إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

٨٥ ـ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ...) أي أوجب تلاوته وتبليغه وامتثال ما فيه من الأحكام عليك يا محمد ففيه مجاز في النسبة. (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) لمرجعك إلى مكة وهذا من الإخبار بالغيب الذي حصل بفتح مكة. وقيل : إن المراد بالمعاد الموت ، وقيل هو القيامة ، وقيل هو المحشر ، وقيل : هو المقام المحمود وهو موقف الشفاعة الكبرى ، وقيل : هو الجنة ، وقيل : هو بيت المقدس ، وهو على هذا الأخير وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في المعراج الأول. وقيل : هو الأمر المحبوب ، فيقبل الانطباق على جلّ هذه الأقوال أو كلها. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي قل يا محمد إن ربّي لا يخفى عليه المهتدي وما يستوجبه (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الضالّ الذي لا شك في ضلالته وفيما يستحقّه.

٨٦ ـ (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى ...) إلخ. أي ما كنت يا محمّد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ما ألقي إليك إلّا رحمة منه خصّك بها. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) معينا لهم بمداراتهم والتحمّل عنهم والإجابة لطلبتهم.

٨٧ ـ (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ ...) أي لا يصرفك الميل إلى الكفرة عن قراءة آيات الله والعمل بها بعد إنزالها إليك (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى توحيده وعبادته. وقد كرر صفة الرب مضافا إليه (ص) للدلالة على اختصاصه بالرحمة والنعمة وأنه (ص) متفرّد في عبادته لا يشاركه المشركون فيها. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بمساعدتهم والرّضا بطريقتهم.

٨٨ ـ (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) إلخ. أي لا تعبد معه غيره إذ لا معبود سواه وكل شيء فان إلا ذاته. وقيل : كل شيء هالك إلا ما قصد به وجهه فإن ذلك يبقى ثوابه. (لَهُ الْحُكْمُ) أي القضاء النافذ في الخلق (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء بالحق والعدل.

سورة العنكبوت

مكية ، عدد آياتها ٦٩ آية

١ ـ (الم ...) أشرنا سابقا إلى تفسير الحروف المقطّعة فلا نعيده.

٢ ـ (أَحَسِبَ النَّاسُ ...) أي أظنّ الناس (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فيهملوا ويخلّوا إذا قالوا إنّا مؤمنون فقط ، ولا يمتحنون بما تظهر به حقيقة إيمانهم؟

٣ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي اختبرناهم ، فهي سنّة جارية قديمة في الأمم كلّها (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي ليميّزن الله الذين صدّقوا من الذين كذّبوا بالجزاء والمكافأة.

٤ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ...) هذا استفهام منقطع عمّا قبله والمعنى : بل أحسب الذين يفعلون الكفر والقبائح (أَنْ يَسْبِقُونا) أن يفوتونا فوت السابق لغيره فلا نستطيع معاقبتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكمهم هذا.

٥ ـ (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ...) أي من كان يأمل الوصول إلى ثوابه ، أو يخاف عقابه (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الوقت الموقّت للقائه (لَآتٍ) أي لقادم ، (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بأفعالهم.

٦ ـ (وَمَنْ جاهَدَ ...) أي من حارب الشيطان بدفع وسوسته وإغوائه. ويحتمل من جاهد أعداء الدّين لإحيائه ، (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لأن نفعه يرجع إليها (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه.

٤٠١

٧ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا ... وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي ...) أي نجزيهم على أحسن عملهم بأحسن جزاء ، وبعد ذلك نجزيهم على أعمالهم الأخر التي دون العمل الأحسن طبق العمل الأحسن. ويتبين من ذلك أن عاقبة إيمانهم ونفعه يعود إليهم لا إلى الله سبحانه وأنه عطية من الله وفضل. وعلى هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الإيمان والعمل الصالح ، فإنها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة : ومن جاهد .. من قوله في هذه الآية : والذين آمنوا و... إلخ.

٨ و ٩ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ...) إلخ. أي أمرناه : افعل بهما حسنا وإذا دعياك وألحّا عليك (لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لتشرك بي في العبادة ما ليس لك ولا لأحد علم بإلهيّته وهذا تتميم للتوصية بخطاب شفاهي ، وإشارة إلى علة النهي عن الطاعة فإن دعوتهما إلى الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل ، وعبادة ما ليس له به علم افتراء على الله وقد نهى الله عن اتباع عدم العلم في كثير من الآيات. (فَلا تُطِعْهُما) إلخ. في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والصالحون من الناس ندخلهم يوم القيامة مع الصالحين.

١٠ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ... فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ ...) أي لدينه ، يعني لأخذه طريق الحق يؤذيه الكفرة (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) يعدّ عذاب الناس من المشركين (كَعَذابِ اللهِ) أي عذاب الناس يصير صارفا له عن إيمانه كما أن عذاب الله صارف لأهل الإيمان عن الكفر مع أن عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت ولا يقاس ذلك بعذاب الله المؤيد الذي يستتبع الهلاك الدائم. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) أي فتح وغنيمة (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) ولنا في الغنيمة مثلكم (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي يعلم الإخلاص والنفاق ويعلم الصدق والكذب.

١١ ـ (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي يعرف حقيقة ما في القلب لا باللّسان فقط (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

١٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ...) أي قال الكافرون للمؤمنين : كونوا على طريقتنا ، وإذا كان البعث والحساب والعقاب حقّا كما يقول محمّد فنحن نتحمّل ذنوبكم وهو سبحانه ردّهم وكذّبهم لأن قولهم : ولنحمل خطاياكم ، يشتمل على معنى ضمني ودعوى أن خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها وأن الله يجيز لهم ذلك. وبعد ذلك قال :

١٣ ـ (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ ...) إلخ. أي أنّهم تضاعف أثقالهم بحملهم أثقال من تبعهم وتسبّبوا في إضلاله من غير أن ينقص من أثقال تابعيهم شيء بسبب أنهم ضالّون مضلّون. فالآية في معنى قوله تعالى في سورة النحل : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) ، وبعد ذلك نسألهم بالتأكيد (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب لإضلال الناس.

١٤ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) يدعوهم إلى التوحيد والإيمان (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) فلم يؤمنوا به وأبوا أن يجيبوه ، (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) إلخ. أهلكهم بالغرق وهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم. والطوفان هو الماء الكثير الغامر لأنه يطوف بكثرته في نواحي الأرض. وقيل : هو كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام ، والغالب استعماله في طوفان الماء.

٤٠٢

١٥ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ...) أي أنجينا نوحا ومن ركب معه فيها. وهم أهله وعدة قليلة من المؤمنين به ولم يكونوا ظالمين. (وَجَعَلْناها) أي القصة أو الواقعة أو النجاة. (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي علامة للخلق من الأجيال اللاحقة بهم. يعتبرون بها.

١٦ ـ (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) إلخ. أي : اذكر يا محمد قصة إبراهيم إذ قال لقومه أطيعوا الله وخافوه بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاتّقاء والعبادة خير لكم من شرككم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما فيه خيركم.

١٧ ـ (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي غير الله (أَوْثاناً) جمادات تسمّونها أربابا والوثن : الصنم (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) تكذبون كذبا في تسميتهم آلهة والإفك : الأمر المصروف عن وجهه قولا أو فعلا. (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) لا يقدرون أن يرزقوكم شيئا ممّا تحتاجون إليه (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) العبادة ينبغي أن تختص بمن هو الرزاق ذو القوة المتين وهو الله (وَاشْكُرُوا لَهُ) إلخ. فإن الشكر قيد للنّعمة العاجلة وإليه تعودون يوم القيامة.

١٨ ـ (وَإِنْ تُكَذِّبُوا ...) أي محمدا (ص). وقيل بأنه خطاب لأمة إبراهيم (ع) (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلخ. أي كذبوا رسلهم ولم يضرّهم تكذيبهم وإنما ضرّوا أنفسهم. فكذا شركهم وتكذيبهم إيّاك يلحق ضرره بهم. ومعنى الشرط والجزاء في صدر الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه كالسنّة الجارية في الأمم المشركة وقد كذّب من قبلكم وأنتم منهم في آخرهم وليس عليّ بما أنا رسول إلا البلاغ الواضح.

