكون غير قوة المادة ، وبأن قانون السبب والنتيجة المحسوس والمألوف ليس إلّا أدنى مراتب السبب والنتيجة ظهورا للإنسان فى عالمه المادى الذى أمر أن يمارسه على هدى من الإيمان المطلق ، حتى يستقيم العمران ، وتتحقق خلافة الإنسان لربه الأعلى.

ولما لم تجد تلك الآيات والدلائل الواضحة على سلطان الله تعالى

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤.

٢٨

وملكه المطلق للكون فى هداية هؤلاء المعاندين كانت مرحلة أخرى من مراحل الدعوة هى الوعيد بالخراب والدمار وتدمير الحضارة القائمة حينما أضربوا صفحا عن الوعيد بالهلاك فى الآخرة .. وقد حدث ذلك بالفعل فى تاريخ الديانات ، فكانت وسائل العمران هى بعينها وسائل الدمار والخراب .. فالماء الذى جعله الله سببا للحياة والنماء كان طوفانا أغرق قوم نوح ، والرياح اللواقح المنظمة لوسيلة الرخاء من السحاب والمطر كانت عقيما ، ما تذر من شىء أتت عليه فى قوم هود (عاد) إلّا جعلته رميما ، وتركتهم (صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (١). وكان ميزان الجاذبية ، والوزن الحق لانسياب الكهربية اللذان قدرهما الله تقديرا يحفظ على الناس منافعهم ، هما سبب الدمار ممثلا فى الصيحة ، والرجفة ، والخسف إلى غير ذلك مما لا تنكره وقائع التاريخ ، وما هو مسطور فى الكتاب المبين.

ولم يسفر ضياء الرسالة المحمدية الخاتمة إلّا والتراث الدينى مسطور فى الكتاب الكريم بأفصح بيان وأوضحه ، بحيث لا يعجز عن إدراكه أقل الناس فهما ووعيا ، داعيا إلى أن : الكون غيب وشهادة ، الله حاكم على الغيب والشهادة ، قادر على تدمير كل مشهود ومحسوس كما هو قادر على بركته ونمائه وازدهاره إذا كان هناك قبس من النور فى قلوب الناس يرقى بهم على التدبر والتأمل إلى الإيمان بكل مغيب عن المدارك من حقائق الوجود ، وبالله حاكما رحيما بالمؤمنين ، قاهرا للجاحدين .. وكانت كلمة قد سبقت من الله تعالى بألّا يكون خسف ولا رجف ولا مسخ ، حتى تتحقق عالمية الرسالة على مدى الزمان على نور هذا البيان القرآنى الذى لم يفتر عن لفت الأنظار إلى التواريخ السابقة ، وإلى الأمم ذات القوى الهائلة ، وكيف انتهى بها العناد إلى الدمار والهلاك هنا فى الدنيا قبل الآخرة.

__________________

(١) سورة الحاقة : ٧.

٢٩

«لا إله إلّا الله» ، هذه الكلمة هى خلاصة رسالات الله ، محمد وجميع الرسل عباد الله. هذا هو الحجم الأصيل للمبلغين عن الله فى كل ملة ، فلا كهنوت ، ولا احتكار للدين باسم الوساطة ، ولا سحر ولا شعوذة فى الدين وهى الأصول التى تدور حولها حقائق القرآن ، لتثبيتها فى القلوب ، ولإمدادها بطاقة من القوة واليقين عن طريق التشريع بالأمر والنهى.

فما ذا كان موقف العرب وهم أئمة الفصاحة والبلاغة من هذه الحقائق الواضحة باللسان البليغ المبين؟

كان هذا البيان هدى لمن رقت حجب الغفلة عن قلوبهم فآمنوا ، وكفر الكثيرون وعاندوا وهم أرباب القلوب الغليظة المعتمة ، وبدأت سلسلة من التحديات وطلبوا آية ربانية ، أى معجزة بالمعنى الاصطلاحى تدل على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دعواه. وأعلن الله تعالى أن آية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزته لأهل العناد ما هى إلّا الكتاب المبين حيث يقول : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (١). أى : أنه قائم مقام المعجزات المادية التى أيد الله بها رسله السابقين. وكان هذا البيان القرآنى حينما طلبوا تلك الآيات صراحة كما فى هذه الآية وحين قالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٢).

