إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

٢٢٥ ـ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) ... اللّغو في الأيمان ما لا قصد معه بل يجري على عادة اللسان لقول العرب : لا والله ، وبلى والله ، لمجرّد التأكيد. أي لا يؤاخذكم الله بما لا قصد معه من الحلف فهو لغو أي لا فائدة فيه ولا كفّارة (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي بما قصدت قلوبكم وانعقدت عليه ، فإن عقد القلب هو كسبه. (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) يغفر الذنوب ويمهل العقوبة.

٢٢٦ ـ (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) ... يؤلون من ألى يؤلي إيلاء وهو الحلف والمعنى هنا : للّذين يحلفون على عدم مجامعة نسائهم أزيد من أربعة أشهر ضرارا عليهنّ ، يمهلون أربعة أشهر. (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي رجعوا إليهن وجامعوهنّ تجب عليهم كفّارة الحنث ولا عقوبة عليهم رحمة من الله بهم.

٢٢٧ ـ (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) : ... وإذا مضت الأشهر الأربعة ولم يجامع ألزمه الحاكم على الرجوع والكفارة أو الطلاق. فإن صمم على الطلاق وتلفظ به مع استجماع شرائط صحته فإن الله يسمع تلفظه ويعلم نيته.

٢٢٨ ـ (وَالْمُطَلَّقاتُ) أي المخلّيات عن علقة أزواجهن بالطلاق وكان مدخولا بهن وكن ممن يحضن وغير حوامل. (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ينتظرن بأنفسهن انقضاء ثلاثة قروء فلا يجوز لهن أن يتزوجن في هذه المدة. والقروء جمع قرء وهو الطهر ، وقيل هو الحيض. (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) أي لا يجوز للمطلقات اللواتي تجب عليهن العدة أن يخفين حملهن إن استبان لئلا يظلمن أزواجهن بمنع الرجوع في الطلاق أو بنسبة الولد إلى غير الزوج صنع الجاهلية. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يصدّقن بيقين ، فإن الإيمان الواقعي مانع عن الكتمان والكذب ، بل وعن كل عمل غير مشروع. (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) أي أزواجهن أولى بمراجعتهن في فترة العدة. (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) يعني إذا اتّفقا على حسن الزوجية لا إذا كان القصد من رجوع الزوج الإضرار بالزوجة. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) للنساء على أزواجهن مثل ما لهم على زوجاتهم من حقوق متعارفة بين العقلاء كلّ بحسبه. أي أنّ للنساء على رجالهنّ حقوقا كما أن لهم عليهنّ حقوقا لا بد من أدائها إليهم. (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي فضيلة كالطاعة والرجوع وزيادة الميراث والجهاد إلخ. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب على أمره ، وفاعل لما تقتضيه الحكمة.

٢٢٩ ـ (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ... أي الطلاق الذي يملك فيه الزوج حق الرجوع في العدة من دون عقد جديد مرتان. (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي فعليكم إرجاعهن بشرط عدم كون الرجوع للإضرار بهن وإلا فاتركوهن حتى يخرجن من عدتهن فتبن منكم وقيل : المراد بتسريح بإحسان الطلقة الثالثة. (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) فلا يحل أخذ شيء مما كنتم أعطيتموهن من المهر ثم استثنى بدل الخلع فقال : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) من الوظائف الزوجية المقررة لكل منهما. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي الوظائف المقرّرة في الزوجية (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي لا بأس في مثل هذه الحال أن يأخذ الزوج الفدية في عوض طلاقه إيّاها. ولا بأس بإعطاء الزوجة له فدية مقابل تطليقها. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى ما حدّد وشرّع من الأحكام (فَلا تَعْتَدُوها) أي لا تتجاوزوها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ومن يتعدّ حدوده سبحانه يكون ظالما لنفسه أو لزوجته.

٢٣٠ ـ (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) : ... أي إن طلّقها الزوج للمرة الثالثة بعد الطلاقين المتقدم ذكرهما فلا تحل له ولو بالعقد. (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي بعد أن ينكحها زوج آخر غير زوجها الذي طلّقها (فَإِنْ طَلَّقَها) أي الزوج الجديد ، بعد دخوله فيها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أي لا إثم على الزوجة وزوجها الأول أن ينشأ الزوجية بعد عدتها بعقد جديد. (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي إذا اعتقدا أنهما قد يلتزمان بما شرعه الشارع لهما من لوازم الزوجية. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) كل ما ذكر هو أحكام الله الأمور التي بيّنها في النكاح والطلاق والرّجعة ، والمراد بحدود الله هو طاعاته وشرائعه التي ذكرت قبل هذه الجملة ، لا مطلق الأحكام وإن كانت كلها حدود الله عزوجل (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ويوضحها للعلماء.

٤١

٢٣١ ـ (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) قاربن انقضاء عدّتهنّ. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : مر تفسير ما يماثله. (بِمَعْرُوفٍ) مما يتعارف عليه الناس من معاملة حسنة. (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) أي لا تراجعوهنّ للإضرار بهنّ (لِتَعْتَدُوا) أي لتجوروا عليهن بتطويل العدة وتضييق النفقة وما شاكل. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الإمساك الضّراري والاعتداء عليهنّ (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) اضرّ بها حيث عرضها لعقاب الله. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) لا تستخفّوا بأوامره ونواهيه (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي الإسلام (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) أي القرآن وما فيه من أحكام وقيل المراد بالحكمة : السنة. (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي بما أنزل لتتّعظوا (وَاتَّقُوا اللهَ) تجنبوا معاصيه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من أفعالكم وغيرها.

٢٣٢ ـ (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ... أي انقضت عدتهن (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) أي لا تمنعوهنّ من التزوّج بمن رضين بهم أزواجا لهن. وقيل بمن كانوا أزواجا لهن من قبل. وقيل إن الخطاب عام للأولياء وغيرهم. (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا توافق الرجال والنساء بالنكاح الصحيح وبما لا يكون مستنكرا. (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) والإشارة بذلك ، للأحكام المذكورة آنفا التي يخوّف بها من ... (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي أن العمل بما ذكر خير لكم وأطهر لقلوبكم من الريبة. (وَاللهُ يَعْلَمُ) يعرف ما فيه الصلاح (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.

٢٣٣ ـ (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) : ... أمر للأمهات إن شئن بإرضاع أولادهن عامين تامين أربعة وعشرين شهرا. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي أن هذا الحكم لمن رغب في إتمام الرضاعة. وإلّا فبمقدار ما يجري الاتفاق عليه مع الأب. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي على الأب كسوة الوالدات المرضعات ونفقتهن من طعام وغيره بما يتعارف عليه (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) بقدر استطاعتها (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) لا تضرّ الأمّ ولدها بالتفريط في حضانته وإرضاعه غيظا على أبيه. (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي الأب فإنّ عليه أن لا يضر بولده في تسامحه بدفع النفقات ، أو أن يأخذه من أمّه غيظا عليها فيضر بولده. (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) أي تجب النفقة للأم المرضعة على وارث الأب المتوفى. وقيل على وارث الرضيع. (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) : أي إذا أراد الأب والأم المرضعة فطام المرتضع قبل الحولين وتشاورا واتفقا عليه. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي لا مؤاخذة تلحق بهما لذلك الفطام المبكر إذا كانت فيه مصلحة الرضيع. (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) الخطاب للآباء لأن النفقة عليهم. فإذا لم ترد الأمّ أن ترضع ولدها ، فللأب أن يطلب مرضعة ثانية مكانها. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي لا حرج عليكم في ذلك بشرط أن تسلموا ما ضمنتموه للمسترضعة من أجرة حسب ما هو متعارف بين الناس. (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تجنبوا معاصي الله فهو بصير بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء.

٤٢

٢٣٤ ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ... فالرجال الذي يموتون ويتركون أزواجا أي نساء ، فعلى هؤلاء النساء أن (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) أي يحبسن أنفسهن عن الزواج ، معتدّات (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي عشر ليال وعشرة أيام بعد الأربعة أشهر ، فهذه عدّة المتوفّى عنها زوجها. (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) انتهت مدة عدّتهنّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فلا مؤاخذة أيها الأولياء أو الحكام أو المسلمون (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) في التزويج والخروج من بيوتهنّ ؛ والتزيّن بما هو جائز لهنّ عرفا وشرعا ، لا بما هو منكر (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عليم بأعمال عباده.

٢٣٥ ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) ... الخطاب للرجال الأجانب عن النساء : لا حرج عليكم فيما لمّحتم به دون أن تصرّحوا للنساء المطلّقات أو الأرامل مما يدل على رغبتكم في نكاحهن لمعرفة مدى رضاهن بذلك. (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي لا حرج عليكم فيما أضمرتم وأخفيتم في أنفسكم من رغبة في نكاحهن بعد انتهاء عدتهن. ولم تعرّضوا ولم تصرّحوا. (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) برغبتكم فيهن مخافة أن يسبقكم غيركم إليهن. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) لأنهنّ أجنبيّات ، والمواعدة بالسرّ قد تدعو إلى ما لا يحلّ وتجرّ إلى الحرام. وقيل إن معنى السر هو إسرار عقدة النكاح (إِلَّا) لكن (أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) قولوا ما عرف شرعا من التعريض فهو مباح لكم دون غيره. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) أي ولا تعقدوا عقد الزواج بعد العدة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم وغيره (فَاحْذَرُوهُ) بمخالفة ما أمركم به ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) واعتقدوا بأني غفّار لعبادي أمهل العقوبة.

