إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

١٢ ـ (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ ...) إلخ العذب من الماء هو البارد الهنيء شربه والفرات هو الماء الذي يكسر العطش. بخلاف الشديد الملوحة. فالبحران من هذه الجهة ليسا بمتساويين. وإن كانا متساويين من جهة منافعهما كما قال سبحانه : (وَمِنْ كُلٍ) من البحرين (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) هو الأسماك أو الطير البحري. والطري : هو الغض الجديد. (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي اللآلئ واليواقيت والمرجان والأصداف. (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) يعني جواري تشقّ الماء شقّا (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي من فضل الله بالانتقال فيها والتجارة بها وبركوبها (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله على تلك النّعم لأنكم إن تشكروها تزيد. «وفي الآية تمثيل للمؤمن والكافر بالبحر العذاب والمالح ، يتبيّن به عدم تساوي المؤمن والكافر في الكمال الفطري ، وإن تشاركا في غالب الخواص الإنسانية وآثارها ، فالمؤمن باق على فطرته الأصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة ، والكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الإنسانية وسيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة وملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصلية وهي العذوبة والخروج عنها بالملوحة وإن اشتركا في بعض الآثار التي ينتفع بها ..».

١٣ ـ (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ..) إلخ مرّ تفسيره (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) إلخ مدبر هذه الأمور كلّها وخالق تلك النّعم الجليلة ، وله ملك الدنيا والآخرة ، وأمّا المعبودات التي أشركتموها معه (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي لا يملكون القشرة الرقيقة الملتفّة على النّواة ولذا فهو المستحق للعبادة دونها.

١٤ ـ (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ...) لأنّهم جماد (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي بإشراككم حيث يبرءون من عبادتكم إيّاهم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي يا محمد لا يخبرك بحقيقة الحال وواقع الأمر مثل ما يخبرك العليم بالحقائق والبصير بالأمور وهو الله تعالى.

١٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ...) أي أنتم المحتاجون إليه (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) عن عبادتكم والمستغني على الإطلاق (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد على إفضاله وجميع أفعاله.

١٦ و ١٧ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ...) هذا بيان لعدم الحاجة إليهم ، وإظهار لكمال قدرته ، ووعيد لهم بالإهلاك إذا لم يرجعوا عمّا كانوا عليه من الطغيان (وَما ذلِكَ) التهديد بإهلاكهم والإتيان بغيرهم (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي ليس ممتنعا عليه ولا صعبا لديه فإنه يقول للشيء كن فيكون.

١٨ ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي تطلب نفس مثقلة بالذنوب (إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) إلى أن يتحمّل عنها الآخرون شيئا من ذلك الحمل فلا يستجاب لطلبها (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ولو كان المدعوّ إلى التحمّل صاحب قرابة بالنسبة إلى الدّاعي. (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي الخائفين من بطشنا وعذابنا في الآخرة فهم يصدقون به مع أن عمله قد غاب عنهم في حين أن هؤلاء المكذبين لا ينتفعون بالإنذار ولا تتحقق معهم حقيقة الإنذار لأنهم مطبوع على قلوبهم. (وَمَنْ تَزَكَّى) أي طهّر نفسه عن دنس المعاصي (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي نفعه عائد إلى نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي مرجع الخلق كلهم للحساب والمجازاة صائرون إليه.

٤٤١

١٩ إلى ٢٣ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ...) أي لا يتساوى الكافر والمؤمن أو الأعمى عن طريق الحق والذي يهتدي إليه ولا ظلمات الشرك والضّلال ونور الإيمان والهداية قيل : هو عطف على قوله السابق : وما يستوي البحران. وقيل : الظاهر أنه عطف على قوله : وإلى الله المصير ، تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لأولئك المكذبين. (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) أي الحق والباطل أو الجنّة والنار. (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) يعني المؤمنين والكافرين. وقيل العلماء والجهّال. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي ينفع بالإسماع من يشاء أن يلطف به ويوفقه إلى هدايته. (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي أنك يا محمد لا تقدر أن تنفع الكفّار وتهديهم إلى الإيمان بإسماعك إياهم الآيات والعظات إذ لم يقبلوا منك ، كما أنك لا تقدر أن تنفع الأموات بالآيات والبراهين. (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا مخوّف لهم من الله.

٢٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) ... (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ ...) أي لا تكون أمة في أيّ عصر من الأعصار إلّا وقد أتممنا عليها الحجة بإرسال رسول إليها.

٢٥ و ٢٦ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ...) إلخ هذه الكريمة تسليمة للنبيّ (ص) فقد كذّب السابقون بالحجج الواضحة والكتب السماوية (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) الواضح (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري بعقوبتهم وتدميرهم.

٢٧ ـ (أَلَمْ تَرَ ... وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ ...) أي ذوات جدد ، خطط وطرائق (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) أي ثمرات مختلفة الألوان (وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي ومنها ما هي شديدة السّواد لا خطط فيها.

٢٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ ...) أي كاختلاف الثّمار والجبال تختلف ألوان الناس والدوابّ والأنعام. (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي لا يخاف الله حق خوفه ولا يحذر معاصيه حق الحذر إلا الذين يعرفونه حق معرفته وهم العلماء ، وقبلهم الأنبياء والأوصياء (ع). (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فهو تعالى غالب في الانتقام ، وغفور للتّائب عن عصيانه. وما ذكره سبحانه في هذه الآية «حجة أخرى على التوحيد وهو أن الله سبحانه ينزل الماء من السماء بالأمطار وهو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات ولو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل وهو واحد لكن جميعها ذا لون واحد فاختلاف الألوان يدل على وقوع التدبير الإلهي».

٢٩ و ٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ ...) أي يقرءون القرآن أو يتّبعونه بالعمل بما فيه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) يحتمل أن يكون المراد هو قراءة القرآن فيها فأثنى سبحانه عليهم بذلك. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) إلخ أي أعطوا في سبيل الله مما ملكناهم التصرف فيه حال سرهم وحال علانيتهم (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي راجين بذلك عوضا لا يكسد ولا يفنى وهو الثواب. (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) أي ينفقون أموالهم لوجهه تعالى لأجل أن يوفّيهم الله أجور أعمالهم فيعطيهم إياها تامّة كاملة (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ليزيد على ما يقابل أعمالهم من جوده وكرمه ، (إِنَّهُ غَفُورٌ) لفرطاتهم (شَكُورٌ) لطاعاتهم ومجازيهم عليها جزاء موفورا.

٤٤٢

٣١ ـ (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ...) قوله (مِنَ الْكِتابِ) بيان من الموصول يعني القرآن (هُوَ الْحَقُ) ضمير الفصل واللام في قوله هنا للتأكيد لا للقصر ، أي هو حق لا يشوبه باطل (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الكتب السّماويّة المتقدمة عليه (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) عالم ببواطنهم (بَصِيرٌ) بظواهرهم.

٣٢ ـ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ...) إلخ الألف واللام للعهد الذكري يعني القرآن أو المراد هو الجنس ومعنى الإرث انتهاء الحكم إليهم ومصيره لهم وهؤلاء هم الذين اخترناهم من عبادنا. والاصطفاء وإن كان يقرب من معنى الإرث انتهاء الحكم إليهم ومصيره لهم وهؤلاء هم الذين اخترناهم من عبادنا. والاصطفاء وإن كان يقرب من معنى الاختيار إلا أن هنالك فرقا بينهما لأن الاختيار هو أخذ الشيء من بين الأشياء بما أنه خيرها ، والاصطفاء أخذه من بينها بما أنه صفوتها وخالصها. (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بتحمّلهم الإثم وذلّ المعصية (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) أي المصطفين الأخيار الذين اختارهم الله بتوفيقه من الأزل (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي أن إيراث الكتاب والاصطفاء هو الفضل العظيم من الله عليهم.

٣٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) هذا تفسير للفضل الكبير كأنّه قيل ما ذلك الفضل الكبير؟ فقال : هذا جنّات عدن. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ) فيها بيانيّة للتّحلية وأساور جمع سوار وهو زينة اليد وحليتها (مِنْ ذَهَبٍ) أي بعضها ذهب خالص (وَلُؤْلُؤاً) أي ويحلّون فيها لؤلؤا (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وهو من أحسن ألبسة الدّنيا.

٣٤ و ٣٥ ـ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ...) أي بعد ما استقرّوا في جنات عدن واطمأنّوا من العذاب حمدوا الله وأثنوا على إذهابه عنهم الحزن النّاشئ من خشية العذاب وخوف النار ، وكذلك همّ الدنيا (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) لفرطاتنا وتقصيرنا (شَكُورٌ) لطاعاتنا مجازينا عليها بالثواب الجزيل فهو الذي (أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) أي أوردنا دار الإقامة الدائمة بكرمه و (نَصَبٌ) أي تعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) كلال وإعياء إذ لا تكليف فيها.

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ...) فهي معدّة لهم في الآخرة جزاء على كفرهم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) أي لا يحكم عليهم (فَيَمُوتُوا) بموت ثان فيستريحوا من شدائد العذاب. (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي لا يسهّل عليهم عذابها (كَذلِكَ) أي مثل ذلك العذاب (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) كلّ جاحد كثير الكفران مكذّب لأنبياء الله تعالى.

٣٧ ـ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها ...) أي يستغيثون بالصّراخ قائلين : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي يستغيثون ربنا أخرجنا من النار نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أو لم نعطكم عمرا كنتم متمكّنين فيه من التفكّر والتذكر لو كنتم من أهل التذكّر والتدبّر. (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي الرسول أو الكتاب ، أو الشيب ، أو العقل لأنه الرسول الباطني. (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي ناصر : يدفع عنهم العذاب.

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ...) أي عارف بمضمراتها ، فغيرها أولى بأن يعلمه فلا يخفى عليه شيء من أسرار السّماوات وخفيّات الأرضين. وهو يعاملكم بما في باطنكم من الاعتقاد وآثار الأعمال ويحاسبكم عليه ، سواء وافق ظاهركم باطنكم أو خالف.