١٩ و ٢٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا ...) إلخ. أي كفار مكة ألم يتفكروا كيف أنشأ الله الخلق من العدم ثم يعيدهم ثانية بعد أن يميتهم ويعدمهم (قُلْ) يا محمد لهم (سِيرُوا ...) إلخ. انظروا وابحثوا هل تجدون غير الله خالقا ابتدأ هذا الخلق فإذا لم تجدوا غيره لزمتكم الحجة في أنه سبحانه هو المعيد لأنه لا يعجزه شيء. (إِنَّ ذلِكَ) المذكور من الإبداء والإعادة (يَسِيرٌ) سهل على الله إذا أراده كان.

٢١ ـ (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ... وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ...) أي تردّون فيحاسبكم ويعذّب المستحقّ للعذاب ويرحم من يستحق الرحمة. وقيل : بأن قلب الشيء تحويله عن وجه لله أو حاله كجعل أسفله أعلاه ، وجعل باطنه ظاهره ، وهذا المعنى يناسب قوله تعالى في سورة الطارق : يوم تبلى السرائر.

٢٢ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ...) أي لا يعجز الله عن إدراككم لو هربتم عن حكمه (فِي الْأَرْضِ) الواسعة أو (فِي السَّماءِ) التي هي أوسع من الأرض بمراتب كثيرة. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) مانع يمنعكم منه (وَلا نَصِيرٍ) ناصر يحرسكم ويدفع عنكم عذابه.

٢٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ...) أي بدلائله الدالة على المعرفة والتوحيد أو كتبه (وَلِقائِهِ) أي البعث (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) لإنكارهم البعث والجزاء. والمراد بالرحمة ما يقابل العذاب ويلازم الجنة ، وقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الرحمة على الجنة كما في الجاثية / ٣٠ ، والإنسان / ٣١. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع.

٤٠٣

٢٤ ـ (فَما كانَ جَوابَ ... إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ ...) هذا قول بعضهم والمراد بالقتل القتل بالسيف ونحوه. وقال آخرون : (أَوْ حَرِّقُوهُ) ونسبة كلّ واحد من الفعلين إلى جميعهم باعتبار رضاء الباقين حين قال البعض. (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) بعد ما رموه فيها بأن جعلها عليه بردا وسلاما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إنجائه (لَآياتٍ) إلخ. منها منعه من حرّها ، وسرعة إخمادها مع عظمها إلخ. كل ذلك حجج وبينات للمصدقين بوحدانية الله وقدرته.

٢٥ ـ (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ...) إلخ. أي قال إبراهيم لقومه : إنما اتخذتم الأوثان آلهة لتكونوا أهل ملّة واحدة فتتوادّون بينكم وتتواصلون فتكونون متّحدين في قبال أصحاب الحق في هذه الدنيا ومودّة بينكم صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام التعليل والمودة على هذا سبب لاتخاذ الأوثان ، وأن يكون مفعولا لأجله والمودة غاية مقصودة من اتخاذ الأوثان (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي يتبرّأ بعضكم من بعض في الآخرة. (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يقوم التلاعن والتّعادي بينكم ، أو بينكم وبين المعبودين من الأوثان (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ما لكم أعوان يخلصونكم من عذاب الله.

٢٦ ـ (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ...) أي صدّق لوط إبراهيم في رسالته والإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء والمعنى واحد. (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي قال إبراهيم للوط ولزوجته سارة التي كانت بنت عمّه وقد آمنت به : إنّي خارج من قومي الظالمين إلى حيث أمرني ربّي أي من العراق إلى الشام. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي هو تعالى يمنعني من أعدائي (الْحَكِيمُ) الذي لا يأمرني إلّا بما فيه صلاحي.

٢٧ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ...) أي رزقناه إسحاق ولدا من سارة بنت عمه وكان له من العمر حينئذ خمس وسبعون سنة. (وَيَعْقُوبَ) أي نافلة. والمراد بها هنا ابن الابن. (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي ذرّية إسحاق أو يعقوب فإن كل نبيّ بعد إبراهيم كان منهما. كما أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلها أنزلت على ذريته. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) وهو الذكر الطيب والولد الصالح (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي أولي الدّرجات العليا مع المكمّلين في الصّلاح.

٢٨ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) أي اذكر يا محمد لوطا حين قال لقومه (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة الشّنعاء (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) إلخ. أي ما فعلها أحد قبلكم من الخلائق.

٢٩ ـ (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ...) أي تفعلون معهم الفعل الشنيع. والاستفهام إنكاريّ لأمر من الحري أن لا يصدقه سامع ولا يقبله ذو عقل ولذا أكد بالنون واللام. (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) تتركون السبيل المعتاد للتناسل باختياركم الرجال على النساء. وقيل المراد أنهم كانوا لصوصا يقطعون الطرق على المسافرين ليسلبوهم. (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) أي المجلس ما دام أهله فيه (الْمُنْكَرَ) كالضّراط أو اللواط وكشف العورة ونحوها من المنكرات. (فَما كانَ جَوابَ ...) إلخ. أي كان ردّهم عليه بإصرارهم على إتيان ما نهاهم عنه وطلبهم ما توعدهم به من العذاب إن كان صادقا فيما ادعاه من النبوة.

٣٠ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي ...) أي أعنّي (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بقبائح أعمالهم وسنّها في الناس.

٤٠٤

٣١ ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ...) أي حين جاءته الملائكة تبشره بإسحاق ويعقوب (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية (سدوم) التي كانت بين القدس والكرك ، والتي كان يسكنها لوط. وفي قوله : هذه ، إشارة إلى قرب القرية من المكان الذي كان ينزل فيه إبراهيم (ع) وهو الأرض المقدسة.

٣٢ ـ (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ...) أي كيف تنزلون العذاب بها وفيها لوط (ع)؟ (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) إلخ. نعرف من فيها وسيكون ناجيا إلّا امرأته فإنّها (مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب مع من غبر من الكفرة.

٣٣ ـ (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا ...) أي فلمّا جاءت الرسل لوطا (سِيءَ) أي اغتمّ بسببهم إذ جاؤوا في صورة غلمان حسني المنظر أضيافا فخاف عليهم قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي صدرا (وَقالُوا لا تَخَفْ) علينا من قومك (وَلا تَحْزَنْ) لأجلنا منهم إنّا رسل ربّك و (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) إلخ. واضح المعنى وقد مر.

٣٤ ـ (إِنَّا مُنْزِلُونَ ... رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ...) إلخ. أي عذابا منها بسبب خروجهم عن طاعة الله إلى معصيته.

٣٥ ـ (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً ...) أي من تلك القرية عبرة واضحة ودلالة على قدرتنا ، وإمّا آثار ديارهم الخربة ، أو الحجار السّجيليّة التي توجد بعض الأوقات فيها ، أو المياه السّوداء الباقية إلى الآن المنزلة مع الأحجار وكانت كالقطران (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) للمتدبّرين المعتبرين. وقيل : هي اليوم مجهولة المحل ، لا أثر منها ، وربما يقال : إن الماء غمرها بعد وهي بحر لوط ، لكن الآية ظاهرة في أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن كما يشير إليه قوله تعالى في سورة الصافات : وإنكم لتمرّون عليها مصبحين وبالليل أفلا تعقلون.

٣٦ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) إلخ. أي أرسلنا إلى مدين شعيبا وكان أخاهم في النسب فأمرهم بعبادة الله وان يكون لهم أمل بثواب الآخرة وخوف من عذابه (وَلا تَعْثَوْا) إلخ. أي لا تسعوا بالفساد.

٣٧ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ...) أي الزلزلة أو صيحة جبرائيل (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) صرعى على وجوههم أو على ركبهم ميّتين.

٣٨ ـ (وَعاداً وَثَمُودَ ...) عطف على شعيبا أو على ما قبله ، أو بتقدير اذكر ، أو أهلكناهم جزاء على كفرهم وقد غيّر السياق تفننا فبدأ بذكر عاد وثمود وكذا في الآية التالية بدأ بذكر قارون وفرعون وهامان بخلاف قصص الأمم المذكورين سابقا حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب. (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي من جهتها عند مروركم بها يا أهل مكّة ، (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي متمكّنين من النظر ولكن لم ينظروا ولم يتدبّروا لأن الشيطان اشرب في قلوبهم حبّ أعمالهم الباطلة. وقيل : المراد بكونهم مستبصرين أنهم كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة ، لكن الظاهر أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوح (ع) وعاد وثمود كانوا بعد نوح.