٢٣٦ ـ (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ... أي لا تبعة عليكم في طلاقهن (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي قبل أن تدخلوا بهنّ وقبل فرض مهر لهن. (وَمَتِّعُوهُنَ) عطف على مقدّر ، أي طلّقوهنّ ومتّعوهن بإعطائهن من أموالكم ما يتمتعن به (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الموسع : ذو السعة وهو الغني والمقتر هو المقل من المال. فعلى كل واحد أن يمتّع مطلّقته بما يتلاءم مع سعته أو إقلاله. (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) بما هو المتعارف (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي متاعا ثابتا واجبا على من يحسن في مقام أداء حقوق الناس.

٢٣٧ ـ (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ... بعد أن بيّن سبحانه حكم الطلاق قبل الدخول مع عدم فرض مهر للزوجة في الآية السابقة بيّن هنا الحكم مع فرض المهر فحكم بأن للزوجة نصف ما فرض لها من مهر (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) والعافيات هنّ المطلّقات لهن أن يتركن ما يجب لهنّ (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي الوليّ إذا كانت البنت صغيرة أو غير راشدة إذا كان فيه مصلحة لها. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) الخطاب للمطلّقة والوليّ في صورة المصلحة للعفو أما وجه أن العفو أقرب لاتقاء معصية الله لأن من ترك حق نفسه كان أقرب إلى اتقاء معصية الله بأخذ ما لا حق له فيه. (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي لا تتركوا تبادل الإحسان فيما بينكم. (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عليم بأعمالكم.

٤٣

٢٣٨ ـ (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ... أي داوموا على الصلوات المفروضات في أوقاتها المحددة بكامل ما يعتبر فيها من شرائط وأجزاء وخاصة الصلاة الوسطى وهي صلاة الظهر. وخصها بالذكر لبيان زيادة الاهتمام بها. (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي انتصبوا في الصلاة داعين لأن القنوت هو الدعاء في الصلاة حال القيام.

٢٣٩ ـ (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) ... فإن عرض لكم خوف لأي سبب فصلّوا على أرجلكم وقيل مشاة أو حال كونكم راكبين على دوابكم (فَإِذا أَمِنْتُمْ) زال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ) صلّوا صلاة المختار الآمن كما علمكم سبحانه (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ما كنتم تجهلونه من كيفيّة الصلاة وغيرها من الأحكام.

٢٤٠ ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) ... أي الذين يقاربون منكم الوفاة ، (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ويتركون بعد موتهم زوجات ، (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) فليوصوا وصية بناء على قراءة النّصب. وقرئ بالرفع ، أي عليهم وصية لأزواجهم وقد نسخ هذا الحكم (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ما يتمتعن به من النفقة حولا. (غَيْرَ إِخْراجٍ) أي غير مخرجات من بيوت سكنهنّ. (فَإِنْ خَرَجْنَ) بأنفسهن من منازل الأزواج قبل تمام الحول وبعد انقضاء العدة. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أيها الأولياء للميّت إذا خرجن من العدّة أو بانقضاء السّنة ، فلا بأس عليكم إن قطعتم عنهن النفقة أو تركن الحداد أو تزوجن لأن ذلك ليس منكرا. (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يقهره أحد ، (حَكِيمٌ) يفعل ما فيه المصلحة.

٢٤١ ـ (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) : ... تأكيد لمتعة غير المدخول بها ومن لم يسمّ لها مهر. وقد تقدم.

٢٤٢ ـ (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ... يعني : كما بيّن الله تعالى لكم سابقا الأحكام وما تحتاجون إلى معرفته في دينكم ، يبيّن لكم هذه الأحكام مع دلائل وجوده لعلكم تكمل عقولكم.

٢٤٣ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) ... أي ألم ينته علمك إلى القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت قيل هم قوم من بني إسرائيل بلغ عددهم على رواية سبعين ألفا وقع الطاعون فيهم وقيل فرّوا من الجهاد. الخطاب تقدير لمن سمع بقصة القوم الذين خرجوا من ديارهم (حَذَرَ الْمَوْتِ) خوفا منه. (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أي أماتهم الله جميعا على حالهم التي كانوا عليهم (ثُمَّ أَحْياهُمْ) أي ردّهم إلى الحياة ، قيل بدعاء نبيهم حزقيل. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) وردت هنا لأن إحياء هؤلاء بعد موتهم إنعام عليهم ، وعبرة لهم ولغيرهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الله حقّ شكره.

٢٤٤ ـ (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... جاهدوا لإعلاء كلمته ، والخطاب للمسلمين. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما في ضمائركم فاحذروه.

٢٤٥ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) ... من ذا الذي ينفق في سبيل الله وطاعته والمراد به الأمر وليس هذا بقرض حاجة على ما قاله اليهود بأن ربنا فقير فهو يستقرض منا كفرا وسخرية. (قَرْضاً حَسَناً) أي مقرونا بالإخلاص وطيب النفس. (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) أي يكثر له جزاءه ويزيد في ثوابه وتعويضه والكثير عنده سبحانه لا يحصى. (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أي يقتّر على قوم ويوسّع على آخرين حسب حكمته. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعودون بعد الموت.

٤٤

٢٤٦ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) ... أي ألم ينته علمك يا محمد إلى ما سأله جماعة الأشراف من بني إسرائيل لنبيهم وقيل بأنه شمعون وقيل يوشع وقيل غير ذلك بعد موت موسى (ع) (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي هيّئ لنا قائدا نأتمر بأمره وننتهي بنهيه ونقاتل معه ونجاهد في سبيل ربّنا وحسبة له تعالى. (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) أجابهم نبيهم : لعلكم إن فرضت عليكم المحاربة مع ذلك القائد تجبنون ولا تقاتلون. والاستفهام تقريري. يعني أنتم كذلك ولستم من أهل مقاتلة الخصم ومبارزته. (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ماذا يمنعنا من القتال في طريق الحق (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) من أوطاننا وأهلنا بالحرب والسبي وهل يتصوّر بعد هذا مانع معقول عن القتال؟ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي فرض عليهم حرب العمالقة الذين كانوا يسكنون ساحل بحر الروم ـ المتوسط ـ بين مصر وفلسطين ، وقد كانوا غالبين على بني إسرائيل. (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي جبنوا وأدبروا عن القتال غير طائفة قليلة. وقيل : كان عدد الباقين الموافقين على القتال ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي كان الله عليما بما سوف يؤول إليه أمرهم من الظلم وهو معصية الله بفرارهم من القتال.

٢٤٧ ـ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) ... الذي سألوه مسألتهم (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) وقيل سمّي طالوت ، لطوله. وفي بعض كتب اليهود عن بعض المؤرخين : كان أطول من جميع بني إسرائيل من كتفه فما فوق. (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) أي كيف يكون له سلطان علينا (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) ونحن أولى بالملك منه لأننا من سبط النبوة وهو ليس كذلك. (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) ليقدر على تملك الناس به فالملك بلا مال كالمحارب بغير سلاح ، (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) أي اختاره عليكم وهو أعلم بمصالح عباده (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) : أي سعة حيث كان أعلم بني إسرائيل في وقته وأجملهم وأتمهم وأقواهم جسما. وهذان هما قوام الملك. لا ما ذكرتموه. فهذان الأمران أهمّ للسلطان مما اعتبرتم. (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) الله يعطي ملكه بحسب ما تقتضي حكمته ومصالح عباده فأزمّة الأمور بيده تعالى. (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ذو فضل وعلم بمن له صلاحية الملك والزعامة والسياسة الدنيوية والدينية.

٢٤٨ ـ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) ... لما طلبوا منه دليلا على أن تمليك طالوت كان بمشيئة الله. (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) أي علامة تمليك الله له (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) قيل إنه الصندوق الذي أنزله الله على أمّ موسى فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر ، جعل فيه موسى (ع) الألواح وآثار النبوة كان في بني إسرائيل معظّما يتبرّكون به ثم استخفّوا به واحتقروه بعد موسى بمدة فرفعه الله عنهم ، وقيل غير ذلك. وقد ردّه الله بعد تمليكه لطالوت عليهم. (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) طمأنينة لقلوبكم جعلها الله فيه وهذا من نعم الله على بني إسرائيل كالمنّ والسلوى وغيرهما مما منّ الله تعالى به عليهم. أما التابوت فكان عندهم بمنزلة اللواء الأعظم في الحرب ، وكان معه الفتح والظفر ، (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) البقية ما كان قد وضع في التابوت بيد موسى (ع) وبقي فيه من آثار النبوة كالعصا ، ونعلي موسى ، وعمامة هارون إلخ والمقصود بآل موسى وهارون نفساهما. (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قيل : حملته قدّام جيش طالوت عاليا بين السماء والأرض ، حتى إذا رآه بنو إسرائيل عيانا سكنت قلوبهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في رجوع التابوت إليكم بعد رفعه من بينكم منذ زمن طويل (لَآيَةً لَكُمْ) علامة لكم على تمليك طالوت عليكم. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كنتم مصدّقين لقول نبيّكم في ذلك.