٤٤٣

٣٩ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ...) أي : يا معاشر الكفرة إن الله تعالى أنعم عليكم بعد نعمة الوجود بأن جعلكم خلفاء في أرضه مكان من كان قبلكم في التصرّف فيها والتسلّط عليها ، (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي جزاء كفره وعقابه (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ) الآية ، والمقت هو أشدّ البغض ، والخسار هو الخسران في الآخرة.

٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ ...) إلخ أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين أخبروني عن الأوثان التي تعبدونها من دون الله (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فيستحقون بذلك العبادة ، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي شركة مع الله تعالى في خلقها فاستحقّوا بذلك شركة في الألوهيّة (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي هل أرسلنا إلى الأوثان كتابا أو أرسلنا إلى عبدة الأوثان رسالة من عندنا بأن الأصنام شركاؤنا في الألوهية فهم يستحقون العبادة؟ (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي فهم حينئذ كانوا على حجّة من كتابنا إليهم. (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي ليس لهم في هذا الأمر حجّة عقلية ، لكن لا يعد بعض الكافرين بعضا إلا وهما لا حقيقة له وعدة لا واقع حيالها.

٤١ ـ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ...) أي لئلّا تزولا. أو المعنى أنه تعالى يمنعهما من الزوال فهو تعالى يمسك السماوات من غير علاقة فوقها ولا عماد تحتها وكذلك الأرض. (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي ولئن قدّر زوالهما عن مراكزهما لا يقدر أحد على إمساكهما من بعد الله أو من بعد زوالهما. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) مر معناه وهو واضح.

٤٢ و ٤٣ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) إلخ أي أن مشركي قريش قبل بعثته (ص) حلفوا بأيمان غليظة غاية وسعهم وطاقتهم لئن جاءهم رسول (نَذِيرٌ) مخوف لهم من عذاب الله (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) إلخ إلى قبول قوله واتّباعه من الأمم الماضية كاليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا بأنهم وغيرهم كانوا قد كذبوا رسلهم. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي محمّد (ص) (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الهدى وإعراضا عن الحق (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) أي تكبّرا وتجبّرا وعتوّا على الله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) وقصد الإضرار بالمؤمنين وهو كل مكر أصله الخديعة والكذب لأن من المكر ما هو حسن. (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) أي لا ينزل ولا يلزم جزاء المكر السيّئ (إِلَّا بِأَهْلِهِ) بفاعله وهو الماكر. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي هل ينتظرون؟ وهذا الاستفهام بمعنى النفي ، يعني لا ينتظرون إلّا ما جرت به عادة الله في الأمم الماضية من الإهلاك حينما كذّبوا رسلهم. (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تعويض العذاب بالثواب هو خلاف ما جرت به عادة الله وكذلك العكس (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي لن تجد نقل العذاب عن مستحقّه إلى غيره.

٤٤ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الاستفهام للإنكار يعني لا بدّ لهم من السّير في الآفاق (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي فيطلعوا كيف أهلك الله المكذبين من قبلهم مثل قوم لوط وعاد وغيرهم فيعتبروا بهم (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي كان أولئك أشد من هؤلاء قوة ومع ذلك لم تغنهم قوتهم من عذاب الله من شيء (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) إلخ أي ما من شيء يسبقه أو يفوته لو أراد أن يهلكه لا في السّماوات ولا في الأرض (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ظاهر المعنى وقد مر.

٤٤٤

٤٥ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ ...) أي لو يؤاخذهم بذنوبهم والمراد بالمؤاخذة الدنيوية كما يدل عليه قوله تعالى الآتي : ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى ... إلخ. والمراد بالناس : جميعهم ، فإن الآية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم وهم الماكرون المكذبون بآيات الله ، والمراد بما كسبوا المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هي العذاب ، وقد قال في نظيرة هذه الآية ، وهي الآية ٦١ من سورة النحل : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ..) «وقوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ ...) إلخ واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدّر ناش عن الآية السابقة فإنه تعالى لما أنذر أهل المكر والتكذيب من المشركين بالمؤاخذة واستشهد بما جرى في الأمم السابقة وذكر أنه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض كأنه قيل : فإذا لم يعجزه شيء في السماوات والأرض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي؟ وماذا يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا؟ فأجاب : إنه لو يؤاخذ ... إلخ». (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي الأرض لأن الناس يعيشون على ظهرها ، على أن الأرض تقدم ذكرها في الآية السابقة. (مِنْ دَابَّةٍ) المراد بالدابة كل ما؟؟؟ على الأرض وفيها من إنسان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير. واحتمل أن يكون المراد كل ما يدب في الأرض من حيوان ، وإهلاك غير الإنسان من أنواع الحيوان إنما هو لكونها مخلوقة للإنسان كما قال تعالى في ٢٩ من سورة البقرة : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) ويمهلهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يوم القيامة أو الموت. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) فيجازي كل واحد بما عمل إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ لأنه بصير بهم عليم بأعمالهم لأنهم عباده ، وكيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه ، والربّ عمل عبده؟!. وقوله : فإن الله كان بعباده ... إلخ من وضع السبب موضع المسبب الذي هو الجزاء.

سورة يس

مكية ، عدد آياتها ٨٣ آية

١ ـ (يس ...) في المعاني عن الصّادق (ع): وأمّا يس فاسم من أسماء النبيّ ومعناه : يا أيّها السّامع للوحي. وقيل معناه يا إنسان.

٢ ـ (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ...) الواو للقسم. أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من تطرّق البطلان إليه أو سمّاه حكيما لما فيه من الحكمة.

٣ و ٤ ـ (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...) على الطريق الواضح.

٥ ـ (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ...) أي منزّل ذلك من عند الغالب الذي لا يقهر الرحيم بخلقه.

٦ ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ...) أي لتخوف به من معاصي الله قوما لم ينذر آباؤهم قبلهم لأنهم كانوا في زمان الفترة. وقيل معناه : لتنذر قوما كما أنذر آباؤهم بناء على أن ما مصدرية. (فَهُمْ غافِلُونَ) عمّا تضمّنه القرآن وعمّا أنذر الله به من نزول العذاب.

٧ ـ (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ ...) أي وجب الوعيد واستحقاق العقاب على معانديهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي يموتون على جحودهم وكفرهم.

٨ ـ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ...) يعني أيديهم مغلولة إلى أذقانهم بقيد مربوط بأعناقهم. وذلك لأنّ الغلّ إنما يجمع اليد إلى الذّقن فيما إذا كان يراد أن تشدا إلى العنق. (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي مرفوعة رؤوسهم بواسطة القيود ولذا فهم لا يستطيعون خفضها ولا تحريكها.

٩ ـ (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ... فَأَغْشَيْناهُمْ ...) أي غطّيناهم. وروى القمّي أن الباقر (ع) يقول : فأعميناهم (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الهدى.

١٠ و ١١ ـ (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) فهؤلاء المذكورون في الآيات السابقة لا تفيد معهم الذكرى ولا ينفعهم الإنذار لأنهم لا يؤمنون بقولك لفرط عنادهم وكفرهم. وأنت (إِنَّما تُنْذِرُ) تخوّف (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) تابع هذا القرآن واستمع لمقالته واتّعظ بمواعظه ، (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي صدّق بما غاب عنه من الأمور الأخروية. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي جزاء عظيم وعفو عن ذنوبه.

١٢ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ...) يوم القيامة للجزاء (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي نحصي طاعاتهم ومعاصيهم في الدنيا (وَآثارَهُمْ) أي ما يقتدى بهم فيه من بعدهم من حسنة وسيّئة. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي عدّدناه في اللّوح المحفوظ.

٤٤٥

١٣ و ١٤ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ...) أي مثّل لهم يا محمد مثالا ، والمراد من القرية قرية أنطاكية فأهلها كانوا عبدة أوثان مثل أهل مكة (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) أي حينما جاءهم رسل عيسى (ع) (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) أي رسولين من رسلنا (فَكَذَّبُوهُما) أي كذب أهل تلك القرية هذين الرسولين وقيل إنهم ضربوهما وسجنوهما (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قوّيناهما بالرجل الثالث من الحواريّين (فَقالُوا) أي الرسل قالوا للكفرة : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي يا أهل القرية إن الله أرسلنا إليكم لنرشدكم إلى الحق.

١٥ ـ (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ...) أي لا مزيّة لكم علينا تقتضي اختصاصكم بالرّسالة إلينا (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) من وحي ورسالة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلا كاذبون في دعواكم.

١٦ ـ (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ...) إنما قال الرّسل ذلك بعد ما قامت الحجة بظهور المعجزة كإبراء الأكمه والأبرص وشفاء الأعمى وإحياء الموتى ولم يقبلوها ، ووجه الاحتجاج بهذا القول أنّهم ألزموهم بذلك النظر في معجزاتهم ليعلموا أنهم صادقون على الله.

١٧ ـ (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ...) أي ليس ما يلزمنا إلّا أداء الرّسالة والتّبليغ الظاهر.

١٨ ـ (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ...) أي هؤلاء الكفرة قالوا في جواب الرّسل حين عجزوا عن إيراد جواب يقنعهم ، وعدلوا عن النظر في المعجزة : نحن تشأمنا بكم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن مقالتكم من دعوى الرّسالة (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي لنهلكنكم بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) وليلحقنكم منا عذاب موجع.

١٩ ـ (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ...) أي قال لهم الرسل : كفركم هو منشأ شؤمكم وسوء عقيدتكم الفاسدة وتشؤمكم لا دعوتنا إياكم إلى الله تعالى وتوحيده فإنها غاية خير ويمن وبركة (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي لو وعظتم فجزاء الواعظ الناصح لكم هو التهديد (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي ليس فينا ما يوجب التشاؤم بنا ولكنّكم متجاوزون عن حدّ الشرع والشريعة والعقل.

٢٠ ـ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ...) وهو حبيب النجار المعروف بمؤمن آل يس جاء من أبعد مكان في المدينة راكضا. (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) أي نادى أهل بلده وطلب منهم الإقرار برسالة رسل الله هؤلاء إليهم وتصديقهم.

