إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

٣١ ـ (حُنَفاءَ لِلَّهِ ...) أي موحّدين له (غَيْرَ مُشْرِكِينَ) أي مسلمين مخلصين لله لا يشركون في تلبية الحج به أحدا. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ ، فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي فقد أهلك نفسه هلاك من سقط منها (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تأخذه بسرعة (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي تسقطه من مكان مرتفع إلى موضع عميق جدا.

٣٢ ـ (ذلِكَ ...) أي الأمر ذلك الذي ذكرنا (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي معالم دينه ومناهجه ، قيل هي كل مناسك الحج. وقيل هي البدن إذا أشعرت بشق سنامها من الجانب الأيمن (فَإِنَّها) أي تعظيمها (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ناشئ من تقوى قلوبهم.

٣٣ ـ (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ...) أي لكم أيها الناس في الشعائر التي هي البدن منافع من شرب ألبانها وركوب ظهورها إلخ إلى أن يسمى هديا وذلك بوصولها إلى الكعبة أو منى. (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي محلّ نحر الهدايا هو الكعبة في العمرة المفردة ومنى في الحج ، وعندها تنقطع الاستفادة منها.

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ...) أي لكلّ أهل دين جعلنا قربانا أو ما يتعبّد به ويتقرّب به إليه تعالى ، (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) الثلاثة أي عند ذبحها (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي معبودكم لا شريك له (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي انقادوا (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) أي المطمئنّين به تعالى والمتواضعين له.

٣٥ ـ (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) أي خافت من هيبته (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) أي من المصائب (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في الطاعات الواجب والندب.

٣٦ ـ (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ ...) إلخ (الْبُدْنَ) جمع بدنة وهي الناقة أو البقرة المسمّنة. جعلنا البدن لكم من أعلام ديننا وعلائم مناسك الحج وفي سوقها إلى البيت وتقليدها عبادة لله. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) نفع دينيّ ودنيويّ (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) أي عند نحرها (صَوافَ) أي حال كونها قائمة مقيدة (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت على الأرض بعد خروج تمام الروح منها (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) القانع الذي يقنع بما يعطى ، والمعترّ الذي يعترض بسؤال أو بدونه. (كَذلِكَ) أي الأمر كما وصفنا (سَخَّرْناها لَكُمْ) ذلّلناها لكم بخلاف السباع الممتنعة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمنا.

٣٧ ـ (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ...) أي لن تصعد إليه اللّحوم ولا الدّماء (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي يصعد إليه من هو من لازم عملكم هذا وهو التقوى (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) تقدم ذكره ، (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه. وقيل المراد بالتكبير هو ما يكون في أيام التشريق : الله أكبر على ما هدانا. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي الموحدين.

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ...) يدفع غائلة المشركين عنهم بأن يمنعهم عنهم وينصرهم عليهم. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) وهم الذين خانوا الله بجعلهم شريكا له وجحدوا نعمه.

٣٤١

٣٩ ـ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...) إلخ أي رخّص للمؤمنين أن يقاتلوا المشركين بسبب مظلوميتهم من قبل المشركين وسينصرهم الله عليهم. والقراءة الشائعة (يُقاتَلُونَ) بفتح التاء مبنيا للمفعول ، والباء في (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) للسببية وفيه تعليل الإذن في القتال ، وأما ما هو الظلم فتفسيره قوله :

٤٠ ـ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ...) إلخ. يعني ما كان موجب لإخراجهم من مكة بعد أن اضطروا بسبب الإيذاء سوى التوحيد الملازم للإقرار بالرّبوبيّة. وفيه إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم وألحدوا عن الحق إلى حيث جعلوا قول القائل : ربنا الله ، وهو كلمة الحق ، يبيح لهم أن يخرجوه من داره. وتوصيف الذين آمنوا بهذا الوصف ـ كونهم مخرجين من ديارهم ـ وهو وصف بعضهم وهم المهاجرون ، من باب توصيف الكل بوصف البعض بعناية الاتحاد والائتلاف فإن المؤمنين إخوة وهم يد واحدة على من سواهم. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي بنصر المؤمنين على الكفار (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) جمع صومعة وهي معبد الرّهبان (وَبِيَعٌ) جمع بيعة وهي معابد النّصارى (وَصَلَواتٌ) أي معابد اليهود (وَمَساجِدُ) وهي معابد المسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) صفة للأربع أو للمساجد فقط ، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على النّصر (عَزِيزٌ) لا يغلب. وفي الآية إشارة إلى أن القتال في الإسلام من فروع هذه السنّة الفطرية الجارية وهي دفع الناس بعضهم بعضا عن شؤون حياتهم ، وإذا نسب إلى الله كل ذلك دفعه الناس بعضهم ببعض حفظا لدينه عن الضياع.

٤١ ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) إلخ بدل (مَنْ يَنْصُرُهُ) أو وصف للذين أخرجوا. ومعنى التمكّن في الأرض هو إعطاء السلطان والقدرة عليها (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي تصير إليه بلا منازع.