٤٥

٢٤٩ ـ (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) ... أي فلما خرج طالوت بجيشه من مكانه وكان الجو حارا فشكوا له قلة الماء (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) أي ممتحنكم بماء نهر ليميز الصادق من الكاذب منكم. (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي فمن شرب من ماء النهر فإنه لا يكون من أتباعي وأهل ولايتي ولا مؤمنا بي ومنقادا لأمري ، بل يعد في زمرة العاصين والمعاندين. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) يعني ومن لم يذقه فإنه من التابعين لي وأهل ولايتي. (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) مستثنيا بذلك الغرفة الواحدة باليد ، ليعلم مبلغ طاعتهم لأوامر الابتلاء. (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي كلهم متجاوزين الحد المقدّر المباح لهم. (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) كفّوا أنفسهم ولم يشربوا منه إلّا بمقدار الرخصة. وروي أن من اقتصر على الغرفة روي ومن استكثر غلب عطشه وعجز عن المضي واسودّت شفته. (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي عند ما تخطى طالوت النهر هو وجنده الذين شربوا كما أمرهم والذين لم يطعموا الماء أبدا. (قالُوا) أي الذين اغترفوا قال بعضهم لبعض. وقيل الكافرون منهم (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) لا قدرة لنا على صدّ جالوت وجيشه. ولن نتمكن من قتاله ومحاربته. (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي يتيقّنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي بالبعث والجزاء وهم المؤمنون المخلصون ممن لم يطعموا الماء أصلا كما قيل. (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) أي فرقة قليلة (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) انتصرت على فرقة أكبر منها بأمر الله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) يؤيدهم بنصره.

٢٥٠ ـ (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) ... أي حين ظهر طالوت والمؤمنون معه لمحاربة عدوهم (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) طلبوا الصبر من الله تعالى يصبّه عليهم صبا ليكون كافيا وافيا. (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في مواقع الحرب والنزال (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وأظفرنا بجالوت وجنوده.

٢٥١ ـ (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) ... أي غلبوهم بأمر الله. والمأثور أن هزيمة الكفار حصلت بعد أن قتل داود جالوت. (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) بالمقلاع الذي كان معه وداود كان في جيش طالوت (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) آتى داود السلطان والحكم المهيب الذي لم يتيسّر لأحد قبله. (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوّة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كفصل القضاء ، وعمل الدروع السابغات أي الواسعة ، والصوت الجميل ، والزبور السماوي ، بحيث لو قرأه بصوته لاجتمعت عليه الطيور تسبّح الله وتمجّده. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ضرب الكافرين والمنافقين والمفسدين ، ودفعهم بالمؤمنين ، (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) خربت بغلبة المفسدين والكفرة. (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) ذو نعمة على الناس في دينهم ودنياهم.

٢٥٢ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ) ... أي ما تقدم ذكره في الآيات السابقة هو دلالات الله على قدرته (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) نقرأها عليك يا محمد بالصدق وقيل : جبريل يقرؤها عليك بأمر منا. (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي المبعوثين من الله إلى الناس كافة ، بدلالة هذه الآيات : كإماتة ألوف الناس دفعة واحدة. وكإحيائهم كذلك بدعاء نبيّهم ، وكتمليك طالوت الذي لم يكن من الأسرة المالكة وأولاد يعقوب ، وكتمليك داود وقد كان راعيا للغنم وتعليمه الحكمة وفصل الخطاب. وكهزيمة جالوت والعمالقة ... إلخ. فهي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله فإخبارك بها أكبر دليل على أنه قد أوحي إليك بها من الله والله لا يوحي إلا إلى أنبيائه.

٤٦

٢٥٣ ـ (تِلْكَ الرُّسُلُ) ... إشارة إلى الأنبياء المذكورة قصصهم في السورة (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بمنقبة أو فضيلة تخصه (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) كموسى (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي فضّلهم بارتقاء المراتب كمحمد (ص). (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الدالة على صدق دعواه بأنه رسول الله. (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) مر تفسيره في الآية ٨٧ من هذه السورة (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) ولو أراد الله لم يقتتل الناس بعد بعث الرسل والدلائل بأن يلجئهم إلى الإيمان ويمنعهم من الكفر فلم يرد الله ذلك لاستلزامه إبطال فلسفة الثواب والعقاب التي لا تتم إلا مع اختيار للإنسان (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) تنازعوا (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بتوفيق الله وحسن اختياره هو الهدى (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بسوء اختياره (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) تأكيد (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) مما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحكمة.

٢٥٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ... أي يا من صدّق بمحمد (ص) أنفقوا مما رزقناكم وما فرضناه عليكم من زكاة الأعم من الفرض والنفل (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) أي قبل أن يأتي يوم القيامة حيث لا بيع : أي تجارة ولا خلة : أي صداقة ولا شفاعة : إذ لا يملكها يوم القيامة إلا من ارتضى من عباده وهؤلاء لا يشفعون إلا لمن ارتضى سبحانه. (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) والكافرون بالله المنكرون لأحكامه هم الظالمون لأنهم عملوا بأنفسهم ما أوجب حرمانهم يوم القيامة من رحمة الله.

٢٥٥ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ... هو المستحقّ للعبادة لا غيره ولا تحق الألوهية لسواه لأنه الذات المقدّسة المتصفة بصفات الربوبية. (الْحَيُ) أي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه لأنه الموجد للحياة والفناء. (الْقَيُّومُ) : القائم الدائم بتدبير الخلق وحفظهم في جميع شؤونهم (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) نعاس (وَلا نَوْمٌ) أي ما يعرض للمخلوق فيغلب على سمعه وبصره. فالله منزّه عن كل ذلك. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو المالك لما فيها والمتصرّف في جميع أمورها والمتكفّل بكل حاجاتها (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الاستفهام إنكاري ، أي : لا يشفع يوم القيامة شافع ممّن ترجى شفاعته إلا بأمره. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي أنه سبحانه يحيط بماضي الخلق وحاضرهم ومستقبلهم وقيل يعلم أمور الدنيا والآخرة. (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) لا يعلمون بشيء من معلوماته كما هو على الحقيقة (إِلَّا بِما شاءَ) أي بما أراد أن يطلعهم عليه فعلمه ذاتي وعلمهم عرض زائل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قيل : الكرسي : العلم أي أحاط علمه بهما. وقيل هو القدرة والسلطان أي أحاطت قدرته وسلطانه بهما. (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) لا يثقله إمساكهما فهو جلّ وعلا يمسكهما بقدرته الكاملة (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) المنزّه عن المثل وعن كل ما هو من صفات الممكن أو أن العليّ مأخوذ من العلو بمعنى القدرة والسلطان والعظيم الشأن الكبير القادر في سلطانه.

٢٥٦ ـ (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ... أي ليس في اعتناق الإسلام إكراه من الله ولكن العبد مخير فيه. وقيل : كان هذا قبل أن يؤمر النبي (ص) بقتال أهل الكتاب ثم نسخ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) ولكن دعوى النسخ باطلة لوجوه لا مجال لذكرها. (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي بعد ظهور طريق الحق ووضوحه من الباطل ، وتماميّة الحجة على الناس. فلا إكراه في الدّين ولا جبر عليه ، بل صاروا مخيّرين بالأخذ بأية عقيدة شاؤوا ، ليهلك من هلك عن بيّنة وليحيا من حيي عن بيّنة. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي يجحده ويتبرّأ منه. والطاغوت هو الشيطان أو ما عبد من دون الله (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يصدّق بالله ورسله. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي اعتصم بعصمة متينة (لَا انْفِصامَ لَها) لا تنقطع أبدا ولا تنحلّ. (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع الأقوال ويعلم ما في الضمائر.

٤٧

٢٥٧ ـ (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي وكيلهم الذي هو أولى بهم من أنفسهم ، ومغيثهم ، وناصرهم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية بتوفيقه ولطفه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) والمراد بالطاغوت الشيطان أو رؤوس الضلال والطاغوت وإن كان واحدا إنما أريد به الجمع (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) والمراد بالطاغوت الشيطان أو رؤوس الضلال والطاغوت وإ كان واحدا إنما أريد به الجمع (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) من نور الإيمان إلى ظلمات الضلالة والجهالة. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) إشارة إلى الذين كفروا مع طواغيتهم.