القرآن إذن آية الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعنى اللغوى والاصطلاحى لكلمة (آية) فهو البيان الواضح الجلى يدركه كل المخاطبين ، وهو فى الوقت نفسه معجزة بيانية عظمى يمنح المعتدين مزيدا من النور ، ويتحدى المعاندين أن يعارضوه بمثله ، كما تحدى موسى سحر قومه بعصاه وعيسى طب عصره بإحياء الموتى ، وآمن الكثير حينما تأملوا وتدبروا وعاينوا المعجزة بالقلوب .. فالإعجاز على أى حال هو وسيلة إيمان ، ووسيلة

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) سورة الأنبياء : ٥.

٣٠

ضلال (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (١).

من هنا كان وجه من وجوه عظمة القرآن ، هو : أن يجمع بين البيان والإعجاز ، فلا تكون الآية الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منفصلة عن البيان كما كان ذلك فى رسالة موسى وعيسى ، إذ كانت آيات موسى التسع ، وإحياء المسيح للموتى شيئا منفصلا تماما عن صلب التوراة والإنجيل .. أما القرآن فلمّا كان مصدقا للتوراة والإنجيل ومهيمنا عليهما ، وجامعا لحقائقهما ، فقد اجتمع فى صلبه البلاغ المبين ، والإعجاز القائم مدى الدهر ، وما ذاك إلّا لأنه كتاب لم ينزل لهداية العرب خاصة ، وإنما نزل لهداية البشرية كلها فى عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد عصره وإلى أن تقوم الساعة ، فلو انفصلت آية صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفس القرآن كما حدث فى الرسالات السابقة ، فمن الذى كان يأتى الناس بهذه الآية التى هى المعجزة بمعناها الاصطلاحى الآن؟

يعنى : أنه إذا ارتاب قوم فى صدق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عصرنا الحاضر ، فمن أين نأتى بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليطالبوه بمعجزة مادية تدل على صدقه؟ ولهذا كان القرآن نفسه بيانا ومعجزة فى آن واحد ، ولم تكن مادة إعجازه شيئا واحدا بحيث لا تلائم إلّا عصرا واحدا أو مجموعة من الأجيال بعينها ، بل كانت مواد إعجازه كامنة فى أطوائه ، وكلما تقدم المنكرون الجاحدون فى العلم المادى انكشف من وجوه إعجازه وجه يقمع ضلالات الكفر ، ويهدى إليه الآلاف المؤلفة فى كل عصر ، وهو ما نشهده الآن وقبل الآن ، وما ستشهده الأجيال بعد الآن بإذن الله.

وقد أشار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا المعنى فى حديث أخرجه البخارى عنه قال : «ما من الأنبياء نبى إلّا أعطى ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا». قالوا فى معناه : إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ، فلم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦.

٣١

يشاهدها إلّا من حضرها ، ومعجزة القرآن باقية إلى يوم القيامة ، وخرقه للعادة فى أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات ثابت ، فلا يمر عصر من الأعصار إلّا ويظهر فيه شىء مما أخبر أنه سيكون ، ليدل على صحة دعواه ، والمعجزات كانت حسية تشاهد بالأبصار ، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة ، فيكون من يتبعه فيها أكثر ، فما يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهديه ، وما يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرّا.

ومن هنا كان استبطان القرآن للبيان والإعجاز معا فى وقت واحد دليلا على صدقه وعالمية رسالته ، وذلك لأن الجاحد العريق فى الجحود لا يمكن أن يؤمن إلّا إذا صدمته خارقة تهدم مذهبه المادى المتأصل فى أعماقه وتهدده فى الوقت نفسه بخارقة مثلها تأتى على ما بناه من أمجاد مادية فى لمح البصر ، وتلك هى سنة الله الماضية التى سجلها القرآن فى تواريخ الرسل ، ولفت إليها أنظار الناس فى كل زمان فقال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) (١).