٤٠٥

٣٩ ـ (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) إلخ. أي أهلكناهم بسبب كفرهم بالحجج التي حملها إليهم موسى (ع) وقدّم قارون لشرف نسبه (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي فائتين أمرنا. فالسبق : استعارة كنائية من الغلبة.

٤٠ ـ (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ...) أي عذّبنا كلّ واحد بجرمه أو أن كل واحدة من الأمم السابقة أخذناها بذنبها ، ثم شرع في التفصيل : (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا عاصفا فيها حصباء كقوم لوط على قول وقيل الحاصب : الحجارة. وقيل : المقصود قوم عاد. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود ومدين (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه وما كان الله تعالى (لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكهم بل كانوا (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإشراكهم وبالتّعريض للعذاب. لأن الدار دار الفتنة والامتحان ، وهي السنّة الإلهية التي لا معدل عنها فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه ومن ضلّ فعليها.

٤١ و ٤٢ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) : أي أصناما يلجأون إليها (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) إلخ. أي في وهن ما اعتمدوه في دينهم شبّه الله تعالى حال الكفّار الذين اتخذوا غيره آلهة بحال العنكبوت في ما تنسجه في الوهن والضعف ، فإنه لا بيت أوهن وأقلّ وقاية للحوادث والحرّ والبرد منه ، فكذا آلهة الكفرة من الأصنام والأوثان فإنها لا تقدر على دفع شيء من الحوادث عن نفسها ، فكيف عن غيرها؟ فدينهم أوهن الأديان وأدناها والعنكبوت يطلق على الواحد والجمع ويذكّر ويؤنث. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنّها مثلهم لندموا ورجعوا إلى الدّين الحق وإله الخلق والآية تشمل بإطلاقها كل من اتخذ في أمر من الأمور وليا من دون الله يركن إليه ويراه مستقلا في أثره الذي يرجوه منه وإن لم يعدّ من الأصنام إلا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية الرسول والأئمة والمؤمنين. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في صنعه.

٤٣ ـ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ...) أي هذا المثل ونظائره نجيء من لتقريب ما هو بعيد عن الافهام ولمعرفة قبح ما هم عليه من عبادة الأوثان وحسن معرفة الله وتوحيده (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي وما يفهمها إلا المتدبّرون في حقائق الأشياء على ما ينبغي.

٤٤ ـ (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ...) أي بغرض صحيح لا بالباطل لهوا ولعبا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي دلالة للمصدقين بقدرة الله لأنّهم المنتفعون بها.

٤٥ ـ (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ...) أي اقرأ يا محمد القرآن على المكلفين ليعلموا بما تضمنه من الأحكام ولكونه خير رادع عن الشرك وارتكاب الفحشاء والمنكر بما فيه من الآيات البينات التي تتضمن حججا نيرة على الحق تؤدي بالتالي لها وسامعها إلى الارتداع المذكور. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي أدّها على الوجه المطلوب من حيث الأجزاء والشرائط والمواقيت. وقيل : في قوله : إنّ الصّلاة تنهى إلخ ... دلالة على أن فعل الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبيح والمعاصي التي ينكرها العقل والنقل ، (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي ذكر الله لكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته.

٤٠٦

٤٦ ـ (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ ...) أي لا تتناقشوا مع اليهود والنصارى من بني نجران ويلحق بهم الصابئون والمجوس (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلّا بالخصلة التي هي أحسن الخصال كمقابلة الخشونة باللّين والغضب بالحلم (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بنبذ الذمة أو قولهم بالولد أو الابتداء بالقتال وقد يراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق واللين بل يعتبر حسن الجدال نوع مذلة وهوان للمجادل ويعتبره تمويها واحتيالا لصرفه عن معتقده ، فهؤلاء الظالمون لا ينفعهم ولا تنجح معهم المجادلة بالأحسن. (وَقُولُوا آمَنَّا) إلخ. هذه الشريفة إلى آخرها لعلّها مفسّرة لمجادلة الأحسن وبيان لها من جهة الكيفيّة.

٤٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ...) أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء السّابقين أنزلنا إليك القرآن وقيل : أي على تلك الصفة وهي الإسلام لله وتصديق كتبه ورسله أنزلنا إليك القرآن. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي علم الكتاب كابن سلام وأمثاله. (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن أو بالنبيّ (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي من العرب أو أهل مكّة أو اليهود والنصارى (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بالنبيّ أو بالقرآن (وَما يَجْحَدُ) ينكر (بِآياتِنا) مع ظهورها وقيام الحجّة عليها (إِلَّا الْكافِرُونَ). وهم الساترون للحق بالباطل.

٤٨ ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ...) أي وما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتابا لأنك كنت أميّا (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي ما كنت تعرف الخط حتى تكتبه بيدك (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي ولو كنت تقرأ وتكتب لوجد المبطلون طريقا إلى الشك في أمرك وإلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوتك.

٤٩ ـ (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ ...) القرآن دلائل واضحة على التوحيد والرسالة ، (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) عن الصّادق (ع): هم الأئمّة (ع) (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) يكفر بحججنا (إِلَّا الظَّالِمُونَ) بالعناد والمكابرة ، وقيل هم كفار اليهود.

٥٠ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ...) أي كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى ونحوها وهذا تعريض منهم أن القرآن ليس بآية وزعم بأن النبي يجب أن يكون ذا قوة غيبة إلهية يقدر بها على كل ما أراد وما يراد منه (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي بيده واختياره ينزلها إذا شاء كيفما شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس للنبي من الأمر شيء إلا أن يشاء الله. (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أن وظيفتي هي الإنذار بما أعطيت من الآيات ، والتخويف بها من معصية الله وإظهار الحق من الباطل.

٥١ ـ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) أي القرآن آية مغنية عمّا اقترحوه ، (يُتْلى عَلَيْهِمْ) يقرأ عليهم على الدوام (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الكتاب المعجز المستمر (لَرَحْمَةً وَذِكْرى) إلخ. أي نعمة وعظة للمصدقين بالله وبرسالتك.

٥٢ ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ...) إلخ. أي من حيث الشهادة بصدقي ، وقد صدّقني بالمعجزات أو بالقرآن (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

٤٠٧

٥٣ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) أي استهزاء ، ويقولون أمطر علينا حجارة من السّماء وفيه إشارة إلى أن قولهم كقول من تقدمهم من أمم : ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. وقد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله : ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولنّ ما يحبسه. (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي أن لكل عذاب وقتا معيّنا ، ولو لاه لجاءهم ما يستعجلونه (بَغْتَةً) وفجأة بحيث لا يشعرون بإتيانه. وهذا العذاب الذي يحول بينه وبينهم الأجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة كما قال سبحانه : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) ولا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال وإنظار.

٥٤ ـ (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ...) يعني وإن لم يأتهم العذاب في الدنيا لمصالح كثيرة ، لكن عذاب جهنّم سيحيط بهم إحاطة لما عندهم من الكفر والإلحاد. وتكرار (يَسْتَعْجِلُونَكَ) للدلالة على كمال جهلهم وفساد فهمهم وأن استعجالهم هو استعجال لأمر مؤجل لا معجّل أولا ، واستعجال لعذاب واقع لا محالة ولا صارف له عنهم.

٥٥ ـ (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ...) إلخ. أي النار تحيط بهم من جميع جوانبهم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء أعمالكم وأفعالكم القبيحة.

٥٦ ـ (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ ...) متباعدة الأقطار ومتراحبة فاهجروا أرضا يمنعكم كفارها من الإيمان بي والإخلاص في عبادتي. (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي فاعبدوني فيما يمكنكم من البلاد بعد الهجرة إليها.

٥٧ و ٥٨ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) أي في كلّ مكان وفي كلّ زمان ، سواء كان الشخص في وطنه أو في غيره ، وفي يوم شبابه أو هرمه فإنه سيموت (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي لا محالة أن رجوعكم وعودكم إلينا توفية للجزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ. أي لننزلنّهم أمكنة عالية رفيعة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تحت الغرف (خالِدِينَ فِيها) أي يكونون في الغرف إلى الأبد ، و (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي نعمت الجنة أجرا للعاملين.

٥٩ ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ...) أي صبروا على المشاقّ والمحن والأذى وينحصر توكّلهم عليه سبحانه ..

٦٠ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ...) إلخ. أي وكم من دابة لا يكون رزقها معدا (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم.