٢٥٨ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) ... الاستفهام تقريري أي لا بد أن تتدبّر يا محمد. أو هل رأيت شخصا كالذي جادل إبراهيم في ربه الذي كان يدعو إلى عبادته وتوحيده والمجادل لإبراهيم كان النمرود وهو أول من ادعى الربوبية. (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي لأنه تعالى أنعم عليه بنعيم الدنيا وسعة المال فطغى ودفعه بطره (نمرود) إلى إنكار المنعم عليه ، فبعث الله إبراهيم (ع) ليدعوه إلى طريق الحق (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) في الكلام حذف تقديره أن النمرود قال لإبراهيم (ع) : من ربّك؟ ... فأجابه إبراهيم ربي الذي يخلق الحياة والموت. (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أي أنا أحيي من هو مستحقّ للقتل فلا أقتله فأكون قد وهبته الحياة من جديد ، وأميت إذ أقتل من أشاء وهو جواب يدل على جهل من نمرود لأن عدم القتل إبقاء لحياة موجودة ، وليس إحداث حياة لم تكن ، (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي إن كنت إلها فغيّر سنة من سنن الكون بجعل الشمس تطلع من المغرب لأن الإله لا بدّ أن تكون عنده القدرة على ذلك (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي فشل وتحيّر لوضوح الحجة وعجزه عن مواجهتها. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بإبائهم قبول الهداية. وقيل : لا يعينهم على تحقيق ما ابتغوه من فساد.

٢٥٩ ـ (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ... أي انظر وتفكّر في قصّة أخرى غريبة كقصة محاجّة إبراهيم مع خصمه. هي قصة الذي مر على قرية قيل إنه عزير والقرية هي بيت المقدس (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) العروش : جمع عرش. ويطلق على ركن الشيء وما به قوامه ، والتعبير كناية عن خرابها على يد بختنصر وقيل : خاوية يعني خالية (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وأنّى : ظرف ، أي : متى. أو حال ، بمعنى : كيف. أي تساءل عزير : كيف أو متى يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم وتفرّق أجزائهم؟ (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أعاده حيا إلى الدنيا (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) مكثت بإسماع صوت أو يبعث ملك أو نبي. (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وهذا كلام الظانّ لأن الله أماته في أول النهار ، وبعثه بعد مائة عام في آخر النهار ، فظن أنه نفس يوم نومه. (قال) القائل الذي احتملناه في المورد : (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) أي مكثت هنا مائة سنة (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) وقيل كان تينا أو عنبا (وَشَرابِكَ) وكان كما قيل عصيرا أوتينا (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير بمرور السنين المتطاولة (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) الذي كيف تفرقت اجزاؤه بالموت والفناء. (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) حجة وعلامة ترشد المنكرين للبعث (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) أي عظام الحمار أو سائر الموتى (كَيْفَ نُنْشِزُها) أي نرفع بعضها على بعض لتركيبها في أماكنها من الجسد (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي نلبسها لحمها بذاته نجمعه من ها هنا وها هنا ... (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي عند ما اتضحت لعزير كل تلك البينات (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : حصل لي اليقين الكامل من المشاهدة والعيان بأن الله قادر مطلق على أن يبعث الموتى.

٤٨

٢٦٠ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) ... انظر يا محمد إلى قصة أخرى لإبراهيم حين سأل ربه أن يريه بالحس كيفية إحيائه الموتى بعد أن كان قد آمن بالعقل بقدرته تعالى على الإحياء بعد الإماتة ولذا فسؤاله (ع) هذا لا يتنافى مع إيمانه العميق بالله وقدرته بلا أدنى شك. (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) استفهام تقريري أي : بقدرتي على الإحياء (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي يزداد سكونا واطمئنانا بانضمام العيان إلى البرهان. (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) جمع طائر والطيور قيل هي : طاووس ، وديك ، وحمام ، وغراب. (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي اضممهن وقيل : قطّعهن أجزاء (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وقيل بأنها كانت عشرة أجبل وقيل أقل. (ثُمَّ ادْعُهُنَ) أي نادهنّ : يا ديك ، يا طاووس ، إلخ ... (يَأْتِينَكَ سَعْياً) يجئن إليك مسرعات ساعيات. (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب ذو إحكام لما يبرمه.

٢٦١ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ... على القول بأن التشبيه راجع إلى النفقات فالمعنى أن مثل ما ينفقون من أموالهم في وجوه البر ومنها الجهاد وأما على القول برجوعه إلى المنفقين فالمعنى : مثل المنفقين لأموالهم في سبيل الله (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أي أن تلك النفقات في البر تتضاعف لسبعمائة ضعف واسناد الإنبات إلى الحبة مع أن المخرج الحقيقي لها هو الله سبحانه هو إسناد لبعض الأسباب كالماء والأرض إلخ. (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء بحسب إخلاصه (وَاللهُ واسِعٌ) أي موسع في عطائه (عَلِيمٌ) بذوي الاستحقاق للمضاعفة وبنية كل منهم.

٢٦٢ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ... تفضله سبحانه على المنفقين من أموالهم في سبيله بمضاعفة أموالهم وأجورهم مشروط بشرطين : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا) الشرط الأول أن لا يمنّوا على من أعطوه كأن يفخر المعطي بعطائه. والشرط الثاني (وَلا أَذىً) وهو الضرر اليسير. وقيل : هو أن يعبس المعطي في وجه من أنفق عليه أو يسخره في بعض أعماله نتيجة إنفاقه. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لهم جزاء برهم عند الله (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي يوم القيامة لأنهم يبعثون مطمئنين إلى صدق وعد الله بجزيل الثواب.

٢٦٣ ـ (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) ... أي التلطف مع السائل في الكلام. والمغفرة العفو عن إلحاحه. (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) أي من إنفاق يقارنه الأذى والمن (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقاتكم بل كل طاعاتكم (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة.

٢٦٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) : ... أي أن المن والأذى سبب في إبطال الصدقات بمعنى عدم ترتب الأثر عليها عينا كإبطال الرياء لصدقة المرائي الذي يقصد من تصدّقه أن يراه الناس ليمدحوه ، ويقولوا إنه محسن. (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إذ لو كان مؤمنا بذلك لما عمل لغير الله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) أي أن المرائي في إنفاقه كأنه حجر أملس عليه تراب (فَأَصابَهُ وابِلٌ) أي نزل عليه مطر غزير فجرف التراب عنه (فَتَرَكَهُ صَلْداً) حجرا صلبا أملس لا يصلح لزرع ولا إنبات ... فإن المنفقين بهذه الأوصاف (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي لا يجدون ثواب ما أنفقوا كما لا يجد الإنسان نتيجة بذره على الصخر الصلد ، ولا التراب الذي جرفه الوابل عنه. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يمنعهم من الهدى ولكنه لا يوفقهم إليه لعدم استعدادهم لتلقي ألطافه.

٤٩

٢٦٥ ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ) ... إن الله قابل بين الإنفاق المرضيّ المأمور به والإنفاق المنهي عنه وضرب لذلك أمثالا توضيحية وفي هذه الآية مثّل سبحانه لمن ينفقون أموالهم (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي يصرفون من أموالهم في طرق البر طلبا لمراضيه تعالى ، (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) توطينا لنفوسهم على الثبوت على طاعته سبحانه (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) كبستان على مرتفع من الأرض. وقد افترضها سبحانه بربوة لأن شجرها يكون أنضر وثمرها أكثر (أَصابَها وابِلٌ) أي مطر غزير. (فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) أي أعطت غلتها مثلين مما كانت تعطيه. (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) فإذا لم يتسن لها الوابل فإنها ينزل عليها الطل : المطر الخفيف كالرذاذ فهي منتجة على كل حال. وكذلك حال الإنفاق في سبيل الله. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يرى أعمالكم فيجازيكم بحسبها.

٢٦٦ ـ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) ... أيحب أحدكم (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي بستان ينتج غالبا هاتين الثمرتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) حال كون مياه الأنهار تجري من تحت أشجارها (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) بلغ حد الشيخوخة والهرم (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) أي أولاد صغار لا يقدرون على تحصيل معاشهم (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) أي ضربتها ريح هوجاء التفت بأشجارها وكان في الإعصار نار سماوية فاحترقت أشجار تلك الجنة وهذا مثل لمن يعمل الحسنات عن طريق إنفاق المال وغيره ولا يريد بذلك وجه الله سبحانه ثم إذا اشتدت حاجته إليها في الآخرة يجدها قد حبطت فيتحسر كما يتحسر صاحب الجنة المحترقة التي كانت سبب معاشه ومعاش أولاده. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي يوضح لكم الدلالات والحجج (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) تتدبرون وتعتبرون بنتيجة ما ذكرناه لكم وتتدبرون في الآيات للاعتبار ...

٢٦٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) ... أي اصرفوا على المحتاجين من حلاله أو من جيده. (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي وأنفقوا من الثمار والغلات في طرق البر فرضا ونفلا (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أي لا تقصدوا صرف الرديء من أموال أو مزروعات أي منفقين منه (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) : الإغماض في البيع الحط من الثمن لعيب فيه. والمعنى : أنتم تنفقون من رديء أموالكم في حين لو أعطي لكم لا تأخذونه من غرمائكم إلا بالمساهلة أو بعد الحط من ثمنه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن صدقاتكم (حَمِيدٌ) أي محمود على آلائه ونعمه وقيل بمعنى حامد أي مجاز للمنفقين البررة على إحسانهم بالنية الخالصة.

