إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

سورة الدّخان

مكية ، عدد آياتها ٥٩ آية

١ ـ (حم ...) أشرنا سابقا إلى أن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للنبي (ص) وقيل غير ذلك فلا نعيد.

٢ ـ (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ...) أي أقسم بالقرآن المظهر لأحكام الحلال والحرام والمبين للحق من الباطل.

٣ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ...) هذه الجملة جواب للقسم. والمراد بالليلة المباركة هي ليلة القدر ، ومن بركاتها نزول القرآن فيها. (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي مخوّفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة والإنذار : الاعلام بمواضع الخوف ليتّقى ، وبموضع الأمن ليجتبى.

٤ ـ (فِيها يُفْرَقُ ...) أي في ليلة القدر يفصل ويفرز ، (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي كلّ أمر من الحق والباطل. أو يقدّر الله في تلك الليلة من أمور السّنة ما يحدث في تلك السّنة من الأرزاق والآجال والأحداث وله تعالى فيها البداء والمشيئة.

٥ ـ (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ...) أي نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ. (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) محمدا إلى عبادنا كمن كان قبله من الأنبياء.

٦ ـ (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ...) أي رأفة منّا بخلقنا ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرّسل. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مر معناه.

٧ ـ (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي مالكهما ومصلحهما ومدبّرهما (وَ) مدبّر (ما بَيْنَهُما). (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي عالمين أن الأمر كما وصفناه.

٨ ـ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) إلخ. أي لا يستحق العبادة سواه يحيي الخلق بعد موتهم ويميتهم بعد إحيائهم وهو خالقكم وخالق آبائكم الذين سبقوكم ورازقكم ورازقهم.

٩ ـ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ...) أي هم في ريب بما أخبرناكم به وهم مع ذلك يستهزئون بك وبالقرآن إذا تلي وينغمسون في دنياهم معرضين عن الآخرة.

١٠ و ١١ ـ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ...) أي فانتظر يا محمد اليوم الذي تأتي السماء بدخان ظاهر بحيث لا يشكّ أحد في أنّه دخان. وقد روي أنّه دخان يأتي من السّماء قبل يوم القيامة (يَغْشَى النَّاسَ) أي يغطّيهم ، أو يحيط بهم. فإذا شاهدوه بتلك الشدّة يقولون (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي كثير الألم ويخافون منه شديدا وقيل بأن المراد بالدخان ما كان يراه الواحد من قريش من أثر الجوع بعد أن دعا عليهم (ص) فأجدبت الأرض وأصابت قريشا المجاعة فكانوا يرون ما بينهم وبين السماء كالدخان.

١٢ ـ (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ...) أي مؤمنون بالقرآن ومصدّقون بمحمد (ص).

١٣ ـ (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى ...) أي من أين لهم الاتعاظ بذلك (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي والحال أنهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق والحجة فما اتعظوا.

١٤ ـ (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ...) أي أعرضوا عن رسولنا وما اكتفوا بذلك بل قالوا يعلّمه بشر وهو مجنون بادعائه النبوة.

١٥ ـ (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً ...) أي الجوع والدخان زمانا يسيرا قبل القيامة أو قبل يوم بدر كما روي.

١٦ ـ (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ...) أي واذكر لهم يا محمد يوم نأخذهم أخذة كبيرة عظيمة شديدة بعذاب النار. والمراد يوم القيامة وقيل يوم بدر (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي ننتقم منهم بما يستحقون من العذاب.

١٧ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ...) أي اختبرناهم وامتحنّاهم قبل قريش (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي موسى (ع) وكان كريم الأخلاق والأفعال بصفحه وتجاوزه ورشده.

١٨ ـ (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ...) أي قال موسى لفرعون وملإه أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتّسخير فإنهم أحرار فلا تعاملوهم معاملة العبيد. وقيل : إن المراد أدّوا ما آمركم به يا عباد الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي غير متّهم بكذب في القول على ما أدّعيه من الرّسالة ولا بخيانة في أموالكم التي أودعتموها عندي.

٥٠١

١٩ ـ (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ...) أي لا تتكبّروا عليه بترك طاعته وكفران نعمه وافتراء الكذب عليه (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة. واضحة يظهر الحق معها ، أو بمعجزة ظاهرة تبين بها صحّة نبوّتي فتوعدوه عند ذلك بالقتل فقال :

٢٠ ـ (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ...) أي التجأت إليه سبحانه (أَنْ تَرْجُمُونِ) من أن تؤذوني بقذفي بالحجارة ، أو بغيره من الأذى.

٢١ ـ (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ...) أي فاتركوني وتنحّوا عنّي فلكم دينكم ولي ديني.

٢٢ ـ (فَدَعا رَبَّهُ ...) أي لمّا يئس من إيمانهم دعا الله سبحانه عليهم (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي مشركون مذنبون يرتكبون المعاصي.

٢٣ ـ (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً ...) أي اخرج مع من آمن بك من بني إسرائيل عن هذه البلدة في الليل ، (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي سيتبعكم فرعون وقومه.

٢٤ ـ (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ...) أي خلّ البحر على حاله منفرجا منفتحا. وكان قد صار كذلك بعد أن ضربه بعصاه. (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي فرعون وجنده سيغرقهم الله تعالى.

٢٥ إلى ٢٧ ـ (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...) إن الله تعالى يخبر حبيبه عن حالهم بعد إهلاكهم بأنّهم خلفوا من البساتين والعيون الكثيرة الجارية وما سواها من النّعم التي كانت تغمرهم. (وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي المحافل المزيّنة والمنازل الحسنة (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي سعة في العيش كانوا بها ناعمين متمتعين.

٢٨ ـ (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ...) أي هكذا نفعل بالمجرمين ، نهلكهم ونورث هذه المعدودات لمن بعدهم ، أي لبني إسرائيل.

٢٩ ـ (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ...) هذه الجملة يمكن أن تكون تهكما في مقام بيان تصغير قدرهم فإن العرب كانت عادتهم إذا أخبروا عن عظم المصاب بالهالك قالوا : بكاه السماء والأرض وأظلم لفقده الشمس والقمر على سبيل المبالغة وقيل إن المراد : لم يبك عليهم أهل السماء والأرض لكونهم مسخوطا عليهم (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي ممهلين إلى وقت آخر.

٣٠ و ٣١ ـ (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ...) يعني خلّصناهم (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) ذي الإهانة والاحتقار كقتل الأبناء واستخدام النساء وغير ذلك (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي متكبرا متجبّرا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين الحدّ في الطغيان.

٣٢ و ٣٣ ـ (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ ...) أي اخترنا موسى وقومه بني إسرائيل وفضّلناهم بالتوراة وكثرة الأنبياء منهم (عَلى عِلْمٍ) أي على بصيرة منّا باستحقاقهم ذلك (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم. (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) المعجزات كانشقاق البحر بضرب العصا وغيرها. (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي اختبار ظاهر.

٣٤ إلى ٣٦ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ...) أي ان كفار قريش يقولون (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي المزيلة للحياة الدنيويّة (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي بعد الموتة الأولى لا حياة أبدا ، (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرّسول والمؤمنين أي إن كان الأمر كما تزعمون بأنا نبعث احياء بعد الموت فأحيوا لنا واحدا من آبائنا الذين ماتوا قبلنا.

٣٧ ـ (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ...) أي أمشركو قريش أظهر نعمة وأكثر أموالا وأعظم قدرة وقوة أم قوم تبّع الحميري وسمّي تبّعا لكثرة أتباعه وقد ملك التبابعة جميع الأرض كما قيل وكانوا سبعين سمّوا تبابعة لأن الأخير يتبع الأول. (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود (أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي أهلكناهم بسبب إجرامهم كما أن كفار مكة مجرمون.

٣٨ و ٣٩ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) إلخ. أي لم نخلق ذلك عبثا بل لغرض حكيم هو أن ننفع المكلفين به ونعرضهم لنيل ثواب الله وتنتفع سائر الحيوانات بضروب المنافع. (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي لغرض صحيح ومصلحة عامة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) صحة ما نقول لتوليهم عن التدبّر فيه والوصول إلى حقانيته.

٥٠٢

٤٠ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ...) أي فصل الحق عن الباطل وهو يوم القيامة موعدهم جميعا.

٤١ و ٤٢ ـ (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى ...) يعني يوم الفصل يوم لا يدفع مولى بقرابة وغيرها عن مولى شيئا من الإغناء أو شيئا من العذاب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا يمنعون منه ، ولا يعاونهم أحد من مواليهم وأصدقائهم في دفعه. (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي بالعفو عنه والإذن للشّفعاء بالشفاعة له. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) مر معناه.

٤٣ إلى ٤٦ ـ (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ...) الزّقوم شجرة مرّة كريهة الطّعم والرائحة تنبت في أصل الجحيم يكره أهل النار على تناولها. (طَعامُ الْأَثِيمِ) قوت من له الإثم الكثير قيل بأنه أبو جهل ومن استسنّ بسنته من أعداء الله. (كَالْمُهْلِ) وهو المذاب من نحاس ونحوه (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي إذا استقرت في أمعاء أهل النار تغلي كغلي الماء الحار الشديد الحرارة.