٤٢ إلى ٤٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ ...) إلخ وإن يكذبك قومك يا محمد فقد كذبت كل أمة من هذه الأمم نبيها وهذه الآيات الكريمات تسلية للنّبي (ص). (وَكُذِّبَ مُوسى) تغيير النظم وإيراد الفعل مجهولا للإشارة بأن المكذّبين لموسى ما كانوا من قومه وأنّ المكذّبين له هم القبطيّون. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أمهلتهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم بالانتقام منهم في الدنيا والآخرة.

٤٥ ـ (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ...) أي خالية من أهلها ساقطة حيطانها على سقوفها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي متروكة بموت أهلها وقيل : الإمام الصامت. (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي رفيع مجصص تداعي الخراب بهلاك أهله. وقيل : هو الإمام الناطق.

٤٦ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؟ ...) هذا حثّ لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا بعد ما يدركوا أن الذي وقع بهم إنما وقع لشركهم بالله وإعراضهم عن آياته واستكبارهم على الحق بتكذيب الرسل ، فيردعه كل ذلك عن أن يحذو حذوهم ويسلك طريقهم. (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي ما يجب أن يعقل (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي ما يجب أن يسمع (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي أن العيون لا تعمى لأنه ليس في مشاعرهم خلل ولا عيب ، ولكن تعمى البصائر عن مشاهدة العبر فالعمى الحقيقي هو عمى القلب.

٣٤٢

٤٧ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) الموعود به ، ولا يخفى أن استعجالهم كان استهزاء برسول الله (ص) (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) والحال أنه تعالى يمتنع الخلف في وعده بإنزال العذاب. قيل : يعني يوم بدر. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) أي يوما من أيام العذاب في الآخرة (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ممّا تحسبون في الدنيا. وتضمن هذا حكما بتساوي اليوم الواحد والألف سنة عند الله تعالى ، فلا يستقل هذا ولا يستكثر ذاك حتى يتأثر من قصر اليوم الواحد وطول الألف سنة ، فليس يخاف الفوت حتى يعجل لهم العذاب ، بل هو حليم ذو أناة يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم ثم يأخذهم فيما قدّر لهم من أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ولذلك عقّب الكلام بقوله سبحانه :

٤٨ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها ...) أي كم من قرية أمهلتها كما أمهلتهم الآن (وَهِيَ ظالِمَةٌ) مستحقة للعقاب بكفرها (ثُمَّ أَخَذْتُها) أهلكتها (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) مرجع الجميع. وفيه بيان وجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما كان مصير كل شيء إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل.

٤٩ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ...) قل يا محمد للناس أنا مخوّف لكم من عذاب الله إن كفرتم به وعصيتموه.

٥٠ ـ (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) لطاعتهم الله سبحانه. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو نعيم الجنّة.

٥١ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ...) أي الذين بذلوا طاقتهم في إبطال دلائلنا وحججنا. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) هم أهل النار الملازمون لأسفل دركات جهنّم.

٥٢ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ...) أي لم نرسل قبلك يا محمد رسولا ولا نبيا (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) تلا ما أوحينا به إليه من تمنّى الكتاب : أي قرأه وتلاه. (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أدخل في تلاوته ما يوهم أنّه من جملة الوحي والإلقاء في الأمنية : المداخلة فيها بما يخرجها عن صفائها ويفسد أمرها. (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يزيله ويبطله بظهور حججه (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) يثبتها ويقرّها كما نزلت من عنده. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.

٥٣ ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي ليصير إلقاء الشيطان امتحانا واختبارا لمرضى القلوب ومزعزعي العقيدة (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) المتحجّرة التي لا يلجها ذكر الله (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) لفي خلاف بعيد عن الحقّ.

٥٤ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ...) أي ليعرف الذين منحوا المعرفة بتوحيد الله وبمنهج الحق وطريق الصواب ، أن هذا القرآن حق من ربك يا محمد لا يجوز عليه التبديل والتحريف. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) يصدّقوا به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) تخشع وتطمئن للقرآن أو لله. (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق واضح لا عوج فيه وهو الإسلام.

٥٥ ـ (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ...) أي في شك من القرآن (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) إلى أن يجيء يوم القيامة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أو يجيئهم عذاب يوم القيامة الذي يسمّى عقيما لأنه لا مثيل له في الشدة. أو لأنه لا يخلف يوما بعده.

٣٤٣

٥٦ و ٥٧ ـ (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ...) ففي يوم القيامة لا يملك أحد سواه شيئا لأن الحكم من فروع الملك فإذا لم يكن لأحد يومئذ نصيب في الملك لم يكن له نصيب في الحكم. ويومها يفصل بين المؤمنين والكافرين (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يتنعّمون بعطاياه السنيّة خالدين فيها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بنا وبالرّسل (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أنكروا دلائلنا (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) عذاب يهانون فيه ويحتقرون.