٢٦٨ ـ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ... يخوفكم الفقر عند الإنفاق في البر ليصدّكم عنه (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي يسول لكم كل قبيح من الفعل أو القول. وقيل : الفحشاء : البخل. (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي عفوا عما فرطتم به (وَفَضْلاً) أي زيادة في الآخرة مما أنفقتم في الدنيا ... (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) موسع عليم بمقدار إنفاقكم فيضاعفه دنيا وآخرة.

٢٦٩ ـ (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ... الحكمة قيل بأنها العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته يعطيه الله من يشاء من عباده. وقيل هي علم القرآن. وقيل غير ذلك. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وفسر الخير هنا بالشرف والكرم والمراد بكثرته هو المرتبة الفاضلة. أما تقديم ثاني المفعولين في الجملة الأولى فهو اهتمام به كما أن تنكير الخير في الجملة الأخيرة للتعظيم ، أي : خير كثير ... (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) يعني : لا يتدبر ولا يتعظ بجميع ما فصلنا إلا ذوو العقول الصائبة.

٥٠

٢٧٠ ـ (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ... أي مهما أنفقتم من صدقة في البر أو من نفقة قبيحة غير مرضية منه تعالى كالتي يعقبها المن والأذى. (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) هو أن يعقد الإنسان فعل شيء من البر بشرط كأن يقول : لله عليّ كذا إن حصل كذا. فمهما فعلتم من ذلك (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) يعرفه فيثيب عليه نفقة مرضية كان أو نذرا في طاعة الله. (وَما لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم من الذين ينفقون في المعاصي ، وينذرون فيما لا يرضي الله ، لا يكون لهؤلاء (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم ويمنعون عنهم عذاب الله.

٢٧١ ـ (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) ... أي تظهرونها عند الإعطاء (فَنِعِمَّا هِيَ) أي : فنعم الصدقة هي في ذاتها وفي إظهارها إذا لم ينضم إليها شيء من الرياء أو المن والأذى. (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) : وأن تعطوها الفقراء سرا وخفية أفضل ثوابا من إعلانها. وقيل : إن الإخفاء مطلوب في النفل لزيادة الأجر ، والإظهار مطلوب في الفرض للتشجيع على إنفاق الحقوق المرسومة على القادرين. (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : يكون الإخفاء سببا لأن يكفّر الله عنكم بعض سيئاتكم. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عليم ومطّلع على صدقاتكم وأعمالكم سرّها وعلانيتها.

٢٧٢ ـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ... ليس مفروضا عليك يا محمد بعد أن أنذرتهم وبشّرتهم. هدى الناس وإيصالهم إلى الحقّ (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يدلّ ويوصل إلى الطريق المستقيم الحق من يشاء ممّن عندهم الأهلية للاهتداء (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ثواب ما تنفقون من طيب أموالكم في البر يعود إليكم (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي لطلب مرضاته وهذا إخبار عن صفة إنفاق المؤمن الصادق الذي لا يكون مقصوده من إنفاقه إلّا تحصيل رضوان الله. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) والتوفية إكمال الشيء وإتمامه ، فالمعنى تعطون جزاء وافيا يوم القيامة. بحيث يرضى صاحبه بما يعطيه الله بدلا عمّا أنفق في ذلك اليوم ، يوم الفاقة والفقر إلى رحمته. (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بمنع الثواب ، ولا بنقصان الجزاء.

٢٧٣ ـ (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... الجملة خبر لمبتدإ محذوف والتقدير : النفقة للفقراء الذين منعهم الاشتغال بالعبادة وطاعة الله التي منها الجهاد ... (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) فلا يتمكّنون من العمل للتكسّب والضرب في الأرض الذهاب والتصرف. وقد روي أن المراد بهم أهل الصفّة وقيل كانوا نحوا من أربعمائة من الفقراء المهاجرين ، يسكنون صفّة مسجد رسول الله (ص) ويستغرق وقتهم التعليم والتعلّم وكانوا يستخرجون في كل سرية يبعثها (ص) فيخرجون إليها مسرعين. (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) فجاهل حالهم يظنّ أنهم أغنياء بسبب إبائهم عن السؤال (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بالعلائم التي فيهم كصفرة الوجه مثلا. (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي أصلا عفة وسترا لفقرهم ، وقد يجيء الإلحاف بمعنى الإلحاح. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ترغيبا في الإنفاق سرا وعلنا وتنبيها على أنه محفوظ مكتوب ، معلوم عنده جلّ وعلا.

٢٧٤ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ... يبيّن الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أوقات الإنفاق وأشكاله ، وثوابه العظيم. (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : فلهم أيّ أجر وأيّ مقدار!. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) مر تفسيره وروي أن هذه الآية المباركة نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) ، حيث كان يملك أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم في النهار ، وبدرهم في الليل ، وبدرهم علانية وبدرهم سرا فكان ما فعل (ع) درسا لكل مسلم وذكرا وثناء عطرا باقيا إلى يوم القيامة.

٥١

٢٧٥ ـ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) ... أي المال الربوي في الدنيا الربا يعرّف بأنه الزيادة التي تؤخذ في القرض أو المعاملة ببعض الأشياء بمثلها كالمال والمكيل والموزون. وحرمته ثابتة بالإجماع من المسلمين وبالكتاب والسنّة ، بل لا يبعد أن تكون حرمته من ضروريات الإسلام. (لا يَقُومُونَ) يوم القيامة (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) أي مثلما يقوم الذي يصرعه الشيطان ويمسه بالجنون. وتكون هذه الحالة في المحشر علامة على أكله الربا في الدنيا. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي ذلك العقاب لهم بسبب قولهم : إنّ البيع الخالي عن الربا كالبيع الذي فيه ربا إذ كلاهما بيع وكذلك الاقراض مع الزيادة فالمقصود فيها بالآخرة هو الربح والفائدة منه. (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) والواو للحال أي أن اجتهادهم كان خاطئا حال كون البيع محللا من الله وكون الربا محرما منه تعالى وكفى بذلك فرقا. (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي زجر منه تعالى وتذكير (فَانْتَهى) أي اعتبر وانزجر (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي ما أخذه قبل النهي فلا يلزمه رده ولا يستردّ منه. (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أي أن الله يحكم بشأنه ما يريد (وَمَنْ عادَ) رجع بعد معرفته الكاملة لحرمة الربا إلى أكل الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأنهم قرناؤها لأن فعلهم هذا وقولهم السابق الذي رجعوا إلى ترديده يدل على كفرهم.

٢٧٦ ـ (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) ... أي ينقصه ويذهب ببركته ويمحوه. (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي ينميها بزيادة المال والثواب (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) والكفّار مبالغة : وهو المصر على الكفر والأثيم : المتمادي بالإثم.

٢٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ... جمع سبحانه في هذه الآية الكريمة الخصال الأربع التي هي أهم الخصال الشريفة بل هي أصولها وهي : الإيمان ، الأعمال الصحيحة عبادات ومعاملات ، والصلاة ، والزكاة ومعناها واضح وقد مر تفسيرها.

٢٧٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ... الخطاب خاص بالمؤمنين لأنه أمرهم بالتقوى وهي فرع الإيمان. ولأنهم أشرف وأعظم شأنا من غيرهم بسبب امتثالهم لأوامر الله. (اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) تجنبوا غضبه واتركوا ما بقي من الربا مكتفين برؤوس أموالكم عند الناس. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين بالله وبرسوله وبما أنزل من حكم الربا.

٢٧٩ ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ... أي إذا لم تنتهوا عما نهيتم عنه فأذنوا : فأيقنوا بقتال من الله ورسوله. وقرئت (فآذنوا) فيصير المعنى فأعلموا من لم ينته إلخ. (وَإِنْ تُبْتُمْ) رجعتم عن المراباة (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) أي مقدار المال الذي أقرضتموه دون زيادة (لا تَظْلِمُونَ) المدين بأخذ الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) بنقص رؤوس أموالكم.

٢٨٠ ـ (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) ... أي إذا كان حال غريمكم عسيرة ضيقة أو كان مبتلى بالإفلاس (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) فعليكم بإمهاله إلى وقت يساره والتمكن من إرجاع المال. وعن الصادق (ع): حد الإعسار أن لا يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت عياله على الاقتصاد (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي إذا احتسبتم دينكم صدقة على غريمكم المعسر هو أحسن جزاء لكم من إمهاله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه معسر أو : إن كنتم تعلمون ما في التصدق من الثواب ...

٢٨١ ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ... احذروا يوما تردّون فيه إلى جزاء الله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) فتعطى جزاء ما عملت من خير أو شر ثوابا أو عقابا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقصان ثواب أو زيادة عقاب.