٤٧ ـ (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ...) أي يقال للزّبانية خذوا الأثيم وجرّوه بعنف وشدّة وغلظة إلى وسط الجحيم.

٤٨ و ٤٩ ـ (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ...) أي عذاب هو الحميم يصبّ عليه من فوق رأسه ثم يقول له الخزنة تهكّما (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي صاحب الكرامة بزعمك. وكان أبو جهل يزعم أنه أعز أهل الوادي وأكرمهم.

٥٠ ـ (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ...) أي هذا العذاب هو ما كنتم به تشكّون في دار الدنيا.

٥١ و ٥٢ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ ...) أي الذين يجتنبون المعاصي ويفعلون الطاعات في موضع إقامة دائميّة يأمن صاحبه من الحوادث والآفات والمكاره ومن الغير والفناء. (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي في بساتين وعيون المياه النابعة فيها.

٥٣ ـ (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ ...) أي من الدّيباج الرّقيق (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو الغليظ منه (مُتَقابِلِينَ) أي متواجهين في مجالسهم.

٥٤ ـ (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ ...) أي هكذا كما وصفناه حال أهل الجنّة ، ونضيف عليها أنّنا قرنّاهم (بِحُورٍ) جمع حوراء بمعنى البيضاء (عِينٍ) جمع عيناء أي بيض واسعات العيون.

٥٥ ـ (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ ...) أي يستدعون فيها أي ثمرة شاؤوا (آمِنِينَ) من ضررها وسقمها ووجعها ولا خائفين موتها.

٥٦ ـ (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ ...) أي يبقون أحياء في الجنة لأنّه لا موت فيها. (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) نعم ذاقوا مرارة الموت الأول ولكنّه كان في الدّنيا. (وَوَقاهُمْ) أي جنّبهم ربّهم (عَذابَ الْجَحِيمِ) عذاب النار.

٥٧ ـ (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ...) أي فعل الله ذلك بهم تفضلا منه لأنه سبحانه خلقهم وأنعم عليهم وركّب فيهم العقل وكلّفهم وبيّن لهم من الآيات ما استدلّوا به على وحدانيته وحسن طاعته فاستحقّوا به النّعم العظيمة. ثم جزاهم الحسنة عشر أمثالها فكان ذلك تفضّلا منه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنّه خلاص من المكاره وفوز بالمقاصد.

٥٨ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ...) أي سهّلنا القرآن على لسانك وهوّنا عليك قراءته وجعلناه بلغة قومك ليفهموه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتّعظون بما فيه ويعملون بما أمر.

٥٩ ـ (فَارْتَقِبْ ...) أي فانتظر ما يحلّ بهم من العذاب (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحلّ بك من الدّوائر ولكن عليهم دائرة السّوء.

٥٠٣

سورة الجاثية

مكية ، عدد آياتها ٣٧ آية

١ ـ (حم ...) قد مرّ قولنا فيه فلا نعيده.

٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ ...) أي أن إنزال القرآن كان من عند الله (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) مر معناه.

٣ و ٤ ـ (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ...) أي أن فيهما أو في إبداعهما دلالات واضحات للمصدقين بالله ورسله لأنهم هم المتدبرون فيها المنتفعون منها. (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) معناه وفي خلقه إيّاكم بما فيكم من بدائع الصّنعة وعجائب الخلقة وفي خلق ما يفرّق وينشر على وجه الأرض من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها وما فيها من المنافع والخواص (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي في جميع ما ذكر دلالات واضحات لقوم يطلبون علم اليقين بالتفكّر والتدبّر فيها.

٥ ـ (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) أي في ذهاب اللّيل والنّهار وتعاقبهما ، ومجيئهما ونقصهما وزيادتهما على وتيرة واحدة. أو في أنّ أحدهما نور والآخر ظلمة (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) لعل المراد بالرزق سببه وهو الغيث ، من باب ذكر المسبب وإرادة السبب (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يبسها. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي على اختلاف كيفياتها من تصريفها من جهة دون جهة وكونها في وقت حارة وفي زمان باردة ، ومرة رحمة وأخرى نقمة وهكذا. (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) دلالات واضحات لقوم يتدبرونها فيعلمون أن لها صانعا حكيما قادرا.

٦ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ ...) أي هذه الآيات المذكورة دلائل لمعرفة الله وتوحيده (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي نبيّنها لك يا محمد حتى تقرأها على قومك مقرونة بالحق دون الباطل (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) يعني بأيّ كلام بعد كلام الله ، وهو القرآن وآياته الدالّة عليه وعلى توحيده تصدقون. وهذا توبيخ لهم منه سبحانه.

٧ و ٨ ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ...) الويل كلمة وعيد يهدد بها الكفّار ، أو واد سائل فيه من صديد جهنّم ، أو بئر في قعر جهنّم والأفّاك يطلق على من يكثر أو يعظم كذبه والأثيم صاحب الإثم والمعصية (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) أي الأثيم تقرأ آيات الله بمرأى ومسمع منه فيقيم ويثبت على كفره (مُسْتَكْبِراً) أي ذا كبرياء بحيث يأنف عن الايمان باعتبار انه لا يليق بمقامه. (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ولم تقرأ عليه آيات ربّه (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا محمد بشّره بعذاب مؤلم ،

٩ ـ (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً ...) أي إذا بلغه شيء من آياتنا استهزأ بها ليوهم السذّج أنها باطل. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ذو إهانة.

١٠ ـ (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ...) أي قدّامهم ومن بين أيديهم جهنم. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي لا يغني ما كسبوا من الأموال والأولاد ونحوها شيئا من رفع العذاب أو تخفيفه (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي لا ينفعهم ما عبدوه من دون الله من أصنامهم شيئا من عذاب الله دفعا ورفعا وتخفيفا (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بحيث لا يتحمّلونه لشدّته.

١١ ـ (هذا هُدىً ...) أي القرآن الذي تلوناه عليك وأنزلناه إليك هاد من الضلال ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي الكفرة لهم عذاب من قسم الرّجز وهو عذاب شديد للغاية.

١٢ ـ (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ...) بأن خلقه بكيفيّة خاصة من استواء السطح والميوعة في مائة (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) تسير السّفن (فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي بتسخيره سبحانه لذلك وأنتم راكبوها ومحمّلوها أثقالكم (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا التّجارة والغوص والصّيد والرّزق (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون ربكم على هذه النّعم.

١٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ أي خلقها وذلّلها جميعها لانتفاعكم ممّا في السّماء كالشّمس والقمر والنّجوم وغيرها من الأمور العلويّة ، وممّا في الأرض من الدّواب والأشجار والنّباتات وغيرها من الأشياء السّفليّة. كل ذلك منه وبأمره لا من غيره. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي علامات للمتفكّرين الذين يتدبرونها فيعرفون قدرة ربهم وحكمته.

٥٠٤

١٤ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ...) يا محمّد قل لهم اصفحوا في الدنيا ليتولى الله مجازاتهم في الآخرة. (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يخافون عذاب الله لو آذوكم ولا يطمعون في ثوابه إذا تركوا أذيتكم (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزي الله الصابر بصبره ، والكافر بعناده وجحوده.

١٥ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ...) أي من أتى بفعل طاعة لخالقه أو إحسان لإخوانه المؤمنين فثوابه يرجع إلى نفسه (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ومن أتى بعمل قبيح أو ظلم لإخوانه المؤمنين فعقابه عليه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم كلّا بعمله.

١٦ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ...) أعطيناهم التوراة (وَالْحُكْمَ) من المحتمل أن يكون المراد هو العلم بفصل الخصومات ، أو المعرفة بأحكام الله (وَالنُّبُوَّةَ) أي جعلنا فيهم النبوة حتى قيل انه كان فيهم الف نبي. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ المباحة بأنواعها بعد أن أورثهم مصر. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال بعض المفسّرين أراد بالعالمين عالمي زمانهم ، لكن الظاهر ان التفضيل كان عاما ولكن من جهات مخصوصة ككثرة الأنبياء فيهم والمن والسلوى وغير ذلك.

١٧ ـ (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ...) أي قرّرنا لهم دلائل وعلائم من أمر النبيّ الخاتم ونعوته في التوراة والإنجيل (فَمَا اخْتَلَفُوا) في هذا الأمر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي بعد أن أنزل الله الكتب على أنبيائهم وأعلمهم بما فيها من أمر خاتم الأنبياء (ص) وأنّه مخالف لهم في دينهم ، ودينه ناسخ للأديان طرّا ورأوا أن الرئاسة قد تؤخذ منهم فاختلفوا (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي عداوة وحسدا للنبيّ (ص) (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلخ أي في خلافاتهم فيجازيهم ويؤاخذهم عليها بما يستحقون.