٥٨ و ٥٩ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا ...) أي الذين فارقوا أوطانهم ثم قتلوا في الجهاد أو ماتوا في ديار هجرتهم أو في الطريق وإنما قيد الهجرة بكونها في سبيل الله ، لأن المثوبة إنما تترتب على صالح العمل ، وإنما يكون العمل صالحا عند الله بخلوص النية فيه وكونه في سبيله لا في سبيل غيره من مال أو جاه أو غيرهما من المقاصد الدنيوية ، وبذلك يقيد أيضا قوله : ثم قتلوا أو ماتوا : أي قتلوا في سبيل الله أو ماتوا وقد اغتربوا في سبيله. (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) وهو الجنة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) بل لا رازق سواه بالحقيقة لأنه هو مسبّب الأسباب للحصول على رزقه (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) ليدخلنّهم الجنّة التي يرضونها ويحبّونها (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بأحوال الكفار وغيرهم ويمهل الكافر ويلطف بالمؤمن.

٦٠ ـ (ذلِكَ ...) أي أمر الله ذلك الذي ذكرنا (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي جازى من ظلمه بمثل ما ظلمه به وإنما سميت المجازاة عقابا لأنها تأتي بعد الفعل. (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي عاوده الظالم بالظلم (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) يعني المظلوم الذي بغي عليه (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) للمنتصر. وفيه إيحاء بأن العقاب وإيصال المكروه إلى الناس مبغوض في نظام الحياة ، غير أن الله سبحانه يمحو ما فيه من المبغوضية ويستر على أثره السيّئ إذا كان عقابا من مظلوم لظالمه الباغي عليه بمثل ما بغي عليه ، فيجيز له ذلك ولا يمنعه بالتحريم والحظر.

٦١ ـ (ذلِكَ ...) أي المذكور من النّصر الإلهي للمظلوم على الباغي (بِأَنَّ اللهَ) أي بسبب أنه تعالى قادر على أن (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخل كلّا منهما في الآخر بنقصان زمان كل واحد وزيادته على الآخر (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) مر معناه.

٦٢ ـ (ذلِكَ ...) أي اتّصافه بكمال القدرة والعلم (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) بسبب أنه تعالى هو الثابت في نفسه والواجب بذاته لذاته (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلها (هُوَ الْباطِلُ) أي ما يعبدونه من الأصنام هو زائل وزاهق (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فهو في ذاته أعلى ممّن سواه وفي سلطانه أكبر ممّا عداه. فعلوّه تعالى بحيث يعلو ولا يعلى عليه وكبره سبحانه بحيث لا يصغر لشيء بالهوان والمذلة من فروع كونه حقا أي ثابتا لا يعرضه زوال وموجودا لا يمسه عدم.

٦٣ و ٦٤ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ ...) هذه الشريفة والآيات الثلاث بعدها جرت في بيان قدرته الكاملة وحكمته التامة فهو جلّت قدرته (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ) فصارت الأرض (مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) بالأعشاب والنباتات والأشجار ، (لَهُ) وهو مالك (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ) وهو (الْغَنِيُ) عن خلقه (الْحَمِيدُ) المحمود في كل شأنه.

٣٤٤

٦٥ و ٦٦ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ...) أي آخر الآيات الثلاث فتدمّرها رأفة منه بعباده ولطفا بهم ، كما أنه تعالى هو المحيي المميت المعيد بعد الموت ، وهذه الحياة ثم الموت ثم الحياة من النعم الإلهية العظيم احتم بها الامتنان ، وسياق الماضي في (أَحْياكُمْ) يدل على أن المراد به الحياة الدنيا ، وأهمية المعاد بالذكر تستدعي أن يكون المراد من قوله : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ، الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخية. ولكنّ الإنسان (لَكَفُورٌ) جحود بهذه النّعم التي منحه الله سبحانه إياها.

٦٧ ـ (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ...) أي قرّرنا لكل قرن ممن مضى شريعة هم عاملون بها. فالمنسك : مصدر ميمي بمعنى النسك وهو العبادة ، وليس اسم مكان كما احتمله بعضهم. والمراد بكل أمة هي الأمة بعد الأمة من الأمم الماضين حتى تنتهي إلى هذه الأمة دون الأمم المختلفة الموجودة في زمانه (ص) كالعرب والعجم والروم لوحدة الشريعة وعموم النبوة. (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) فلا يجوز لهم أن يجادلوك في أمر الدّين وأحكامه لأنّ الله وحده يملك حق التشريع ، رفعا ووضعا (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي إلى توحيده ودينه (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي أنت على دين واضح لا عوج فيه ولا خلل. ووصف الهدى بالاستقامة من المجاز العقلي.

٦٨ ـ (وَإِنْ جادَلُوكَ ...) أي إذا ناقشوك في أي حكم من أحكام الدين (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فهو يعرف حالكم ويجازيكم بأعمالكم. وفيه تمهيد وتوطئة إلى إرجاعهم إلى حكم الله سبحانه ولذلك قال :

٦٩ ـ (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) إلخ أي هو سبحانه يفعل يوم القيامة فيما اختلفتم به من أمر الدّين.