٢١ ـ (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ...) أي على النصح والهدى وتبليغ الرّسالة. (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق سالكون سبيله.

٢٢ ـ (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ...) إلخ أي لم لا أعتقد بوحدانيّة الخالق ولا أعبد الذي خلقني وجاء بي من العدم إلى الوجود وإليه تردون عند البعث فيجازيكم على كفركم.

٢٣ ـ (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...) أي هل ينبغي لي أن أترك من هو خالقي ورازقي وأتّخذ الأوثان آلهة لي (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أي لو أراد من الذي بيده الرحمة العامة أن يضرّني بكيفيّة خاصّة لا تنفعني شفاعة أبدا (وَلا يُنْقِذُونِ) أي أن الأصنام لا يقدرون على خلاصي من ذلك الضرر أو الهلاك.

٢٤ و ٢٥ ـ (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ...) أي لو عبدت الأصنام وهي جمادات وعدلت عن عبادة الله القادر القاهر أكون في بعد واضح عن الحق. (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) قيل إنه توجّه إلى قومه بهذه الخطابة نصحا وعظة لهم ، لكنهم عدوا عليه فقتلوه.

٢٦ و ٢٧ ـ (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ...) أي قال له الملائكة بأمر من الله تعالى لما قتلوه : ادخل الجنّة ، (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي تمنى أن يعلم قومه بما أعطاه الله من المغفرة وجزيل الثواب ليؤمنوا فينالوا ذلك. (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) أي من المدخلين الجنة وهو غاية الإكرام والتعظيم.

٤٤٦

٢٨ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ ...) أي على قوم حبيب النجار بعد قتله أو رفعه إلى السماء على ما قيل. (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) أي من الملائكة لإهلاك قومه (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي ما صحّ في حكمتنا أن ننزّل الملائكة لإهلاك الكفرة.

٢٩ ـ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ...) أي ما كانت العقوبة المفنية إلّا صيحة واحدة صاح بهم جبرائيل (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) مهلكون ميّتون.

٣٠ ـ (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ...) إلخ أي يا أسفاه عليهم في الآخرة حيث ظلموا أنفسهم بتكذيبهم كل رسول جاءهم من عند الله وكانوا منه يسخرون.

٣١ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ ...) إلخ أي ألم يعلم هؤلاء الكفار كم أمة من الأمم السابقة عليهم أهلكناهم كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) أي إنّ الهالكين لا يرجعون إلى أهل مكة ولا إلى الدنيا يعودون ، فلما ذا لا يعتبرون من الماضين؟

٣٢ ـ (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ...) المعنى أنّ الأمم يوم القيامة ، من الماضين والباقين ، مبعوثون للحساب وجزاء الأعمال.

٣٣ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ ...) أي هذه حجة قاطعة لهم على قدرتنا على بعثهم ، وهي الأرض المجدبة اليابسة (أَحْيَيْناها) بإنبات نباتها (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) كالحنطة والشعير وغيرهما مما يؤكل (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي من الحب.

٣٤ ـ (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ...) أي بساتين من أنواعهما ، وخصّا بالذّكر لكثرة منافعهما (وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) أي فجّرنا في تلك الأرض الميتة أو البساتين عيونا من الماء للشرب والري.

٣٥ ـ (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ...) بيّن سبحانه أنّه إنّما فعل ذلك للأكل من ثمر النخيل. (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) منه كالدّبس والعصير والخلّ ونحوها (أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) الاستفهام إنكار لترك الشكر أي : فليشكروا نعم المنعم تعالى.

٣٦ ـ (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ ...) أي الأصناف والأنواع والأشكال (كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من أزواج النبات والأشجار (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) من الذكور والإناث. (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي وأزواجا ممّا لم يروها ولم يسمعوا بها لأنها في بطون الأرض أو أعماق البحار وغير ذلك.

٣٧ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ...) أي دلالة أخري لهم على كمال قدرتنا مضافا إلى خلق اللّيل والنهار ، هي أنّا نستلّ من اللّيل النّهار بأن نخرج ضوء الشمس فيبقى الهواء مظلما لأنه سبحانه يضيء الهواء بضوء الشمس (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي أن الناس داخلون في ظلام الليل.

٣٨ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ...) أي آية أخرى لهم هي الشمس التي تجري لحدّ لها موقت بقدر تنتهي إليه من فلكها آخر السنة. أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي جري الشمس لمستقرّها مقرّر وثابت من عند الله الغالب بقدرته المحيط بعلمه.

٣٩ ـ (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ...) هي ثمانية وعشرون منزلا ينزل كل يوم وليلة منزلا منها لا يختلف حاله إلى أن يقطع الفلك (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي حتى يعود في آخر الشهر دقيقا كالعذق اليابس العتيق ويكون معوجّا.

٤٠ ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها ...) أي لا يصحّ ولا يتأتّى (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سرعة سيره لإخلال ذلك بالنظام الأحسن ، فإن القمر أسرع سيرا من الشمس إضافة إلى أن فلكيهما متباينان. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا يسبق الليل النهار ولا يجتمعان فيكون ليلتان ليس بينهما يوم بل يتعاقبان. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) السباحة هي السير والحركة الانبساطيّة الطبيعية أي أن الشمس والقمر والنجوم في مدارها وفي أفلاكها تسير بانبساط وسهولة ، وكلّ من انبسط في شيء فقد سبح فيه.

٤٤٧

٤١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ ...) أي حجّة وعلامة لهم على كمال اقتدارنا أنّا حملنا آباءهم وأجدادهم بواسطة سفينة نوح ونجّيناهم من الغرق (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي المملوءة من الناس وما يحتاجون إليه أثناء بقائهم فيها.

٤٢ ـ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ...) أي خلقنا للناس من أهل مكّة وغيرهم سفنا مثل سفينة نوح يركبون فيها. وقيل مثل السفينة من الإبل والدواب.

٤٣ و ٤٤ ـ (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ...) أي لا مغيث لهم (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي لا ينجون من الموت لو أردنا أن نهلكهم (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي لا ينقذون من الغرق إلا أن تشملهم العناية الرّحمانية منّا ونمتعهم إلى حين حلول آجالهم المضروبة لهم.

٤٥ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ...) أي وقائع الأمم الماضية (وَما خَلْفَكُمْ) أي أمر الساعة أو ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخّر (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي برجاء أن تشملكم رحمة الله.

٤٦ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ...) أي من حجة وبرهان على صدق ما يدّعيه الرّسول (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ ، إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) عن التفكّر في تلك الحجج والمعجزات.

٤٧ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ...) أي من ماله على خلقه المحاويج (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) هذا القول إيهام بأنّ الله لما كان قادرا على أن يطعمهم فلم يطعمهم ، فنحن أحقّ بأن لا نطعمهم أيضا وإنما قالوه للتهرب من دفع الحقوق المالية التي جعلها الله للفقراء في أموال الأغنياء.

٤٨ إلى ٥٠ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) إلخ. متى يتحقق الوعد بالبعث إذا كنتم صادقين في قولكم؟ (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) ما ينتظرون ، وما يمهلون إلّا أن تأخذهم الصيحة الواحدة (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) يتنازعون في أمورهم ومعاملاتهم في غفلة عنها ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) بشيء (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي لا يعودون من أماكن تواجدهم.

٥١ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) أي مرّة ثانية للبعث (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي من قبورهم يسرعون إلى الموضع الذي يحكم الله فيه ولا حكم لغيره هناك.

٥٢ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ...) الكفرة منهم قالوا يا هلاكنا من حشرنا من منامنا الذي كنا فيه نياما (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي هذا وعد الله على لسان رسله الذين صدقونا فيما أخبرونا عن هذا البعث.

٥٣ ـ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ...) أي ما كان بعثهم إلّا بصيحة واحدة ، وهي النفخة الأخيرة (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي فإذا الأولون والآخرون مجموعون في موقف الحساب يوم القيامة بلا فاصل بين النفخ في الصور والحضور.

٥٤ ـ (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ...) أي لا ينقص من ثواب المثاب شيء ، ولا يزاد على عقاب المعاقب من مقدار استحقاقه شيء ، (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاؤكم على طبق أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

٤٤٨

٥٥ ـ (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) إلخ. أي الذين كانوا من أهل الجنة ودخولها فهم في ذلك اليوم مشغولون بنعيمها الذي غمرهم بسروره عما فيه أهل النار من العذاب.

٥٦ ـ (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ ...) أي هم وحلائلهم لا يصيبهم حرّ الشمس لأنهم يكونون في ظلال أشجار الجنة. وقيل في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم. (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي على السّرر المزيّنة في الحجال ، وقيل هي الوسائد.

٥٧ ـ (لَهُمْ فِيها ...) أي في الجنة (فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي ما يتمنّونه ويشتهونه.

٥٨ ـ (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ...) أي لهم سلام من ربهم هو أن يقول قولا منه سبحانه وهو الرحيم بهم يسمعونه فيبشرهم بدوام نعيمهم وأمنهم. وقيل : سلامه تعالى عليهم يكون بواسطة الملائكة.

٥٩ ـ (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ...) أي انفصلوا أيّها الكفرة العصاة عن المؤمنين وذلك عند اختلاطهم بهم في المحشر.

٦٠ و ٦١ ـ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ...) إلخ. أي ألم أنهكم على ألسنة الرسل أن لا تطيعوا الشيطان فيما يأمركم به وينهاكم عنه؟ (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة لكم (وَأَنِ اعْبُدُونِي) قوموا بعبادتي. (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فوصف عبادته بأنه طريق مستقيم لأنه طريق إلى الجنة.

٦٢ ـ (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ...) أي جرّ إلى الكفر والضلال منكم أيها الناس خلقا كثيرا بأن زيّنها لهم وأغواهم. (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟) استفهام للإنكار أي ألم تتعقّلوا أنّه يغويكم ويصدّكم عن الحق ويضلكم فتحجموا عن طاعته.