٥٢

٢٨٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ... أي تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) أي إلى وقت معين مؤخر فسجلوا ذلك على القرطاس واجعلوه مكتوبا وبينوا وقت استحقاقه بالأيام أو الشهور أو غير ذلك. فإنه ادفع للنزاع. (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أي بالسوية لا يزيد ولا ينقص في كتاب المداينة أو البيع بين المتعاقدين (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أي ولا يمتنع الكاتب (أَنْ يَكْتُبَ) الصك ويحرره على الوجه المتفق عليه و (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) من الكتابة بالعدل (فَلْيَكْتُبْ) للناس على حسب حاجاتهم وشروطهم شاكرا لله أن علمه هذه النعمة. وهو تأكيد (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) أي يملي المدين على الكاتب بلسانه ما عليه ليثبته الكاتب بالكتابة. (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) وليخف جانبه فيذكر كل ما اشترطه على نفسه (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) ولا ينقص من الدّين شيئا من قيمته أو وصفه أو شروط تأجيله. (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أي إذا كان المديون صغيرا أو ضعيف العقل أو البدن بحيث لا يقوى على الإملاء وإمضاء الصك لأي عارض (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) فعلى ولي أمره أن يملي بالعدل كما أمر الله وقد تقدم. (وَاسْتَشْهِدُوا) على الدّين (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) اثنين من المؤمنين دون النساء في حال وجود الرجال (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) أي لا بد من كون الشهداء مرضيين رجلين كانا أو رجلا وامرأتين وسبب جعل امرأتين بدل رجل ثان هو مخافة (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) تنسى الشهادة حسب أصولها للمتداينين (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فعن علي (ع): إذا ضلت إحداهما عن الشهادة ونسيتها ذكرتها الأخرى فاستقامتا في أداء الشهادة ... (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أي لا يمتنعوا عن أداء الشهادة أو عن تحملها إذا طلب منهم ذلك (وَلا تَسْئَمُوا) أي لا تضجروا (أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) فاكتبوا الدّين مهما كان قدره (إِلى أَجَلِهِ) أي مهلته المسماة (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي أن الكتابة اعدل عنده تعالى (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أصوب لها. وقيل اضبط لها. (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أقرب ألا تشكوا في الدّين قيمة وأجلا. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) يعني اكتبوا الدين إلا في مورد كانت المعاملة تجارة حالة يدا بيد أي معاطاتية (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) لا بأس عليكم إذا لم تكتبوها لبعدها عن التنازع والتخاصم (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أي أشهدوا الشهود على بيعكم بعضكم لبعض. (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) بناء على قراءة الإدغام والفتح من الأصل يضارر وأما بناء على قراءة الإظهار والكسر من الأصل : يضارر يكون المعنى : لا يفعل بالكاتب ولا بالشاهد ضرر بأن يكلف بمشقة أو قطع مسافة بعيدة من غير تكفل بمؤونة لا يجوز أن تصدر المضارّة من الكاتب ولا من الشاهد بحرف بالزيادة أو النقصان (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) يعني إن تفعلوا الضرر الذي نهيتم عنه فإن ذلك فسوق أي قائم بكم. خروج عما أمر الله به سبحانه (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه في هذا المقام وغيره (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما تحتاجون إليه وما فيه مصالحكم الدنيوية والأخروية. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم المتقي ويميزه من غيره فيجازي كلا على حسبه.

٥٣

٢٨٣ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) ... أي في حالة سفر وأردتم الاستيثاق من دينكم (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب لكم صك الدّين ولا شاهدا (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي فخذوا رهانا مقابل المال الذي يستدينه غريمكم. وقد رفع (رهان) على الخبرية ، والتقدير : فالوثيقة رهان مقبوضة. (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي وثق الدائن بالمديون فلم يطلب منه وثيقة ولا شاهدا ولا قبض منه رهنا (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) أي المديون (أمانته) دينه وليردّه إلى صاحبه بمقتضى الأمانة. (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) وليتجنب عقوبة ربه بأن لا يجحد الحق لصاحبه أو يمطله (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) لا تحجبوها وتبخلوا بها إذا ما دعيتم إلى أدائها. والخطاب للشهود ، وظاهر النهي هو حرمة كتمان الشهادة. (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ومن حجبها مع علمه بالمشهود به وتمكنه من الأداء من غير ضرر بعد ما دعي إليها ثم امتنع ولم يقمها يكشف عن أن قلبه مريض آثم ونسبة الإثم إلى القلب هي باعتبار أن الكتمان من أفعاله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) بما تسرّون عليم كعلمه بما تظهرون.

٢٨٤ ـ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ... أي هو سبحانه مالك لها ومدبر لشؤونها وبيده أزمة أمورها يصرفها كيف شاء ويعلم ما فيها. (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) أي تظهروه طاعة كان أو معصية خيرا كان أو شرا. (أَوْ تُخْفُوهُ) تكتمونه (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي يجازيكم طبق استحقاقكم لأنه يعلمه إذ لا تخفى عليه خافية. (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) بعد استحقاقه العذاب تفضلا (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) حسب استحقاقه عدلا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مر تفسيره.

٢٨٥ ـ (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) ... يعني صدّق النبي محمد (ص) بما أنزله الله تعالى عليه. (وَالْمُؤْمِنُونَ) كذلك صدّقوا بذلك فمدح الله إيمانهم (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) وكان لسان حالهم قولهم : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) بل نؤمن بما جاؤوا به من عند ربهم ولسنا كأهل الكتاب من اليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) دعوة الدعاة إلى الله وأجبنا إلى ما دعونا إليه (غُفْرانَكَ رَبَّنا) نسألك إياه (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي الرجوع بعد الموت ... والكلام هذا متضمن الإقرار بالبعث والحساب.

٢٨٦ ـ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) ... فيما افترض عليها من واجبات (إِلَّا وُسْعَها) أي ما تتسع إليه طاقتها (لَها ما كَسَبَتْ) من الأقوال والأعمال التي فيها رضى الله (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) مما فيه سخطه. (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي إذا تعرضنا لما يؤدي نسيان تكليف أو صدور خطإ أو تفريط أو إغفال فنسألك يا إلهنا أن تسامحنا بذلك (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي لا تكلفنا إصرا : أي أحكاما ثقيلة شاقة (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) كما كلفت الأمم الماضية كتكليف بني إسرائيل قتل النفس لتكفير الذنب مثلا أو بقطع بعض المواضع من أبدانهم إذا تنجس وكتحريم بعض الطيبات من الرزق عليهم. إلخ. (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات أو التكاليف الشاقة (وَاعْفُ عَنَّا) تجاوز عنا (وَاغْفِرْ لَنا) أمح ذنوبنا واسترها و (ارْحَمْنا) اعطف علينا بالإنعام دنيا وآخرة. (أَنْتَ مَوْلانا) أي ولينا وناصرنا ومالك أمرنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي أعنا عليهم بالظفر والغلبة.

٥٤

سورة آل عمران

مدنية ، وعدد آياتها ٢٠٠ آية

١ ـ (الم) : قد مر تفسيرها في سورة البقرة فلا نكرره.

٢ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...) مر تفسيرها أيضا في آية الكرسي ٢٥٥ من سورة البقرة.

٣ ـ (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) الظاهر أن المراد بالكتاب هو القرآن الكريم و (بِالْحَقِ) حال ، أي مقترنا بالحق ، إمّا ثابتا بلحاظ تنزيله أو بالصدق بلحاظ مضمونه. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما قبله من كتب ورسل. (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ) قبل إنزال القرآن وقد ذكرهما من باب ذكر الخاص بعد العام والأول كتاب موسى والثاني كتاب عيسى (ع).

٤ ـ (هُدىً لِلنَّاسِ) أي دلالة للناس. قيل عني به الكتب الثلاثة يهتدي أهل كل منها به. وقيل يرجع إلى القرآن. (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي ما يفرق بين الحق والباطل وهو جملة القرآن.

٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) من كتبه وحججه وبراهينه (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بما جحدوا بعد تمامية الحجة عليهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يقهر (ذُو انْتِقامٍ) يعاقب المجرم على جرمه.

٥ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). أي أنه عالم بجميع ما من شأنه أن يعلم به في جميع العوالم الممكنة ، التي عبر عنها بما في الأرض والسماء.

٦ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ ...) هو الذي يخلق صوركم صانع بديع في صنعه ، قدير في تدبيره وتقديره. يصوركم (فِي الْأَرْحامِ) جمع رحم وأصله الرحمة وهو بيت الحبل في المرأة. (كَيْفَ يَشاءُ) أية صورة شاء من حيث الكم والكيف. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ...) لا إله غيره الغالب في سلطانه المتقن في أفعاله وصنعه.

٧ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) تأكيد لكون القرآن منزلا من عنده سبحانه وبيان لكيفية هذا الإنزال. (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أي أن دلالتها تكون على المعنى المراد منها من دون قرينة أو دلالة أخرى لوضوحه. (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله. (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ما لا يعلم المعنى المراد منها بظاهرها لالتباسه حتى يقترن به ما يدل عليه ولو بعرضه على المحكم. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي انحراف عن الحق بجهل أو شك (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) يؤوّلون تلك الآيات تأويلا باطلا ينسجم مع أهوائهم (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) لإضلال الناس وخاصة السذّج منهم. (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي طلبا لتأويله على خلاف الحق وقيل لطلب منفعة دنيوية. (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون المتقون فيه وهم أهل بيت النبوة (ع) (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي الراسخون يقولون صدقنا به (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أي مجموع المحكم والمتشابه من عنده سبحانه (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ما يفكر بذلك ويؤمن به إلا أرباب العقول الصائبة.