٧٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ ...) إلخ هذه الكريمة تسليمة للنبيّ لأنه يعرف أن الله علمه محيط بعجائب العلويّات وغرائب السّفليّات وليس شيء يخفى عليه ، (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) أي العلم بجميع الأشياء مثبت في اللوح المحفوظ. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إثباته في اللوح المحفوظ أمر سهل لا يحتاج إلى معالجة بأدوات كتابة بل يتم بقوله كن.

٧١ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) إلخ. أي يخضعون للأصنام ونحوها من غير علم ضروري بجواز عبادتهم ولا استدلاليّ عقليّ ، ولا نقليّ بل عن جهل وتقليد (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي ليس للمشركين من يدفع العذاب عنهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.

٧٢ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي إذا قرئت عليهم حججنا واضحات الدّلالة على دعاوى رسلنا وأنبيائنا ترى في وجوه الكافرين (الْمُنْكَرَ) الإنكار أي أثره من العبوس والاشمئزاز (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي يبطشون والسطوة : كما عن الطبرسي : إظهار الحال الهائلة للإخافة. (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي من غيظكم على التّالين لآياتنا (النَّارُ) أي هو النار.

٣٤٥

٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ...) أي سماع تدبّر وتفكّر والمثل هو الوصف الذي يمثل الشيء في حاله سواء كان وصفا محققا واقعا أو مقدرا متخيلا كالأمثال المشتملة على تحاور الحيوانات أو الجمادات أو غيرها. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي إن الأصنام التي تعبدونها (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي ليسوا بقادرين على خلق ذباب مع صغر حجمه وحقارته وإن تعاونوا جميعا على ذلك. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي لو سلب الذباب مما على آلهتهم التي يعبدونها من الطّيب والعسل الذي كانوا يلطخونها به لا تستطيع تلك الآلهة استرجاعه منه. (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي الذباب والأصنام. وفي هذه الجملة بيان غاية ضعفهم ، فإنهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من المخلوقات التي فيها شيء من الشعور والقدرة.

٧٤ ـ (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) أي ما عرفوه حق معرفته وما نزّلوه المنزلة التي يستحقها وما عاملوه بما يليق به حيث جعلوا الأصنام شركاء له وفيه إشارة إلى عدم التزامهم بربوبيته وإعراضهم عن عبادته. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قادر وغالب وليس شيء يغلبه.

٧٥ و ٧٦ ـ (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ...) فهو وحده سبحانه يختار من بين ملائكته رسلا يحملون الوحي إلى من يختارهم من بين الناس رسلا للبشر ، وهو (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) مر معناه. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما فعلوه سابقا وما سيفعلونه آتيا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ) تعود (الْأُمُورُ) كلّها يوم القيامة فيحكم فيها ويجازي عليها.

٧٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ. خطاب منه تعالى للمؤمنين اعتناء بهم ليركعوا له ويسجدوا إجلالا لعظمته ، وليعبدوا خالقهم من أجل أن يكونوا من الناجحين الفائزين بمرضاته.

٧٨ ـ (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ...) قيل : حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله تعالى عن الرياء والسمعة وغيرهما في أي جهة من جهات الجهاد للعدو كان أو للنفس وهذا نضير تقوى الله حق تقاته. (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي أنه تعالى لم يضيق عليكم أمر الدّين ولم يكلّفكم ما لا تطيقونه. وهذا امتنان منه تعالى على المؤمنين ، بأنهم ما كانوا لينالوا سعادة الدين من عند أنفسهم وبحولهم غير أن الله منّ عليهم فوقهم لدينه ورفع عنهم كل حرج فيه فهو دين السماحة واليسر. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي دينه لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد (ص) وإنما سمّاه أبا للجميع لأن حرمته على المسلمين كحرمة الوالد على الولد فالغالب عليهم أنهم أولاده (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي إبراهيم (ع) إشارة لدعائه (ع) (ومن ذريتنا أمة مسلمة) قبل نزول القرآن (وَفِي هذا) وفي هذا القرآن خاصة. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) : ليكون محمد يوم القيامة شاهدا عليكم بطاعتكم أو بعصيانكم (وَتَكُونُوا) بشهادته (ص) لكم بالإيمان والطاعة أيّها المسلمون (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) إلخ بتبليغ رسلهم إليهم فحافظوا على صلاتكم وأدوا زكاتكم (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) تمسّكوا بدينه (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولّي أموركم ، وهو (فَنِعْمَ الْمَوْلى) لمن تولاه (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن استنصره بلوغ الفوز في الدارين. والحمد لله وحده.

٣٤٦

سورة المؤمنون

مكية ، عدد آياتها ١١٨ آية

١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ...) الفلاح هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أي فازوا بما طلبوا. والفلاح ـ كما عن الراغب ـ ضربان : دنيوي وأخروي ، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز. والأخروي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وعلم بلا جهل ، ولذلك قيل : لا عيش إلا عيش الآخرة.

