إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) الذين انحرفتم عن طريق الحق (الْمُكَذِّبُونَ) بتوحيدنا وبرسالة نبينا (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مرّ تفسيرها في سورة الصافات (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) الماء المغلي وبلغت حرارته أشدها. (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) يعني شرب الإبل التي أصابها العطش بحيث لا ترتوي. (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي أن جهنم هي مأوى الكافرين ، وهذا طعامهم وشرابهم يوم الجزاء فيها.

٥٧ ـ (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ ...) حين أنكر الكافرون البعث والنشور قال سبحانه محتجّا عليهم : نحن أخرجناكم من العدم إلى الوجود وأنتم تقرون بذلك فلم لا تؤمنون بقدرتنا على إعادتكم بعد إفنائنا لكم.

٥٨ إلى ٦٢ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ...) أي هل نظرتم إلى ما تقذفونه من النّطف في أرحام نسائكم فتصير ولدا؟ (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) يعني هل أنتم خلقتم ما تمنونه بشرا أم نحن خلقناه؟ (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي قضينا به وجعلناه على كيفية مرتّبة فهذا يموت طفلا وذاك يكون سقطا ، والآخر يموت شابا وهكذا حسب ما اقتضته حكمتنا. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي لم يسبقنا أحد إلى هذا التقدير ولا نحن بمغلوبين على أمر قدّرناه. (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) فنخلق مثلكم بدلا عنكم (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نخلقكم على صور لا تعلمونها كأن نجعلكم قردة وخنازير فإنه لا يعجزنا ذلك. (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي فليتكم تعتبرون لتعرفوا قدرتنا على الخلق ابتداء وإعادة.

٦٣ إلى ٦٧ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) إلخ. أي هل نظرتم في ما تعملونه من فلاحة الأرض وإلقاء البذر فيها؟ هل أنبتّم البذر زرعا أم نحن. (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي لو أردنا لصيّرناه هشيما لا تنتفعون به في مطعم أو غيره. (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي فبقيتم تتعجّبون ممّا حلّ بكم ونزل في زرعكم (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي نحن نتحمّل عاقبة كفرنا بالله فقد ذهب ما لنا وذهبت كذلك نفقتنا وضاع وقتنا وتعبنا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لا حظّ لنا فنحن ممنوعون من الرّزق ومن كلّ خير.

٦٨ إلى ٧٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ...) إلخ أي السحاب أم نحن. (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ) أي لو أردنا لجعلنا الماء (أُجاجاً) أي مرّا شديد المرارة (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي فيا ليتكم كنتم تشكرون الله على هذه النعمة.

٧١ إلى ٧٤ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ...) أي هلا نظرتم إلى النار التي تشعلونها وتقدحونها بزدناكم (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) إلخ هل أنتم أنبتّم الشجر الذي تنقدح منها النار أم نحن؟ (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) جعلنا النار عبرة لنار جهنّم لتتذكّروا فتستعيذوا بالله من عذابها (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) جعلنا هذه النار أيضا منفعة للمسافرين والمقيمين ممّن يستمتعون بها من ضياء واصطلاء وطبخ إلخ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فنزّهه سبحانه وبرّئه ممّا يصفه به الظالمون.

٧٥ إلى ٨٢ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ...) لا زائدة ، أي : أقسم بمواقع النجوم ، وهي مطالعها ومساقطها (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي أنه يمين عظيمة ذات أهميّة من أكبر الأيمان.

٥٤١

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي أن هذا الذي ننزله عليك يا محمد قرآن كثير النفع جمّ الخير (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مستور محفوظ عن الخلق في اللوح المحفوظ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي الملائكة الموصوفون بالطهارة من الذنوب ، والعباد المطهّرون من الشّرك ومن الأحداث والنجاسات (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهو منزل من عنده تعالى على نبيّه (ص) (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) الذي رويناه لكم في القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي ممالئون ومراءون (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون نصيبكم من الخير بالتكذيب وقيل معناه : وتجعلون نصيبكم من القرآن الذي رزقكم الله إياه التكذيب؟.

٨٣ إلى ٨٧ ـ (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ...) أي فهلّا إذا بلغت روحكم الحلقوم عند الموت (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) أي وأنتم يا أهل الميّت في ذلك الوقت (تَنْظُرُونَ) ذلك وترون حاله ولكنكم لا تستطيعون دفع ذلك عنه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي أننا ألصق به قدرة وعلما بحاله (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) لا ترون ذلك ولا تعلمونه (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فهلّا ترجعون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت حلقومه عند الموت وتردونها إلى موضعها إن كنتم كما تقولون غير محاسبين وغير مبعثين. وقيل كنتم غير مملوكين لله بل أنتم تملكون أموركم.

٨٨ إلى ٩١ ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ...) أي فإن كان الميّت الذي حكينا عن احتضاره من المؤمنين السابقين إلى مرضاة الله (فَرَوْحٌ) أي فله راحة تامة (وَرَيْحانٌ) أي رزق في الجنة. وقيل هو الريحان المشموم يؤتى له به من الجنة (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي وله تلك الجنّة الموصوفة يدخلها (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي إذا كان المتوفّى من هؤلاء المؤمنين مرّ وصفهم (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي فيقال له : سلمت وترى في أصحاب اليمين ما تحبّ من السلامة يوم الجزاء.

٩٢ إلى آخر السورة المباركة ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ...) أي وإذا كان المحتضر من المكذّبين بالتوحيد والبعث والرّسل وبأوامر الله ونواهيه ، ومن الضالّين عن الهدى (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) فله مقام في جهنّم وقد أعدّ له طعام وشراب من حميمها الذي يقطّع الأمعاء (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي إدخال في نار عظيمة اللهب والحرارة (إِنَّ هذا) الذي نقوله لكم أيها العباد (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي الحقّ المؤكّد (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) مر معناه.

سورة الحديد

مدنية ، عدد آياتها ٢٩ آية

١ إلى ٣ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي نزّه الله تبارك وتعالى جميع ما فيهما وبرّأه ممّا يقول الظالمون. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يمتنع عليه شيء. (الْحَكِيمُ) الذي أجرى الأمور جميعها وفق تدبير وحكمة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مالك ذلك كلّه والمتصرّف فيه وحده لا يمنعه من ذلك مانع (يُحْيِي وَيُمِيتُ) فيحيي الأموات للبعث ، ويميت الأحياء في الدنيا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أنه قادر على الموجودات والمعدومات (هُوَ الْأَوَّلُ) لأنه القديم الأزليّ وما عداه محدث (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فناء كلّ شيء (وَالظَّاهِرُ) الغالب لكلّ شيء ، وكلّ شيء دونه (وَالْباطِنُ) العالم فلا أعلم منه. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنه عالم لذاته.