ولقد كان القرآن وما يزال وافيا بحاجات البشر فى الإقناع والتحدى كلما فرح جيل بما عنده من العلم ، وما زال العلم يكشف من أسراره كل يوم عن جديد يكشف عن أخطاء العلم فى أحدث نظرياته ، فإنكار إعجازه ـ على هذا ـ يعتبر تآمرا على دعوة الإسلام ، وعملا لئيما على انحسار امتدادها ، وتجريدا له من سلاحه الهادف الذى زوّده الله تعالى به لا سيما بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل وإنكارا لما هو واقع ملموس يشهد له العدو والصديق معا ، بل إن إسلام العلماء فى العصر الحديث ما كان إلّا على ضوء لون من هذا التحدى فى مختلف فروع المعرفة.

هل كان يمكن أن يؤمن العرب دون أن يذعنوا لإعجاز القرآن إلى جانب إذعانهم لوضوح البيان؟

__________________

(١) سورة غافر : ٨٢ ، ومحمد : ١٠.

٣٢

أقول : إن أئمة الكفر أنفسهم شعروا بسلطانه على القلوب ـ وهو القدر المتاح لهم لإدراك إعجازه البيانى ـ فقالوا لأتباعهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (١). وذلك خوفا من سريان الروح التى شعر بها الوليد بن المغيرة حين قال : «إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته». وهو نفس الإعجاز الذى أدرك منه عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وجها يناسبه حينما سمع القرآن فى بيت أخته فتهاوى صرح الشرك من قلبه ، وشمخ صرح الإيمان فى كيانه ، إلى آخر ما هو معلوم لنا فى تاريخ دعوة الإسلام.

لقد صحح القرآن كثيرا من النظريات العلمية التى كانت سائدة فى عصر التنزيل ، وسجّل فى مكان تلك النظريات حقائق ثابتة لا تقبل التبديل ولا التغيير ، فكان ذلك إلى جانب استعمال القرآن للحقائق الكونية فى الدعوة إلى الخالق الحكيم المبدع تحديا للعقل البشرى بإحقاق الحق مكان الباطل على يد رسول أمى ما كان يتلو كتابا ولا يخطّه بيمينه.

وصدق الله تعالى الذى تحدّى العالم كله فى كل العصور فى معرض الدلالة على وحدانيته وتفرده بالسلطان ، وذلك حينما قرر قيام دولة الإسلام على الأرض ، وعجز كل القوى العالمية عن أن تقضى على مجدها فقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (٢) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) (٣). ومؤامرات العالم على الإسلام وصموده شامخا أمام المؤامرات ، بل واتساع سلطانه على القلوب أعظم دليل على اتساع مدى الإعجاز القرآنى إلى جانب إقناع البيان ، وتجاوز

__________________

(١) سورة فصلت : ٢٦.

(٢) سورة النور : ٥٥.

(٣) سورة الأنفال : ٣٦.

٣٣

هذا الإعجاز نطاق البلاغة والفصاحة ، وتصحيح النظريات العلمية ، والتنبؤ بالمستقبل ، إلى نطاق السياسة والاجتماع والعلوم التجريبية كلها.

ولو لم يكن القرآن معجزا لأهل عصره لكان قصاراه : أن يكون أسلوبا ممتازا يلقى فصحاء العرب إلى من جاء به بزمام التفوق والسلطان ، شأنه فى ذلك شأن المعلقات السبع وأمثالها ، أما والرسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأبى أن تكون الشمس فى يمينه والقمر فى يساره إلّا أن يظهر دين الله ، فالأمر إذن فوق جودة الأسلوب ، وفوق كل الاعتبارات ، ذلك هو : إذعان العرب عاجزين ، أو انقيادهم مختارين إلى تلك العظمة القرآنية التى تفوق مقاييس العظمة الأسلوبية المتعارفة آنذاك.

لقد اشتبه الأمر على العرب ، فلم تكن فى الرسالات السابقة معجزات باطنة فى الكتب التى أنزلت على الرسل ، أى : لم تكن هناك معجزات من جنس الكلام ، بل كانت معجزات مادية منفصلة تماما عن الكتب السماوية ، وهذا الواقع هو الذى دفع العرب إلى أن يقولوا : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (١) وإلى أن يطلبوا منه أن يجعل لهم الصّفا ذهبا ، ... وإلى أن يقولوا عن القرآن : (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (٢) حينما لم يهتدوا بعيدا عن معجزات المادة.