٢ ـ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ...) أي خاضعون متذللون متوجهون بقلوبهم وعقولهم وأجسادهم إليه وحده.

٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ...) اللغو كلّ قول أو فعل ساقط لا فائدة مرجوّة منه وحقه أن يلغى ويدخل فيه الغناء والملاهي ، فالمؤمنون منصرفون عن كل ذلك.

٤ و ٥ و ٦ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ...) أي مؤدون بشرائطها. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) يحفظون أنفسهم من تعاطي الزّنا والمحرّمات الجنسية ولا يأتون سوى أزواجهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي الإماء التي يملكونها بالحلال ، (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لا يؤاخذون في ذلك لأنه مما أحلّه الله تعالى لهم.

٧ ـ (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ ...) ومن قصد غير من ذكر من النكاح المحلل (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي المتجاوزون لحدود الله.

٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ...) أي حافظون لأمانات الله وأمانات العباد وافون بعهودهم وعقودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس.

٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ...) بإقامتها مع المحافظة على أوقاتها وحدودها المعيّنة.

١٠ و ١١ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ ...) إلخ. أي أن الموصوفين في الآيات السابقة الذين أفلحوا في أعمالهم يفوزون بإرث الفردوس التي هي أعلى مراتب الجنة. وما ذكر من أوصاف للمؤمنين هنا ـ عند التأمل فيها ـ هي ملازمة لكون وصف الإيمان ليس معنى جامدا وإنما هو حي فعّال متحرك يترتب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتب عليه الغرض المطلوب وهو الفلاح. إذ أن هذه الأوصاف كلها إنما هي أوصاف عملية تتداخل وتتفاعل لتنتج في الخارج شخصية إيجابية على الصعيدين الفردي والاجتماعي. وأما وراثة المؤمنين للفردوس فقد ورد في بعض الأخبار أن لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله.

١٢ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) أي هذا النوع من الحيوان أو المراد آدم (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي صفوة سلّت من الطين. وقيل : إن المراد بالطين آدم (ع) لأنه كان في بدء أمره طينا.

١٣ ـ (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ...) أي جعلنا الإنسان قطرة من الماء الصافي يقذفه الرجل من صلبه (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي في مستقر حصين وهو الرحم.

١٤ و ١٥ و ١٦ ـ (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ...) أي قطعة دم جامد ، و (مُضْغَةً) قطعة لحم كأنّه ممضّغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) جعلناها صلبة قوية (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي من بقايا المضغة ، أو لحما جديدا. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي نفخنا فيه من روحنا فصار إنسانا كاملا (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي تعالى الله ودام خيره وثبت وتقدس.

١٧ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ...) أي سبع سماوات ، جميع طريقة ، لأنها طرق الملائكة على ما قيل. (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) أي المخلوقات جميعا لم نكن (غافِلِينَ) أي تاركين تدبيرهم.

٣٤٧

١٨ ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ...) أي بمقدار يوافق المصلحة ، ويقتضيه التدبير التام الإلهي لا يزيد قطرة على ما قدّر ولا ينقص. (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي أثبتناه فيها مددا للينابيع والآبار (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي إذهابه وإفنائه. ولو فعلناه لهلك جميع الحيوانات ولفنيت النباتات.

١٩ ـ (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ...) أي أوجدنا بهذا الماء بساتين مما ذكرنا لمنافعكم أيها الناس (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ) إلخ أي في الجنات الفواكه الكثيرة من أصناف مختلفة تتفكهون بها وتأكلون.

٢٠ ـ (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ ...) أي وانشأنا لكم بذلك المطر شجر الزيتون ، وسيناء اسم المكان الذي فيه جبل الطور. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي تنبت تلك الشجرة المباركة بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن وسرج به ويوقد منه وكونه صغبا أي أداما ، فإن به يصبغ الخبز أي يغمس فيه ويؤكل. وإنما خص شجرة الزيتون لعظيم منافعها وعجيب أمرها. وقد ورد في الخبر ، عنه (ص): الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه وادّهنوا.

٢١ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ...) أي فيها دلالة تستدلون بها على قدرة الله (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) من ظهورها وأصوافها وشعورها وأوبارها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من لحومها وأولادها.

٢٢ ـ (وَعَلَيْها ...) أي على بعضها أي الإبل (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي الإبل والسفن تحملكم في البرّ والبحر.

٢٣ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً ...) إلخ. أي من المرسلين في الأمم الماضية هو نوح ، فدعا قومه إلى عبادة الله وإلى توحيده وخوّفهم بقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن يهلككم الله بكفركم به.

٢٤ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) قال الجماعة الكافرون من قومه ما هذا إشارة إلى نوح (ع) (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) هو إنسان مثلكم (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) يريد أن يترأس عليكم ويؤيد ذلك أنه يدعوكم إلى اتباعه وطاعته (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يرسل رسولا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) من عنده يبلّغون الناس رسالته (ما سَمِعْنا بِهذا) بمثل ما يدعونا إليه نوح من التوحيد (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) فيمن سبقنا من الأمم.