١٨ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ...) أي جعلناك يا محمد من بعد موسى وقومه على منهج وعلى طريقة مستقيمة إلى دين الإسلام أو التوحيد (فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي اجعل قدوتك وطريقتك ما شرعناه لك من دين الإسلام واعمل به ولا تذهب مذهب من اتّبع هواه وجعله آلهة ولا تتّبع آراء الجهلة وهم رؤساء قريش أو اليهود حيث غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم وحبّا للرّئاسة واستتباعا لعوامّ الناس.

١٩ ـ (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ ...) إلخ أي لو اتّبعتهم فرضا ونزل عليك عذاب من ربّك فلن يقدروا أن يرفعوه عنك أو يدفعوه (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يعني أنّ الكفار بأجمعهم متّفقون على معاداتك وبعضهم أنصار بعض عليك فاستقم على شريعتك واثبت عليها (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي الله يحبّك فيتولّى أمورك وينصرك ويحفظ تابعيك.

٢٠ ـ (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ...) أي القرآن أو الإسلام أو الشريعة معالم وعبر تبصّرهم محجّة النّجاة ووجه الفلاح. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي دلالة واضحة ونعمة من الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يصدّقون بوعد الله ووعيده وثوابه وعقابه.

٢١ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ...) الاستفهام إنكاريّ والاجتراح الاكتساب أي بل ظن الذين اكتسبوا أعمالا سيّئة من الشّرك والمعاصي الأخر (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أي أن نجعل موتهم وحياتهم كحياة المؤمنين وموتهم ومنزلتهم كمنزلتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما حكموا على الله حيث إنّه بمقتضى عدله لا يسوّي بينهم أحياء وأمواتا وما بعد الموت.

٢٢ ـ (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ...) أي أبدعهما ابتداء لا عبثا وباطلا بل لمصالح وحكم منها نفع خلقه بأن يكلفهم ويعرضهم للثواب والجنة. (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من ثواب على طاعة أو عقاب على المعصية ففي خلقهما اختبار وامتحان للخلق. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي في الجزاء بنقص ثواب وتضعيف عقاب على ما يستحقّه.

٥٠٥

٢٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ...) أي أخبرني ، أو : أو ما ترى يا محمد من اتخذ دينه ما تهواه نفسه فإن مالت إلى شيء ارتكبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه. (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ...) أي خذله بأن يتركه وشهواته ويخلّي بينه وبينها لعلمه سبحانه باستحقاقه لذلك لخبث سريرته (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) أي طبع الله عليهما بحيث لا يؤثّر فيهما وعظ ولا نصح. (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي وضع على بصره غطاء حتى لا يرى آياته تعالى ودلائل توحيده وقدرته فكأنّه أعمى (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي بعد أن خلّاه وضلاله ، أو من بعد هداية الله له بآياته الباهرة وعدم اهتدائه بها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتّعظون بهذه المواعظ.

٢٤ ـ (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ...) أي التي نحن فيها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نموت نحن ويحيا آخرون فعادة الطبيعة جرت على هذا فلا بعث ولا حساب. (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي مرور الزّمان فضمّوا إلى إنكار المعاد إنكار المبدإ. (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي لا علم لهم بمقالتهم حيث لا دليل لهم ولا برهان وكل ما كان كذلك فهو باطل (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فإنّ حجتهم لا يحصل منها على ما بينّا إلّا الظن ، والظنّ لا يغني من الحق شيئا.

٢٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي إذا قرئت آياتنا المتّصفة بالوضوح عليهم المخالفة لمعتقداتهم (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) أي لم تكن لهم حجة تقابل حججنا (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فهذا القول إقرار واعتراف منهم بعجزهم عن إثبات دعواهم بحجة وبرهان. فقالوا : لو كنتم صادقين فيما تدّعونه فادعوا ربّكم أن يحيي آباءنا حتى يصدّقوكم في دعواكم فنؤمن لكم.

٢٦ ـ (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ ...) إلخ. أي قل لهم يا محمد الله يحييكم في دار الدنيا إذ لا أحد يقدر على الإحياء غيره ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ثم يحشركم احياء يوم القيامة لا شك في كونه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لقلّة تفكّرهم وقصور نظرهم في ما يحسّونه.

٢٧ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ ...) إلخ. أي خلقا وتدبيرا وتصرفا ومن كان كذلك فهو قادر على البعث. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) العادلون عن الحق سوف يكتشفون يوم القيامة انهم قد خسروا إذ لن يحصلوا من وراء كفرهم إلا على الخزي والفشل في الدنيا وعذاب النار في الآخرة.

٢٨ ـ (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ...) أي يا محمّد ترى يوم القيامة أمّة كلّ نبيّ يحشرون مجتمعين ، أو جالسين على ركبهم ينتظرون الحساب. (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي إلى صحيفة أعمالها فيقول الآتي بكتاب العمل : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي هذا اليوم يوم أجر الأعمال الماضية التي فعلتموها في الدنيا.

٢٩ ـ (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ...) يعني هذا الكتاب كتبه الحفظة بأمرنا وهو يتكلّم ويشهد عليكم بالصّدق والصّحة بما عملتم بلا زيادة ولا نقيصة (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أمرنا الملائكة بكتابة أعمالكم كلها.

٣٠ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) أي الذين صدّقوا بالله ورسوله وفعلوا الطاعات وتركوا المعاصي فالإيمان تصديق وعمل. (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) ومنها حصول الفوز بالجنّة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي الفلاح الظاهر لخلوصه عن الشوائب.

٣١ و ٣٢ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ...) أي يقال لهم : ألم يأتكم رسلي ليتلوا عليكم حججي ودلائل توحيدي؟ (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن قبولها بعد التّلاوة والبيان (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي كافرين (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي إذا خوطبوا بالوعيد والبعث (وَالسَّاعَةُ) أي القيامة (لا رَيْبَ فِيها) أي لا شكّ فيها. (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) في مقام الإنكار (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) يعنون بذلك فرارهم من الجواب أي ليس لنا يقين بيوم حساب وجزاء إن هي إلّا حياتنا الدنيا ، وزائدا على ذلك موضع شكنا.

٥٠٦

٣٣ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ...) أي يظهر لهم في الآخرة جزاء قبائح أعمالهم وأقوالهم (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي حلّ بهم العذاب جزاء تكذيبهم وسخريتهم.

٣٤ ـ (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ ...) أي نخلّيكم في العذاب يوم الجزاء ترك ما ينسى (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي كما تركتم التأهّب للقاء ربكم يوم القيامة (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي مقركم ومسكنكم جهنم ولا من معين يعينكم ، وناصر ينصركم في نجاتكم من النّار.

٣٥ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً ...) أي ذلك الذي فعلنا بكم لأجل استهزائكم بأنبيائنا ورسلنا وكتبنا المنزلة إليكم (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فأنستكم الحياة الآخرة فحسبتم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا تطلب منهم العتبى ، أو معناه أنهم لا يعاتبون لأن العتاب علامة الرضا وهم فعلوا كلّ موجبات غضبه سبحانه فلا يعتنى بهم.

٣٦ ـ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ ...) أي الشكر والمدحة العظيمة لخالقهما ومالكهما ومدبّر أمورهما (رَبِّ الْعالَمِينَ) مالك جميع العوالم.

٣٧ ـ (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي له العظمة والتجبّر في الملكوت الأعلى والأرضين السّفلى إذ ظهرت فيهما آثار قدرته (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مر معناه.

سورة الأحقاف

مكية ، عدد آياتها ٣٥ آية

١ و ٢ ـ (حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ...) مر تفسيره في مطلع السورة السابقة.

٣ ـ (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) إلخ أيضا مر معناه. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي مدة تنتهي يوم القيامة المعلومة عنده سبحانه وأخفى علمه عن العباد لمصالح عديدة. أو المراد (أَجَلٍ مُسَمًّى) لكلّ واحد وهو آخر مدّة بقائه المقدّرة له في الدنيا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي منصرفون عمّا خوّفوا به من يوم البعث والحساب.

٤ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) قل يا محمّد لكفرة قريش : أخبروني عن الأصنام التي تعبدونها و (أَرُونِي) أي قولوا لي (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي ما الذي أبدعوه وأوجدوه من العدم فاستحقوا به العبادة (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي شراكة ، فهل شاركوا في خلقها وتركيبها؟ (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي أعطوني كتابا سماويّا قبل هذا القرآن يدل على صحّة ما ادّعيتم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي بقايا من العلوم التي تستند إلى الأولين موجبة لليقين بما تقولون ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم بأنها شركاء لله في إيجاد المكوّنات.

٥ ـ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ...) إلخ الاستفهام في مقام الإنكار أي أنه لا يكون أحد أضلّ وأبعد عن طريق العقل والرّشد من المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله والحال انهم لو دعوهم من الآن إلى يوم القيامة لم يجيبوهم لأنهم جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ولا تدفع. (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي أن الأوثان عن دعوة دعاتهم غافلون جاهلون ، لعدم شعورهم وإحساسهم بالدّعاة.