٥٤٢

٤ إلى ٦ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أنه أبدعهما سبحانه بما فيهما (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد كان يستطيع أن يخلقهما في لحظة واحدة لأنه قادر لذاته ، وقد فعل ذلك ليري ملائكته وعباده ما في ذلك من مصلحة ظهور شيء بعد شيء ، وما في ذلك من حسن النظام والتدبير ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى على الملك والسلطان (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي يعرف سبحانه فيها ما يستتر (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من سائر أنواع الحيوان والنبات والجماد (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من مطر ومن خيرات ومن أوامر ونواهي (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي ما يصعد إليها من الملائكة ومن أعمال الخلق وغيرها (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) بواسطة علمه الذي يحيط بأعمالكم وأحوالكم وبكل شيء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من خير أو شرّ (بَصِيرٌ) أي عليم (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرّف فيهما بحسب مشيئته (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي تصير إليه يوم القيامة (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل ما نقص من هذا في هذا وبالعكس بحسب ما دبّر وقرّر (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عارف بأسرار خلقه وما يخفونه من الضمائر والهواجس والأفكار.

٧ إلى ١٠ ـ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي صدّقوا بالله إلها واحدا وبنبوة رسوله (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي ابذلوا في سبيل الله وفي الوجوه التي أمركم من المال الذي ورثتموه ممن قبلكم. (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي للمؤمنين بالله وبرسوله المنفقين في سبيله ، جزاء أجر عظيم. (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يعني ما الذي يمنعكم من التصديق به مع الدلائل الواضحة على وحدانيته (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ونبيّه (ص) يطلب إليكم أن تؤمنوا يخالقكم (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) بما جعل سبحانه في عقولكم من معرفة الصانع والميثاق هو الأمر الذي يجب العمل بمقتضاه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين فعلا ، فلا عذر لكم في ترك الإيمان بعد لزوم الحجة (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد (ص) (آياتٍ بَيِّناتٍ) براهين واضحة (لِيُخْرِجَكُمْ) الله بتلك البراهين وبالقرآن (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ذلك بأن أرسل إليكم رسولا ونصب أدلّة ولم يترك مجالا لبقائكم على الضلال. (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ما تنتظرون من وراء ترككم للإنفاق في ما يقربكم إلى الله (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل ما فيهما يبقى له سبحانه بعد فناء ممن فيهما من الجنّ والإنس والملائكة ، فاستوفوا حظوظكم من الأموال قبل أن تصير ميراثا لغيركم. (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) من بذل من ماله في سبيل الله قبل فتح مكة وجاهد الكفار بنفسه (أُولئِكَ) الفاعلين لذلك (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أي بعد فتح مكّة وجاهدوا الكفار فأولئك السابقون في البذل والجهاد أعظم ثوابا عند الله (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي وعد هؤلاء بالجنّة وإن تفاضلوا في درجاتها (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي أنه عليم بكل ما تفعلونه.

١١ إلى ١٥ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ...) من منكم أيها الناس ينفق من ماله في سبيل الله ثم يعتبره قرضا لله ودينا عليه سبحانه بطيبة نفس (فَيُضاعِفَهُ) أي يجعل له جزاء إقراضه هذا من سبعة إلى سبعين ضعفا ، بل إلى سبعمائة؟ (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي لهم ثواب وجزاء خالص كثير.

٥٤٣

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يا محمد في ذلك اليوم (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي أن ضياءهم لإيمانهم يضيء لهم طريق الصراط ويكون دليلهم إلى الجنّة. (وَبِأَيْمانِهِمْ) يعني كتب أعمالهم يأخذونها بأيمانهم ثم يبشّرون فتقول لهم الملائكة : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ) باقين مؤبّدا (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر المطلوب على أكمل وجه. (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بعد ان يروا ما هم عليه من النور والنعيم : (انْظُرُونا) أي اصبروا (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي نستضيء بنوركم ونتخلّص من هذه الظّلمات (قِيلَ) للكافرين : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي عودوا إلى المحشر حيث أعطينا هذا النور. وقيل ارجعوا إلى الدنيا. (فَالْتَمِسُوا) هناك (نُوراً) تستضيئون به ، فيرجعون فلا يجدون شيئا. (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) أي أقيم بين المؤمنين والكافرين جدار يقام بين الجنّة والنار (لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي من جهة ذلك الظاهر العذاب أي جهنم كما أن الرحمة من جهة الجنّة (يُنادُونَهُمْ) أي أن المنافقين ينادون المؤمنين قائلين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ألم نكن سوية في الحياة الدنيا نفعل ما تفعلون من صيام وقيام وغيرهما؟ (قالُوا بَلى) هذا جواب المؤمنين ، أي : نعم كنتم كذلك (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي غششتم أنفسكم وأخذتم بفتنة النّفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي انتظرتم بمحمد (ص) الموت أو تربّصتم به (ص) وبالمؤمنين كلّ سوء (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في أصل الدين (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي غشّتكم الآمال بأن تدور الدائرة بالمؤمنين فيهلكون (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني غرّكم الشيطان فأطعتموه (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أي لا يفيدكم أن تدفعوا بدلا تفدون به أنفسكم لتنجوا من العذاب (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين تظاهروا بالكفر الذي أبطنتموه (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي مقرّكم الدائم الذي تأوون إليه (هِيَ مَوْلاكُمْ) يعني هي أولى بكم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وهي مصير بئيس تعيس.

١٦ و ١٧ ـ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ...) أي : ألم يحن الوقت الذي تلين فيه قلوب المؤمنين (لِذِكْرِ اللهِ) فترقّ لما يسمعون من تذكيره سبحانه ووعظه لهم (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي وتلين أيضا للقرآن (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي الزمان قد بعد بينهم وبين رسلهم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) غلظت وزال خشوعها بحيث مرنت على المعاصي. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) مارقون وخارجون عن إطاعة أوامر الله (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يعني يحييها بالمطر بعد الجدوبة وهو كذلك يحيي الكافر الميّت القلب بالإيمان (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي أوضحنا لكم البراهين والحجج (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بأمل أن ترجعوا إلى طاعتنا بعد التفكّر.

١٨ إلى ٢٠ ـ (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ...) أي المتصدقين والمحسنين إلى الفقراء والمساكين ، من الرجال والنساء والذين (أَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي بذلوا في سبل الخير ، فأولئك (يُضاعَفُ لَهُمْ) ما بذلوه من قرض لله (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) مرّ تفسيره.

٥٤٤

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) يعني صدقوا بهم فوحّدوا الله واعترفوا بنبوّة أنبيائه (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي شديد والتصديق المبالغون فيه (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي وأولئك هم كذلك (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي ثوابهم محفوظ لهم ، وكذلك نورهم الذي يهتدون به إلى طريق الجنّة. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي في النار يبقون فيها دائما وأبدا فكأنهم ملكوها وصاروا أصحابها (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي أنها بمنزلة اللعب واللهو اللذين لا بقاء لهما مهما طال وقتهما. (وَزِينَةٌ) يزيّن أهلها بها فتحلوا في أعينهم (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) يفاخر بعضكم بعضا بزخرفها (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) بحيث تجمعون منها ما يحلّ وما لا يحل وتفنون أعماركم في كنز المال (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مثل مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أي أعجب الزارعين ما ينبت فيها من ذلك المطر (ثُمَّ يَهِيجُ) أي ييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) لأنه قارب اليباس (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) مهشّما مكسّرا قشّه (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) مخصوص بأعدائه سبحانه (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لأهل طاعته (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي أنها سبب غرور لمن اغترّ بها واشتغل بطلبها سرعان ما يفنى ويهلك.