٢٥ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ...) ما نوح إلا رجل اعتراه جنون فقال ما قال. ويحتمل أن المراد بالجنّة : مفرد الجن ، أي حل به من الجن من يتكلم على لسانه لأنه يدعي ما لا يقبله العقل السليم ويقول ما لا يقوله إلا مصاب في عقله. (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) انتظروا به (حَتَّى حِينٍ) إلى وقت ما ، فيفيق من جنونه أو يموت.

٢٦ و ٢٧ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ...) بعد هذا العناد الشديد من قومه ، دعا نوح ربّه أن ينصره على قومه بسبب تكذيبهم إياه (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أنزلنا عليه وحيا من عندنا (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) ابدأ بصناعة السفينة مقدّمة لإهلاك قومك بمنظر ومرأىّ منا (وَوَحْيِنا) بتعليمنا كيف تصنع (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بنزول العذاب (وَفارَ التَّنُّورُ) أي أن العلامة بيني وبينك بزمان نزول العذاب هو فوران الماء ونبعه من التنّور. فإذا رأيت الماء يفور منه (فَاسْلُكْ فِيها) أي فأدخل فيها (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى. (وَأَهْلَكَ إِلَّا ...) إلخ مر تفسيره في سورة هود (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي تأكيد بالدّعاء بإنجائهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي هالكون.

٣٤٨

٢٨ و ٢٩ ـ (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ...) يعني إذا صعدت ومن حملت إلى السفينة ، واستقرّيتم عليها (فَقُلِ) داعيا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الحمد لله الذي خلصنا من القوم الذين ظلمونا بسخريتهم وظلموا أنفسهم بكفرهم. (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) إلخ أي أدع بذلك حين نزولك. وقيل المنزل المبارك هو السفينة لأنها سبب النجاة ، وقيل المكان المبارك بالمياه والشجر وكثرة النعم. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لأنه لا أحد غيره يقدر على أن يحفظ أحدا أنزله منزلا من جميع الآفات.

٣٠ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ ...) أي في إغراق قوم نوح ونجاته وأهله ، إلّا من سبق عليه القول بإهلاكه ونجاة المؤمنين به (لَآياتٍ) دلالات لأهل العبرة (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي : وإن كنا لمختبرين قوم نوح بإرساله إليهم ومتعبدين عبادنا المؤمنين بالاستدلال بتلك الآيات على قدرتنا.

٣١ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ ...) أي أوجدنا بعد إهلاك قوم نوح (قَرْناً آخَرِينَ) قوما غيرهم وهم عاد وثمود ، وقيل هم عاد فقط.

٣٢ ـ (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ...) أي بعثنا رسولا منهم : بشرا ، هو هود يأمرهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ...) واضح المعنى وقد مر.

٣٣ و ٣٤ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا ...) إلخ قال الكافرون من قومه من منكري البعث (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وكنّا قد أنعمنا عليهم في حياتهم. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) مرّ تفسيره (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) من الطعام (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ولا يمتاز عنكم بشيء (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما يدعوكم إليه (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لا تصيبون ربحا بذلك.

٣٥ و ٣٦ ـ (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً ...) أي هذا الذي يدّعي النبوّة يقول لكم أنكم تعدون بعد أن تموتوا وتصيروا ترابا وعظاما بالية (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) تبعثون أحياء من قبوركم في دار الحياة؟ ... (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي : بعدا بعدا لما يقوله ومن المحال فيما يعدكم ليوم البعث.

٣٧ ـ (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ...) إلخ أي ما هي إلّا هذه الحياة التي يموت قوم منا فيها ويحيا آخرون (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ولسنا بمعادين بعد الموت.

٣٨ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى ...) إلخ أي ليس هود سوى رجل اختلق كذبا على الله (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ولسنا بمصدّقين ما اختلقه.

٣٩ و ٤٠ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ...) مرّ تفسيرها قريبا (قالَ) الله تعالى له مجيبا دعاءه : (عَمَّا قَلِيلٍ) بعد فترة بسيطة (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) ليصيرنّ نادمين على تكذيبك.

٤١ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ...) صاح بهم جبرائيل صيحة واحدة هائلة أهلكتهم جميعا (بِالْحَقِ) بالحكم العدل من عند الله لأنهم كانوا مستحقّين لها. (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) الغثاء : اليابس الهامد من نبات الأرض. أي جعلناهم هلكى كالغثاء. (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي بعدوا بعدا من رحمة الله.

٤٢ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ...) مرّ تفسيرها وهي تعني قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.

٣٤٩

٤٣ ـ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يسبق وقت هلاكها الأجل المعيّن له ولا يتأخر عنه.

٤٤ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ...) أي متتالية واحدا بعد واحد ، (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) فلم يصدّقوا قوله (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي أهلكنا بعضهم إثر بعض. (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) إلخ فما أبقينا منهم أثرا إلّا حديث الناس عنهم.

٤٥ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ ...) أي بعثناهما (بِآياتِنا) بمعجزاتنا التسع المشهورات (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة واضحة ملزمة للخصم.