٦١ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ ...) أي إذا سألت يا محمد أهل مكة عن ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) خلق السماوات (وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلها فيقرّون بأنه هو سبحانه الفاعل لذلك (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي إلى أين يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة حجر لا ينفع ولا يضر؟

٦٢ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) إلخ. يوسّعه على من يشاء (وَيَقْدِرُ) يضيّق على من يشاء لحكمة.

٦٣ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) أي احمد الله على تمام نعمته وكمال قدرته أو على حفظك ومتابعيك من الضلالة وحيرة الجهالة ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لا يتفكّرون بسبب تناقضاتهم حيث يقرّون بأنه تعالى خالق كل شيء ثم يشركون به الأصنام ويعبدونها.

٤٠٨

٦٤ ـ (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ...) الفرق بين اللهو واللّعب أن المقبل على الباطل لاعب به ، والمعرض عن الحق لاه. والوجه في كون الدنيا كذلك أنها تزول بسرعة كما يزول اللهو واللعب فيستمتع الإنسان فيها مدّة قليلة ثم تنصرم وتنقطع ويبقى وبالها (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي هي دار الحياة الحقيقية لأنّها الدائمة التي لا زوال لها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يعرفون أن الدنيا دار فناء وزوال ، وأن الآخرة دار بقاء لا فناء فيها لما آثروا الحياة الفانية على البقاء الدّائم.

٦٥ ـ (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ ...) إلخ. أي دعوه في حالة من أخلص دينه له تعالى مع ما هم عليه من الشّرك وذلك لعلمهم بأنه وحده القادر على إنجائهم من الغرق. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي حينما خلّصهم الله تعالى من الهلاك ونجّاهم إلى البرّ عادوا إلى ما كانوا عليه من الإشراك معه تعالى في العبادة.

٦٦ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) أي لكي يكفروا بنعمة الإنجاء (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لكي ينتفعوا ويتلذّذوا بعكوفهم على أصنامهم. هذا بناء على أن اللّام بمعنى (كي) التعليليّة ويمكن أن تكون لام أمر فيكون للتّهديد ولخذلانهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك العكوف على عبادة الأصنام والتّلذذ بها.

٦٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا ...) أي أهل مكة ألم يعلموا أنّا جعلنا مسكنهم وبلدهم (حَرَماً آمِناً) مصونا من النّهب والقتل والسّبي (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي يختلسون ويؤخذون من أطراف مكّة. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون بعبادة الأصنام وهي باطلة مضمحلة. (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) وهي نعمة الأمن والاطمئنان يجحدونها بكفرهم بالله المنعم سبحانه.

٦٨ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ ...) أي لا أظلم منه (كَذِباً) حين ادّعى الشريك له (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) أي الرّسول أو الكتاب (لَمَّا جاءَهُ) حين جاءه (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ ...) إلخ. أي أمّا لهؤلاء الكفار المكذبين في جهنم مكانا لهم في جهنم جزاء لهم على كفرهم.

٦٩ ـ (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ...) أي جاهدوا في حقّنا ما يجب جهاده من النّفس والشيطان وحزبه (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) طرق السّير إلينا أو طرق الخير بزيادة اللّطف. (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي بالنّصر والإعانة في الدنيا والثواب والنعيم في الآخرة.

سورة الرّوم

مكية ، عدد آياتها ٦٠ آية

١ إلى ٥ ـ (الم ...) وقد ذكرنا في سورة البقرة مفتتحات بعض السّور وبيانها في الجملة ، وقد قيل إن هذه الحروف لا يعلم تفسيرها إلّا من خوطب بها وليتهيّأ السامع لما بعدها حيث إن ما بعدها في الأغلب يكون إخبارا عن أمور ستأتي وهو إخبار بالغيب (غُلِبَتِ الرُّومُ) أي هزمت من قبل الفرس (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أقرب أرض العرب من أرض الروم ، أو المراد أقرب أرض الرّوم إلى فارس (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) انكسارهم (سَيَغْلِبُونَ) يعودون فينتصرون (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وبضع تدل على ما بين الثلاث إلى التسع سنين أو إلى العشر وقد تحقق ذلك بعد نزول هذه الآية فيكون اخبارا بالغيب وهو دليل على أن القرآن من عند الله لأنه لا يعلم الغيب غيره. ثم يكون (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي قبل غلبتهم وبعدها. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي يوم غلبة الروم على الفرس يسرّ أهل الإيمان بإظهار صدق نبيّهم فيما أخبر به أو يسرّون لغلبة الرومييّن على الفرس لأنهم كانوا نصارى وأهل كتاب ، والفرس كانوا مجوسا وما كانوا من أهل كتاب ولا أرسل إليهم نبيّ. ومن باب الصدفة وأفق ذلك يوم نصر المؤمنين ببدر فنزل به جبرائيل (ع) وأخبر النبيّ (ص) بغلبة الرّوم على الفرس ففرحوا بالنّصرين (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي ينصر بمقتضى الحكمة من يريد من عباده. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر بخذلانه لمن يشاء (الرَّحِيمُ) بمن أناب إليه من خلقه.

٤٠٩

٦ و ٧ ـ (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أي : وعد الله بنصر الروم على الفرس ولا يخلف الله وعده حيث إن خلف الوعد عليه ممتنع لأنه سبحانه لا تضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد بحال. على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما ويستحيل النقص عليه سبحانه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحة وعده وامتناع الخلف عليه لجهلهم به تعالى وبشأنه فلا يثقون بوعده ويقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق ويكذب وينجز ويخلف. فالناس لا (يَعْلَمُونَ) إلّا (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي التمتّع بزخارفها والتنعّم بملاذها. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي الغرض الأصلي منها (هُمْ غافِلُونَ) أي جاهلون بأمر الآخرة فلم يعملوا لها فعمروا دنياهم وخربوا آخرتهم.

٨ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ...) إلخ. أي في أمرها فإنها أقرب شيء إليهم وفيها ما في العالم الأكبر من عجائب الصّنع فلو كانوا يتفكّرون فيها لعلموا ولتحقق لهم أن قدرة مبدعها على إعادتها ، هي قدرته على إبداعها بل أسهل فلم يخلق السماوات والأرض وما بينهما (إِلَّا بِالْحَقِ) أي لإقامة الحق ومعناه للدلالة على الصّانع والتعريض للثواب (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) تنتهي عنده ولا تبقى بعده وهو يوم القيامة.

٩ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ...) الاستفهام للتقرير ، يعني لا بدّ من السير فيها لينظروا إلى مصارع عاد وثمود وغيرهما فيروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلخ. هذا بيان لنتيجة سيرهم ليعتبروا بذلك حيث إنّهم كانوا أشدّ منهم قوة ومن جميع الجهات ، (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) قلّبوا وجهها وحرثوها بعمارتها (وَعَمَرُوها) ببناء الدّور وتشييد القصور وغيرها (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي أكثر مما عمرها كفار قريش (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أتتهم أنبياؤهم بالحجج والدلالات من عند الله (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكهم بلا إرسال رسل وبلا إتمام حجة (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث علموا ما أدّى إلى تدميرهم بكفرهم برسلهم وجحدهم للحج ربهم.

١٠ ـ (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى ...) أي كانت نتيجة الذين أساؤوا إلى نفوسهم بالكفر بالله وتكذيب رسله نار جهنم. وهي معنى السوأى (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي بسبب تكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها.

١١ ـ (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...) أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد إماتتهم أحياء كما كانوا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء على الأعمال يوم القيامة.

١٢ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ...) أي يتحيّرون في أمرهم وييأسون من رحمة ربّهم. والإبلاس : هو اليأس من الله وفيه كل الشقاء.

١٣ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ ...) أي ممّن أشركوهم بالله لم يكن لهم من يعينهم ويجيرهم من العذاب يوم القيامة (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) جاحدين متبرّئين منهم. فهم على يأسهم من رحمة الله آيسون من آلهتهم.

١٤ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ...) أي يتميّزون ويقسّمون فريق في الجنة وفريق في السّعير.

١٥ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي في جنة ذات أرض خضراء تتدفق فيها المياه ، يسرّون وتطفح وجوههم بالبشر حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم. وقيل : يكرمون.

٤١٠

١٦ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي كفروا بنا وبوحدانيّتنا ، ولم يصدّقوا دلائلنا ، (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي وكذبوا بيوم الحشر (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) محشورون في جهنّم لا يفارقون العذاب.