٢١ إلى ٢٤ ـ (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...) يعني بادروا إلى صالح الأعمال والتوبة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فسابقوا إلى جنّة هذا وصفها. وقد ذكر سبحانه عرضها ولم يذكر طولها لأن هذا العرض الهائل لا بدّ له من طول أعظم (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) إلخ أي هيّئت للذين صدّقوا به سبحانه وبما جاؤوا من عنده (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي أنها تفضّل منه تعالى على المؤمنين وإن كانوا لا يستحقونها كما هي فقد أعطاهم منها ما يستحقونه مع زيادة تفضليّة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي هو سبحانه صاحب الإحسان الجسيم (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) كالقحط وقلة المطر ونقص الإنتاج وغيره (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من مرض أو غيره (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي أنه مثبت في اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) يعني من قبل أن نخلقها ونوجدها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي سهل هيّن بالرغم من كثرته. (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي حتى لا تحزنوا على ما لا تصيبونه من نعيم الدنيا (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي لا تسرّوا كثيرا بما منحكم الله من عطاءاتها (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي يكره كل متكبّر يتعاظم على الناس (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأداء ما كلّفوا به من الواجبات (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) يحثونهم عليه (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض عمّا ندبه الله إليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه وعن طاعاته وصدقاته وهو (الْحَمِيدُ) أي أهل للحمد على نعمه.

٥٤٥

٢٥ إلى ٢٧ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ...) أي بالمعجزات والدلائل (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الكتب السماويّة المتضمّنة للأحكام ولكل ما يحتاج إليه الخلق (وَالْمِيزانَ) إمّا ذا الكفّتين الذي يوزن به ، وإمّا صفته (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ليتعاملوا فيما بينهم بالعدل (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي أنشأناه وأحدثناه كذلك لفائدتكم (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي قوّة لأنه يستعمل في الحرب وفي كثير من الصناعات (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي وفي الحديد أيضا فوائد ينتفعون بها في معاشهم كالسكين والفأس والإبرة (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) هذا عطف على قوله (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ليعرف الله نصرة من ينصره وجهاد من يجاهد مع رسوله الكريم (ص) (بِالْغَيْبِ) يعني في الواقع من غير مشاهدة بالعين (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) مر معناه. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) فخصّهما بالذكر لأنهما أبوا الأنبياء ولفضلهما (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فالأنبياء المتأخرون عنهم كلّهم من نسلهما. (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) إلى الحق (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي أتبعناهم برسل آخرين إلى أمم أخرى واحدا بعد واحد (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) من بعدهم أيضا (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في دينه ، وهم الحواريّون ومن اتّبع عيسى (ع) (رَأْفَةً) هي أشد الرقّة (وَرَحْمَةً) عطفا وشفقة (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) وهي طريقة العبادة التي توحي بالرهبنة في الكنيسة أو غيرها وهذا شيء لم نكلّفهم به ولكنهم ابتدعوا ما فيها من رفض النساء واتّخاذ الصوامع (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي أتبعوها رغبة في رضاه (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي ما حفظوها بحسب الأصول التي وضعوها لها. وقيل : فما رعاها الذين بعدهم حقّ رعايتها وذلك لتكذيبهم بمحمد (ص) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) أي أعطينا من آمن لمحمد (ص) ثواب طاعتهم وتصديقهم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي كافرون.

٢٨ و ٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ...) قال ابن عباس : يا أيها الذين (آمَنُوا) ظاهرا (آمَنُوا) باطنا (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي نصيبين من عفوه ولطفه ، لإيمانكم بمن قبل نبيّكم ولإيمانكم به (ص) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني يجعل لكم هدى تهتدون به أو هو نور القرآن (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ويستر ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مرّ تفسيره (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم الذين لم يؤمنوا بمحمد (ص) وحسدوا من آمن منهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي لا تقدرون والمعنى أن الأجرين جعلناهما لمن آمن من أهل الكتاب. بمحمد (ص) لنعلم الذين لم يؤمنوا به لا أجر ولا نصيب لهم في فضل الله. (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل الاستحقاق (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يمنّ على من يشاء من عباده الصالحين.

٥٤٦

سورة المجادلة

مدنية ، عدد آياتها ٢٢ آية

١ ـ (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ...) إلخ أي تراجعك في أمر زوجها وهذه الآية وما بعدها نزلت في امرأة من الأنصار قال لها زوجها في حالة غضب أنت عليّ كظهر أمي أي وكان هذا القول يعتبر محرّما للمرأة على زوجها بحسب عرفهم فشكته إلى النبي (ص) وقالت هل من شيء يجمعني به؟ فإنه لم يذكر طلاقا وهو أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ. فنزلت الآية.

٢ إلى ٤ ـ (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ...) أي هذا حكم الرجال الذين يقولون لنسائهم : أنتنّ كظهور أمّهاتنا : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) يعني لا يصرن أمّهاتهم بهذا القول (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) وليس أمهاتهم إلّا الوالدات لهن من بطونهنّ (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) أي أن المظاهرين يقولون قولا لا يعرف في الشرع. (وَزُوراً) أي كذبا (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عمّن يقول ذلك ولكنه يأمرهم بالتكفير عن هذا المنكر وهذا بيان حكمهم : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يعني يفعلون ما ذكرناه من الظهار (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي يرجعون في القول ويرغبون في نكاحهنّ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فعليهم عتق رقبة قبل أن يجامعوا نساءهم اللاتي ظاهروا منهنّ (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أي هذه الصعوبة في الحكم هي وعظ لكم لتتركوا الظهار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم بأعمالكم (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي فمن لم يجد رقبة يعتقها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فعليهم صيام شهرين متصلين قبل الجماع بأن يصوم واحدا وثلاثين يوما متوالية ثم يكمل الباقي ولو متفرقا (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي لم يقدر على عتق الرقبة ولا قوي على الصوم (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي أن يطعم ستين فقيرا (ذلِكَ) أي ذلك الفرض عليكم (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) لتصدقوا بما أمر الله وبلّغه رسوله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي ما ذكره من الكفّارات في الظهار هي أحكام الله (وَلِلْكافِرِينَ) أي الجاحدين بها (عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب موجع في الآخرة.

٥ و ٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) أي الذين يعادونهما ويخالفونهما (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ذلّوا وأخزوا كما أخزي الذين سبقوهم من المشركين (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي دلائل وحججا واضحات (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) يعني وللجاحدين لما أنزلناه على رسولنا عذاب فيه إهانة لهم وخزي. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي يحشرهم إليه بعد أن يحييهم للحساب (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي يخبرهم بأفعالهم ومعاصيهم (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) أثبته الله في كتب أعمالهم وذهب عن بالهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنه سبحانه يعلم كل شيء من جميع وجوهه ولا تخفى عليه خافية.