٤٦ ـ (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ...) الملأ أشراف القوم وعليتهم (فَاسْتَكْبَرُوا) تجبروا عن الإيمان (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أي أرباب علوّ وقهر واستيلاء.

٤٧ ـ (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ...) فقال آل فرعون مثلما قال من سبقهم : هل نؤمن لإنسانين مثلنا وليسا من الملائكة (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي يطيعوننا طاعة العبد لمولاه ويقصدون بني إسرائيل.

٤٨ ـ (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ...) أي أن فرعون وقومه لم يصدقوا موسى وهارون فكانوا ممّن قضينا عليهم بالغرق.

٤٩ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ...) أي : قد أنزلنا على موسى التوراة لكي يهتدوا بها إلى الحق.

٥٠ ـ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ...) أي جعلناهما معجزة أظهرناها للنّاس بقدرتنا (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أسكنّاهما في أرض مرتفعة هي بيت المقدس ، أو هي دمشق أو مصر (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) أي مستوية يستقرّ عليها والمراد بالمعين هو الماء الجاري الصافي.

٥١ ـ (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ...) أي المستلذّات المباحات (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي الإتيان بالخير في سبيل الله والعمل بأوامره وترك نواهيه.

٥٢ ـ (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ...) أي دينكم دين واحد وشريعة واحدة ومتوحدة على التوحيد (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي خالقكم ليس لكم ربّ سواي فلا تتفرّقوا عن عبادتي (فَاتَّقُونِ) فلذلك فخافوني.

٥٣ ـ (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ...) أي أنهم مع تلك الوصايا بوحدة الكلمة في أمر الدّين فإنّهم جعلوا دينهم أديانا مختلفة وطوائف متنازعة ، وزيرا : أي قطعا قطعا ، (كُلُّ حِزْبٍ) كل فريق (بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) مسرورون راضون بما اتّخذوه دينا لأنفسهم.

٥٤ ـ (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ...) أي اتركهم يا محمد في جهلهم إلى وقت الموت أو العذاب بعد حشرهم.

٥٥ و ٥٦ ـ (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ ...) إلخ أي أيظن هؤلاء الكفّار أنّ ما نعطيهم ونزيدهم في أموالهم وأولادهم إنما نعطيهم ثوابا ومجازاة لهم على أعمالهم ولرضائنا عنهم كلا ليس الأمر كما يظنون بل هو استدراج لهم وإملاء وابتلاء. (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي بل هم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكّروا في ذلك أهو استدراج أم مسارعة في الخيرات.

٥٧ و ٥٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ ...) أي من خوف عذاب (رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي حذرون. (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ).

٥٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ...) أي يوحّدونه ولا يجعلون له شريكا ...

٣٥٠

٦٠ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ...) أي يعطون ما أعطوه من الصّدقات الواجبة والمندوبة أو أعمال البرّ كلّها (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة أن لا يقبل منهم (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي لأن مرجعهم إليه فهو يعلم ما يخفى عنهم مما قد قصّروا فيه أو لم يقبله منهم.

٦١ ـ (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ...) أي يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرون بها. (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي وهم لأجل تلك الخيرات سابقون إلى الجنّة.

٦٢ ـ (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ...) يعني لا نلزمها إلا بما هو دون طاقتها من التكاليف. (وَلَدَيْنا كِتابٌ) أي صحيفة الأعمال أو اللوح المحفوظ (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) يبيّن الحق ويشهد بالصّدق فيما كتب فيه من أعمال العباد (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقصان الثواب أو بازدياد العقاب على مقدار استحقاقهم.

٦٣ ـ (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا ...) والمعنى أن قلوب الكفار في غفلة شديدة من هذا الكتاب المشتمل على الوعد والوعيد وهو القرآن. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) سيّئة خبيثة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي سوى ما هم عليه من الشرك (هُمْ لَها عامِلُونَ) معتادون على فعلها.

٦٤ ـ (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ ...) أي إلى أن نأخذ متنعّميهم (بِالْعَذابِ) في الآخرة أو القتل ببدر أو الجوع (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يستغيثون.

٦٥ ـ (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ...) أي لا تستغيثوا هذا اليوم وهو يوم القيامة (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي قيل لهم : لا تمنعون منّا أو لا يأتيكم نصر من ناحيتنا.

٦٦ ـ (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ...) أي تقرأ (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي تعرضون وترجعون القهقرى مكذبين.

٦٧ ـ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ...) أي بالقرآن أن تقبلوه (سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تتحدثون في الليل بالطّعن في القرآن وبالرسول (ص).

٦٨ ـ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ...) أي القرآن ، فيعرفوا ما فيه من الدّلالات والعبر ويعلموا أنّه الحق من ربّهم. (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) استفهام إنكاريّ ، أي جاءهم رسول وكتاب من عند الله كما جاء أسلافهم من الأمم الماضية ، فلست بدعا من الرسل وليسوا بدعا من الأمم.