٦٣ و ٦٤ ـ (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ...) أي توعدون بها على ألسنة الرّسل في دار التكليف فها هي أمامكم (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) احترقوا بها ، أو التزموا عذابها (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم وتكذيبكم رسلنا.

٦٥ ـ (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ...) يحتمل قويّا أن لا يكون المراد من الختم هو المعنى المعروف المشهور بين الناس ، بل المراد به هو نتيجة الختم بأن يقيم هو تعالى الحجج عليهم. بحيث لا يقدرون على ردّها ويعجزون عن الجواب (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ) إلخ. معترفة بما استعملوها فيه من ظلم ومعاصي ، والنتيجة أننا نستنطق الأعضاء التي كانت لا تنطق في الدنيا لتشهد عليهم ونختم على أفواههم التي عهد النطق منها.

٦٦ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ ...) أي لو أردنا لأعميناهم عن الهدى. أو لتركناهم عميانا بعد أن سلبناهم حاسة الإبصار. (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي فاستطرقوا الطريق التي كانت معتادة لهم. أو طلبوا طريق الحق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) فكيف يبصرون بعد ذلك طريق الهدى أو الطريق التي اعتادوا سلوكها؟

٦٧ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ ...) أي ولو أردنا لمسخناهم قردة وخنازير أو حجارة بتغيير صورهم وإبطال قواهم في مكانهم الذي هم جالسون فيه (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء ولا حركة.

٦٨ ـ (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ...) أي من نجعله ذا عمر طويل (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نردّه إلى ما خرج منه من انتقاص بنيته وضعف قوّته الظاهرية والباطنيّة (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أفلا يتدبرون فيدركوا أن من قدر على ذلك فهو قادر على الطّمس والمسخ.

٦٩ و ٧٠ ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ...) يعني ما أعطينا محمدا العلم بالشعر ونظمه الشعر بتعليم القرآن ، وليس ما أنزلناه عليه من صناعة الشعر في شيء ممّا يتوخّاه الشعراء من التخيّلات المرغّبة والمنفّرة ونحوهما ممّا لا حقيقة له ولا أصل بل هو تمويه محض (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي لا ينبغي للنبيّ (ص) الصّناعة الشعريّة أو للقرآن أن يكون شعرا ، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي الذي أنزلناه على محمد ما هو إلّا نصح وعظة متضمنا أحكام الله من حلاله وحرامه. (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي مبيّن للأحكام والبراهين الدالّة على وجود الصّانع وتوحيده (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي لينذر القرآن أو النبيّ من كان مؤمنا حيّ القلب (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي يجب ويلزم الوعيد بالعذاب عليهم.

٤٤٩

٧١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ ...) إلخ. أي ألم يعلموا انا أنشأنا لمنافعهم مما ولينا خلقه بأيدينا من غير معين البقر والإبل والغنم (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) يتصرّفون فيها وهم قاهرون لها ولولا خلقنا لها لما حصلوا عليها ولا على شيء من منافعها.

٧٢ ـ (وَذَلَّلْناها لَهُمْ ...) أي صيّرناها منقادة ومسخّرة لهم غير نافرة ، مع ضعف الإنسان وكمال قوتها. (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) إلخ. أي منها ما هو للركوب وحمل الأثقال. ومنها ما يذبح فيؤكل لحمه.

٧٣ ـ (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ ...) فمن منافعها لبس أوبارها وأصوافها وأشعارها والاكتساب بها وبجلودها ومنها شرب ألبانها وأكل لحومها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ألا يشكرون المنعم على هذه النّعم.

٧٤ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً ...) يعبدونها فوضعوا الشّرك مكان الشّكر ، (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي لكي ينصروهم من عذاب الله.

٧٥ ـ (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ...) أي هذه الآلهة التي عبدوها لا تقدر على الدفع عنهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي إن الآلهة مع العبدة في النار محضرون فلا الجند يدفعون عنها الإحراق ولا هي تدفع عنهم العذاب.

٧٦ ـ (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ...) في تكذيبهم لك بشتى الأساليب. (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي علمنا محيط بما في ضمائرهم وما يظهرون بألسنتهم فنجازيهم على كل ذلك.

٧٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ ...) أي ألم يعلم أنّا خلقناه (مِنْ نُطْفَةٍ) أي من ماء حقير مستقذر (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي ناطق عالم بليغ يجادل في البعث والنشر وينكره فهو مخاصم ذو بيان.

٧٨ ـ (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ...) أي بيّن لنا في إنكار البعث مثلا بالعظم البالي وفتّته بيده وتعجّب ممّن يقول إنّ الله يحييه بعد فنائه وترك النظر في بدء خلق نفسه هو وانه كان من نطفة. (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي بالية ، فقد نسي أنّنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا وهذا بنظرهم أصعب من إعادتهم.

٧٩ ـ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) أي قل لهم يا محمد : بأن الذي أنشأها وأوجدها من العدم إلى عالم الوجود فإنّ قدرته باقية على إعادته بعد تفرّق أجزائه. (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي عالم وقادر على خلق الأشياء بتفاصيلها وكيفيّة إيجادها أوّلا وآخرا.

٨٠ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ...) إلخ. أي الذي يقدر على إعادة الأجسام على صورها وهيآتها بعد تمزقها هو القادر على أمر أعجب منها إذ يخرج من الشجر الأخضر المطفئ للنار نارا محرقة مع مضادة النار للرطوبة.

٨١ ـ (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ...) إلخ. هذا الاستفهام معناه التقرير ، يعني من قدر على إيجاد السموات والأرض وإبداعهما مع عظمهما وكبر جرمهما وكثرة أجزائهما ، يقدر على إعادة خلق البشر (بَلى) أي نعم يقدر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي كثير الخلق وكثير العلم.

٨٢ ـ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً ...) أي إنما شأنه حينما يقصد إحداث شيء وإبداعه (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بمجرّد هذه الإرادة ، فإذا بهذا الشيء متكوّن وموجود بلا حاجة إلى قول كن أي أن هناك ملازمة بين إرادته تعالى ووجود المراد وحدوثه دون حاجة إلى أيّ شيء.

٨٣ ـ (فَسُبْحانَ الَّذِي ...) أي منزّه عن نفي قدرته على إعادة المخلوقات (بِيَدِهِ) أي بقدرته (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي حقيقة كل شيء أو ملك كل شيء ملكه وسلطانه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تردون يوم القيامة وفيه وعد للموحّدين ووعيد للمنكرين.

٤٥٠

سورة الصّافّات

مكية ، عدد آياتها ١٨٢ آية

١ إلى ٥ ـ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ...) الصّافات صفّا ، أي الملائكة تصطفّ في العبادة في السماوات كصفوف المؤمنين للصّلاة في الأرض ، أو المراد مطلق نفوس الصّافين في الصلاة أو الدّعاء إلى الله أو في الجهاد. (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) أي الملائكة تزجر الخلق عن المعاصي أو الملائكة الموكّلة بالسّحاب تزجره وتسوقه وغير ذلك أو الملائكة يزجرون المردة من الشياطين عن التعرّض لبني آدم بالشرّ (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) أي الملائكة تقرأ كتب الله ، والذكر الذي ينزل على الموحى إليه ، أو جماعة قرّاء القرآن من المؤمنين يتلونه في الصّلاة. فقد أقسم الله بكل هذه الأمور (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) لا شريك له. في الوجود أو الذات أو الصفات. وهذه الجملة جواب للقسم ، (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومدبرهما والمتصرف فيهما. (وَما بَيْنَهُما) من سائر المخلوقات الحيوانية والنباتية والجمادية. (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي مشارق الشمس فإن لها في كل يوم مشرقا ، أو لكلّ النيّرات. ولم يذكر المغارب لأن الشروق قبل الغروب.

٦ ـ (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا ...) أي حسّنا الكرة التي هي أقرب الكرات منكم. وإنما خصّت بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) قيل المراد من الزينة الناشئة من الكواكب هي ضوؤها وحسنها.

٧ إلى ١٠ ـ (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ...) أي وحفظناها من دنو كل شيطان خبيث متمرد (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي لكيلا يسترقوا السمع إلى الكتبة من الملائكة في السماء أو كلام الملائكة مطلقا. (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون بالشّهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء (دُحُوراً) أي طردا شديدا (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي للشّياطين عذاب دائم في الآخرة. (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من الاستماع. والتقدير لا يستمعون إلى الملائكة ، إلا من اختلس كلام الملائكة واستلب بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي فتعقبه وأصابته نار مضيئة محرقة.

١١ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ...) أي اسألهم تقريرا لهم هل هم أقوى خلقا (أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي قبلهم من الأمم الماضية والقرون السّالفة الذين أهلكناهم بالعذاب. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إن أجابوا بأننا أقوى فأخبرهم بأنا قد خلقناهم من طين يلتصق باليد لو مسته فأين وجه الأقوائية؟

١٢ ـ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ...) أي تتعجّب يا محمد من إنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك منهم.

١٣ ـ (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ...) أي وإذا وعظوا بالقرآن أو خوّفوا بالله لا يتذكرون ولا يتّعظون.

١٤ إلى ١٩ ـ (وَإِذا رَأَوْا آيَةً ...) أي إذا شاهدوا معجزة تدلّ على صدق القائل بالبعث والحشر (يَسْتَسْخِرُونَ) يهزأون ويبالغون في السخرية والاستهزاء بها (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وصفوا تلك الآية بأنها سحر ظاهر (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) إلخ. أي كيف نبعث احياء بعد ما صرنا ترابا وعظامنا بالية (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) هل إنّ آباءنا لمبعوثون بعد طول مدّة موتهم وفنائهم؟ (قُلْ) يا محمد (نَعَمْ) ستبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي ذليلون أشدّ الذّلة (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي البعثة ليست إلّا بعد صيحة واحدة وهي النفخة الثانية ، (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي يصرف الصّيحة إذا هم قيام من مراقدهم حاضرون في المحشر ينتظرون ما يفعل بهم ، أو يبصرون البعث الذي جحدوه في الدنيا.