٥٤٧

٧ و ٨ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) الخطاب للنبيّ (ص) والمقصود به سائر المكلّفين. وفيه استفهام يفيد التقرير أي اعلموا أن الله محيط بجميع المعلومات في السماوات والأرض (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) يعني نجواهم معلومة عنده كعلم الرابع بها لو حضرها. (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أي حين يتناجى خمسة يعرف نجواهم كأنه سادس المتناجين (وَلا أَدْنى) أقل (مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) إلخ يعني أنه مطّلع على تصرفات الكلّ فرادى ومجتمعين كأنما هو معهم (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنه شاهد ومشاهد لكل ما يخصّه. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) أي ألم تعرف حال هؤلاء الذين يتحدّثون سرّا بما يؤذي المسلمين وهم المنافقون اليهود (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي يرجعون إلى ما كانوا عليه من المناجاة (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي يتسارّون فيما بينهم بما يخالفون به (وَإِذا جاؤُكَ) يعني إذا أتوا إلى عندك وترددوا عليك (حَيَّوْكَ) سلّموا عليك (بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) بغير التحية التي حيّاك بها ربّك ، لأن اليهود كانوا يقولون له (ص) : السام عليك ، والسام هو الموت بلغتهم ، وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليك. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم وبين بعضهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) يعني إذا كان هذا نبيّا حقّا فهلّا يعذّبنا الله بقولنا له كذلك؟ (حَسْبُهُمْ) أي تكفيهم (جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) النار يحترقون فيها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فبئس المآل مآلهم في جهنم.

٩ و ١٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ ...) أي تساررتم فيما بينكم (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يعني لا تفعلوا مثل فعل اليهود والمشركين (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي بفعل الخير وتجنّب ما يغضب الله (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه يوم القيامة ليثيبكم على إيمانكم وطاعاتكم (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) يعني نجوى الكافرين والمنافقين بما يسوء المؤمنين هي نجوى تنبعث عن وسوسة الشيطان (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ليجلب لهم الحزن (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) فهو لا يجلب عليهم ضررا ولا سوءا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يعني بعلمه بحيث يكون سببا لإيلامهم وحزنهم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي يفوضون إليه جميع أمورهم دون غيره.

١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ ...) أي اتسعوا فيه وهو مجلس النبي (ص) وقيل : مجالس الذكر. (فَافْسَحُوا) توسّعوا فيه (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يوسّع الله تعالى لكم المجالس في الجنّة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أي قوموا واتركوا المكان لإخوانكم (فَانْشُزُوا) قوموا وانهضوا. (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع المؤمنين على غيرهم بطاعتهم للنبيّ (ص) ثم يرفع الذين أوتوا العلم منهم على الذين لم يؤتوا العلم درجات بفضل علمهم وسابقتهم في الجنّة. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم.

٥٤٨

١٢ و ١٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ...) أي إذا ساررتموه (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي تصدقوا على فقير قبل أن تدخلوا عليه (ص) لمناجاته. (ذلِكَ) أي ذلك التصدّق قبل مناجاته (ص) (خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه أداء واجب وفيه ثواب. (وَأَطْهَرُ) يعني وأزكى لأعمالكم (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدّقون به (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي عفوّ عنكم عطوف عليكم (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) يعني خفتم الفقر وبخلتم بالصدقة يا أهل الغنى واليسار؟ (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي وحيث لم تقدّموا الصدقات (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) عفا عن تقصيركم في أمره (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ) في جميع ما أمركم به من الطاعات (وَ) أطيعوا (رَسُولَهُ) أيضا (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) عالم بأفعالكم جميعها.

١٤ إلى ١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ...) أي : ألم تنظر يا محمد إلى هؤلاء المنافقين الذين يوالون اليهود الذين باءوا بغضب الله وسخطه (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي أنهم ليسوا من المؤمنين بك ولا هم معهم في الإيمان ، ولا هم من اليهود في الظاهر وإن كانوا معهم بالولاء (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أي يقسمون الأيمان أنهم لم ينافقوا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعرفون أنهم منافقون (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) هيّأه لهم في الآخرة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس ما فعلوا وما يفعلون من النّفاق وموالاة أعداء الله ورسوله. إنهم قد (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا ما يقسمونه من الأيمان الكاذبة وقاية لهم دون القصاص (فَصَدُّوا) أي منعوا نفوسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق المؤدية إلى الحق (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) مرّ تفسيره. (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) أي سوف لا تفيدهم الأموال التي جمعوها (وَلا أَوْلادُهُمْ) التي خلّفوها وتعبوا عليها (مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تمنع عنهم عذابه (أُولئِكَ) هم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مرّ تفسيرها (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) يحييهم (جَمِيعاً) كلّهم (فَيَحْلِفُونَ) يقسمون (اللهُ) في الآخرة (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا ، بأنهم كانوا مؤمنين (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي ويظنون في الدنيا أنهم كانوا على الحق (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) في أقوالهم وعقيدتهم وأيمانهم التي يقسمونها (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي استولى عليهم وأحاط بهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) فصاروا لا يذكرونه ولا يخافون منه (أُولئِكَ) هم (حِزْبُ الشَّيْطانِ) جنوده (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) في الآخرة لأنهم يستبدلون الجنة بالنار.

٢٠ إلى ٢٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) أي الذين يخالفونهما في الحدود التي وضعها الله تعالى لمعالم دينه ، وهم المنافقون (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي أنهم أذلاء محتقرون في الدنيا ومخزيون في الآخرة (كَتَبَ اللهُ) في اللّوح المحفوظ وقدّر وهو كائن لا محالة (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) لننتصرنّ على الكفّار والمنافقين بالبيان والسنان (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) قادر قاهر (عَزِيزٌ) منيع غالب.

٥٤٩

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يصدّقون بوحدانيّة الله والبعث (يُوادُّونَ) يوالون (مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) من خالفهما ولم يعمل بأوامرهما (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) يعني مهما قربت قرابتهم منهم ، فإنهم يتبرّءون منهم لأنهم أعداء الله ورسوله (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي ثبّته فيها بلطفه فصار كأنه مكتوبا فيها والمراد بهم من لا يوادّون أعداء الله (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي سدّدهم بالإيمان الذي كان لهم بمثابة الروح في البدن لأنه بأمره سبحانه ، وقيل بالقرآن وقيل غير ذلك. (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) مر معناه (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) لطاعتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بثواب الجنة (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي جنوده (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المنتصرون الظافرون بالمطلوب.