٨ ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ...) أي لا تجعلها تنحرف عما هي عليه من الفطرة الأولى وذلك يتم بإدامة لطفك إذ هديتنا أصلا إلى صراطك ودينك. (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي امنحنا من عندك رأفة تثبتنا على الحق (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) كثير العطاء.

٩ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ...) يعني للحساب والجزاء في يوم لا مجال للشك فيه وهذا من جملة مقالة الراسخين في العلم. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي الوعد.

٥٥

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) بآيات الله ورسله وماتوا على الكفر (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) لن تفيدهم إذا افتدوا بها أنفسهم تخلصا من عذاب الله عزوجل ولن تدفعه عنهم. (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي الكافرون ، هم حطب النار وطعمتها.

١١ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) حال هؤلاء الكفار كحال آل فرعون ومن قبلهم من الكافرين حيث إنهم جميعا (كَذَّبُوا بِآياتِنا) تفسير لدأبهم (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكهم بها وبسببها (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) جزاؤه لمن يعاقبه قوي لا يحتمل.

١٢ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ...) قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قريش وغيرهم : (سَتُغْلَبُونَ) ستهزمون في الدنيا (وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) أي تجمعون إليها في الآخرة (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي أن جهنم فراش سوء وقد عبّر سبحانه عن جهنم بالمهاد تهكما.

١٣ ـ (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ ...) الخطاب لمن حضر معركة بدر. والآية هي العلامة على صدق النبي (ص) (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) أي فرقتين متحاربتين اجتمعتا ببدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي فرقة تحارب في سبيل دين الله. وهم الرسول (ص) والمسلمون معه (وَأُخْرى كافِرَةٌ) وهم المشركون من أهل مكة ومن تبعهم. (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) أي يرى المسلمون المشركين ضعفيهم ، (رَأْيَ الْعَيْنِ) يعني رؤية حسية. (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) والتأييد من الأيد أي القوة ، فهو يقوّي (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في تقليل المشركين بأعين المسلمين ، وفي تكثير المسلمين بأعين المشركين ، وفي نصر القلة على الكثرة (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي في ذلك عظة لذوي العقول. من البصيرة لا البصر.

١٤ ـ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ...) أي حسّن للناس حب المشتهيات التي تتعشقها النفوس (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) قدمهن سبحانه في الذكر لأن الفتنة بهن أعظم فإنهن حبائل الشيطان وأما البنين فإن حبهم قد يدعو إلى جمع الحرام. (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) جمع قنطار ، وهو المال الكثير ، والمقنطرة المجموعة والمكدّسة. (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) من السّوم أي الرعي أو من السمة أي العلامة أو الحسنة من السيماء. (وَالْأَنْعامِ) المواشي المأكولة اللحم (وَالْحَرْثِ) الزرع (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي جميع هذه المشتهيات ، وسائر منافعها إنما هو من أعراض الدنيا والانتفاع به قليل لا بقاء له (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي المرجع الأحسن حيث النعم دائمة لا تزول.

١٥ ـ (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ...) أي : يا محمد قل للناس هل أخبركم بما هو أحسن وأنفع من هذه الشهوات الدنيوية الزائلة التي ذكرت لكم في الآية ، (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي تجنبوا المحرمات (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) لهم في الآخرة حدائق تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار مقيمين فيها بلا تحوّل عنها ولا زوال لها. (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي منظفة عما يستقذر من النساء خلقا وخلقا (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) فوق ذلك كله ، لأنه رضى الله الكثير. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي عالم عارف بما يعملون وما يستحقون من الجزاء.

٥٦

١٦ ـ (الَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا ...) في هذا القول بيان لصفات المتقين القائلين : ربنا إننا صدّقنا الله ورسوله! (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي استرها علينا ، وامحها عنا (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) وجنبنا إياه ، وادفعه عنا.

١٧ ـ (الصَّابِرِينَ) على الطاعة وعن المعصية. (وَالصَّادِقِينَ) في إيمانهم وجميع أمورهم الدنيوية والأخروية. (وَالْقانِتِينَ) المطيعين دائما لله. (وَالْمُنْفِقِينَ) الباذلين من أموالهم فرضا ونفلا في سبيل الله (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) في المجمع : أي المصلّين وقت السحر يسألون الله المغفرة.

١٨ ـ (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ..) شهادته تعالى هي إعلامه بوحدانيته وإلهيّته بالدلالات الواضحة والحجج القاطعة. (وَالْمَلائِكَةُ) أيضا شهدوا بذلك (وَأُولُوا الْعِلْمِ) شهدوا بما ثبت عندهم من عجيب صنعه الذي لا يقدر عليه غيره. وقيل بأن أولي العلم الأنبياء والأوصياء. (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي مقيما للعدل. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا رب ولا معبود سواه. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مر تفسيره.

١٩ ـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ..) أي الدين المرضي عند الله هو الإسلام عقيدة وشريعة. (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ما اختلف اليهود والنصارى بشأن هذا الدين. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي بعد أن علموا الحق مما جاء في كتبهم عن نبوة محمد (ص) (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي ظلما للحق وحسدا ، (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) أي ينكر حججه الواضحة (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) سريع الجزاء لا يفوته شيء من أعمالهم.

٢٠ ـ (فَإِنْ حَاجُّوكَ ، فَقُلْ) ... أي : فإن جادلوك في أمر هذا الدين وقيل نصارى نجران فقل : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أخلصت قصدي بالعبادة إليه وأعرضت عن كل معبود سواه أنا ومن آمن بي وصدق برسالتي. (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) وقل يا محمد لليهود والنصارى وللمشركين ممن لا كتاب لهم وهم الأميون (أَأَسْلَمْتُمْ ...) استفهام بمعنى التهديد فهو متضمن للأمر ومعناه : أسلموا. (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) صدّقوا بك وبرسالتك فقد سلكوا طريق الحق. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا وأصروا على كفرهم (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي إيصال رسالة الله إلى الناس ولا شأن لك بإعراضهم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) مر تفسيره.

٢١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ...) أي يجحدون حجج الله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) ظلما قيل : هم اليهود قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا في يوم واحد (وَيَقْتُلُونَ) أيضا (الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) بالعدل (مِنَ النَّاسِ) قيل : هم مائة واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل نهوا قتلة النبيين عن المنكر الذي فعلوه فقتلوهم بدورهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فأعلمهم وقد عبّر هنا بلفظ التبشير تهكما عليهم.

٢٢ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ..) إشارة إلى المذكورين في الآية السابقة ، حبطت أي بطلت أعمالهم في الدنيا لعدم ترتب الأثر المرجو منها من حقن الدماء واحترام الأموال وما شاكل كما لم تثمر أي أجر أو ثواب في الآخرة فكأنها لم تكن. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي مساعدين في دفع العذاب عنهم.

٥٧

٢٣ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ...) أي : ألم تعلم يا محمد بحال الناس وقيل أنهم اليهود ممن أعطوا حظا من العلم بالتوراة (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) التوراة وقيل القرآن دعوا إليه (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي ليحكم نبينا (ص) عليهم بكتابهم ، قيل في إنكارهم لنبوته (ص). وقيل في أمر إبراهيم وقد ادعوا أنه كان يهوديا أو نصرانيا وقيل في حكم الرجم على الزنا لواقعة حصلت. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي تنصرف طائفة منهم عن قبول الدعوة حال كونهم معرضين عن الله وعن الرسول (ص).

٢٤ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ...) وعلة إعراضهم عن الحق وتوليهم عن دعوته أنهم زعموا أن النار لن تصل إليهم (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي قلائل قيل إنها بزعمهم الأيام التي عبدوا فيها العجل ، (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي أطمعهم كذبهم على الله وافتراؤهم عليه كقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه أو لن تمسنا النار إلخ فكان طمعهم فيما لا يصح وبما هو باطل حاكوه بأنفسهم وكرروه حتى أذعنوا له وركنوا إليه.

٢٥ ـ (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ..) أي فكيف حالهم ، وما هو مقالهم إذا حشرناهم للحساب والجزاء يوم القيامة الذي لا شك فيه (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي جوزيت جزاء وافيا موافقا لما كسبته في دار الدنيا. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقص من ثوابهم ، ولا يزاد على ما استحقوه من عقاب جهنمي وحينئذ سينكشف كذب ما زعموه من أن النار لن تمسّهم.

٢٦ ـ (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ..) يا الله مالك أمر الدنيا والآخرة وقيل : مالك العباد وما ملكوا (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تعطيه لمن تشاء أن تعطيه (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) تسترده منه بموت أو بانتقال منه إلى غيره ونحوهما حسبما تقتضيه الحكمة في كل من الإعطاء والمنع (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) تسترده منه بموت أو بانتقال منه إلى غيره ونحوهما حسبما تقتضيه الحكمة في كل من الإعطاء والمنع (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بأن توفّقه لتحصيل الخير والسعادة (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بسلب نعمتك عنه ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تملكه وتمنحه من شئت (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ذو قدرة مطلقة على جميع الأشياء.