٥٠٧

٦ ـ (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ...) إلخ أي إذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا هم أعداء للأصنام أو بالعكس حيث يجحدون انهم كانوا يعبدونهم في الدنيا كما أن الأصنام بعد أن ينطقها الله تتبرأ ممن عبدها في الدنيا.

٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي حينما تقرأ حججنا حال كونها واضحات ظاهرات على المشركين في مقام الإعجاز (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي لكلام الحق وهو القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ ، هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي حيلة لطيفة ظاهرة وخداع بيّن.

٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي بل يقول هؤلاء الكافرون لقد اختلق محمد القرآن وكذب به على الله (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) أي قل لهم يا محمد إن ادّعيته فرضا على زعمكم (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فلا تقدرون أن تدفعوا عنّي من عذاب الله وعقابه فكيف أكذب عليه سبحانه من أجلكم وأنتم أعجز من أن تدفعوا عني عذابه (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو تعالى أعلم بما تقولون في القرآن من القدح في آياته (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي يكفيني أنّه تعالى شاهد بيننا بصدق كلامي وتبليغ الأحكام ، وشاهدا عليكم بالمعاندة والإنكار. (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) مر معناه.

٩ ـ (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ...) أي قل يا محمد : لست أوّل رسول بعث فدعا إلى الله. (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي لا أعرف أأموت أم أقتل؟ ولا أدري أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السّماء في هذه الدنيا أم تخسف بكم الأرض كما فعل ببعض من قبلكم من الأمم السابقة أو لا هذا ولا ذاك. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وما أعلم زائدا على هذا ولا أتجاوزه (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف ظاهر من عذاب الله وعقابه.

١٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ...) أي أخبروني إن كان القرآن نازلا من السماء وكفرتم أنتم أيها المشركون به استكبارا وتجبرا (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلخ الواو حالية أي والحال أنه شهد شاهد من اليهود على انه من عند الله وهذا الشاهد هو عبد الله بن سلام وكان أعلم اليهود وقد أسلم وقد شهد بذلك لما وجده مكتوبا في التوراة من أوصافه وأحواله (ص). (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي ألستم ظالمين مع هذه الدّلائل البيّنة؟ والهمزة للاستفهام التقريري ، أي : نعم أنتم من الظالمين ، والله لا يهديكم لفرط عنادكم وجحودكم.

١١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا ...) أي قال رؤساء الضلال من الكفرة والمشركين لأهل الإيمان : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي أن ما جاء به محمد (ص) ، لو كان خيرا لنا فما كان ليتقدم علينا فيه أراذل قومنا كجهينة وغيرها من القبائل المستضعفة (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي لمّا لم يهتدوا بالقرآن باعتبار انهم أغلقوا عقولهم عن تدبره وتفهمه فسيقولون عنه إنه كذب متقادم أو أساطير الأولين.

١٢ ـ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ...) أي كتاب موسى وهو التوراة كان قبل مقدّسا لبني إسرائيل يقتدى به ويعمل على طبقه ونعمة من الله للمؤمنين وهم مع ذلك لم يؤمنوا به ولم يهتدوا بهديه (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) أي هذا القرآن كتاب يصدّق التوراة في أنّه كتاب سماويّ ، (لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي أن القرآن نزل بلسان عربيّ مبين حتى تعرفوا ما فيه وتتمّ الحجة على المشركين من أهل مكّة ونواحيها ، وليخوّف الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم ويبشّر الّذين أحسنوا بالحسنى.

١٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ...) وهم الذين وحّدوا الله تعالى (ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي استقاموا على طاعة الله والصّبر على أذى أعدائه. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه أو مخوف آخر (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من فوت شيء محبوب لهم.

١٤ ـ (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ ...) أي ملازمون لها (خالِدِينَ فِيها) أي مؤبّدين (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعات.

٥٠٨

١٥ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ...) أي أمرناه أن يحسن لهما بما يمكنه من مصاديق الإحسان وهو ضدّ الإساءة. (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) ومعناه وضعته وهي ذات كره أي مشقّة شديدة بحيث لا يتحمّلها غير الأم في أمر ولدها. (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي مدّة حمله إلى وقت فطامه هذا المقدار. (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي استحكمت قوّته واستتمّ عقله ، (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) يحتمل كونه عطف تفسير لجملة (إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وإذا بلغ الإنسان نهاية رشده وهو مقام كمال عقله فله الأهلية والاستعداد لأن يتوجّه إلى ربّه ويطلب منه الحاجة كما يحكي عنه : (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) من الإسلام والحياة والقوّة والقدرة والإدراك والرزق والعقل. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي وألهمني إلى عمل الطاعات والحسنات التي تنيلني رضاك (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل ذرّيّتي صالحين. (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) أي رجعت إليك عن كل شيء لا ترضى بصدوره من عبادك ، (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي المنقادين لأمرك ونهيك بلا اعتراض لي عليك.

١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ...) أي أهل هذا القول الذي بيّناه في الآيات السابقة يثابون على طاعتهم ، ونتقبّل إيجاب الثواب ل (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) وهو ما يستحقّ العبد به الثواب من الواجبات والمندوبات ، (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) أي نعفو ونصفح عن السيّئات التي اقترفوها ، ونجعلهم (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي حال كونهم من الذين يتجاوز عن سيئاتهم وهم أصحاب الجنّة (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله في الدنيا بلسان أنبيائه وعدا صدقا غير مكذوب.

١٧ ـ (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ ...) بعد أن دعواه إلى الإيمان قال جوابا لهما : (أُفٍّ لَكُما) وهذه الكلمة تصدر عن المرء عند تضجّره. قيل معناه بعدا لكما (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي أتقولان لي إنّي بعد مماتي أخرج من القبر وأحيا؟ (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي مضت أجيال كثيرة فلم يرجع أحد منهم ولا أعيد ، (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي والداه يطلبان من الله تعالى إعانته ونصره ويسألانه التوفيق له للإيمان ويقولان له (وَيْلَكَ آمِنْ) بالله والرسول والقيامة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي بالبعث والنشور والثواب لأهل الطّاعة والعقاب للعاصين (فَيَقُولُ) في جوابهما (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أباطيلهم سطّروها وليس لها حقيقة.

١٨ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ...) أي الذين هم عاقّون لوالديهم وعاصون لقولهم ، ومخالفون لرأيهم ، والذين وجبت عليهم كلمة العذاب (فِي أُمَمٍ) أي مع أمم ، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قد مضت قبلهم من الجن والإنس فحالهم مثل حالهم. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنفسهم إذ أهلكوها بالكفر والمعاصي أي الأمم.

١٩ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ...) أي لكل واحد من الجنسين المذكورين : المؤمنين البررة ، والكافرين الفجرة ، مراتب متصاعدة في الجنّة ومنازل في النار. (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاءها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في الجزاء بالنقص والزيادة.

٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ...) أي تعرض النّار عليهم ليروا أهوالها ، فقلبت مبالغة (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي فاستوفيتموها باشتغالكم بها وصرف حياتكم فيها كأنكم خلقتم لها وهي لكم (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي فيه الهوان والذّل (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) يعني باستكباركم عن الانقياد للحق (فِي الْأَرْضِ) أي في الدّنيا (بِغَيْرِ الْحَقِ) من دون حقّ لكم في الترفّع والإنكار (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي بخروجكم عن طاعة ربكم.

٥٠٩

٢١ ـ (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ ...) المراد بأخي عاد هو هود (ع) أي واذكر يا محمد لقومك من أهل مكة هودا (ع) إذ خوف قومه بالله تعالى ودعاهم إلى طاعته وكانوا يسكنون واديا يسمى بالأحقاف بين عمان ومهرة كما قيل. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ ...) إلخ أي مضت الرسل قبل هود وبعده بالنسبة إلى هؤلاء القوم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فإنه الحقيق بالعبادة لا غيره (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن عبدتم غيره. وهذا بيان إنذار هود للعاديّين.

٢٢ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ...) يعني : هل بعثت إلينا لتصرفنا عن عبادة أربابنا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على الشّرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعيدك من نزول العذاب علينا إذا لم نؤمن بإلهك.

٢٣ ـ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ...) أي يأتيكم به هو تعالى في الوقت المقدّر له وليس الأمر بيدي ولا أنا أعلم وقته. (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) أي ما عليّ إلا بلاغ ما أمرت بتبليغه إليكم. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) حيث إنكم لا تعلمون أنّ شغل الرّسل هو الإبلاغ والإنذار لا التعذيب. ويحتمل أن تكون نسبة الجهل إليهم لاستعجالهم العذاب.

٢٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ...) أي نظروا إلى السّماء فرأوا سحابا عرض في أفق السماء متوجّها نحو أوديتهم فاستبشروا (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي غيم يمطرنا ويرغد حياتنا. فقال هود : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب الموعود (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي شديد مؤلم.