سورة الحشر

مدنية ، عدد آياتها ٢٤ آية

١ إلى ٤ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ مر تفسيرها. وهذه السورة المباركة نزلت في إجلاء بني النّضير من اليهود حين أنذرهم النبيّ (ص) لكيدهم وخيانتهم فخرجوا إلى خيبر وبلاد الشام (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي هؤلاء اليهود (مِنْ دِيارِهِمْ) بتسليطه المؤمنين عليهم بأمر النبيّ (ص) بإخراجهم من حصونهم (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي أخرجهم منها على أن لا يعودوا إلى أرضهم حتى قبيل يوم القيامة (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي ما حسبتم أيها المؤمنون أنه يمكن إخراجهم من ديارهم لقوّتهم ومنعتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي حسبوا أنهم تحميهم القلاع والحصون التي اعتصموا بها من عذاب الله. (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي جاء أمر الله وعذابه (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من جهة لم يحسبوا حسابها لأنهم اغترّوا بقوّتهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي ألقى الخوف في نفوسهم (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يهدمونها من الداخل ليهربوا ، ويهدمها المؤمنون من الخارج للوصول إليهم (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فانظروا وتدبّروا واتّعظوا يا أصحاب العقول فيما حلّ بهم من البلاء (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي قدّره عليهم وحكم به. (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) مع جلائهم عن وطنهم (عَذابُ النَّارِ) جزاء كفرهم وعنادهم.

٥٥٠

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي هذا الذي فعل بهم هو بسبب أنهم خالفوا الله سبحانه وعاندوا رسوله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) يخالفه (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي قويّه.

٥ ـ (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها ...) أي أنكم يوم حربكم لليهود لم تقطعوا لهم نخلة من كرام النخيل أو تتركوا من نخلهم نخلة (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) لم تقطعوها أو تقلعوها (فَبِإِذْنِ اللهِ) فبأمره وتقديره (لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ليهين اليهود ويذلّهم.

٦ إلى ٨ ـ (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ...) أي ما جعله له فيئا خالصا من أموالهم حين جلوا عن بلادهم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي فلم تقربوه محاربين لا على الخيول ولا غيرها ولا راجلين (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بل الله تعالى يمكّن رسله من أعدائهم وينصرهم عليهم حين يشاء من غير قتال (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ظاهر المعنى (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أموال الكفار في القرى المعادية له (فَلِلَّهِ) يضعه سبحانه فيما أحب (وَلِلرَّسُولِ) بتمليك من الله له (وَلِذِي الْقُرْبى) يعني أهل بيت رسول الله وقرابته من بني هاشم دون غيرهم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي يتامى أهل بيته (ص) ومساكينهم ، وابن السبيل منهم (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي حتى لا يبقى ذلك متداولا بين الرؤساء منكم فقط هذا مرّة وهذا مرة (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي اعملوا بحسب أمره في تقسيم الأموال (وَاتَّقُوا اللهَ) تجنّبوا غضبه بترك المعاصي وبفعل الواجبات (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) مر تفسيره. (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا بدينهم من مكة إلى المدينة ومن دار الحرب إلى دار السلام (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) التي كانوا يملكونها (يَبْتَغُونَ) يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) راغبين بفضله ورضاه ورحمته (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي هاجروا نصرة لدينه (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فعلا لأنهم قصدوا لفعلهم نصر الدّين لا غير.

٩ و ١٠ ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي الأنصار الذين سكنوا المدينة وهي دار الهجرة قبل المهاجرين إليها وآثروا الإيمان ولا يعقل أن يكون (من قبلهم) يرجع إلى الإيمان أيضا بعد المهاجرين إلّا إذا أريد أهل بيعة العقبة من أهل المدينة. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي لم يكن في قلوبهم حزازة ولا غيظ بسبب ما أخذ المهاجرون من الفيء الذي استولوا عليه من مال بني النّضير (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي يقدّمون المهاجرين ويفضّلونهم على أنفسهم في العطاء (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي ولو كانت بهم حاجة وفقر (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) إلخ أي ومن يدفع عنه بخل نفسه فأولئك هم الفائزون بثواب الله وقيل شحّ النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة.

٥٥١

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني من بعد هؤلاء وهؤلاء وهم سائر التابعين لهم إلى يوم القيامة (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم من المؤمنين بالتجاوز عن الذنوب (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لا تجعل فيها حقدا ولا كرها ولا غشّا للمصدقين بك وبرسولك (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي متعطف على العباد منعم عليهم.

١١ إلى ١٤ ـ (أَلَمْ تَرَ ...) ألم تنظر يا محمد (إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) فأظهروا لك الإيمان وأبطنوا الكفر (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر والقائلون هم بنو قريظة (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي يهود بني النّضير : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) مساوين لكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) أي لا نطيع محمدا (ص) وأصحابه في قتالكم مطلقا (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) من قبل المسلمين (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي لنعيننّكم في الحرب. (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم فإنهم لا يخرجون معهم ولا ينصرونهم (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي إذا فرض وجودهم نصرهم الذي هو محال (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) لسوف يهربون (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ثم لا ينتفع جماعتهم بهذا الوعد ولا بنصرتهم. (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي خوفا (فِي صُدُورِهِمْ) أي في قلوبهم والمعنى أن خوفهم منكم أشدّ من خوفهم من الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي بسبب أنهم لا يعلمون الحق ولا يعرفون عظمة الله وهؤلاء المنافقون (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المؤمنون (جَمِيعاً) أي مجتمعين (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي من حصون منيعة وأبراج يدفعون بها عن أنفسهم لجبنهم (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي من وراء أسوار وحيطان والمعنى أنهم لا يقاتلونكم وجها لوجه (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي أن عداوتهم فيما بينهم شديدة وقلوبهم غير متفقة (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) تظنّهم متّحدين في ظاهرهم (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرّقة مختلفة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) لا يميّزون الرّشد من الغي.

١٥ إلى ١٧ ـ (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي أن حال الكافرين الذين تكلّمنا عنهم من اليهود وغيرهم من الاغترار بعددهم وقوّتهم ، كحال من سبقهم من المشركين الذين حاربوكم يوم بدر قبل غزوة بني النضير لستة أشهر (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي ذاقوا عقوبة كفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) إلخ أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضير وخذلانهم لهم كمثل الشيطان إذ زيّن بوسوسته للإنسان الكفر فلما كفر تبرأ الشيطان منه ومن كفره زاعما أنه يخشى عقاب الله يوم القيامة.

٥٥٢

(فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعني عاقبة الفريقين : الشيطان ومن أغواه (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) معذّبين مؤبدين (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم ولغيرهم.

١٨ إلى ٢٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...) أي تجنبوا معاصيه واعملوا بطاعاته (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ما قدّمت ليوم القيامة من عمل صالح ينجي أو سيّئ يوبق (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوه (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) عالم (بِما تَعْمَلُونَ) من خير أو شر. (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي تركوا أداء حقّه (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي حرمهم حظّهم من الخير والثواب (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله إلى معصيته (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) بالاستحقاق لأن هؤلاء يستحقّون الجنّة ، وأولئك يستحقّون النار (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بثواب الله ورضاه.

٢١ ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ...) هذا تعظيم لشأن القرآن ، أي لو كان الجبل مما ينزل عليه القرآن ويشعر به مع جفاء طبعه وكبر حجمه (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لرأيت الجبل الجامد متذلّلا تعظيما لشأنه. والإنسان العاقل أجدر من الجبل وأحق بأن يخشى الله ويخشع له لو عقل كلام القرآن (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي ليعتبر الناس بهذه الأمثال التي هي من واقع حياتهم.