١٧ و ١٨ ـ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ...) يعني : الأمر هو أن تنزّهوه عمّا لا يليق به حين تدخلون في المساء ، وحين تدخلوا في الصباح. (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الثناء (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ممّن فيهما (وَعَشِيًّا) حين يدخلون في العشية (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) تدخلون في الظهيرة.

١٩ ـ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ...) يخرج المؤمن من الكافر ، والإنسان من النّطفة ، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) الكافر من المؤمن ، والنطفة من الإنسان ، (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يحييها بالنّبات بعد موتها باليبس (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أيّ مثل هذا الإخراج تخرجون من قبوركم؟

٢٠ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) أي من آدم وأصله تراب. أو المراد أنكم مخلوقون من النّطفة وهي من الأغذية وهي من الأرض (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ثم إنه بعد الخلقة من التربة كنتم بشرا متفرّقين في الأرض.

٢١ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ...) إلخ. أي أبدع وأوجد لكم زوجات مماثلة ومشاكلة لكم ومن جنسكم ، مخلوقات من أنفس الرجال حدوثا وبقاء (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي لتستأنسوا بها وتميلوا إليها (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي أوجد بواسطة الزّواج بينكم وبين أزواجكم ، توادّا وتحابّا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي دلالات لأهل التدبّر والتفكّر حيث يعتبرون به.

٢٢ ـ (وَمِنْ آياتِهِ) دلائله الدالة على توحيده وقدرته ذكر سبحانه وتعالى البراهين والشواهد الآفاقيّة ، وأظهرها (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما من عجائب الصّنع وبدائع الخلقة نحو ما في السّماوات من الشمس والقمر وسائر الأنجم وجريانها في مجاريها المعيّنة ونحو ما في الأرض من أنواع الجماد والنبات والحيوان على اختلافها جنسا ونوعا وصنفا وإتقانها مع اختلاف ألوانها وطعمها ورائحتها وخواصّها وآثارها (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي من حيث اللغات فإن لكلّ صنف لغة إمّا بتعليم الله تعالى وإمّا بإلهامه لهم ، (وَأَلْوانِكُمْ) من الأبيض والأسود والأحمر والأصفر فلا يشبه أحد أحدا مع التشاكل في الخلقة وما ذلك إلا للتراكيب البديعة الدالة على كمال قدرته وحكمته. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي في الاختلاف الألسني والألواني لدلالات واضحات على كمال قدرته وحكمته تعالى لجميع العوالم من ذوي العقول.

٢٣ ـ (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) إلخ. والمعنى أنّ من الآيات الدّالة على قدرته الكاملة نومكم في بعض الليل وبعض النهار لاستراحة قواكم وطلب معاشكم في البعض الآخر منهما (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي لهم آذان واعية تسمع سماع تدبّر واستبصار.

٢٤ ـ (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ...) أي ومن دلائل قدرته وحكمته. والبرق مصدر : نور يلمع في السماء على أثر انفجار كهربائي في السحاب ، (خَوْفاً) أي حال كونه مخوّفا لأنه سبب الصواعق (وَطَمَعاً) أي مطمعا بحصول المطر الذي هو خير (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي : ومن آياته تنزيله الغيث من سماء الأرض أي الفضاء المرتفع فوقها. ونتيجة هذه الأمطار إحياء الأرض بإنباتها بعد موتها بجدبها ويبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في هذه الآيات السّماوية الآفاقية (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) شواهد ودلالات للعقلاء المكلفين.

٤١١

٢٥ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ...) أي بلا دعامة تدعمهما ولا علاقة تتعلّق بهما بل بأمره سبحانه لهما بالثبات والدوام كقوله تعالى : إنّما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له : كن فيكون. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) المراد بالدّعوة دعوة إسرافيل بالنفخة الأخيرة للحضور في المحشر لثواب الأعمال أو عقابها. فإذا نفخ في الصور تخرجون من قبوركم بلا إبطاء.

٢٦ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي هو المالك لكلّ من فيهما ولنفس السّماوات والأرض (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون له طوعا وكرها.

٢٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ...) إلخ. أي يخلقهم ابتداء ثم يرجعهم إلى الحياة بعد إعدامهم وإفنائهم (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي الإعادة أسهل عليه من الإبداء قياسا ، على أصولكم ، وإلّا فهما سواء عليه تعالى. (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الصفات العليا التي لا يمكن أن يتصف بها غيره. كالوحدانية والألوهية وغيرهما. (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما فيهما يصفونه تعالى بذلك الوصف الأعلى نطقا ودلالة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مر معناه.

٢٨ ـ (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) أي منتزعا من أنفسكم التي هي أقرب شيء منكم حتى يثبت أنّه لا يكون لله تعالى شريك. ثم بيّن المثل فقال (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من مماليككم (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) أي في الأموال والأرزاق والأسباب (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي هل أنتم وهؤلاء المماليك تتصرّفون فيها على السّويّة وبالمشاركة (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي هل تخافون من عبيدكم أن يشاركوكم في أموالكم كما يخاف الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه دونه وإذا لم ترضوا في عبيدكم أن يكونوا شركاءكم في أموالكم فكيف ترضون لربكم أن يكون له شركاء في العبادة مع أن الكل عبيده ومملوكون له؟ (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي كما فصّلناه وبيّنا لكم مسألة عدم جواز التشريك ، نفصّل الآيات والأدلة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي نبيّنها لأهل التدبّر والتعقّل.

٢٩ ـ (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي أشركوا بالله (أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين ومن دون حجة أتتهم من ربهم (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي من يقدر على هدايته بعد ذلك (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي يدفعون عنهم عذاب الله إذا نزل بساحتهم.

٣٠ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ...) أي أقبل بقصدك أو بالعمل الخالص على الإسلام بالاهتمام به (حَنِيفاً) أي مائلا إليه مستقيما عليه (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) هذا يحتمل أن يكون بيانا للدّين الحنيف ، أي الزموا دين الله ، ودين الله هو دين الإسلام الذي يولد كلّ مولود عليه ويعبّر عنه بدين الفطرة. وقيل : الفطرة هي التوحيد. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي ليس لأحد أن يبدّل أو يغيّر دين الله الذي أمر الخلق أن يتعبدوه به. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم المستوي الذي يجب اتباعه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فهم جهلة بهذا الدين واستقامته ولذلك فهم يعدلون عنه.

٣١ ـ (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...) منيبين حال من ضمير (أقم) باعتبار أن الأمة تدخل في مخاطبة النبيّ (ص) والمعنى : فأقيموا وجوهكم راجعين إليه مرة بعد أخرى. ويمكن أن يكون من (ناب) إذا انقطع ، أي منقطعين إليه عن كلّ ما سواه ، (وَاتَّقُوهُ) إلخ. تجنّبوا عصيانه والزموا طاعته ولا تكونوا من المشركين به في الألوهية والعبادة.

٣٢ ـ (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) بيان لما قبله من قوله من المشركين. وتفريق دينهم هو اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا مختلفة (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) فأهل كلّ ملّة بما عندهم من الدّين مسرورون راضون.

٤١٢

٣٣ ـ (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ ...) أي حادثة شديدة وسوء حال (دَعَوْا رَبَّهُمْ) بتضرّع وخشوع (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه منقطعين عن غيره (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) أي أعطاهم من عنده رافعا لذلك الضرّ (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي يعودون إلى عبادة غير الله.

٣٤ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) اللّام هنا للعاقبة أي أشركوا فكان عاقبة شركهم كفرهم (بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الأمن والعافية والصّحة (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي انتفعوا بنعيم الدنيا كيف شئتم فسوف تعرفون نتيجة كفركم.

٣٥ ـ (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً ...) أي : هل أرسلنا إلى الكفرة حجة يتسلّطون بها على ما ذهبوا إليه (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي فذلك البرهان كأنه يتكلم بصحّة شركهم ويحتج لهم به. والمعنى أنهم لا يمكنهم إعادة ذلك.

٣٦ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً ...) أي نعمة من سعة أو أمن أو عافية (فَرِحُوا بِها) استبشروا بها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدّة ومصيبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بشآمة معاصيهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي ييأسون من رحمة الله.