٢٠ ـ (وَقالُوا يا وَيْلَنا) من العذاب ، وهذه كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة (هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي : يوم الحساب ويوم المجازاة الذي كنّا نكذّب به ، فيعترفون بعصيانهم واستحقاقهم بما كان الرسل يوعدون به.

٢١ ـ (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ...) أي يوم الحكم والقضاء بين المحسن والمسيء والحق والباطل الذي كنتم أيها الكافرون تجحدون به وتنكرونه.

٢٢ و ٢٣ ـ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي يقول الله للملائكة : اجمعوا الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك والمعاصي (وَأَزْواجَهُمْ) أي

٤٥١

أشياعهم ، أو المراد أشباههم فالزناة مع الزناة وهكذا. (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي احشروا العابد والمعبود من الأوثان ونحوها (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) دلّوهم على طريق جهنّم.

٢٤ ـ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ...) أي احبسوهم في الموقف يعني قبل دخولها فإنهم لا بدّ وأن يسألوا عن عقائدهم وأعمالهم.

٢٥ ـ (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ...) أي لم لا ينصر بعضكم بعضا بالتّخليص من العذاب.

٢٦ ـ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ...) أي منقادون بلا مقاومة لعجزهم وذلّهم.

٢٧ و ٢٨ ـ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ...) أي يسأل بعضهم بعضا فيقبل المضلّل على المضلّل له فيقول : لم اغويتني؟ ويقبل المضلّل على المضلّل فيقول له : لم قبلت مني؟ فيجيب المضلّلون الذين اضلّوهم : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي من جهة النصيحة واليمن ولذلك أقررنا لكم. والعرب تتيمن بما جاء من اليمين.

٢٩ ـ (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ...) الظاهر أن الجملة من المتبوعين والرؤساء فإنهم أجابوا التابعين بقولهم : ليس الأمر كما تزعمون بل لم تكونوا مؤمنين من أوّل الأمر حتى نكون نحن ممّن يضلكم فإن الأنبياء كلما كانوا يدعونكم إلى الهدى كنتم تكذبونهم.

٣٠ و ٣١ ـ (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ...) أي لم تكن لنا قوّة وقدرة حتى نجبركم ونكرهكم على ما كنتم عليه من الضّلال (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) متجاوزين عن الحدود المقرّرة من الله ورسوله فلا لوم ولا عتاب علينا فقط بل عليكم وعلينا الإثم بما فعلنا (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) أي وجب علينا عذابه وثبت (إِنَّا لَذائِقُونَ) العذاب أي ندركه كما يدرك المطعوم بالذوق.

٣٢ ـ (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ...) أي لمّا كنّا في الضلالة أحببنا أن تكونوا مثلنا فأغويناكم أي دعوناكم إلى الغيّ فأجبتمونا بلا إكراه.

٣٣ ـ (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ...) يعني أن الأتباع والمتبوعين مجتمعون في العذاب.

٣٤ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ...) أي بمثل ما ذكرناه نعذب المشركين الذين فعلوا المعاصي.

٣٥ و ٣٦ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ...) أي إذا أمرهم النبيّ بكلمة التوحيد (يَسْتَكْبِرُونَ) فلا يجيبونه تكبرا وعنادا (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا) أي كيف نترك عبادة آلهتنا وأصنامنا (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون به النبيّ (ص).

٣٧ ـ (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ...) يعني ليس محمد بشاعر ولا مجنون كما تزعمونه بل جاء بما تقبله العقول من الدين والكتاب وحقق ما جاء به الرسل من بشاراتهم بدين الإسلام ونبيه (ص). أو أنه أتى بمثل ما أتوا به من الدعوة إلى التوحيد.

٣٨ ـ (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ...) التفات إلى الخطاب لاهتمامه بمقالته سبحانه لهم ، يعني أنتم أيها المشركون لذائقو العذاب الشديد للشّرك وتكذيب الرسول ونسبته إلى الجنون والشعر.

٣٩ ـ (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ...) أي جزاؤكم على قدر أعمالكم كمّا وكيفا.

٤٠ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ...) استثناء منقطع ، أي لكن عباد الله الذين أخلصوا عباداتهم له تعالى وأطاعوه فإنهم لا يذوقون العذاب.

٤١ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ...) أي للمخلصين في الجنّة أعدّ رزق معلوم من حيث الوقت أو الخصائص الأخرى.

٤٢ ـ (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ...) أي أرزاق أهل الجنة منحصرة في الفواكه بأقسامها وأنواعها يتفكّهون بها ويتنعّمون بالتصرّف فيها كيف يشاءون في حال كونهم معظمين مبجلين.

٤٣ و ٤٤ ـ (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ...) أي منازلهم ومستقرّهم في بساتين فيها أنواع النعم يتنعمون بها. (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي متواجهين يستمتع بعضهم بالنظر إلى الآخر فلا يرى قفاه أبدا.

٤٥ ـ (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ...) فالحور العين ، وغلمان الجنّة يدورون عليهم بكؤوس فيها خمر يجري أنهارا ظاهرة العيون.

٤٦ و ٤٧ ـ (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ...) أي تلك الخمرة في نهاية الصفاء والرقة واللطافة وهي لذيذة لهم ، (لا فِيها غَوْلٌ) هي خالية من المفاسد كإذهاب العقل والصداع وألم البطن إلخ. كما هو الحال في خمر الدنيا. (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي يسكرون.

٤٨ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ ...) أي تلك الزّوجات يحبسن نظرهنّ على أزواجهنّ ولا ينظرن إلى غيرهم لحبهن لهم. (عِينٌ) أي واسعات العيون لحسنها ، أو المراد هو الأعين التي بياضها شديد

٤٥٢

كسوادها.

٤٩ ـ (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ...) مكنون يعني مصون عن الغبار والكدورة وعن كلّ آفة. وتشبّه الجارية بالبيض : بياضا وملامسة وصفاء لون ، لأنّه أحسن الألوان للبدن.

٥٠ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ...) أي أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم منذ بعثهم إلى وقت دخولهم الجنة. أو منذ حياتهم الدنيا مرورا بعالم البرزخ وصولا إلى القيامة والجنة.

٥١ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ...) أي يقصّ واحد منهم على الجلساء حكاية فيقول : كان لي في الدنيا صاحب منكر للبعث وكان (يَقُولُ) لي توبيخا :

٥٢ ـ (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ ...) أي أأنت تصدّق الحشر وتقبل الحساب والثواب والعقاب.

٥٣ ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ...) أي بعد ما نصير بالموت ترابا وتصير عظامنا رفاتا (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي نحيا ونحشر ونحاسب ونجازى على أعمالنا؟

٥٤ ـ (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ ...) أي أنّ الذي يقصّ على جلسائه يسألهم قائلا : هل أنتم مطلعون على موضع من الجنة لأريكم هذا الصاحب في النار؟ وهل في الجنّة موضع يرى منه أهل النار لأريكم ذلك القرين؟ يفتح لهم كوّة من الجنّة نحو النار ليرى هذا المؤمن قرينة فيقال له : انظر إلى قرينك وجليسك المنكر للبعث والجزاء.

٥٥ ـ (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ...) أي أشرف من في الجنة على أهل الجحيم فرأى جليسه في وسط النار.

٥٦ ـ (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ...) يعني قال القائل بعد ما اطّلع على حال قرينة مخاطبا له تالله قد كان قريبا أن تهلكني بالإغواء وتجعل حالي كحالك.

٥٧ ـ (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ...) أي لو لم يشملني لطفه تعالى بالهداية والعصمة لي لكنت أنا معك في النار.

٥٨ و ٥٩ ـ (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) في أكثر التفاسير أنّ هذا الكلام من مقالات أهل الجنة فيما بينهم فقولهم (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) يعني أنحن مخلّدون هنا ولن نموت بعد (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي في الدنيا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على الكفر السّابق قبل الإيمان؟ وفي بعض الأقوال أن هذا من تتمة كلام ذلك الجليس في الجنة تقريعا لصاحبه الدنيوية الذي هو من أهل النار.

٦٠ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ...) أي النعمة والخلود في الجنة هو النجاح الكبير.

٦١ ـ (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ...) أي لمثل هذه النعم التي ذكرناها ينبغي أن يعمل العاملون في دار الدّنيا.

٦٢ ـ (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ...) أي هل ما ذكر من الرّزق المعلوم وسائر النّعم التي أعدّت لنزلاء منازل الجنة أفضل أم نزل أهل النّار وهو الزّقّوم الذي هو ثمر شجرة كريه شديد الكراهة شاق مع أنّه لا خير فيه؟

٦٣ ـ (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ...) أي اختبارا لهم في الدّنيا حيث إنهم كذّبوا نبيّنا لمّا سمعوا بأن في الجحيم شجرة الزّقوم حيث أنكروا وجود مثل هذه الشجرة فيما عندهم.

٦٤ ـ (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ...) أي منبتها في قعر جهنّم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

٦٥ ـ (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ...) أي ثمر الشجرة شبيه برؤوس الشياطين في الكبر أو في التشويه وتناهي القبح والكراهة في الصورة.

٦٦ ـ (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ...) أي أن طعام أهل النار من ثمرة تلك الشجرة يملئون منها بطونهم من شدّة الجوع.

٦٧ ـ (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها ...) أي أنّ لأهل النار بعد أكل ثمرة الزقّوم وعطشهم الشديد (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي من ماء حارّ في غاية الحرارة مخلوط بغسّاق أو صديد يقطّع أمعاءهم.

٦٨ ـ (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ...) أي بعد الأكل والشرب يردّونهم إلى الجحيم.

٦٩ ـ (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ...) أي وجدوهم على الضّلالة والكفر.

٧٠ ـ (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ...) أي يقلّدونهم في الضلال ويتبعونهم فيه بسرعة.

٧١ ـ (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ...) أي قبل هؤلاء الذين هم في عصرك من المشركين الذين كذّبوك ، ضلّ أكثر الأمم السّالفة.

٧٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ...) أي الأنبياء والرّسل خوّفوهم ووعظوهم فما خافوا وما اتّعظوا.

٧٣ ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ...) أي انظر كيف أهلكناهم ، وماذا حلّ بهم من العذاب.