٢٢ إلى آخر السورة المباركة ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) يعني هو الربّ الذي لا ربّ غيره ، المستحقّ للعبادة دون سواه ، وهو (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي العالم بما غاب عن عباده وبما يشاهدونه ويرونه (هُوَ الرَّحْمنُ) الرازق لجميع خلقه (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين منهم خاصة (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي المالك وحده لجميع الأشياء إيجادا وتصرفا (الْقُدُّوسُ) الطاهر من كل آفة المنزّه عن كل قبيح (السَّلامُ) الذي يسلم العباد من ظلمه (الْمُؤْمِنُ) الذي تنجو المخلوقات من ظلمه ، وقيل الذي أمن أولياؤه من عقابه (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب المتسلّط على الأشياء (الْعَزِيزُ) المنيع القادر الذي لا يقهر (الْجَبَّارُ) القاهر العظيم الشأن (الْمُتَكَبِّرُ) المجلّل بالكبرياء الحقيق بصفات التعظيم (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن شرك المشركين به من الأصنام وغيرها (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) المبتدع للخلق الفاعل للأجسام والأعراض (الْبارِئُ) المنشئ للخلق (الْمُصَوِّرُ) الذي صوّر الأشياء على ما هي عليه (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) مثل : الله ، الرحمان ، الرحيم ، إلخ ... (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ينزهه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مرّ تفسيره.

٥٥٣

سورة الممتحنة

مدنية ، عدد آياتها ١٣ آية

١ إلى ٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...) نهي منه سبحانه للمؤمنين عن أن يتخذوا الكافرين أولياء يوالونهم وينصرونهم أو يستنصرون بهم. (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) تحبّونهم وتتقربون منهم وتنصحونهم. وقيل معناه هنا : تلقون إليهم بأخبار النبيّ (ص) (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي القرآن والإسلام (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة ومن دياركم (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي لأنكم تؤمنون وتصدّقون ، وكراهة أن تؤمنوا (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إذا كان هدفكم في خروجكم وهجرتكم الجهاد وطلب رضاي فأعطوا خروجكم حقّه من معاداتهم (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تعرّفونهم مودّتكم لهم سرّا (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) لأني لا يخفى عليّ شيء وأنا أطلع رسولي عليه (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي من والى عدوّي وأسرّ إليهم بأخبار رسولي أيها المؤمنون (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي انحرف وعدل عن طريق الحقّ (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي أن هؤلاء الكفار إن يصادفوكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) ظاهري العداوة (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) يضربوكم ويقتلوكم بأيديهم ويشتموكم بألسنتهم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي أحبّوا أن ترجعوا عن دينكم (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) لا تفيدكم القربى (وَلا أَوْلادُكُمْ) يفيدونكم ، وهم الموجودون بمكة (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ) الله (بَيْنَكُمْ) فيجعل أهل الطاعة في الجنّة وأهل المعاصي في النار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مرّ معناه.

٤ و ٥ ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ ...) أي أنه قد كان لكم خير قدوة بإبراهيم (ع) (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين والمتابعين له (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) من الكفار : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) تبرّأنا منكم ولا نواليكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ونتبرّأ من أصنامكم (كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدنا عقيدتكم (وَبَدا) ظهر (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) فلن يكون بيننا موالاة في الدين (حَتَّى تُؤْمِنُوا) تصدقوا (بِاللهِ وَحْدَهُ) فتوحّدونه وتعبدونه (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي اقتدوا بنبيّنا إبراهيم (ع) في جميع أموره ، إلّا في قوله لأبيه فلا تقتدوا به (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فلا أردّ عنك عقابه (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) أي كان إبراهيم (ع) والمؤمنون به يقولون ذلك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا إلى طاعتك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي المرجع (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تبتلنا بهم ولا تسلّطهم علينا فنقع في الفتنة بديننا (وَاغْفِرْ لَنا) امح ذنوبنا (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا يغلب ، والذي لا يفعل إلا الحكمة.

٥٥٤

٦ و ٧ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...) أي في إبراهيم والمتابعين له خير قدوة (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) ذاك أن الأسوة الحسنة لا تكون إلا لمن يطمع بثواب الآخرة ويخاف من عقابه سبحانه (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي ينصرف عن الاقتداء بهم (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) مر معناه (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) أي فلعلّ الله يجعل بينكم وبينهم موالاة بأن يجمعكم على الإسلام (وَاللهُ قَدِيرٌ) على تغيير ما في القلوب (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عن معاصي عباده ويلطف إذا أسلموا وتابوا.

٨ و ٩ ـ (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ ...) أي لا يمنعكم الله عن مخالطة الذين عاهدوكم على أن لا يقاتلوكم (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) ولا تعدّوا عليكم فأجبروكم على ترك منازلكم وأوطانكم (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي لا ينهاكم عن الوفاء لهم بالعهود (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أن تعدلوا في معاملتهم. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي يحب أهل العدل (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي الذين بقوا على الكفر وحاربوكم لأنكم أسلمتم (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي من بيوتكم (وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) أي ساعدوا المعتدين عليكم (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) يعني ينهاكم عن موادّتهم ومحبّتهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن ينصرهم منكم فهو ظالم لهم ولنفسه مستحقّ للعذاب.

١٠ و ١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ...) نزلت هذه الشريفة بعد صلح الحديبية حيث صالح رسول الله (ص) مشركي مكة على أن من جاءه من مكة ردّه عليهم ، ومن جاء مكة من أصحاب رسول الله (ص) فهو لهم ولا يردّونه عليه. وقد جاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة بعد الصلح بلا فصل والنبيّ (ص) لا يزال في الحديبية ، فأقبل زوجها في طلبها فنزلت الآية الكريمة بعد قطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين. فحكم النساء أنهنّ إذا جئناكم (مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) أي تحقّقوا من إيمانهنّ واستوصفوهن الإيمان (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) في القلب إذ لا تعلمون إلّا ظاهرينّ (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) في ظاهر حالهنّ (فَلا تَرْجِعُوهُنَ) ولا تعيدوهنّ (إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فقد وقعت الفرقة بينهم وإن أبى أزواجهنّ الطلاق (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي ردّوا لأزواجهنّ الباقين على الكفر ما بذلوه لهنّ من المهر (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي تتزوجوا بهنّ (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) إذا دفعتم لهنّ مهورهنّ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي لا تتمسكوا بنكاح الكافرات (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي إذا لحقت زوجتكم الكفارة بدار الكفر فاطلبوا منهم ما أنفقتم عليها من مهر (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) فأنتم وهم سواء في ذلك (ذلِكُمْ) أي هذا الحكم المذكور هو (حُكْمُ اللهِ) قضاؤه العادل (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يقضي الحق (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) أي لحقت زوجة أحدكم بالكفار مرتدة (فَعاقَبْتُمْ) أي قاصصتم بالغزو أو غيره منهم شيئا (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) من عندكم فأعطوهم (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) عليهنّ من المهور من رأس الغنيمة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي التزموا بأوامره واحذروا معصيته باعتبار أنكم مصدّقون به وبأوامره ونواهيه.