٢٧ ـ (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ...) تولج : أي تدخل فأنت يا رب تدخل من الليل في النهار ، وتدخل من النهار في الليل فما زاد في أحدهما فهو نقص في الآخر. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كإخراج الفرخ من البيضة وبالعكس ، أو المنيّ من الإنسان وبالعكس. ومن المرويّ عن الباقرين (ع) في المجمع أنه إخراج المؤمن من الكافر ، وبالعكس. (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي تعطي من تشاء أن ترزقه بغير تقتير ولا مراعاة لمقدار الرزق. وهو عبارة عن الرزق الواسع.

٢٨ ـ (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...) نهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكافرين ، أي محبتهم أو جعلهم أولياء أمرهم ومخالفتهم كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، بل يجب أن تكون الموالاة لإخوانهم المؤمنين (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) يختار الكفرة بموالاته (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) يعني أن الله بريء منه. (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي لا توادّوهم وتداروهم إلّا في حال خوفكم من ناحيتهم لاتقاء ضررهم (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي يخوّفكم مغبّة ذلك حتى لا تتعرضوا لسخطه سبحانه حين توالون أعداءه. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ). أي إليه المرجع الأخير.

٢٩ ـ (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) : يا محمد قل إن تستروا ما في قلوبكم أو تظهروه فالله يعرفه فإياكم أن تضمروا ما نهاكم الله عن إظهاره من موالاة الكافرين فلن ينفعكم إخفاؤه لأنه سبحانه يعلم السر وأخفى (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : مر تفسيره.

٥٨

٣٠ ـ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ...) أي ما عملت من طاعة في الدنيا تجد ثوابه حاضرا (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) أي كذلك ما عملت من معصية في الدنيا تجد عقابه حاضرا تحب أن يفصلها عنه وقت بعيد أو مسافة بعيدة كناية عن الندم على فعل ما سببه من معصية (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) مر تفسيره (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) أي رحيم.

٣١ ـ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ...) قل لهم يا محمد : إن كنتم محبين لله حقّا فاتبعوني فيما جئتكم به من عنده يحبكم الله ويرضى عنكم ويتجاوز عن خطاياكم فهو كثير المغفرة واسع الرحمة.

٣٢ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ...) قل لهم يا محمد أطيعوا الله إن كنتم صادقين في إيمانكم به ومحبتكم له وأطيعوا الرسول فيما جاءكم به عن ربه من دين وكتاب لأن الطاعة لازمة لذلك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن ذلك (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فإن ذلك يكشف عن كذبهم فيما يدعونه بل هم على كفرهم والله يبغض الكافرين.

٣٣ ـ (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ...) أي اختار وانتجب آدم ونوحا للنبوّة والإمامة (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) كذلك ... وآل إبراهيم هم : إسماعيل وإسحاق ومن ولد منهما ، فدخل فيهم نبيّنا (ص) وآله (ع). وآل عمران هم : موسى وهارون.

٣٤ ـ (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) والذريّة الأعقاب والأولاد والمعنى : أنهم ذريّة واحدة متناسلة متشعبة متسلسلة من لدن آدم وإبراهيم (ع) إلى عصر خاتم النبيّين (ص) (وَاللهُ سَمِيعٌ) للأقوال (عَلِيمٌ) بالأعمال.

٣٥ ـ (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ...) امرأة عمران بن الهشم من ولد سليمان (ع) هي أم مريم البتول وجدّة عيسى (ع) واسمها حنّة واسم أبيها فاقوذ. وقد قالت أم مريم (ع) : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي إنني رصدت حملي ووهبته لخدمتك مستخلصا لطاعتك وعمارة بيتك. (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) نذري قبول رضىّ (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : مر تفسيره.

٣٦ ـ (فَلَمَّا وَضَعَتْها ...) فلما ولدتها (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) قالت ذلك في نفسها تحسّرا وخشية أن لا يقبل نذرها ، لأنه ما كان ليقبل في خدمة المعبد إلّا الغلام في ذلك العصر (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) لأنه هو الذي خلقها والجملة معترضة من كلامه سبحانه. (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي أن الأنثى لا تصلح لما تعلق به النذر وهو التحرير لخدمة بيت المقدس لما يعتريها من الحيض وأشباهه وكانت العادة عندهم جرت على ذلك. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على إني وضعتها ، ومريم معناه في لغتهم العابدة والخادمة (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي أحميها بك ومن يتناسل منها من الشيطان المطرود.

٣٧ ـ (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ ...) أي رضي بها في النّذر مكان الذكر ، ولم يتقبّل إلى ذلك اليوم غيرها للسّدانة ، وقيل : القبول الحسن انه سلك بها طريق السعداء (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي يسرّ لها تربية صالحة تناسب شأنها. (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي جعل أمر كفالتها بيده ، فقام بأمرها وعند ما كبرت بنى لها مكانا خاصا للعبادة في المسجد كان لا يدخله إلا هو ، ليحمل لها الطعام والشراب. (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) أي الغرفة التي أفردها لها للعبادة (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) والرزق كل ما ينتفع به ، فلا اختصاص له بالمأكول والمشروب ، ولكن قيل كان زكريا (ع) يجد عند دخوله عليها فاكهة الشتاء في الصيف ، وبالعكس. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين هذا الرزق (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي من الجنة (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) مر تفسيره.

٥٩

٣٨ ـ (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ...) أي في ذلك المكان ـ أو عند ذلك الذي رآه من كرامة مريم دعا ... (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي امنحني وأعطني ولدا ونسلا مباركا كما وهبت لحنّة العجوز العاقر (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) تسمعه وتجيبه.

٣٩ ـ (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ...) أتاه نداء الملائكة وهو قائم : واقف يصلي في المسجد وقيل في محرابه (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) فقد بشروه بابن له يسمى يحيى الذي يؤمن بكلمة الله ، يعني عيسى وقد سمّي عيسى (ع) بكلمة الله لأنه أوجد بكلمة «كن» فكان من غير أب. (وَسَيِّداً) يترأس قومه وتكون زعامتهم بيده ، وقيل سيدا في العلم والعبادة. (وَحَصُوراً) أي أنه متبتل لا يأتي النساء (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من جملة الأنبياء الذين هم كلهم صالحون.

٤٠ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ...) قال يا رب كيف يكون لي ولد (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ، وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) وأنا طاعن في السنّ وامرأتي عقيم (قالَ كَذلِكَ) أي كما أنتما عليه من الهرم والعقم ، إذ (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) هو على كل شيء قدير.

٤١ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ...) أي علامة لأعرف وقت الحمل (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) العلامة هي أن لا تقدر على تكليم الناس وإن كان لسانك مطلقا بذكر الله ثلاثة أيام بلياليها تبقاها لا تكلّم أحدا أثناءها (إِلَّا رَمْزاً) إيماء (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) أي في هذه المدة وذكر الله بتسبيحه وتحميده ومناجاته إنما هو كلام مع الله لا مع النّاس فما أحرانا باغتنام فرصة العمر وكسب الوقت للإكثار من الدعاء والأذكار والأوراد لنصل إلى هذه المرتبة السامية فنكون مع الذاكرين ... فمعنى قوله تعالى : أذكر ربك في أيام عدم قدرتك على التكلم مع الناس (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) والتسبيح هو تنزيه الله أي نزّه الله آخر النهار وأوله.

٤٢ ـ (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ ...) أي أذكر يا محمد معطوف على : إذ قالت امرأة عمران. (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك (وَطَهَّرَكِ) أي نزّهك عن الأدناس وعمّا يستقذر من النساء ، وقيل بالإيمان عن الكفر (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) من أهل زمانك ...

٤٣ ـ (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ...) أي اعبديه بإخلاص (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) وبهذا أمرت بالصلاة بذكر أركانها إذ أمرها بالسجود وبأن تركع مع الراكعين. وقيل اسجدي لله شكرا وصلّي مع المصلين.

٤٤ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ...) يعني أن قصة امرأة عمران ومريم وزكريا وبشرى الملائكة لهم بالغيوب التي لا تعرف إلّا بالوحي ، لأن أبواب العلم الأخرى بها موصدة في وجهك لأنك أمي (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أي : يا محمد لم تكن عند سدنة المحراب وهم يرمون أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ليعرفوا بالقرعة من الذي يقوم بأمور حضانتها وتربيتها (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي حين كانوا يختلفون في أمر كفالتها ويتشاجرون.

٤٥ ـ (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ ...) أي اذكر يا محمد حين قالت الملائكة : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) يخبرك بما فيه سرورك (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وكلمة الله هي كن فكان عيسى (ع) من دون أب ومسيحا في لغتهم معناه المبارك وإنما أضيف إلى مريم ردّا على الزاعمين أنه ابن الله. (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) والوجيه سيد القوم وصاحب الجاه والمنزلة وأمّا وجاهة المسيح في الآخرة فتكون بالشفاعة في الأمة. (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إلى ثواب الله وكرامته.

٦٠