٧٤ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ...) أي

٤٥٣

الذين تنبّهوا بإنذارهم واتّعظوا بمواعظهم فأخلصوا دينهم لله فشملهم الله برحمته وخلّصهم من العذاب بلطفه.

٧٥ ـ (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ ...) أي حين آيس نوح من إيمان قومه دعانا لننصره (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فأجبناه أحسن الإجابة.

٧٦ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ...) أي وخلّصناه ومن معه في السفينة من الغم الشديد الذي كان يسببه له قومه.

٧٧ ـ (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ...) أي بعد الغرق. فالناس كلّهم من بنيه الثلاثة وهم : سام بن نوح ، وحام بن نوح ، ويافث بن نوح.

٧٨ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ...) أي أبقينا لنوح ذكرا جميلا وثناء عاليا في الأمم المتأخّرة عنه إلى يوم القيامة.

٧٩ ـ (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ...) أي تركنا على نوح التسليم والصّلوات إلى يوم القيامة في الأمم اللاحقة.

٨٠ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ...) أي مثل ما جزينا نوحا نفعل ونجزي كلّ من أحسن وفعل ما فعله نوح من الطّاعات وتجنّب المعاصي.

٨١ ـ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ...) أي أنّ نوحا منهم.

٨٢ ـ (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ...) أي كفرة قومه.

٨٣ ـ (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ...) أي من أتباع نوح إبراهيم أي أنه على منهاجه وسنته في اتباع الحق.

٨٤ ـ (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ...) أي حين صدّق وآمن به بقلب خالص من الشّرك بريء من المعاصي على ذلك عاش وعليه مات.

٨٥ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ...) حين رآهم يعبدون الأصنام قال لهم على نحو الاستهجان والتقريع (ما ذا تَعْبُدُونَ) أي أيّ شيء تعبدونه من دون خالقكم.

٨٦ ـ (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ...) الإفك هو أشنع الكذب ، أي هل تريدون عبادة آلهة غير الله للكذب والبهتان؟

٨٧ ـ (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ؟ ...) أي ما زعمكم وعقيدتكم بمن هو حقيق بالعبادة تأكلون رزقه وتعبدون غيره؟

٨٨ إلى ٩٠ ـ (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ...) أي بعد أن نظر في النجوم (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) مريض. وكان قومه يخافون العدوى ، (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي تركوه وحده هاربين خوفا من كون مرضه الطاعون وهو مرض سار.

٩١ و ٩٢ ـ (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ ...) أي مال على الأصنام التي كان قومه يدّعون انها آلهة خفية ومال عليهم سرّا وكان عندهم طعام صنعوه لها تقريبا إليها وتبركا بها (فَقالَ) إبراهيم (ع) للآلهة استهزاء : (أَلا تَأْكُلُونَ) من هذا الطعام اللذيذ؟ (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟) أي لم لا تجيبونني؟

٩٣ ـ (فَراغَ عَلَيْهِمْ ...) أي فمال عليهم مستخفيا. (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي أخذ يضربهم ضربا ويكسرها باليمين لأنها أقوى. وقيل : معنى باليمين ، بالقسم الذي كان اقسمه بقوله تالله لأكيدنّ أصنامكم.

٩٤ ـ (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ...) أي توجه إليه قومه بعد أن اطلعوا على ما فعل بأصنامهم وبعد أن اتهموه بتكسيرها قال لهم :

٩٥ ـ (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ ...) استفهام للإنكار ، أي كيف يصح عند عاقل أن يعبد لما يعمله بيده.

٩٦ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ...) أي الذي ينبغي أن يعبد ويخضع له هو الذي أوجدكم من العدم وأوجد الحجارة التي تعملون منها أصنامكم فكيف تتركون عبادته وتعبدون مصنوعاتكم؟ ٩٧ ـ (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً ...) قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجارة طوله في السّماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملأوه نارا وطرحوه فيه. وذلك قوله (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) في النار العظيمة.

٩٨ ـ (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً ...) أي أرادوا حيلة في هلاكه بأن رموه في النار بواسطة المنجنيق (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي أبطلنا تدبيرهم بأن صاروا مقهورين وجعلنا النار بردا وسلاما على إبراهيم.

٩٩ ـ (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي ...) إلى ما أمرني ربّي من الأمكنة المقدّسة. قيل هي بيت المقدس. (سَيَهْدِينِ) أي يهديني ربي إلى المكان الذي رضي لي المقام فيه. أو إلى طريق الجنة بطاعتي له وإيماني به.

١٠٠ ـ (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ...) أي أعطني بعض الصّالحين ، يريد الولد. لأن زوجته سارة كانت عقيما فوهبت له خادمتها هاجر فملكها.

١٠١ ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ...) أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بابن وقور غير مستعجل في الأمور قبل أوانها مع القدرة عليها.

١٠٢ ـ (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ...) أي بلغ الولد السنّ الذي يقدر على السعي في أمور والده معه ، يعني حدّ الشباب (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي فكّر في الأمر حتى ترى وتعرف رأيك

٤٥٤

ووظيفتك. (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي قال إسماعيل لأبيه نفّذ ما تؤمر به من قبل ربك (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي على أمره تعالى وبلائه الممتثلين لما يريد.

١٠٣ ـ (فَلَمَّا أَسْلَما ...) أي حين استسلما لأمر الله ، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صرعة على شقّه وهو أحد جانبي الجبهة ، فوقع جبينه على الأرض ، أو أكبّه على وجهه حسب طلبه كيلا يراه فيرقّ له ولما همّ بنحره جاءه النداء :

١٠٤ و ١٠٥ ـ (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ... قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ...) أي بالعزم على الإتيان بما كان تحت قدرتك من مقدّمات العمل. أو فعلت ما أمرت به في المنام (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا إبراهيم وابنه إسماعيل بالعفو عن الذبح نجزي كل من سلك طريقهما في انقياده لأمر الله.

١٠٦ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ...) أي ابتلاء إبراهيم هو امتحان ظاهر يميّز به المخلص من غيره.

١٠٧ ـ (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ...) أي دفعنا ذبح إسماعيل بذبح كبش أملح سمين كان يرتع ـ كما قيل ـ في رياض الجنّة.

١٠٨ و ١١١ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ...) إلخ. قد سبق بيان هذه الآية وما بعدها في قصّة نوح.

١١٢ ـ (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ...) أي بولادة إسحاق ولدا نبيّا من جملة الأنبياء المرسلين الصّالحين.

١١٣ ـ (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ...) أي وجعلنا فيما أعطيناهما من الخير ثابتا ناميا (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما) أي ومن أولادهما (مُحْسِنٌ) بالإيمان والطاعة. (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) بالكفر والعصيان بيّن الظلم.

١١٤ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ...) أي أنعمنا عليهما بأعظم النعم وهو النبوة وبكثير من النعم الأخرى الأخروية والدنيوية ومنها النجاة من آل فرعون وغيرها.

١١٥ ـ (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما ...) أي خلصنا موسى وهارون وباقي بني إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من استبعاد فرعون وقومه وقيل : من الغرق.

١١٦ ـ (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ...) أي القاهرين لفرعون وقومه بعد أن كانوا مقهورين لهم.

١١٧ ـ (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ...) أي التوراة التي هي في غاية الظهور ونهاية الاتضاح.

١١٨ إلى ١٢٢ ـ (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ...) أي أرشدناهما إلى الطّريق الموصل إلى الحقّ والحقيقة (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا لهما الثناء الجميل بأن قلنا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) ذلك أننا (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ف (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) وقد سبق تفسير مثل تلك الآيات فلا نكرّر تفسيرها.

١٢٣ ـ (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ...) لهداية الناس وهو إلياس بن ياسين بن ميشا بن فنخاص بن الغيران بن هارون أخي موسى ، بعث بعده. وقيل هو إدريس.

١٢٤ إلى ١٢٦ ـ (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟ ...) أي ألا تخافون الله أن تعبدوا غيره؟ (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي صنما اسمه بعل كان من ذهب وكانوا يعبدونه. وبعل بلغة أهل اليمن هو الرب. (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) أي وتتركون عبادة أحسن الصانعين والموجدين (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي الله الذي هو خالقكم وخالق من مضى من آبائكم ورازقكم ورازقهم فهو أولى بالعبادة وأحق.

٤٥٥

١٢٧ إلى ١٣٢ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ...) أي سنحضرهم في محضر الحساب لنذيقهم العذاب الذي لا نجير منه (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين صدّقوا دعوته من قومه (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) فأبقينا له الذّكر الحسن والثناء الجميل (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) يعني أننا أبقينا لإلياس في من بعده من الباقين سلاما على إلياسين. أي هذه الكلمة الطيبة. أمّا إلياسين فلغة في إلياس ، أو جمع له يراد هو ومن تبعه. وقرئ آل ياسين ، أي آل محمد (ص) (إِنَّا كَذلِكَ) إلخ. مر معناه. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) المصدقين الطائعين لنا.

١٣٣ إلى ١٣٥ ـ (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ...) لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم (ع) كان ممن أرسل إلى سدوم. (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) فاذكر يا محمد إذ خلّصناه ومن آمن معه من قومه من عذاب الاستئصال (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي في الباقين الذين اهلكوا ، وهي امرأته التي كانت كافرة.

١٣٦ ـ (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ...) قد مضى تفسيرها.

١٣٧ و ١٣٨ ـ (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ ...) يعني يا قريش أنتم في أسفاركم لا زلتم تمرّون عليهم وعلى منازلهم الخربة ليلا ونهارا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتفكرون في عاقبتهم فتعتبرون بهم.

١٣٩ إلى ١٤١ ـ (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ...) أي اذكر يا محمد يونس بن متّى الذي بعث إلى أهل نينوى من بلاد الموصل في العراق (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) حيث ترك من بعث إليهم من دون اذن من ربه إلى السّفينة المملوءة بالناس وبأمتعتهم. (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) : أي قارع مع ركاب السفينة على من يلقي بنفسه في الماء بعد أن كادوا يغرقون. فكان أنّ القرعة خرجت باسمه وقد خسرت صفقته فوقع في القرعة فقال : أنا الآبق ، ورمى بنفسه في البحر.