٥٥٥

١٢ و ١٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ...) هذه حكاية بيعة النساء للنبيّ (ص) فبعد أن أنهى بيعة الرجال بعد فتح مكة جاءته النساء وهو على الصّفا فنزلت هذه الشروط (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) كالرجال فالشروط هي أن يبايعن (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الأصنام بل يوحدونه (وَلا يَسْرِقْنَ) من أزواجهنّ أو من الآخرين (وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) لا بالإسقاط ولا بالوأد ولا غيرهما (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ) أي لا يكذبن في مولود يوجد (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) ولا يلحقنه بأزواجهنّ وهو ليس منهم (وَلا يَعْصِينَكَ) يا محمد (فِي مَعْرُوفٍ) تأمر به لأنك لا تأمر إلّا بالبرّ والتقوى (فَبايِعْهُنَ) يا محمد (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) أي اطلب العفو وغفران ذنوبهنّ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) متجاوز عنهنّ رحيم بهن. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود ، فإن بعض فقراء المسلمين كانوا ينقلون أخبار المسلمين لهم ويستفيدون منهم فنهوا عن ذلك. فإن اليهود (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي ليس لهم أمل بثوابها (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي كما فقد الأمل الكافر الذي مات وصار في القبر من أيّ ثواب في الآخرة ويمكن أن يكون المعنى : كما يئس الكفار الأحياء من خير من دفنوهم من أمواتهم أو من عودتهم إلى الدنيا.

سورة الصف

مدنية ، عدد آياتها ١٤ آية

١ إلى ٤ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ مر معناه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قيل إنه خطاب للمنافقين الذين تظاهروا بالإسلام ولم يبطنوه ، وقيل هو تنبيه للمؤمنين كي لا يقولوا ما لا يفعلونه (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم المقت عند الله تعالى أن يقول الإنسان ما لا يفعله وأن يعد ولا يفي بوعده (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي الذين يصطفّون عند القتال في وجه الأعداء ليرهبوهم ، وهم يظهرون أمامهم كالبناء المتصل المستقيم المحكم.

٥ و ٦ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ...) أي اذكر يا محمد حين أنكر موسى (ع) على قومه إيذاءهم له بشتى أنواع الأذى (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) وأنتم تعرفون حقّا أني رسول الله بعثني لهدايتكم والرسول يعظّم ولا يؤذى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي وحين مالوا عن الحق خلّاهم سبحانه وسوء اختيارهم وحجب عنهم ألطافه فمالت قلوبهم إلى الضلال (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يرشدهم إلى ما فيه الأجر والثواب الموصل إلى الجنّة.

٥٥٦

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) كما قال لهم موسى (ع) (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي مضافا إلى أني لم أنسخ أحكامها (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني وناقلا لكم البشارة بنبيّ يظهر من بعد زمني سمّاه الله تعالى أحمد يعني خاتم النبيين (ص) (فَلَمَّا جاءَهُمْ) محمد (ص) (بِالْبَيِّناتِ) بالدلائل الظاهرة (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) سحر ظاهر.

٧ إلى ٩ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ...) أي ليس أشد ظلما من الذي يختلق الكذب عليه سبحانه ويسمّي معجزاته سحرا (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) أي ينتدب لما فيه خلاصه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) مر معناه (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريد هؤلاء الظالمون إذهاب نور الإيمان بافتراءاتهم وأكاذيبهم وهذا كمن يحاول إطفاء نور الشمس بفمه (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) أي مكمل لدينه ومظهر لأمر نبيّه (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) رغم كرههم لذلك (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا (ص) (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) أي بالتوحيد وجعل العبادة خالصة له ، وبدين الحق الذي هو الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليقوّيه لينصره على كلّ دين بالحجة والبرهان (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) رغم كره المشركين لذلك.

١٠ إلى ١٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) إلخ خاطب سبحانه جميع المؤمنين وعرض عليهم مرغّبا بتجارة تخلّصهم من العذاب وهي : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فتوحّدونه وتعبدونه (وَرَسُولِهِ) فتقرّون بنبوّته (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) تحاربون أعداء الدّين (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) فتبذلون بطريق الحقّ كلّ غال ونفيس (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تقدّرون ما عرضته لكم حقّ قدره (يَغْفِرْ لَكُمْ) ربّكم (ذُنُوبَكُمْ) بأن يمحوها ويتجاوز عنها (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه صفتها الدائمة التي لا تزول (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) مستطابة هنيئة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) حيث تتنعّمون مؤبدين (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الظّفر الذي لا يعلوه شيء (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي وأدلّكم على تجارة ثانية أو عمل ثان ترغبون فيه في العاجلة وهي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) في الدنيا وظفر على أعدائكم (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) لبلادهم حيث تدخلونها منتصرين عليهم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بلّغهم يا محمد هذه البشارة بالثواب الآجل وبالثواب العاجل.

١٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ ...) أي أنصار دينه وأعوان نبيه (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) أي كقوله لأنصاره وخاصّته وإنما سمّوا بالحواريين لأنهم أخلصوا من كل عيب (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من هم المعينون لي في أمري (قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي أجابوه بهذا الجواب ،! وقيل إنما سمّوا نصارى لقولهم هذا (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي جماعة منهم صدّقت بعيسى (ع) (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) كذّبت به (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) أي سدّدناهم ونصرناهم عليهم (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي فصاروا منتصرين عليهم وغالبين لهم.

٥٥٧

سورة الجمعة

مدنية ، عدد آياتها ١١ آية

١ إلى ٤ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) يعني ينزّه الله سبحانه كل شيء خلقه ويقرّ له بالوحدانية والعبودية لأنه (الْمَلِكِ) أي المتسلّط على التصرف في جميع الأشياء (الْقُدُّوسِ) الجدير التعظيم الطاهر عن كل نقص (الْعَزِيزِ) الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمِ) الذي قدّر كل شيء وفق حكمته. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً) يعني العرب الذين هم أمّة لا تعرف القراءة ولا الكتابة ولم يبعث فيهم نبيّ قبل. وقيل معناها : بعث في أهل مكة لأنها تسمّى أمّ القرى (مِنْهُمْ) يعني أن محمدا (ص) جنسه من جنسهم ونسبه من نسبهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال والحرام وسائر الأحكام (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهّرهم من الذنوب والكفر (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) وهي الشرائع كافة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بعثه فيهم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في انحراف ظاهر عن الحق (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي ليعلّم آخرين من المؤمنين (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) وهم المسلمون من بعد عهد صحابته (ص) إلى يوم القيامة. وقيل هم غير العرب (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مر معناه. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) أي النبوّة التي اختصّ بها رسوله الكريم (ص) (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يعني يعطيه لمن يريد (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي هو سبحانه ذو المنّ الكثير على خلقه ببعثه محمدا (ص) إليهم.