٣٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) أي يوسّع عليه (وَيَقْدِرُ) أي يقتر عليه ويضيّق حسب ما تقتضيه المصلحة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إذاقتهم الرحمة وإصابتهم بالسيئة أو في بسط الرزق وتقتيره أو في المجموع (لَآياتٍ) إلخ. دلائل عبرة للمؤمنين فإنّهم أهل الاعتبار.

٣٨ ـ (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ...) أي أعط يا محمد أقرباءك فرضهم من الخمس. (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعطاهما حقهما من الخمس إن كانا من بني هاشم ، وإلّا فمن الزكاة الواجبة وابن السبيل هو المسافر المحتاج (ذلِكَ خَيْرٌ) أي إيتاء الحقوق للجماعة المذكورة خير من الإمساك (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يطلبون رضاءه أو وجه التقرب إليه (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالنّعم الباقية.

٣٩ ـ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً ...) أي زيادة محرّمة في المعاملة ، أو عطيّة يتوقع بها مزيد مكافأة ، (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أي : لتنموا أموالهم ، ويزيد في أموالهم أكلة الرّبا (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) لا يزكو عنده بل يمحقه (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي مرضاته وقربه (فَأُولئِكَ) أي هؤلاء الذين يؤدّون الزكاة المفروضة أو الصّدقة المندوبة لوجه الله (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ذوو المكافأة والمضاعفة من الثواب في الآجل ، والمال في العاجل.

٤٠ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) أي أوجدكم ابتداء معدومين محضا (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أعطاكم أنواع النعم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم الحشر (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ ...) الآية هل ما عبدتموه من الأصنام وغيرها من يقدر على ذلك حتى يجوز توجه العبادة إليه (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه وتقدس عن الشريك.

٤١ ـ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) أمّا ظهور الفساد في البرّ فبمنع السماء أمطارها فيقع القحط والغلاء وكثرة الأمراض والأوبئة وأمّا في البحر فبكثرة الفيضانات وثوران البحار مع ما يترتب على ذلك من المضار. (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسوء أفعالهم من الكفر والفسوق والمعاصي (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي ليصيبهم الله بعقوبة بعض أعمالهم من الكفر والمعاصي. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ليرجعوا عنها في المستقبل بعد أن يعتبروا.

٤١٣

٤٢ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ...) إن الله تعالى كرّر الأمر بسير الآفاقيّة تأكيدا وتذكيرا للاعتبار ، فإن في ذلك أخبار الأمم السالفة والإنسان يستبصر إذا شاهد كيف أهلكهم الله فصارت قصورهم قبورا ومحافلهم مقابرهم ثم بيّن سبحانه أنّه فعل بهم ما فعل لسوء صنيعهم فقال : (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فالغالب في عذاب الاستئصال أن يكون بسبب الشرك.

٤٣ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ...) أي فانصب قلبك وتوجّه به إلى دينك الذي هو في غاية الاستقامة والعدل (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي قبل مجيء يوم من عند الله الذي لا يقدر أحد أن يردّه وهو يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يعني يتفرّقون إلى الجنّة والنار.

٤٤ و ٤٥ ـ (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ...) أي عقوبة كفره فلا يتحملها أحد عنه وهي النار (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي ليعطيهم على قدر استحقاقهم ويزيدهم من فضله. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي لا يريد كرامتهم وإنما عقابهم جزاء على كفرهم. هذا الذيل علّة لما يترتب على الكفر من الوبال والنار المؤبّد ، وعلى العمل الصالح من تمهيد المنازل في الجنّة العالية والمخلّد فيها. وفي الكشاف أن هذا تقرير بعد التقرير على الطّرد والعكس.

٤٦ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ...) أي ومن أفعاله الدالة على معرفته وكمال قدرته هو إرسال رياح الرحمة تبشر بنزول المطر (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) أي ولتسير المراكب في المياه بأمر الله وإرادته (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في التجارات البحريّة تبتغون الخير من فضله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم فتوحّدون ربّكم.

٤٧ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً ...) لم يكن لهم شغل غير ما تعمله أنت (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أتوا قومهم بدلائل على نبوّتهم (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي كفروا بآياتنا وجحدوها (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي وكان واجبا علينا نصرهم بدفع السوء عنهم وبإعلاء حجتهم.

٤٨ و ٤٩ ـ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ...) أي من شواهد القدرة أنه يهيّئ ويرسل الرياح من معادنها فتهيّج السحاب في الفضاء (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي قطعا متفرّقة (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي المطر يخرج من بينه (فَإِذا أَصابَ) الآية ، أي إذا نزل الودق على طائفة من عباد الله يفرحون بذلك ويبشّر بعضهم بعضا بنزوله (وَإِنْ كانُوا) إلخ. يعني أنّهم قبل نزول المطر كانوا قانطين آيسين من نزوله عليهم.

٥٠ ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ ...) إلخ. أي أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ، كيف يحيي الأرض بما ذكر (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد أن كانت مواتا يابسة (إِنَّ ذلِكَ) أي ان الله تعالى الذي يحيي الأرض بعد موتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى) إلخ. هو قادر على إحياء البشر بعد إفنائهم بالموت وهو الذي لا يعجزه شيء.

٤١٤

٥١ ـ (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ...) أي الدّبور الذي هو للعذاب وهي ريح باردة مؤذنة بالهلاك (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) أي يرون النبات والزرع اللّذين كانا من آثار رحمة الله أنه عرض لهما الاصفرار بعد الخضرة وهو علامة يبسهما وفسادهما. (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي لصاروا من بعد أن رأوه مصفرّا كافرين جاحدين لأنعم الله.

٥٢ ـ (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) أي لا تستطيع يا محمد إسماع موتى القلوب يعني الكفرة الذين سدت مشاعرهم عن استماع المواعظ والنصائح فإنهم في حكم الموتى (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) أي ولا تقدر على إسماع من بهم صمم فإنّ حالهم كحالهم في عدم الانتفاع بالسماع (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إذا أعرضوا عن حججنا ذاهبين إلى الضلال.

٥٣ ـ (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ...) يعني يا محمد إنّك لا تهدي ولا تستطيع إرشاد عميان القلوب إذا لم يطلبوا الاستبصار حيث إنهم أشدّ استحالة للهداية من عمي العيون ، (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي الذي يستمع القول ويتلقاه ويتدبّر معناه (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مسلّمون بما تأمرهم به وتنهاهم عنه حيث إنّهم يتّبعون سبيل الهداية والرّشاد.

٥٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ...) أي كنتم في بدء الإيجاد ضعفاء في حالة الطّفولية وقيل : أي من نطف. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) حينما يصير الإنسان شابا ذا قوة وقدرة أو حين ولوج الروح بالبدن (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) فبعد ما يخلص تطوّر خلقه ويتمّ قوس الصّعود يجيء قوس النزول وهو الضعف والشّيب بعد القوة والشباب (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الضّعف والقوة والشّيب (وَهُوَ الْعَلِيمُ) أي العالم بأحوال عباده ومصالحهم (الْقَدِيرُ) القادر على فعله بحسب ما يراه من المصلحة.

٥٥ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ...) أي القيامة ، (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) أي الكافرون يحلفون أنهم ما بقوا في القبور أو في الدّنيا أو فيما بين فنائها والبعث (غَيْرَ ساعَةٍ) فيستقلون مدّة لبثهم بالنسبة إلى مدة عذاب الآخرة ، (كَذلِكَ) أي مثل صرفهم وحلفهم وقولهم كذبا في الآخرة (كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الصّدق ويعدلون عن قول الحق في الدنيا.

٥٦ و ٥٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ ...) إنّ الله تعالى أخبر عن قول أهل العلم والإيمان ممن هداهم الله بالحجج والبراهين. قيل بأنهم الملائكة ، وقيل هم الأنبياء ، وقيل هم المؤمنون بعد استماعهم الحلف الكاذب من المشركين (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) إلخ. أي ان مكثكم ثابت في اللوح المحفوظ أو في القرآن ، إلى يوم القيامة والحشر. (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) إلخ. أي اليوم الذي كنتم تنكرونه في الدنيا فلا ينفعكم علمكم به الآن. (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والشرك بعد إتمام الحجّة عليهم (مَعْذِرَتُهُمْ) اعتذارهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا يطلب منهم الإعتاب ولا الرجوع إلى الحق.

٥٨ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ ...) أي بيّنا لهم بحيث أغنيناهم في البيان (فِي هذَا الْقُرْآنِ) المنزل على نبيّنا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يدعوهم وينبّههم على التوحيد والإيمان (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من فرط عنادهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي أصحاب الأباطيل والتّزوير.