١٤٢ ـ (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ...) أي ابتلعه ويونس مستحق للّوم لوم العتاب لا لوم العقاب.

١٤٣ و ١٤٤ ـ (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ...) أي الذاكرين لله تعالى بالتسبيح أو غيره. (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم الحشر الأكبر.

١٤٥ ـ (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ ...) أي أمرنا الحوت بالخروج إلى ساحل البحر فرماه من بطنه إلى أرض عارية من الأشجار والنباتات (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي مريض.

١٤٦ ـ (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ...) أي أنشأنا شجرة الدّباء وغطّيناه بورقها العريض بعد إنباتها حتى لا يتأذّى من حرارة الشمس والذباب.

١٤٧ و ١٤٨ ـ (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ...) أي بعثناه إلى قوم كان عددهم لو نظر إليهم الناظر لقال هم مائة ألف أو أكثر. قيل : انهم أهل نينوى من أرض الموصل. فدعاهم إلى الله وتوحيده وعبادته (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي قبلوا منه وأجابوه فمتعناهم باللذات والمنافع الدنيوية إلى انقضاء آجالهم.

١٤٩ و ١٥٠ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ ...) أي اطلب يا محمد الحكم من مشركي العرب الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله وسلهم ما الوجه في إضافتكم البنات إلى الله واخترتم البنين لأنفسكم؟ (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) : أي حين خلق الله الملائكة هل رأوا خلقه لهم؟ والاستفهام للتوبيخ : أي كيف حكموا بأنوثية الملائكة مع انهم لم يشهدوا خلقهم؟

١٥١ و ١٥٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ...) أي من افترائهم (وَلَدَ اللهُ) عند ما زعموا أن الملائكة بناته (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما ينسبونه إليه تعالى.

١٥٣ ـ (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ...) استفهام إنكار ، أي ليس الأمر كما يزعمون ، فكيف يختار الله تعالى من هو الأدنى على الأعلى مع كونه مالكا حكيما.

٤٥٦

١٥٤ ـ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ ...) أي بأي برهان تقضون بأن لكم البنين ولله البنات.

١٥٥ ـ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ ...) أي أفلا تتنبّهون فتتعظوا بأنه سبحانه منزّه عن ذلك؟

١٥٦ و ١٥٧ ـ (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ...) أي هل عندكم برهان واضح نزل عليكم من السّماء بأن الملائكة بناته (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي أنزل إليكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم.

١٥٨ ـ (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ...) أي قال الكفرة إن بين الله وبين الجنّ نسبة المصاهرة (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) أي : إنّ المشركين (لَمُحْضَرُونَ) في يوم الحساب وأنّهم في النار. وقيل أريد بالجن الملائكة وسمى الملائكة جنة لاستتارهم عن العيون.

١٥٩ و ١٦٠ ـ (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ...) نزّه هو تعالى نفسه المقدّسة عمّا لا يليق به ممّا وصفه به الكافرون ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فاستثنى عباده الذين استخلصهم لنفسه من بين القائلين بما لا يليق به.

١٦١ إلى ١٦٣ ـ (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ...) أي أيّها الكفرة والذي تعبدونه (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) ما أنتم عن الله وعن دينه بمضلّين أحدا (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار فهو لا محالة يحترق في الجحيم بسوء اختياره.

١٦٤ إلى ١٦٦ ـ (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ...) يعني ليس لأحد منّا إلا وله بعبادته مكان متعيّن لا يتجاوزه ، وذلك على قدر مراتبنا ودرجاتنا علما ومعرفة وعملا ـ وهذا من الكلام الذي يجري على ألسنة الملائكة وقيل هو كلام جبرئيل للنبي (ص) (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي المصطفّون للصلاة وهي أعظم مصاديق الطاعة والخضوع له تعالى ومنازل الخدمة. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي المنزّهون الله تعالى عمّا لا يليق به.

١٦٧ و ١٦٨ و ١٦٩ ـ (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ ...) المقصودون هم كفّار مكة. والمعنى أنهم بالتأكيد كانوا يقولون قبل البعثة المباركة : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي يا ليت كنا نملك كتابا من كتب الأولين التي أنزلها على أنبيائه. (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصوا العبادة له تعالى ولم يشركوا به.

١٧٠ ـ (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ...) أي حين جاءهم محمد (ص) بالقرآن أعرضوا عمّا قالوا وأصرّوا على جحدهم وعنادهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم.

١٧١ إلى ١٧٣ ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا ...) إلخ. أي لقد تقدم منا الوعد لعبادنا الذين أرسلناهم إلى الخلق (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) على أعدائهم بالقهر والغلبة والحجج الظاهرة في الدنيا والآخرة (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي أن رسلنا ومن صدّقهم هم المنصورون لأنهم جندنا ، وأن جندنا هم الغالبون الذين يقهرون الكفار بالحجة تارة وبالفعل أخرى.

١٧٤ و ١٧٥ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ...) أي فأعرض عنهم إلى موعد الأمر بقتالهم وحصول وقت نصرك. وقيل هو يوم بدر ، وقيل يوم الفتح. (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي اجعلهم على بصيرة بضلالتهم وعمّا قريب يرون ما وعدناك به من النصر في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة.

١٧٦ و ١٧٧ ـ (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ...) أي هل يطلبون التعجيل في العذاب؟ (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي إذا حلّ بفنائهم بغتة (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) فلبئس الصّباح صباح الذين يحذّرون ولم يحذروا.

١٧٨ و ١٧٩ ـ (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ...) كرّر الآيتين تأكيدا لتسلية النبيّ (ص) ، ولتهديد قومه ، أو أن الأولى لعذاب الدنيا والثانية لعذاب الآخرة.

١٨٠ إلى ١٨٢ ـ (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ...) أي منزّه ربّك الذي هو ذو قوّة وغلبة ، (عَمَّا يَصِفُونَ) عمّا يقوله المشركون من اتّخاذ الأولاد والشريك (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) المبلّغين عن الله دينه (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما أفاض عليهم وعلى من اتّبعهم من النّعم.

٤٥٧

سورة ص

مكية ، عدد آياتها ٨٨ آية

١ ـ (ص ...) قيل هو اسم السورة ، وقيل غير ذلك. (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي وحقّ القرآن ذي الشرف ، وقيل ذي البيان الذي يؤدي إلى الحق.

٢ ـ (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ...) أي ليس في القرآن نقص ولا قصور ، بل الكافرون من أهل مكة في تكبر عن قبول الحق وحمية جاهلية وعداوة ومخالفة لأنهم يأنفون عن متابعتك.

٣ ـ (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ...) فقد دمّرنا الكثيرين قبلهم ممّن كفروا (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي نادوا باستغاثة وتضرّعوا حين نزول العذاب عليهم ولكن ليس الوقت وقت مفرّ وندامة وخلاص.

٤ ـ (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ...) أي تعجب الكافرون لمجيء رسول من أنفسهم مخوّف لهم من عقاب الله ومحذّر لهم من مخالفته ومعصيته (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) حينما زعم أنه مرسل من الله.

٥ ـ (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ...) أي بالغ في العجب مبلغا لا يتحمّل حين دعا إلى ربّ واحد مع أن الآلهة عندنا ثلاثمائة وستون صنما.

٦ ـ (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ...) أي خرج الأشراف من الكفار من مجلسهم عند أبي طالب (ع) يقول بعضهم لبعض : اثبتوا على آلهتكم واصبروا على دينكم وتحمّلوا المشاق في سبيله (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي هذا الذي يقوله محمد وزيادة أنصاره فيه ما هو إلا أمر يراد بنا.

٧ ـ (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ...) أي هذا التوحيد الذي أتى به محمد ما سمعناه في دين النّصارى وهو آخر الملل. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي كذب اختلقه واخترعه من عند نفسه ولا برهان له على دعواه.

٨ ـ (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ...) إنكار لاختصاصه بالوحي وهو منهم أو أدنى منهم في الرئاسة والسن وكثرة الثروة بحسب عقيدتهم الفاسدة. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي لا يدفعهم إلى ما يقولونه سوى الشك في كتابي الذي أنزلته على رسولي. (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي لن يتبدل شكهم هذا باليقين بصدق محمد (ص) وكون ما جاء به من عندي حقّا إلّا حين يذوقون عذابي لهم في النار.

٩ و ١٠ ـ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ...) هذه تتمّة الجواب عن إنكارهم نبوة محمد (ص) فقال سبحانه : أبأيديهم مفاتيح النبوّة والرّسالة التي هي من جملة محتويات خزائن رحمة الله فيضعونها حيث شاؤوا؟ يعني ليست خزائن الرحمة بأيديهم ولكنّها بيد (الْعَزِيزِ) الغالب (الْوَهَّابِ) الذي يعطي ما يشاء لمن يشاء (أَمْ لَهُمْ ...) إلخ. أي هل يملكون شؤون التصرف في السماوات والأرض وتدبير أمورهما فيتهيأ لهم أن يمنعوا الله من مراده (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) إن كانوا صادقين فيما زعموا فليصعدوا في المعارج التي يتوصّل بها إلى العرش فينزلوا الوحي على من يستصوبون.

١١ ـ (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ...) أي أنّهم من جملة الكفرة المتحزّبين على الرّسل في كلّ عصر ، وأنت يا محمد غالبهم ، فلا تبال بهم. وهذا الكلام إعجاز ، لأنه إخبار عما حصل فيما بعد في بدر أو الخندق أو فتح مكة حيث قطع الله دابرهم. فهو من الغيب.

١٢ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ ...) أي أن تكذيبك من قومك ليس بأمر جديد بديع ، بل كذّب قبل قومك قوم نوح نوحا وقوم عاد عادا وقوم كلّ نبيّ نبيّهم ، (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) في العلل عن الصّادق (ع) أنه سئل عن قوله تعالى وفرعون ذو الأوتاد ، لأيّ شيء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال : لأنه كان إذا عذّب رجلا بسطه على الأرض على وجهه ومدّ يديه ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض ثم تركه على حاله حتى يموت.