٥ إلى ٨ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ...) أي كلّفوا القيام بها والعمل بما فيها وهم اليهود (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي لم يقوموا بحملها كما يجب ولا قاموا بأداء حقها بالعمل بما فيها كما ينبغي (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) الأسفار مفردها : سفر وهو الكتاب ، فما فائدة الحمار إذا حمل كتب الحكمة على ظهره؟ إنه لا ينتفع بها لأنه لا يقرأها ولا يعمل بما فيها ، وهذه هي حال اليهود مع توراتهم. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي تعس من الناس قوم ينكرون دلائل الله وبراهينه التي جاء به رسله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) مر معناه (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي قل يا محمد لليهود (إِنْ زَعَمْتُمْ) أي إذا ظننتم بحسب قولكم (أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أي أنصاره وأنه معكم (مِنْ دُونِ النَّاسِ) دون بقيّة الناس (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي اطلبوا الموت الذي يوصلكم إلى رضوانه ونعيمه في الجنّة إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أحبّاؤه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) أي أنهم لا يطلبون الموت مطلقا (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الذنوب والكبائر الموجبة للنار (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي أنه عارف بهم وبأفعالهم (قُلْ) يا محمد لهم : (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) أي تهربون منه (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي مدرككم (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي أنّكم ترجعون إلى الله العالم بسرّكم وجهركم (فَيُنَبِّئُكُمْ) فيخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بما عملتموه في الدنيا من سيّئ الأعمال وغيره.

٥٥٨

٩ إلى آخر السورة المباركة ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ...) أي إذا أذّن لها في ذلك اليوم وقعد إمام الجماعة على المنبر للخطبة (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) يعني فامشوا مسرعين إلى الصلاة دون تأمّل (وَذَرُوا الْبَيْعَ) اتركوا البيع والشراء على السواء (ذلِكُمْ) أي ما أمرناكم به من المبادرة إلى صلاة الجمعة وترك البيع (خَيْرٌ لَكُمْ) أكثر فائدة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما تنفعكم وما لا ينفعكم (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني أنه بعد انتهاء الصلاة والفراغ من الخطبة فتفرقوا لمصالحكم في جميع نواحي الأرض (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي اطلبوا نعمه ورزقه (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) احمدوه واشكروه على نعمه بما وفقكم إلى طاعته وأداء فرضه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعني لتفوزوا برضاه (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) إذا نظروا بيعا وشراء أو ما يلهيهم قيل هو الطبل (انْفَضُّوا) يعني تفرّقوا عنك يا محمد وانصرفوا إلى التجارة (وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي على المنبر تخطب (قُلْ) يا محمد لهم : (ما عِنْدَ اللهِ) من الأجر والثواب على سماع الخطبة والصلاة (خَيْرٌ) لكم وأكثر نفعا (مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) التي تبتغون ربحها (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه موفّر رزقه للطائع والعاصي ، وهو يرزقكم حتى إذا بقيتم مع رسول الله (ص) واستمعتم الخطبة.

سورة المنافقون

مدنية ، عدد آياتها ١١ آية

١ إلى ٣ ـ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ... إِذا جاءَكَ) يا محمد (الْمُنافِقُونَ) المذكورة صفاتهم (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أي اعترفوا أمامك بأنهم يعتقدون كونك رسولا لله (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقّا وحقيقة وعلمه لا يلزمه دعم شهادتهم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فهو سبحانه كما شهدوا لك بالرسالة تمويها يشهد بأنهم كاذبون في قولهم فإنهم لا يعتقدون ذلك في قلوبهم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي سترة يستترون بها خوفا من أن يقتلوا بكفرهم (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي فأعرضوا بذلك عن الإسلام. وقيل : منعوا غيرهم من أن يتبعوا طريق الحق بأباطيلهم ونفاقهم. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس ما عملوه من إظهار الإيمان وإبطان الكفر والصدّ عن سبيل الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) أي بسبب إيمانهم بألسنتهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم لما كذبوا بهذا (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ختم عليها وطمس فلا يدخلها الإيمان (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يعقلون الحق لأنهم لا يتدبرونه.

٤ إلى ٦ ـ (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ...) أي إذا نظرت إليهم يا محمد يعجبك حسنهم وجمالهم وتمام خلقتهم (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) وأنت تصغي لأقوالهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي كأنهم تماثيل حسنة الصنع ولكنهم خالون من العقول والأفهام (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي يظنّون كل صرخة موجهة إليهم لأنهم جبناء (هُمُ الْعَدُوُّ) أي لك يا محمد وللمؤمنين حقيقة (فَاحْذَرْهُمْ) احترس من أن تأمنهم على سرك (قاتَلَهُمُ اللهُ) يعني أخزاهم ولعنهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي ينحرفون عن الحق.

٥٥٩

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) أي هلمّوا إلى رسول الله تائبين ممّا أنتم عليه (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي حرّكوها هزءا وسخرية مستخفّين بهذا القول (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي رأيتهم يا محمد يمنعون الناس عن الحق (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) متعجرفين مستهزئين باستغفار النبي (ص). (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي يتساوى معهم استغفارك وعدمه فإن الله تعالى لا يغفر لهم مطلقا لكفرهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يوفّق الخارجين عن الإيمان إلى الهداية لطريق الحق.

٧ و ٨ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...) أي لا تقدّموا معونة للمحتاجين من المؤمنين الموجودين عند رسول الله (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي حتى يتفرّقوا عنه (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو سبحانه يملك الأموال والأرزاق ولو شاء لأغنى جميع المؤمنين ولكنه لا يفعل إلّا ما فيه من المصلحة والحكمة (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) لا يعرفون وجه الحكمة هذا (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) أي إذا عدنا من غزوة المصطلق إلى المدينة (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) يعني أنهم هم الأعزّة وسيخرجون منها النبيّ وأتباعه والذي قال ذلك هو رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) فهو تعالى العزيز المنيع ، وكذلك رسوله فهو القوي العزيز المنتصر عليهم (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بأن يجعلهم سبحانه منصورين على أعدائهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) فهم جاهلون يظنون أنهم أعزّة ، وهم بالحقيقة أذلّة صاغرون.

٩ إلى ١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ...) إلخ أي لا تنشغلوا بأموالكم وأولادكم عن الطاعات والذّكر وهو الصلوات الخمس وسائر الطاعات (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي من يتلهّى عن ذكر الله بماله وولده (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لثواب الله ورحمته (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) أي اصرفوا في سبيل البرّ والخير ويدخل فيه الزكاة وجميع الحقوق الواجبة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي يفاجئه (فَيَقُولَ رَبِ) مستغيثا نادما عند ما يشاهد علامات الموت (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي يا ليت لو فسحت بأجلي ولو لمدة قليلة وتبقيني في الدنيا (فَأَصَّدَّقَ) أي فأزكّي مالي وأتصدق وأنفق في سبيل الله (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين عملوا ما يرضيك (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فالأجل محتوم وهو واقع لا محالة في حينه (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي عالم بأعمالكم ويجازيكم بحسبها.

٥٦٠