٥٩ ـ (كَذلِكَ ...) أي كما طبع على قلوب هؤلاء الكفرة (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي الذين لا يعلمون شيئا من الحق ويعتقدون أن ما هم عليه من الضلالة والأباطيل هو الحق.

٦٠ ـ (فَاصْبِرْ ...) أي اصبر على أذاهم يا محمد (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) حين وعدك بالنصر وبإعلاء دينك فإن ذلك ثابت منجّز لا محالة (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي لا يحملنّك على الخفّة والضجر ولا تغضب من هؤلاء الذين هم أهل شكّ وضلالة.

٤١٥

سورة لقمان

مكية ، عدد آياتها ٣٤ آية

١ و ٢ ـ (الم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ...) أي هذه الآيات هي آيات القرآن المحكم أو ذات الحكمة. وقد وصف الكتاب بالحكيم إشعارا بأنه ليس من لهو الحديث من شيء بل هو كتاب لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث وباطل القول.

٣ ـ (هُدىً) أي حال كونها بيانا ودلالة. (وَرَحْمَةً) أي حال كونها نعمة لا نقمة صارخة عنها. (لِلْمُحْسِنِينَ) المطيعين أو للموحّدين.

٤ إلى ٥ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ...) إلخ هذه الشريفة وما بعدها بيان للمحسنين ، وتكرير الضّمير تأكيد.

٦ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ...) أي باطل الحديث وهو الغناء وكل ما يلهي عن سبيل الله ويدخل فيه السخرية بالقرآن واللغو فيه (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فيضلّ الناس عن دينه تعالى. ومن أضلّ غيره فقد ضلّ وقيل : مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن بما فيه من المعارف الحقة الاعتقادية والعملية وخاصة قصص الأنبياء وأممهم الخالية فإن لهو الحديث والأساطير المختلقة تعارض أولا هذه القصص ثم تهدم بنيان سائر المعارف الحقة وتوهنها في أنظار الناس. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير بصيرة حيث يشتري الباطل بالحق والضلالة بالهدى ، (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) أي يتّخذ السّبيل المستقيم سخرية ويستهزئ بها ، ومن يفعل ذلك فله (عَذابٌ مُهِينٌ) ذو إهانة.

٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ ... وَلَّى مُسْتَكْبِراً ...) أي أعرض عن سماع آياتنا إعراض من لا يسمعها (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي كأنّ في مسامعه ثقلا يمنعه عن سماع تلك الآيات (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم موجع.

٨ و ٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ...) البساتين والحدائق ذات النعمة يتنعمون بها يوم القيامة. (خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم وعدا ثابتا لا خلف فيه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء (الْحَكِيمُ) الذي يفعل طبق ما تقتضيه حكمته.

١٠ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ...) أي أنشأها بغير أعمدة إذ لو كان لها عمد لرأيتموها حيث إنّها لو كانت فرضا لكانت من أجسام عظام بحيث تتحمّل ثقل السّماوات ، ويحتمل أن يكون المعنى : انشأها بعمد ولكنها غير مرئية لكم. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي وضع عليها جبالا شوامخ ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي لئلا تضطرب بكم فتبقى ثابتة مستقرة. (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي نشر وفرّق في الأرض كل ما يتحرّك ويدبّ من أنواع الحيوان. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا. (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي أنبتنا في الأرض من ذلك الماء من كلّ صنف كثير المنفعة.

١١ ـ (هذا خَلْقُ اللهِ ...) أي هذا مخلوقه وموجوده الذي تشاهدونه (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي أين مخلوق شركاء الله ومصنوعهم. وماذا خلقت آلهتكم التي تعبدونها؟ وإذ لم يقدروا على إراءة شيء ثبت بذلك وحدانيته سبحانه في ألوهيته وربوبيته. (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أن المشركين بالله هم في ذهاب بعيد واضح عن الحق.

٤١٦

١٢ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ...) أي أعطيناه العقل والفهم (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي لأن ، أو قلنا له اشكر لله (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي يعود نفعه إليها. والله (غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين (حَمِيدٌ) أي حقيق بالحمد حمد أو لم يحمد.

١٣ ـ (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ...) أي اذكر يا محمّد إذ قال لقمان لابنه ، (وَهُوَ يَعِظُهُ) أي يؤدّبه ويذكّره (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) وقيل كان كافرا فما زال به حتّى أسلم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنّه تسوية بين أشرف الموجودات وأخسّ المخلوقات وهي الأوثان.

١٤ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ...) أي أمرناه بطاعة الوالدين وشكرهما والإحسان إليهما. وإنما قرن شكرهما بشكره لأنه الخالق المنشئ وهما السبب في الإنشاء والتربية. (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي ضعفا على ضعف ، فإن الحمل كلما يثقل ويترقّى يزيد في مضايقة الأم وضعفها (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي فطامه في انقضاء عامين ، وهما مدة رضاعه. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) هذا تفسير للوصيّة ، أي وصّيناه بشكرنا وشكر والديه وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبرّ والصّلة (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي المرجع فأجازيكم على حسب أعمالكم.

١٥ ـ (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ...) أي بذلا وسعهما وجدا لأن تشرك بي معبودا آخر (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي الذي لا علم لك باستحقاقه وأهليّته للشرك إلّا تقليدا لهما (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي مصاحبة معروفة محمودة شرعا وعرفا بالإحسان إليهما والرفق بهما (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي نهج من رجع إليّ بالطاعة والتوحيد والإخلاص وهم النبي (ص) والمؤمنون (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) إلى حكمي منقلبكم (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أخبركم بأعمالكم وأقوالكم وأجازيكم عليها.

١٦ ـ (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ ...) إلخ يا بنيّ ، تصغير شفقة وعطف على ابنه. والمثقال كناية عن أقل ما يوزن به الشيء من الأحجار والفلزّات والخردل نبات له حبّ صغير جدّا أسود. والمعنى أن فعلة الإنسان من الخير أو الشر إن كانت في الصّغر مقدار خردلة (فَتَكُنْ فِي) أخفى المواضع كجوف (صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ) أو في الأعلى (أَوْ فِي الْأَرْضِ) أو في الأسفل (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يحضرها ليحاسب عليها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) باستخراجها (خَبِيرٌ) بموقعها.

١٧ ـ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ...) إلخ أي أدّ الصلاة في مواقيتها تامة الأجزاء والشرائط وائتمر بطاعة الله وانه عن معصيته وعن كل قبيح. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من المصائب والشدائد والأذى في الأمر والنهي أو مطلقا. (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الصّبر على ما أصابك من عزائم الأمور التي عزمها الله ومقطوعاتها.

١٨ ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ...) أي لا تمل بوجهك عن الناس نخوة وتكبّرا ، (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) لا تسر بكبرياء وعجرفة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي أنه تعالى يكره المتخايل في مشيه المتكبّر على الناس الفخور بنفسه.

١٩ ـ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ...) أي توسّط فيه بين السّرعة والبطء (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي أقصر واخفض صوتك (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي أقبحها وأرفها. هذه نبذ من مواعظ لقمان حكاها الله تعالى ، فإنها وإن كان الخطاب فيها لولده لكنّها تفيد العالم ، ولذلك أوحى الله بها إلى نبيّه (ص) لاستفادة أمته بها.

٤١٧

٢٠ ـ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ...) بأن جعلها أسبابا لمنافعكم كالشمس والقمر والنجوم وغيرها (وَما فِي الْأَرْضِ) بأن مكّنكم من الانتفاع به كالحيوان والنبات والجماد (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) إلخ أي أوسع وأتمّ نعمه بأقسامها من الظاهريّة المحسوسة والباطنيّة مما لا يدرك بالحسّ والعيان بل بالعقول ، وبعض القوى الأخر ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في ذات الله أو في توحيده وصفاته. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل أو عن تقليد (وَلا هُدىً) ولا هاد من نبيّ أو وصيّ نبيّ (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ولا كتاب منزل من عند الله كان واضح الدّلالة على ما يقولون.

٢١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ...) أي على محمد من الدين والشرائع (قالُوا ...) إلخ أي نقلّد أسلافنا في عبادتهم للأصنام وغيرها (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ ...) إلخ الاستفهام للإنكار والمعنى أن الشيطان يدعوهم إلى تقليد آبائهم وترك اتّباع ما جاءت به الرّسل ، وذلك موجب لهم دخول النار.