١٣ ـ (وَثَمُودُ) يعني قوم صالح. (وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي المتحزّبون على الرّسل ، الذين جعل سبحانه صفتهم أنهم الجند المهزوم ، أي وقومك منهم.

١٤ ـ (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي ما كل حزب منهم إلا كذب الرسل كأنهم لا عمل لهم إلا هذا. (فَحَقَّ عِقابِ) أي فوجب لذلك عقابي لهم.

١٥ ـ (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ ...) أي ما ينتظر قومك أو الأحزاب جميعا (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هي النفخة الأولى التي يموت الخلائق كلّهم بها. (ما لَها مِنْ فَواقٍ) أي ما لهم من موت

٤٥٨

بعدها أو من رجعة إلى الدّنيا ولو مقدار رجوع اللّبن إلى الضّرع وهو الفواق.

١٦ ـ (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ...) إلخ. أي قدّم لنا نصيبنا من العذاب في الدّنيا قبل يوم القيامة قالوه استهزاء بتخويف النبي (ص) لهم من عذاب الله.

١٧ ـ (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) أي اصبر يا محمد على التكذيب والاستخفاف بما جئتهم به (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) أي يا محمد بيّن لقومك قصّة عبدنا داود (ذَا الْأَيْدِ) أي صاحب القوّة على العبادة والاقتدار والنّعم الكثيرة ، (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي توّاب إلى مرضاة الله أو دعّاء له تعالى.

١٨ ـ (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ...) أي صيّرناها مأمورة بأمره فتسايره حيث سار (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي حين تغيب الشمس وحين تطلع وتسبيح الجبال يمكن أن يكون باعتبار أنه سبحانه قد خلق فيها التسبيح وما ذلك على الله بعزيز.

١٩ ـ (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ...) أي وسخّرنا له الطير مجموعة إليه تسبّح الله تعالى بتسبيحه. (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل الطير والجبال كانت رجّاعة إلى طاعته والتسبيح معه.

٢٠ ـ (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ...) أي قوّينا وأحكمنا سلطانه بالجنود والهيبة والأموال. (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوّة والإصابة في الأمور (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي العلم بالقضاء والفهم.

٢١ ـ (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ...) أي هل بلغك خبر المتخاصمين يا محمد فإن جبرائيل وميكائيل أتيا داود على صورة خصمين ومع كلّ واحد كان جمع من الملائكة (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي صعدوا سور الغرفة التي كان يتعبد فيها لا من بابها المتعارف.

٢٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ...) أي اذكر إذ نزلوا عليه من فوق الغرفة في يوم احتجابه (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) أي خاف منهم خوفا شديدا لأنه زعم أنهم أرادوا قتله ، ولأنهم دخلوا بلا إذن (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ) أي نحن فريقان متخاصمان جئنا لتقضي بيننا (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكومة ولا تجاوز الحق. (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي وسطه ، والمراد طريق العدل.

٢٣ ـ (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ...) النعجة هي الأنثى من الضّأن ، وقد يكنّى بها عن المرأة ، والحاصل أنّ المدعي بيّن ادّعاءه هذا وأشار إلى خصمه وأطلق عليه لفظ (أَخِي) بلحاظ الدّين أو الصداقة ، وبين له أنه شاركه في الخلطة وله تسع وتسعون نعجة (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) أي لا أملك إلا هذه النّعجة المفردة (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي اجعلها في كفالتي وتحت تصرّفي (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبني وأعجزني في القول.

٢٤ ـ (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ...) أي : إن كان الأمر على ما تدّعيه ، فقد ظلمك بضمّ نعجتك إلى نعاجه وكأنه (ع) حكم قبل أن يسمع كلام المدعى عليه. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء الذين يخلطون أموالهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي يظلمون ويطلبون زائدا على حقّهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) فإنهم لا يظلم بعضهم بعضا وهم الأقلية (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي علم أننا اختبرناه بهذه الحكومة والحكم بين المتخاصمين قبل أن يسأل المدّعي البيّنة وقبل أن يسمع الكلام من خصمه وقيل انه من الظن المتعارف. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي وقع ساجدا طالبا من الله الستر عليه ورجع إلى الله بالتوبة.

٢٥ ـ (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ...) إشارة إلى ترك المندوب والأولى ، فعدّ ترك الأولى ذنبا (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي إنّ لداود عندنا لمرتبة القرب والكرامة وحسن المرجع في الجنّة.

٢٦ ـ (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ...) أي لإقامة أمر الدّين وتدبير أمر الناس ، أو جعلناك خلف من مضى من الأنبياء في الدّعاء إلى توحيد الله وبيان شريعته (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي ضع الأشياء في مواضعها كما أمرناك (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) لا تحكم خلاف حكم الله طبقا لمزاجك. (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي إذا اتبعت مزاجك عدل بك عن الحق الذي هو طريق الله. (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ) إلخ. أي ينحرفون عن طريق الحق (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي بسبب نسيانهم إيّاه.

٤٥٩

٢٧ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ...) أي لا لغرض حكيم أصلا بل ابتدعناهما وما بينهما وما فيهما من إنسان وحيوان ونبات وجماد لأغراض عقلائية حكيمة. (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

٢٨ ـ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ. معناه بل أنجعل الّذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا بالطاعات كالعاملين بالمعاصي والكفر (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) والمعنى : أبل نجعل الذين اتقوا معاصي الله خوفا من عقابه كالذين عملوا بها وتركوا الطاعات. أي أن هذا لا يكون.

٢٩ ـ (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ ...) أي هذا كتاب نفّاع ذو خير كثير (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) يتأمّلوها ويتفكّر الناس فيها فيتّعظوا (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول الصافية والأفهام الثاقبة.

٣٠ ـ (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ...) أي أعطيناه إيّاه. (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إليه سبحانه فيما يرضيه من التوبة والذكر.

٣١ و ٣٢ ـ (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ ...) إلخ. أي اذكر يا محمد قصة سليمان حين عرض عليه في آخر النهار بعد زوال الشمس الخيل الواقفة على ثلاث قوائم الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض الجياد : السريعة العدو الواسعة الخطى. (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي آثرت حب الخيل. (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي على ذكر ربّي قيل بأنه صلاة العصر. (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ذكر الضمير بلا مرجع يذكر قبله لدلالة لفظ (بِالْعَشِيِ) عليه. والمراد بالمرجع هو الشّمس ، والمعنى استترت وراء الأفق.

٣٣ ـ (رُدُّوها عَلَيَّ ...) أمر الملائكة الموكّلين بردّ الشمس ، فردّت فصلّى ، كما ردت ليوشع وعليّ (ع) (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي جعل يمسح سوق الخيل وأعناقها بالسّيف وتصدّق بلحمها كفارة لتأخير وظيفة اليوم. أو المراد فجعل يمسح بيده سوقها وأعناقها على ما هي العبادة المشاهدة عند المعجبين بالخيل والمفتنين بها.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ...) أي اختبرناه وامتحنّاه (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) يحتمل أن يكون إلقاء هذا الجسد بيانا لشدّة محنته وابتلائه وما اختبره به ، فإنه (ع) كان يحب أن يكون له أولاد كثيرون يجاهدون في سبيل الله ، وكان عنده من النّساء ما شاء ، وكان يطوف عليهن طلبا للأولاد ولكنهنّ لم يلدن له ، إلّا امرأة واحدة جاءت بولد ميّت وألقته على كرسيّة ليشاهده (ع). فلما رآه انكسر قلبه بمقتضى الطبع البشريّ. وفزع وتأذّى بذلك. (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع إلى ربّه على وجه الانقطاع بعد يأسه من الولد أو بعد شهوده الجسد. وذكر في سبب ابتلائه أمور أخر كذهاب ملكه أربعين يوما من يده وغير ذلك.

٣٥ ـ (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ...) طلبه الغفران يحتمل أن يكون لحبّه الشديد للولد وتعلّقه الشديد به وحبه الأولاد ليجاهدوا في سبيله تعالى ، فإن الأنبياء حبهم لا بد وأن ينحصر به تعالى أو أنه من باب الخوف والخضوع والخشوع. (وَهَبْ لِي ...) إلخ. أي أعطني سلطانا ماديا ومعنويا لا يتأتى لمخلوق بعدي أبدا. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي المعطي بكرم وبلا عوض.

٣٦ ـ (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ ...) أي ذلّلناها لطاعته إجابة لدعوته (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) أي لينة طيبة سريعة مطيعة له (حَيْثُ أَصابَ) أي في كلّ مكان وزمان أراد وقصد.

٣٧ ـ (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ...) وسخّرنا له الشياطين الذين لهم صناعة البناء والغوص.

٣٨ ـ (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ...) أي مكبّلين ومشدودين في الأغلال ليكفّوا عن الشّر.

٣٩ ـ (هذا عَطاؤُنا ...) أي هذا الذي أعطيناك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي أعط منه من شئت وامنع عمّن شئت ، (بِغَيْرِ حِسابٍ) غير محاسب عليه.

٤٠ ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى ...) أي قرب المقام والرّتبة ، (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي له عندنا مرجع حسن ودرجات في جنّات النّعيم.

٤١ ـ (وَاذْكُرْ ...) يا محمد (عَبْدَنا أَيُّوبَ) شرفه سبحانه بأن أضافه إلى نفسه وكان أيوب ممّن خصّهم الله سبحانه بأنواع البلاء والمحن فذكر قصّته تسلية للنبيّ (ص) (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي حين دعا ربّه رافعا صوته انني أصابني الشيطان بتعب ومشقة ومكروه. وقيل : بوسوسة فيقول له الشيطان طال مرضك ولا يرحمك ربك.

٤٢ ـ (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ...) حكاية لما أجيب به ، أي اضرب برجل الأرض ، فضربها فانبعث عين فقيل (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ) أي ما تغتسل به (وَشَرابٌ) أي ما تشرب منه وهو بارد. فاغتسل (ع) وشرب فبرئ ظاهره وباطنه.

٤٦٠