٢٥ ـ (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ...) أي الرّيح تهلك كل شيء تمر به من الناس والدواب والأموال لشدتها (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي لا يرى أحد في تلك البوادي التي كانوا يسكنونها إلّا آثار منازلهم ، (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جزيناهم نجزي من هم أمثالهم من الكافرين.

٢٦ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ...) أي أعطيناهم من المكنة والقدرة ما لم نعطكم مثلها من القوة في الأبدان والبسطة في الأجسام وكثرة الأموال ، والطّول في الأعمار. (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي خلقنا لهم الحواس الصحيحة التي بها كان يمكنهم أن يدركوا الحجج التي توصلهم إلى الإيمان (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لم تنفعهم جميع تلك الحواس لأنهم أهملوها ولم يستعملوها في النظر والتدبر (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي ينكرونها مع كونها في غاية الظهور في الدّلالة على التوحيد (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل عليهم من العذاب والعقاب الأليم لاستهزائهم بالأنبياء والرّسل وبما جاءوا به من الكتب والشرائع.

٢٧ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ ...) الخطاب لأهل مكّة. أي أهلكنا من هم حواليكم (مِنَ الْقُرى) يعني أهلها كعاد وثمود وقوم لوط (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي كرّرناها تارة في الإعجاز ، وتارة في الإهلاك ، وأخرى في التّذكير وطورا في وصف الأبرار ومرّة في ذمّ الفجّار (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي يعودون عن كفرهم.

٢٨ ـ (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ ...) إلخ أي فهلّا منع العذاب عن هؤلاء المهلكين أولئك الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويزعمون أنهم بعبادتهم لهم يقربونهم إلى الله. والاستفهام للإنكار ، أي لم ينصرهم (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي غابوا عنهم عند حلول العذاب. (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) أي اتّخاذهم الأصنام آلهة كذبهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون على الله في أنها آلهة تعبد من دونه.

٥١٠

٢٩ ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ...) أي أرجعنا إليك يا محمد طائفة من الجن وحوّلناها نحوك. والنفر جماعة دون العشرة. (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) أي لاستماع القرآن أو مستمعين للقرآن (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا) أي حضروا النبيّ أو القرآن بعضهم قال لبعض (أَنْصِتُوا) أي اسكتوا لاستماعه (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ النبيّ (ص) من تلاوته (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي رجعوا إلى قبيلتهم محذّرين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا.

٣٠ ـ (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ...) أي القرآن (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مصدّقا لما في التّوراة ، ولم يذكروا عيسى ولا الإنجيل لأنهم كانوا باقين على اليهوديّة. (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي إلى ما هو ثابت وصحيح من العقائد الحقّة (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى شرائعه الموصلة إلى المطلوب.

٣١ ـ (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ ...) يعنون محمدا (ص) عليه وآله إذ دعاهم إلى توحيده وخلع الأنداد دونه. (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم لأن بعض الذنوب لا تغفر. (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يخلصكم من عذاب موجع معدّ للكفّار.

٣٢ ـ (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ ...) أي لا يعجز الله بالهرب منه إذ لا يفوته هارب (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي ليس له من غير الله أحبّاء يمنعونه منه (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الذين ما أجابوا داعي الله كانوا في غواية واضحة لكلّ أحد.

٣٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ ...) أي : أولم يعلموا أنّه تعالى (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي لم يتعب ولم يعجز من خلقهنّ ، فمن كان هذا شأنه أليس (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى) إلخ أي نعم هو قادر على إحياء الموتى : فإن خلق السّماوات والأرض أعجب وأعظم منه.

٣٤ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ...) أي تعرض النّار عليهم ويقال لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) على نحو التهكّم والتّوبيخ ، يعني أن الذي جزيتم به أليس بصدق وعدل (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي نقسم بربّنا أنّ الذي جاء به الرسل كان حقّا ونحن جحدناه عنادا. (قالَ) بعد إقرارهم المؤكد خازن النّار : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي جزاء لكفركم وعنادكم للرّسل.

٣٥ ـ (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ...) أي اصبر يا محمد على أذى قومك وعلى تركهم إجابتك في دعوتك فإن الصّبر من شيم الأنبياء والرّسل الذين كانوا قبلك ، وبالأخصّ صبر أولي العزم منهم ، وهم خمسة. نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص) وإنما صاروا أولي العزم لأن كلا منهم بعث بكتاب وشريعة. (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لا تتعجل بطلب العذاب لقومك فإنه مصيبهم لا محالة. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) أي ما توعدهم به الرسل في الدنيا من العذاب ويرونه في الآخرة (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) مع أنهم ربّما عمروا في الدّنيا أزيد من مائة سنة وذلك من شدة خوفهم وهلعهم من عذاب ذلك اليوم بعد معاينتهم له. (بَلاغٌ) أي ما ذكر أو ما قيل في تلك السورة أو في هذا القرآن من المواعظ والنّصايح تبليغ من الله عزوجل إلى كافّة البشر (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن حدوده تعالى.

٥١١

سورة محمّد (ص)

مدنية ، عدد آياتها ٣٨ آية

١ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أي أن الكافرين الذين يمنعون الآخرين عن اتّباع طريق الإيمان والإسلام وهم مشركو العرب (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أحبط أعمالهم التي كانت في زعمهم قربة وأنها تنفعهم كالعتق والصدّقة وقرى الضيف.

٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) أي آمنوا بالله وبمحمد وأضافوا إلى ذلك الطاعات والحسنات (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) من القرآن والأحكام (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة معترضة مؤكّدة لشأن القرآن وعظمته. أي أن القرآن هو الحق الثابت من الله تعالى (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي سترها عنهم بأن غفرها لهم لأن الإيمان يجب ما قبله (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم في أمور دينهم ودنياهم.

٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ ...) أي أن إضلال عمل الكفرة كان بسبب أن الكفرة أخذوا الباطل واتّبعوا سبيل الغيّ بجهلهم (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ) أي سبيل الرّشد وسلكوا مسلك الحق فنجوا من الضّلالة (كَذلِكَ) أي على هذه الطريقة (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي يبيّن لهم أحوالهم ليعتبروا بهم أي ليعتبر أهل الحق بأهل الباطل وأهل الباطل بأهل الحق.

٤ إلى ٦ ـ (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي في القتال (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فاضربوا منهم الرقاب ضربا ، (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أكثرتم قتلهم وبالغتم في إفنائهم. (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي أحكموا وثاقهم في الأسر (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) يعني مخيّر أنت يا محمد بين المنّ عليهم وإطلاقهم ، وبين أخذ الفداء منهم (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي هذا التخيير باق لك ما دامت الحرب قائمة ، وبعد انتهاء حالة الحرب فهذا الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه. (ذلِكَ) أي الأمر هكذا (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) بإهلاكهم بلا قتال (وَلكِنْ) أمركم به (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ليختبر الكافرين بالمؤمنين أو يختبر المؤمنين أنفسهم. (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جاهدوا ، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي فلن يضيّع الله ما عملوا (سَيَهْدِيهِمْ) إلى الجنّة (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي حالهم في الدارين (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي في حال هو تعالى عرّف لهم الجنّة في الدّنيا على ألسنة أوليائه وأنبيائه ورسله وقيل : وعدهم بها.

٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي صدّقوا النبيّ فيما جاء به (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي دينه ونبيّه بجهاد أعدائهما (يَنْصُرْكُمْ) الله بالغلبة عليهم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي يشجّع قلوبكم في مقام الخوف ومواقف الحرب.

٨ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ ...) أي مكروها وسوء لهم. وهو دعاء عليهم (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي ما أوردها في معرض القبول أصلا وأحبطها.

٩ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ...) أي التعس والإضلال لكراهتهم ما أنزل الله على رسوله من القرآن والأحكام ، (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها لأنها لم تقع على الوجه المأمور به.

١٠ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) إلخ المراد بالاستفهام هو الأمر التحريضيّ لهؤلاء الكافرين على السفر أي فهلا ساروا ورأوا عواقب أولئك الجاحدين المكذبين لرسلهم من الأمم السابقة عليهم كيف أهلكهم الله هلاك استئصال مع أموالهم وأهليهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي وللمكذبين بك يا محمد مثل ذلك من العذاب إن أصروا على عنادهم وكفرهم.

١١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي ناصر المؤمنين وقاهر الكافرين (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) حتى يدفع العذاب عنهم.

٥١٢

١٢ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي يأذن لهم في الدّخول ، ويوفّقهم للأعمال الصالحة ليكونوا في (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت الأشجار تجري الأنهار (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي ينتفعون بالأمتعة الدنيويّة (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي ينهمكون في شهواتهم غافلين عن عواقب أمرهم كالبهائم في معالفها غافلة عما تؤول إليه عاقبة أمرها من النّحر والذّبح. (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي منزل ومقام لهم.