وليس فى تحدى الله لعباده انتقاصا من هيبة الله تعالى ، بل إن الإنسان الذى أحل نفسه مكان الله فى الأرض كان وما يزال بعيدا عن الإذعان إلّا على وجه التحدى البيانى ، ثم التحدى بالقوارع المدمرة ، على أن آيات القرآن مليئة بتحدى المخاطبين. ألم يقل الله تعالى لليهود : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) (٣)؟ ألم يقل لهم : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) ... (قُلْ

__________________

(١) سورة ص : ٧.

(٢) سورة الأحقاف : ١١.

(٣) سورة الجمعة : ٦ ـ ٧.

(٤) سورة آل عمران : ٩٣.

٣٤

صَدَقَ اللهُ) (١)؟ وقال : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

أليس هذا هو التحدى بعينه؟ أليس هذا التحدى إبرازا لعظمة الله ، وتقريرالسلطانه وجبروته فوق كل جبروت؟

بداية القول بعدم إعجاز القرآن :

ولكنها فرية قديمة ، ونحلة متهالكة كانت فى الماضى ، وقد بدأت تطل برأسها على أيدى المدربين على دس الإلحاد فى ثنايا الإيمان فى الحاضر من المستشرقين وأذنابهم أدعياء الإسلام.

تلك الفرية هى القول بعدم إعجاز القرآن ، أو بأن مقاصده لا تشمل التحدى.

وأول من قال بعدم إعجاز القرآن فى نظمه (إبراهيم بن إسحاق النظام) المعتزلى الذى هلك فى القرن الثالث الهجرى ، قال عنه أبو منصور البغدادى فى كتابه (الفرق بين الفرق ص ٧٩ ، ٨٠) : «عاشر فى شبابه قوما من الثنوية والسمنية ، وخالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة ، ثم دون مذاهب الثنوية ، وبدع الفلاسفة ، وشبه الملاحدة فى دين الإسلام ، وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات ، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف ، فأنكر إعجاز القرآن فى نظمه ، وأنكر معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليتوصل بإنكار معجزات نبينا إلى إنكار نبوته».

أرأيت يا أخى إلى أين يسير بنا القائلون بعدم إعجاز القرآن فى عصرنا الحاضر؟

أرأيت من هم شيوخهم فى هذه النحلة الكافرة الخبيثة؟

أرايت كيف يكون غش المحدثين باسم الفكر العصرى وهم يرددون نحلا بال عليها الزمان؟

ولم يكتف إبراهيم النظام القائل بعدم إعجاز القرآن توصلا إلى

__________________

(١) سورة آل عمران ٩٥.

(٢) سورة البقرة : ١١١.

٣٥

إبطال نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما نقله إلينا من ضلالات الثنوية والبراهمة وغيرهم ، بل أنه احتاط لأمره احتياطا شيطانيّا ، وذلك أنه كما يقول البغدادى : «استثقل أحكام الشريعة ، ولم يجسر على إظهار رفعها ، فأنكر حجة الإجماع ، وحجة القياس فى الفروع الشرعية ، ولما علم إجماع الصحابة على الاجتهاد فى الفروع الشرعية ذكرهم بما يقرؤه غدا فى صحيفة مخازيه ، وطعن فى فتاوى أعلام الصحابة ، وجميع فرق الأمة». ثم ساق البغدادى من فضائحه وكفرياته الشنيعة إحدى وعشرين فضيحة من أرادها فلينظرها فى كتاب (الفرق بين الفرق ص ٨٠ ـ ٩١).

ومن العجيب أننا نجد امتدادا لتلك النحلة فى عصرنا الحديث : دعوات هزيلة إلى إعادة النظر فى اجتهادات السابقين من الأعلام ، ودعوة إلى إحلال الرأى مكانها بينما القاعدة تقول : لا يجوز خرق الإجماع إلّا بإجماع مثله. إن صحت هذه القاعدة ، فأين أهل الإجماع فى عصرنا حتى يخرقوا بإجماعهم إجماع الصحابة والتابعين؟!

ويكفى أن يعلم القارئ : أن إبراهيم النظام هذا وهو معتزلى المذهب قضى المعتزلة بكفره ، ومنهم خاله أبو الهذيل العلاف ، والجبائى ، والإسكافى ، ... وكثير غيرهم. وكفّره أهل السنة وألفوا فى تكفيره كتبا ومنهم : الأشعرى ، والقلانسى ، والباقلانى وغيرهم كثيرون.