٢٢ ـ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ ...) أي من فوّض وخلّى أمره إليه تعالى وتوجّه به إليه بكامل وجوده (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي كان عمله على الوجه الحسن ، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي المحكمة ، ولعلّ المراد بالعروة الوثقى هو القرآن ، أو كلمة التوحيد (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي آخر كلّ شيء ، أو جزاء أعمال الناس خيرا وشرّا لأنّ الكلّ صائر إليه.

٢٣ ـ (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ...) أي الباقي على الكفر أو الذي ارتدّ ورجع إلى الكفر ، فلا تحزن عليه لأن كفره لا يضرّك ولا ينفعه (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) نخبرهم بأعمالهم المنسيّة وغيرها ونجازيهم بها. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما يضمره الإنسان فيجازيه عليه.

٢٤ ـ (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ ...) أي نعطيهم من متاع الدنيا ونعيمها ما يتمتّعون به مدة قليلة ، وبعد ذلك نجعلهم مكرهين في الآخرة (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد يثقل ويصعب عليهم.

٢٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...) أي مقرّون بأنّه خالقها لوضوح البرهان بحيث اضطرّوا إلى الإذعان. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) احمده على نعمة إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بأن ذلك الإقرار يلزمهم الحجّة ويبهتهم.

٢٦ ـ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي هو المالك لهما ملكا وخلقا (الْغَنِيُ) على الإطلاق (الْحَمِيدُ) بالاستحقاق.

٢٧ ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ أي ولو ثبت أن الأرض بجميع أشجارها صارت أقلاما (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) أي البحر المحيط صار مدادا يضاف إليه ويمدّه سبعة أبحر مثله ، (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي ما انتهت كلماته الدالة على علمه وحكمته بكتابتها بذلك المداد لعدم تناهيها (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) مر معناه.

٢٨ ـ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ...) إلخ أي إلّا كخلقها وبعثها في قدرته فيكفي فيها إرادته بقوله : كن فيكون.

٤١٨

٢٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ ...) أي يدخله (فِي النَّهارِ) بأن ينقص منه في أوقات الصيف ويزيد في النهار ، ويفعل عكس ذلك في الشتاء ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلهما (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي كلّ واحد من الشمس والقمر يجري في فلكه على نسق واحد لا يختلفان إلى مدة معينة أو إلى منتهى معلوم عنده. وهو (خَبِيرٌ) عالم بكنه ذلك وبما تعملون.

٣٠ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ...) إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم وكمال القدرة وعجائب الصّنع واختصاصه تعالى بها ، فالله هو المستحق للعبادة وما يدعون (مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) الزائل الفاني و (هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) المرتفع على كل شيء والغالب عليه والقادر القاهر.

٣١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ...) أي أن من آياته الدالة على قدرته الكاملة جري السّفن في البحار (بِنِعْمَتِ اللهِ) بفضله ورحمته عليكم (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) لتروا بعض أدلّته الدالة على تفرّده بالإلهية والقدرة والحكمة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي في جري السّفن بالأرياح لعلائم (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لمن صبر على البلايا والمحن وعلى مشاق التكاليف وشكر نعم الله عليه.

٣٢ ـ (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ ...) أي علا راكبي البحر هيجان البحر كالظلل في ارتفاعه وتغطيته ما تحته كالجبل والسّحاب وغيرهما من المظلّات وذوات الظّل (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي حين خافوا الغرق فأخلصوا في الدعاء لله في تلك الحال. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي متوسّط في الكفر والإيمان. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) أي وما يكفر بدلائلنا إلا كل غدّار خدّاع. (كَفُورٍ) يعني شديد الكفر.

٣٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ...) أي تجنّبوا ما يسخطه واعملوا بأوامره ونواهيه (وَاخْشَوْا) خافوا (يَوْماً) هو يوم القيامة (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يؤدّي الوالد عن الولد شيئا ، ولا يتحمّل عنه تبعة ذنب (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) والمولود لا يستفيد منه والده الرءوف في ذلك اليوم شيئا. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي وعده بالبعث والجزاء ثابت لا يتخلّف (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لا يغرنّكم الامهال الذي كانت الحياة كناية عنه ، ولا يلهينّكم الآمال والأموال عن الإسلام والإيمان (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي لا يخدعنكم الشيطان فتنصرفوا عن الله سبحانه. وقيل : الغرور هو كل شيء غرّك حتى تعصي الله.

٣٤ ـ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) أي هو يعلم وقت قيامها ولا يدري غيره (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في زمانه المقدّر له والمحل المعيّن له (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى ، قبيح أو جميل ، سخيّ أو بخيل وغير ذلك (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أي قضى عليها بأن لا تعرف ما تعمل في المستقبل (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) يعني في أيّ مكان يكون موتها. وروى القميّ عن الصّادق (ع) أن هذه الأشياء الخمسة لم يطّلع عليها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، وهي من مختصات الله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) بهذه الأمور دون غيره خبير بها.

٤١٩

سورة السجدة

مكية ، عدد آياتها ٣٠ آية

١ ـ (الم ...) قد مرّ ما في الحروف المقطّعة.

٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ ...) أي هذه السّورة أو هذه الآيات كتاب منزّل. (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي كائن من عند رب العالمين أو وحي من عنده.

٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي هل يقول أهل مكّة أن محمدا (ص) جاء بهذا القرآن من عند نفسه ويكذّبونه في قوله أنه من الله؟ (بَلْ هُوَ الْحَقُ) إلخ يعني لم يكن الأمر كما يقولون بأن القرآن افتراء بل هو الحق منزّل من عند الله عليك يا محمد (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي في عصر الفترة وهو ما بين عصر عيسى وخاتم الأنبياء (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الترجّي منه تعالى بمعنى الثبوت ، أي حتّى يهتدوا أو ليهتدوا بتلك الأدلة الواضحة.

٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أوجدهما وأنشأهما (وَما بَيْنَهُما) من الحيوانات والنّباتات والجمادات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) في مقدار من الزمان يصير إذا حدّد وعيّن ستّة أيام من أيام الدنيا. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استقرّ واستولى عليه وهو أعظم المخلوقات ، أو المراد عالم الأمر والتّدبير (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي من قريب يدفع عنكم عذاب الله أو شفيع يشفع لكم يوم القيامة. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله ونصائحه؟

٥ إلى ٨ ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ...) أي يسبّب أمر الدنيا مدّة أيامها فينزله (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ) أي يرجع الأمر كلّه (إِلَيْهِ) من بعد وجودها إلى ما بعد فنائها (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) في الدّنيا (ذلِكَ) أي الذي يدبّر الأمر على النهج المذكور (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعلم ما غاب عن الخلق وما يشاهد ويحضر ، (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره (الرَّحِيمُ) بعباده في تدبير أمرهم معاشا ومعادا (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أتقن وأحكم خلق كل شيء بحيث أعطاه ووفّر له ما يليق به طبق الحكمة والمصلحة. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) فالقمّيّ قال : هو آدم وقد مرّ تفسيره وأظنّه في سورة البقرة (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي ذرّيته (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ماء ضعيف وهي النطفة التي انسلّت وانفصلت من الصلب.

٩ ـ (ثُمَّ سَوَّاهُ ...) أي قوّاه وأتمّ تصويره بأن جعله بشرا تامّ الخلقة غير أنه ما كان فيه روح (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) والروح هو العنصر البسيط واللطيف القدسيّ الصادر عن عالم الربّوبيّة والإضافة إليه تعالى تشريفيّة كإضافة البيت إليه. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي خلق لكم أيها البشر هاتين الجارحتين لتسمعوا المسموعات وتبصروا المبصرات (وَالْأَفْئِدَةَ) أي وجعل لكم القلوب لتعقلوا وتتدبّروا بها (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (ما) زائدة ، أي : تشكرون شكرا قليلا.

١٠ و ١١ ـ (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ...) أي غبنا فيها بالدّفن ، أو بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يجدّد خلقنا ونبعث. والاستفهام إنكاريّ ، أي لا يكون ذلك أبدا (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي هم بما وعد به ربهم من الثواب والعقاب جاحدون ولذا صدر عنهم هذا القول. (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) أي يقبض أرواحكم ويستوفي نفوسكم (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي فوّض إليه قبض أرواحكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) تحشرون للحساب والجزاء.

٤٢٠