١٣ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً ...) أي وكم من أهل قرية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) أي جسما وسطوة وبسطة وعدّة (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) أي من قريتك يا محمد وهي مكة التي أخرجك أهلها منها ومع هذه الأشدّية في قوة أولئك أهلكناهم (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي لا معين يدفع عنهم العذاب والهلاك.

١٤ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ...) أي على حجّة واضحة وبرهان ساطع. (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) يعني حسّن له الشيطان المعاصي وأغواه. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي انساقوا وراء شهواتهم وما يمثل إليهم طباعهم.

١٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ...) أي صفة أهل الجنّة الموصوفة بأنّها موعودة للمتّقين هذه المذكورة وهي (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغيّر الطعم والرّيح واللّون لعارض كمياه الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي بالحموضة أو غيرها لطول الزمان أو حرارة الهواء كما يحصل للبن الدّنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي أنّ خمور الجنّة مطربة وملذّذة ومفرّحة للشاربين ومنزّهة عن كراهة الريح وغائلة السّكر كما هو حال خمر الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي من جميع الكدورات كالشمع ومدفوعات النحل وما يتصوّر فيه. (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من جميع ما يتصوّر وما لا يتصوّر كمّا وكيفا من أصناف الفواكه وأقسامها خالية من جميع العيوب والآفات لفواكه الدنيا (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي مضافا إلى ما ذكر أنه تعالى يكرم أهل الجنّة بستر الذّنوب وتغطيتها والتجاوز عنها. (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ؟) أي من كان في هذه النعم وهذا النعيم كمن هو دائم البقاء مؤبد في نار جهنم (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) أي ماء في غاية الحرارة وشدّتها (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي تتلاشى وتسيل بمجرّد الشرب من فرط الحرارة.

١٦ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ...) إلخ نزلت في المنافقين أي ومن هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من يستمع إلى قراءتك وكلامك يا محمد فإذا اخرجوا قالوا لمن صدّق بالله وبرسوله وفهم ما تلفظ به (ص) : أي شيء قال النبي الساعة. وكانوا يقولون ذلك إما استهزاء أو لإظهار عدم اهتمامهم بما قال (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي خلّاهم واختيارهم فتمكّن الكفر في قلوبهم فكانوا يعملون طبق ما تشتهيه أنفسهم كالبهائم.

١٧ ـ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ...) أي أن الذين اهتدوا بما سمعوا من النبي (ص) زادهم الله أو قراء القرآن أو النبي (ص) ايمانا بلطف الله بهم (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي أعطاهم جزاء التقوى ، أو وفّقهم للتقوى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ما ينتظرون إلّا القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي ظهرت علاماتها (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي لا ينفعهم تذكّرهم وتنبّههم وندمهم حينما تجيء السّاعة فقد انسدّت أبواب التوبة والندامة.

١٩ ـ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ...) تفريع على ما مضى ، أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكفرة فاعلم أنّه لا يبقى في العالم ذو حياة إلّا الله الذي هو موصوف بالحياة الدّائمة وبالواحديّة والوحدانيّة. وهذه كناية عن قرب موته (ص) (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) إخبار به. وقيل إن أمره بالاستغفار لتكميل النفس بإصلاح أحواله وأفعاله والتوجّه إليه تعالى دائما وفي الآية أقوال أخر (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أمر سبحانه نبيّه بالاستغفار لهم لأنه أبو الأمّة الشفيق فأمر الله تعالى رسوله بالاستغفار لنفسه وللأمّة إمّا من باب التذكير أو من باب التعليم أو بيان كرامة المؤمنين عليه سبحانه. (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي منتشركم بالنّهار ومستقركم بالليل أو منصرفكم وأمكنة ذهابكم وإيابكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة من الجنّة والنّار.

٥١٣

٢٠ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ...) أي لماذا لم تنزل سورة في الجهاد مع هؤلاء المعاندين والمشركين (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي غير متشابهة مبيّنة ظاهرة في أمر الجهاد ، (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي النفاق أو ضعف الإيمان (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي كمن عرضت له الغشية تراه مبهوتا متحيّرا خوفا من الموت (فَأَوْلى لَهُمْ) أولى في هذه الموارد كلمة وعيد ومعناها قد قاربهم الشرّ فليحذروا ، أو فويل لهم بمعنى اللعن والعذاب والزجر.

٢١ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ...) أي إطاعة أوامر الله والقول بأنّا نجاهد في الله بأموالنا وأنفسنا خير وأحسن قيلا لهم من إظهار الكراهية والاشمئزاز عند نزول آية الجهاد (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جاء وقت العمل وتوطين النفس على الفعل (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) أي لو عملوا بما كانوا يطلبونه معجّلا من نزول الأمر بالجهاد (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أن يصدقوا الله من نفاقهم.

٢٢ ـ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ...) أي أترجون يا معشر المنافقين بأنّكم لو ملّكتم أمر النّاس وتسلّطتم على رقابهم (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بأخذ الرّشى وأخذ أموال الناس بغير الحق وقتل النّفس المحترمة وغير ذلك (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) بأن لا تزوروهم ولا تسألوا عن أحوالهم ولا تساعدوهم فيما يحتاجون إليه ونحو ذلك والاستفهام للتقرير.

٢٣ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ...) أي أبعدهم من رحمته فلا يشملهم فضله وإحسانه وجوده. (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي خلّاهم وتركهم على ما هم عليه من الأخلاق الرذيلة والعقائد السّخيفة.

٢٤ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ...) أي فلا يتفكّرون بالقرآن حتى يقرّوا بما عليهم من الحق ويعتبروا. (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي أم قلوبهم مقفلة لا يدخلها الهدى ولا يصل إليها ذكر.

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ...) أي رجعوا إلى كفرهم ونفاقهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بالحجج الواضحة ، وظهر لهم طريق الحق بالحجج الواضحة (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي زيّن لهم اتّباع أهوائهم في آمالهم ، أو مدّ أملهم بطول أعمارهم.

٢٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ...) إلخ أي التّسويل والإمهال كان منه سبحانه ، لأنّ المشركين والمنافقين منهم قالوا للذين كانوا باقين على كفرهم وكانوا كارهين لما أنزل الله من القرآن وما فيه من الأحكام (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) كالتّظاهر على عداوة محمد (ص) والقعود عن الجهاد. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي يظهرها للنّاس ليفضحها ويكشف سوء سرائرهم.

٢٧ ـ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ...) أي كيف يعملون وكيف تكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وكانوا (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) التي كانوا يتّقون أن تصيبها آفة في القتال فيفرّون ويتجنّبون أذاها.

٢٨ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ ...) أي اتّبعوا ما أغضبه من المعاصي الكبار (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي ما يرضيه من الإيمان (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي أبطل ما عملوا من الخيرات لذلك.

٢٩ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي هل ظن مرضى النّفاق والعناد (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي لن يبرز الله لرسوله والمؤمنين أحقادهم؟

٥١٤

٣٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ...) أي لعرّفناكهم بدلائل يا محمد (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم وهيئتهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي تصيير القول وتبديله عن الصّواب وفحوى الكلام (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) من حيث كونها بإخلاص أو نفاق فيجازيكم على حسب نيّاتكم.

٣١ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ...) أي لنختبرنّكم بالجهاد وسائر الأعمال الشاقّة (حَتَّى نَعْلَمَ) نميّز (الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) المطيعين من جملتكم (وَالصَّابِرِينَ) على التّكاليف الشاقّة (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) عن إيمانكم وموالاتكم المؤمنين في صدقها وكذبها.

٣٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا ...) إلخ أي لم يؤمنوا ومنعوا غيرهم عن اتباع دين الله بالترغيب والترهيب (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) أي عاندوه وعادوه من بعد ما ظهر لهم الحق وعرفوا أنه رسول الله صدقا. (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بمنعهم ومخالفتهم للنبيّ ونقض عهدهم (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) فلن يروا لها في الآخرة ثوابا.

٣٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ ...) أي في أوامره ونواهيه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما جاء به من عند ربّه (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بما ينافي الإخلاص من كفر وعجب ورياء ومنّ وأذى وغيرها.

٣٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا ...) إلخ أي الذين منعوا وصرفوا الناس عن طريق الحق (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي آمنوا إلى أن ماتوا على الكفر (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي لن يفتح باب الرحمة الواسعة لهم أبدا ويكونون في العذاب الأبديّ.

٣٥ ـ (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ...) أي لا تضعفوا عن القتال وتدعوهم إلى الصّلح (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) والحال أنكم الغالبون ، (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي ناصركم ومعينكم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم أجرها.

٣٦ و ٣٧ ـ (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...) أي سريعة الفناء والانقضاء ومن اختار الفاني على الباقي كان جاهلا (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) من ثواب إيمانكم وأجر تقواكم. (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي جميع الأموال بل يقتصر على يسير منها كالعشر ونصف العشر ، (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي سبحانه إن يطلب منكم جميع أموالكم (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) أي يجهدكم بمسألة جميع أموالكم لا تجيبوه وتبخلون في مسئوله (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) يظهر العداوة التي في صدوركم.