ولقد عاد هذا الخبيث (النظام) فصادم إجماع المسلمين على إعجاز القرآن بقوله : إن هذا الإعجاز كان بالصرفة ، أى أن الله صرف العرب عن معارضته ، وسلب عقولهم وقدراتهم على ذلك ، وكانت معارضة القرآن مقدورة لهم ، لكن عاقهم عنها أمر خارجى ، فصار القرآن معجزة لذلك.

وأقول : إن هذا القول معناه : الارتداد إلى الفكر اليهودى السائد فى سفر التكوين ، والذى يصف الله ـ سبحانه ـ بالتردد والغيظ من عبيده ، إذ أنه كما يتصورون قد ندم على خلق آدم لما وجد أنه سوف يسبب له المتاعب ، واغتاظ حينما سادت الأخوة الإنسانية ، فبلبل ألسنة

٣٦

الناس ليحل العداء محل الحب بسبب عدم فهم بعضهم لغة بعض. ويتصل قول النظام هذا بالفكر اليهودى فى صورة أوضح حينما نقارنه بما جاء فى سفر التكوين من أن صراعا مريرا كان يدور بين الله وخلقه ، حتى لقد تغلب يعقوب ـ عليه‌السلام ـ فخلع حق فخذه.

وخلاصة الفكر اليهودى : أن الله كما تصوروه : قابل للهزيمة ، بارع فى التآمر ضد عباده ، متردد فى أفكاره ، يقرر الشيء ثم يرجع عنه ، ويعالج هذا التردد بالكيد لعباده ، وهو نفس القول الذى ردده المختار الثقفى باسم (نظرية البداء) إذ كان الله يعده بالنصر ، ثم يبدو له أن يغير موقفه فيصيبه بالهزيمة.

أليس القول بأن العرب كان فى مقدورهم معارضة القرآن ولكن الله صرفهم عن ذلك ، وثيق النسب بهذا الفكر اليهودى المشبوه؟؟ وأ ليس التحدى ثم الصرف على هذه الصورة التى رسمها إبراهيم النظام عبارة عن ضرب من ضروب الخداع والهروب من الحقيقة جل الله تعالى عن مثله؟؟ أليس هذا القول يساوى نسبة خطأ التقدير إلى الله ، ثم التخلص من هذا الخطأ بلعبة تشبه ألعاب السياسة المعاصرة؟؟ وإلّا فكيف يتحدى الله العرب صراحة أن يأتوا بمثل القرآن ، أو بآية واحدة من مثله ، وهم مصروفون بطبيعتهم ، أو بصرفهم ـ سبحانه ـ عن الاستجابة للتحدى بوسيلة ما من وسائل الصرف؟ وهل يكون هذا العمل إلّا عبثا تجل عنه حكمة التدبير الماثلة أمام العالم والمعجزة له ، والهادية إلى مزيد من الإيمان فى الوقت نفسه؟؟

يقول الإمام السيوطى ردّا على هذا القول الذى قال به النظام ومن جرى مجراه : «إن هذا القول فاسد بدليل قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...) (١) الآية. فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل به. هذا مع أن

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨٨.

٣٧

الإجماع قد انعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن. ويلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التحدى ، وخلو القرآن من الإعجاز ، وفى ذلك خرق لإجماع الأمة على استمرار معجزة القرآن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد عصره».

وقال القاضى أبو بكر الباقلانى : «ومما يبطل القول بالصرفة : أنه لو كانت المعارضة ممكنة ، وإنما منع منها الصرفة ، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون بالمنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره فى نفسه ، وليس هذا بأعجب من قول بعضهم : أن الكل قادرون على الإتيان بمثله ، وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجوه ترتيب أو تعلموه لو صلوا إليه به ، ولا بأعجب من قول آخرين : إن العجز وقع منهم ، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله».

أما الجاحظ فقد فضح أستاذه إبراهيم النظام فقال : «بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثرا ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشد ما كانت عدة .. وهو فى ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحديا لهم بهم ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خفيّا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف. قال : فهاتوها مفتريات. فلم يرم ذلك خطيب ، ولا طمع فيه شاعر .. فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم ، وعارض شعراء أصحابه ، وخطباء أمته ، لأن سورة واحدة ، أو آيات يسيرة ، كانت أنقض لقوله ، وأفسد لأمره ، وأبلغ فى تكذيبه ، وأسرع فى تفريق أتباعه من بذل النفوس ، والخروج من الأوطان ، وإنفاق الأموال ، وهذا من جليل التدبير الذى لا يخفى على من هو دون قريش والعرب فى الرأى والعقل بطبقات ...».