٣٨ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ...) أي أنتم يا هؤلاء (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لو دعيتم لإنفاق مقدار من أموالكم في نفقة الجهاد ومصارف الفقراء (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي من جملتكم من يبخل بماله ولا يرضى الإنفاق. (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي من أمسك عمّا فرضه الله عليه فبخله بخل على نفسه لأن ضرره عائد عليه (وَاللهُ الْغَنِيُ) لا يحتاج إلى إنفاقكم وأموالكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى ما عند الله من الخير والرحمة في الدّنيا والآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي وان تعرضوا عن طاعته وطاعة رسوله يستبدلكم بمن هو أطوع لله منكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي في معاداتكم وخلافكم وظلمكم لمحمد وآل محمد (ص).

٥١٥

سورة الفتح

مدنية ، عدد آياتها ٢٩ آية

١ ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...) أي قضينا لك يا محمد قضاء ظاهرا. قيل المراد به فتح مكة ، وقيل صلح الحديبية.

٢ ـ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ ...) أي المتقدّم من تركك المندوب يعني ما قبل النبوّة ، والمتأخّر من تركه بعدها وقيل المراد ذنوب أمته بشفاعته (ص) وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه (ص) للاتصال والسبب بينه وبين أمته. (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي بإعلاء أمرك وإظهار دينك (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي إلى دين الإسلام ، أو يثبتك على طريق يؤدي بسالكه إلى الجنة.

٣ ـ (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ...) أي ينصرك نصرا فيه منعة ولا ذلّ معه رغما لأنوف أعدائك.

٤ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ...) هي القوّة الملكوتيّة أو الأدلّة والبراهين السّاطعة التي تستلزم بصيرتهم في الغزوات والفتوحات فتكون موجبة لتسكين قلوبهم وقيل هي الإيمان الكامل (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين لم يخالفوا النبيّ الأكرم ولم ينكروا عليه الصّلح (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي إيمانا بالشرائع كلّها التي تنزل على الرسول ، مع إيمانهم بالله تعالى. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما يتجنّد منه من الملائكة والثقلين وغيرهم من ذوات الأرواح مطلقا حتى الحشرات والهوام وغير ذوات الأرواح من الجمادات كالأرياح والأمطار ومطلق المياه كالبحار والصّواعق والزّلازل ونظائرها من الممكنات ، فإنها جميعا لها القابليّة لأن تكون جنوده تعالى ويهلك بها أعداءه سبحانه كما أهلكهم بها مرارا. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) مر معناه.

٥ ـ (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ...) إلخ. تقديره : إنا فتحنا لك ليغفر لك الله إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار دائمين فيها مؤبدين لا يزول عنهم نعيمها (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي الإدخال والتفكير كان ظفرا عظيما يعظم الله به قدره.

٦ ـ (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ...) الذين كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. أي أهل المدينة ، (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) وهم أهل مكّة (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي يظنّون بالله أنّه يخالف ما وعده لرسوله من النصر والفتح (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي يقع عليهم العذاب والهلاك والدائرة هي الراجعة بخير أو شر (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أي أبعدهم من رحمته ومواهبه (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي مرجعا.

٧ ـ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) كرّرت هذه الجملة في الآية الرابعة وها هنا لأنها في الأولى كانت قرينة لذكر المؤمنين وكانت بشارة لهم بالنّصر والظّفر ، وهي هنا تتّصل بذكر المنافقين والمشركين لتوعيدهم وتخويفهم. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي غالبا عند القهر عارفا بتنظيم أمور مخلوقاته.

٨ و ٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ...) أي إنا بعثناك يا محمد برسالتنا شاهدا على أمتك بما فعلوه من طاعة أو معصية ومبشرا بالجنة لمن أطاع ومخوّفا بالنار لمن عصى (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) التخاطب مع الحاضرين من أمّته (ص) (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) أي تقوّوه وتنصروه بنصر دينه ورسوله ، وتبجّلوه وتعظّموه بتبجيل رسوله أو تعظيم دينه (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي تصلّوا لله صباحا ومساء.

٥١٦

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ ...) أي يعاهدونك يا محمد على العمل بما أمرتهم به ونهيتهم عنه. والمراد بالبيعة هنا بيعة الحديبيّة وتسمّى بيعة الرّضوان (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أي أن المبايعة معك تكون مبايعة مع الله لأن طاعتك طاعته سبحانه (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم لأنهم بايعوا الله ببيعة نبيه (ص) فكأنهم بايعوه بلا واسطة. وقيل معناه : قوة الله في نصرة نبيه (ص) فوق نصرتهم إياه. وقيل غير ذلك (فَمَنْ نَكَثَ) أي نقض العهد (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) يعني أن ضرر نقض عهده يرجع عليه فلا يعود ضرره على الله ولا على رسوله (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ثبت على العهد والبيعة فإن له الجنة فإنّها أعظم الأجور ولا يساويها أجر.

١١ ـ (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ ...) أي الّذين خلّفهم عن الخروج معه (ص) عام الحديبية ضعف اليقين بالله ورسوله أو عدمه وأيضا خلّفهم الخوف من قريش حيث إنّهم كانوا يظنّون أنّه (ص) يهلك على يد قريش مع أصحابه ولا يعودون إلى المدينة (مِنَ الْأَعْرابِ) أي أسلم وجهينة وغفار وغيرهم على ما قيل ، فقالوا (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن الخروج معك لأنّه لم يكن أحد يقوم مقامنا في شؤونهم وقضاء حوائجهم وهم يعنون أنّ تخلّفنا كان لعذر. (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله عن التخلّف عنك (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إنّ الله سبحانه يكذّبهم فيما يقولون في مقام الاعتذار ويخبر رسوله عما في ضميرهم (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي يعلم وجه تخلّفكم وعلّة اعتذاركم واستغفاركم ولا يخفى عليه شيء من ذلك.

١٢ ـ (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ ...) إلخ أي ما كان تخلّفكم لما قلتم ، بل كان سببه زعمكم بأن النبيّ (ص) لا يعود إلى المدينة أبدا لأنه يهلك مع صحبه على أيدي أهل مكة (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) أي حسّن الشيطان ذلك الظن في قلوبكم بوسوسته (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي كان ظنكم بهلاك النبي (ص) والمؤمنين ظنا سيئا وكنتم قوما هلكى لا تصلحون لخير.

١٣ ـ (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي من لم يصدّقهما قلبا ولم يتّبعهما عملا صالحا (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أي نارا ملتهبة مشتعلة ،

١٤ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي ملك تدبير وخلق وتصرف. (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) فهو القادر المختار يستر ذنوب من أراد ويعاقب من يستحق العقاب من عباده. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) مر معناه.

١٥ ـ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ...) إلخ يعني سيقول هؤلاء المعتذرون من المنافقين إذا خرجتم أيها المؤمنون (إِلى مَغانِمَ) أي لو ذهبتم إلى غنائم خيبر بعد الغزو والفتح (لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي اتركونا نجيء معكم وذلك لأنهم طمعوا في الغنائم الموعودة. (يُرِيدُونَ) بكلامهم هذا (أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) ذاك أنه سبحانه هو وعده بغنائم خيبر لأهل الحديبيّة خاصّة عوضا عن مغانم مكة ، (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أي لا تتّبعونا أبدا فإن ربّي لا يجيزني حتى أرضى بذلك (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) يعني قبل رجوعنا من الحديبيّة ، هكذا أوصاني ربّي (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي المخلّفون عن الحديبيّة يقولون أي ما حكم الله بذلك ، بل أنتم تحكمون به علينا حسدا من أن نشارككم في الغنيمة. رجما بالغيب (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي كانوا لا يفهمون الحق وما تدعونهم إليه إلا شيئا قليلا وقيل : إلا القليل منهم.

٥١٧

١٦ ـ (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ ...) أي قل يا محمد للذين تخلفوا عنك في الخروج إلى الحديبية (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ) والمراد أن النبيّ (ص) عمّا قريب يدعوهم إلى قتال أقوام ذوي نجدة وشدة مثل أهل حنين والطائف ومؤتة وتبوك وهوازن وغيرهم من المشركين (أَوْ يُسْلِمُونَ) معناه أن أحد الأمرين لا بد أن يقع إما دخولهم في الإسلام أو قتالكم لهم. (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي تجيبوا إلى قتالهم. (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) أي جزاء صالحا. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي كما انصرفتم عن الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي في الآخرة.

١٧ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ...) إلخ لمّا أوعد الله المتخلفين ظنّ العجزة إن الوعيد شملهم فنزلت الآية الشريفة لتسكين خواطرهم وأنهم معذورون فلا بأس عليهم إذا تخلّفوا ولا إثم عليهم في ترك الجهاد. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من يطع الله في الأمر بالقتال وفي غيره له ذلك النعيم. (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) أي ومن يتخلف ويعرض عن أمر الله ورسوله فيقعد عن القتال يعذبه عذابا موجعا في الدنيا والآخرة.

١٨ و ١٩ ـ (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ...) قد سبق تفصيله وقلنا إن وجه تسمية هذه المعاهدة ببيعة الرّضوان لهذه الآية ، (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أي اللطف المقوي لقلوبهم والطمأنينة (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) أي فتح خيبر وقيل فتح مكة. (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) هي أموال أهل خيبر يجمّعونها ويملكونها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) مر معناه.

٢٠ ـ (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً ...) إلخ أي لا تنحصر في مغانم خيبر بل مع النبي وبعده إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي غنائم خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) من أهل خيبر وحلفائهم ، وذلك أن النبيّ (ص) لمّا قصد خيبر وحاصر أهلها همّت قبائل من أسد وغطفان وهوازن أن يهجموا على أموال المسلمين وعيالاتهم بالمدينة فكفّ الله أيديهم عنهم بالرّعب في قلوبهم من النبيّ وعسكره (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ولتكون إمارة دالّة على صدق النبيّ (ص) في وعده للمؤمنين بأخذهم الغنائم (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يثبتكم على طريق الحق بفضله.

٢١ ـ (وَأُخْرى ...) أي وعدكم مغانم أخرى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) ولعلّ المراد بها غنائم فارس أو الروم أو هوازن. (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) علما بأنها ستصير إليكم (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي قادرا على فتح البلاد وإيصال الغنائم وغير ذلك من الأمور.

٢٢ ـ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ...) أي يا رسول الله اعلم أنه لو قاتلك الكفرة فهم المغلوبون المنهزمون سواء كانوا من قريش أو غيرهم. (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي محبّا يتودّد إليهم ويحرسهم ولا ناصرا ينصرهم.

٢٣ ـ (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ...) أي عادة الله السالفة وديدنه القديم على تغليب أوليائه على أعدائهم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تغييرا.

٥١٨

٢٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ...) أي بالرعب والمقصود بهم المشركون (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) أي بالنهي عن قتالهم (بِبَطْنِ مَكَّةَ) المراد ببطن مكة هو الحديبيّة فإنه يحسب من داخل مكة. (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي جعلكم تغلبونهم. (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) من جدالكم معهم أوّلا واطلاقكم إيّاهم بعد أخذكم لهم.

٢٥ ـ (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ ...) إلخ الضمير راجع إلى كفّار مكّة الذين منعوا الرّسول والصّحابة من دخولهم الحرم ليطوفوا فيه ويحلوا من عمرتهم. (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) أي وصدوا الهدي وهي البدن التي ساقها (ص) معه وكانت سبعين من أن يبلغ محل نحره وهو مكة. وبعد أن تم الصلح نحرها (ص) في الحديبية. (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) يعني بمكة ممن كانوا من المستضعفين من أهل الإيمان (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أي أنتم لا تعرفونهم وغيركم أيضا (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي أن تهلكوهم حين المقاتلة لو أذن لكم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي بعد علمكم بقتلهم تلزمكم من جهتهم تبعة من دية أو إثم. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) موضعه التقديم وتقديره : لولا أن تطؤهم بغير علم (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي فكفّ عن القتال وصولحوا ليدخل الله برحمته من يشاء أي ممن أسلم من الكفار بعد صلح الحديبية. (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي لو تميّز المؤمنون من الكافرين بأشخاصهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) باهلاك الكفرة وسبي عيالاتهم وذراريهم ونهب أموالهم أو إحراق بيوتهم عليهم والمقصود الكفرة من أهل مكة.

٢٦ ـ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ ...) أي لعذبنا الذين كفروا وأذنّا لك في قتالهم حين جعلوا في قلوبهم الأنفة التي تحمي الإنسان وتغضبه (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) يعني نخوة الجاهليّة وأنفتها التي أشربت في قلوبهم بحيث لا ينقادون لأحد (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ولما كانت الحميّة التي في قلوبهم مانعة لإذعانهم وتصديقهم بالألوهيّة والتوحيد والرّسالة فأنزل الله الطمأنينة على قلبه (ص) وقلوب أتباعه ليتحملوا حمية القوم وأذاهم (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) أي قول لا إله إلّا الله والمعنى ثبتهم عليها. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي لكونها أحقّاء بها وأهلا لها وغيرهم ليسوا كذلك (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) مر معناه.

٢٧ ـ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ ...) إلخ فقد رأى رسول الله (ص) هذه الرّؤيا قبل خروجه إلى الحديبيّة وصدقه الله رؤياه إذ رأى أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين من أعدائهم محلّقين رؤوسهم وبعضهم يقصر بأخذ شيء من شعره أو ظفره وذلك بأن وفّقهم في السنة التالية لسنة الرّؤيا لفتح مكة والإتيان بفريضتهم بتمامها وفق ما كان قد رأى رسول الله (ص). (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي فعلم سبحانه من الصلاح والحكمة في صلح الحديبية ما لم تعلموه أنتم وهو خروج المؤمنين من بين الكفار بعد الصلح فجعل من قبل دخولكم مكة على هذه الصفة فتح خيبر.

٢٨ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ...) يعني أرسل سبحانه محمدا بالدليل الواضح وقيل : بالقرآن ... (وَدِينِ الْحَقِ) أي الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أي ليعلو دين الإسلام (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على الأديان كلّها بالحجة والبراهين الواضحة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما وعده المؤمنين من القهر والغلبة على المشركين.

٥١٩

٢٩ ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...) جملة مؤكّدة لما في الآية السّابقة من قوله (أَرْسَلَ رَسُولَهُ الَّذِينَ مَعَهُ) والمراد بهم أصحابه الخلّص. ومعنى الأشدّاء : الغلاظ الشّداد لا يعصون الرّسول ما أمرهم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي متعاطفون فيما بينهم (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) كناية عن كثرة صلاتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي لا يبتغون من غيره شيئا فلذا يسألون منه تعالى زيادة ثوابه ورضاه منهم (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامة إيمانهم ظاهرة في وجوههم حيث تكون مواضع جباههم يوم القيامة أشد بياضا. وقيل : هو التراب على الجباه لأنهم يسجدون عليه. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي هذه الأوصاف العجيبة الحسنة هي صفتهم في كتاب موسى وصفتهم في كتاب عيسى ، (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي ورقه الذي هو في غاية الدقّة والضّعف (فَآزَرَهُ) أي فقوّاه تدريجا (فَاسْتَغْلَظَ) أي تدرّج ونما حتى صار من الدّقة إلى الغلظة ، ومن الضّعف إلى القوّة (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أي وصل إلى مرتبة من القوّة والاستعداد حتى استقرّ واعتدل على أصوله. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي لغلظه واستوائه في تلك المدّة القليلة. ووجه التشبيه أن النبي (ص) خرج وحده ثم كثر المؤمنون حتى تغلبوا على الكافرين في مدة وجيزة (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي إنّما كثر الله المؤمنين وقوّاهم ليكونوا غيظا للكافرين بتكاتفهم وحرصهم على الطاعة (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أي الجنّة بمراتبها على درجات إيمان المؤمنين وأعمالهم في الكثرة والقلّة ، فإنها الفوز العظيم والأجر الجزيل الذي لا يتصوّر فوقه شيء.

سورة الحجرات

مدنية ، عدد آياتها ١٨ آية

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي لا تعملوا عملا إلّا بإذنهما ، ولا تفعلوا فعلا قبل أن يحكما به. وقيل إن المراد بالتقدّم هو التقدّم في المشي (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي اجتنبوا معاصيه وأطيعوا أوامره ونواهيه.

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) لأن فيه أحد أمرين إما الاستخفاف به وهو الكفر وإما سوء أدب فهو خلاف الأمر بتعظيمه. (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي غضّوا أصواتكم فيما خاطبتموه فإنه ليس كأحدكم حيث إنّ له شأنا شامخا ليس لأحد من البشر من آدم ومن دونه. (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) علّة للنّهيين لمخافة حبوط أعمالكم بلا شعور منكم بالحبط وعلّته.

٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...) أي يخفضون أصواتهم في مجلسه (ص) تعظيما له (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي اختبرها فأخلصها للتقوى (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي مغفرة لذنوبهم وأجر لطاعتهم.

٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ...) من خارجها أو خلفها : يا محمد أخرج إلينا فإنّ لنا حاجة إليك. والمقصود حجرات نسائه (ص) وهم الأجلاف الجفاة من بني تميم. (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وصفهم سبحانه بالجهل وقلة العقل إذ لم يعرفوا مقدار النبي (ص) وعظمته ولأن مقتضى العقل مراعاة الحشمة مع الرئيس مطلقا فضلا عن أن يكون نبيا مرسلا.

٥٢٠