٣٨

ومع احتفاظنا بأن القرآن كلام الله غير مخلوق نقول : إن كان صرف الله عباده عن معارضته أمرا مقرّرا فى الإسلام ، فلما ذا لم يصرف الله العلماء عن معارضة خلقه فى العصر الحاضر؟ ألا ترى أن العلماء فى معاملهم راحوا يتحدثون عن الإنسان الآلى ، وعن بناء الأجنة فى غير أرحام الأمهات ، وعن الأمطار الصناعية ، ولم يصب الله تعالى عالما من هؤلاء بالجنون ، ولا بالمغص الكلوى كلما توجه إلى معمله ليصنع خلقا كخلق الله ، بل كانت لهم حرية العمل ، وحرية الاعتراف بالعجز ، وكان من هذا العجز هدى للكثيرين من العلماء فى تلك الدول ، إما إلى الإسلام مباشرة ، أو إلى الإقرار بوجود الله المبدع الذى يعجز العالم كله أمام حكمته وإبداعه.

فمحاولة التشكيك فى إعجاز القرآن بحجة القول بالصرفة ، أو بحجة أنه آية للبيان وليست للإعجاز تخبط دعا إليه الحقد على الإسلام وعلى القرآن ، أو التعصب العنصرى للجنس العربى تعصبا مصادما لعالمية القرآن وعدم اختصاصه بجنس دون جنس .. ولقد فند الإمام المحقق الشيخ محمد زاهد الكوثرى رحمه‌الله هذا الزعم فى كتابه (العقيدة النظامية) ، ولكن ضلالات المستشرقين ، من أمثال جولدزيهر ، ورودل ، ومرجيلوث ، وجب ، وضلالات أذنابهم وعلى رأسهم طه حسين فى كتابه عن (الشعر الجاهلى) من أنصار المذهب الديكارتى ما زالت تحتاج إلى جهود مضادة تنير قلوب الشباب المسلم بالحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

* * *

٣٩

وجوه إعجاز القرآن

انتهينا إلى أن حكمة الله تعالى اقتضت أن تكون معجزة الرسالة الخاتمة ، أو الآية الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التبليغ عن ربه هى القرآن الذى جمع بين البيان الواضح ، والإعجاز القاطع لحجة العناد والجحود ، وذلك ليتهيأ استمرار التبليغ بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستمرار وسائل الإقناع على مر الزمن.

وعلى هذا لم يكن دليل إعجاز القرآن قاصرا على الإعجاز البيانى كما كان فى عصر النزول ، بل كان جامعا لعدد هائل من دلائل الإعجاز بحيث يواجه كل العصور ، وجميع نواحى النشاط الإنسانى فى تفوق معجز ، يجذب إلى دعوته المزيد من الأجيال.

جهود العلماء الأقدمين

بذل الأقدمون جهودا مشكورة فى محاولة الكشف عن وجوه إعجاز القرآن ، وألفوا فى ذلك كتبا ، ومنهم : أبو سليمان الخطابى ، وعلى بن عيسى الرمانى ، وفخر الدين الرازى ، وابن سراقة ، وأبو بكر الباقلانى ، والكمال بن الهمام ، وابن الزملكاني ، والسيوطى ، وعبد القاهر الجرجانى ، وغيرهم .. وقد تكلم الكثيرون عن هذا الموضوع فى التفاسير والكتب ذات الموضوعات الأخرى ، ومنهم : ابن عطية ، والمراكشى ، والأصبهانى ، والسكاكى ، والسهيلى ، والقاضى عياض ، والزركشى وغيرهم.

أما فى العصر الحديث فقد كتب الأستاذ مصطفى صادق الرافعى كتابا فى إعجاز القرآن ، وتحدث كثيرون عن الإعجاز فى كتب ليست فى موضوعه ، ومنهم إمام العصر ، ونزيل مصر ، الشيخ محمد زاهد الكوثرى وكيل المشيخة الإسلامية العثمانية ، والأستاذ عباس

٤٠