٦٩ ـ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ...) أي ألا يعرفونه بالصّدق والأمانة ومكارم الأخلاق وكمال العلم مع عدم التعلّم ، وبشرف النّسب (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) وهذا الاستفهام كما في السّابق للإنكار أي بل عرفوا جميع ذلك فلا وجه لإنكارهم له (ص).

٧٠ ـ (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ...) أي أنه مجنون ، فلا يعتنون بقوله (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي بدين الحق المستقيم وهو الإسلام (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) حيث لم يوافق أهواءهم.

٧١ ـ (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ ...) الحق هو الله سبحانه. والمعنى : لو جعل الله لنفسه شريكا كما يهوون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) وهذه الشريفة تفيد ما يستفاد من قوله سبحانه : لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا ، ووجه الفساد هو التمانع والتزاحم. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي بكتاب فيه وعظهم وعزهم لأن القرآن نزل بلغتهم والرسول منهم. (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي تاركون له وراء ظهورهم.

٧٢ ـ (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ...) أي هل تسألهم يا محمد على ما جئتهم به أجرا. (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي فرزق ربك في الدنيا خير من خرجهم. وكذلك ثوابه الأخروي. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي أفضل من أعطى.

٧٣ ـ (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ ...) إلخ أي إلى دين الإسلام الذي لا عوج فيه.

٧٤ ـ (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ...) أي عادلون عن جادة الهدى متمايلون إلى تيه الضلالة فإن الإيمان بالآخرة من أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه.

٣٥١

٧٥ ـ (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ...) أي لو رفعنا عنهم القحط الذي أصابهم بمكة سبع سنين (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي لداوموا على ضلالتهم وإفراطهم في كفرهم يترددون. واللّجاج : التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه والعمه : التردد في الأمر من الحيرة.

٧٦ ـ (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ...) أي القتل يوم بدر وقيل : الجدب الذي ابتلي به أهل مكة. وقد ورد في بعض الروايات أن أبا سفيان جاء إلى النبي (ص) فقال : يا محمد : أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله : ولقد أخذناهم بالعذاب ... (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي فما انقادوا لله وما يرغبون إليه بالدعاء.

٧٧ ـ (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ...) أي نوعا آخر من العذاب ، يعني الجوع فإنه أشد من القتل والأسر. أو المراد هو فتح مكة (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي متحيّرون أو آيسون.

٧٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ...) أي خلق لكم هذه الحواس من لا شيء ، وخصّها بالذكر لأنها وسائل المعرفة إذ أن الإنسان ينظر ويسمع ويتفكر فيعلم. والأفئدة جمع فؤاد وهو القلب. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي لا تشكرون ولو شكرا قليلا.

٧٩ ـ (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ...) أي أوجدكم فيها (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي إليه تبعثون يوم القيامة ليجازيكم.

٨٠ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) أي اختلافهما بالازدياد والانتقاص فذلك يختص به تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي لم لا تتفكرون فتعلموا أن لذلك صانعا حكيما قادرا.

٨١ ـ (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ ...) أي قلّد كفّار مكة آباءهم السابقين في مقالتهم الفاسدة التي هي :

٨٢ ـ (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ...) هل إذا متنا وصرنا ترابا وفنيت أجسادنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) إلى الحياة مرة أخرى. وهذا الكلام منهم مبني على الاستبعاد لحصول البعث والمعاد.

٨٣ ـ (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ...) أي أن مسألة الوعد بالبعث والنشور أمر سمعناه وسمعه آباؤنا من سائر الأنبياء قبلك يا محمد (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) هذه أكاذيب سطّرها السابقون من عندهم ، وهي مما لا حقيقة له. إذ إن الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا ويخوّفوننا بقيام الساعة ولو كان حقا غير خرافي لوقع.

٨٤ و ٨٥ ـ (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ...) إلخ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين لمن خلق الأرض وملكها ومن فيها من العقلاء سيجيبوك بأن كل ذلك لله فقل لهم عندئذ : أفلا تتفكرون فتعلمون أن من قدر على ذلك قادر على أن يعيدكم أحياء بعد الموت فلم تنكرون البعث؟

٨٦ إلى ٨٧ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ...) إلخ أي اسألهم يا محمد عن مدبّر السّماوات السّبع والعرش وخالقهما فلا بدّ لهم من الاعتراف والقول بأنّه هو الله (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فلم لا تخافونه وتنكرون المعاد مع أن بدء الخلق ليس بأهون من إعادته.

٨٨ و ٨٩ ـ (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ...) الملكوت هنا هي الخزائن أي من بيد قدرته خزائن الدّنيا والآخرة (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يؤمّن من عذابه من شاء (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي ليس لأحد أن يؤمّن أحدا من عذابه تعالى إلا بمشيئته ... (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إلخ تدركون ولن تقولوا إلّا أن الله تعالى يملكه (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) فكيف يتلبّس عليكم الحق فتتخيلونه باطلا؟.

٣٥٢

٩٠ ـ (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ...) أي نحن جئناهم بالحقّ وبيّنا لهم الحق ولكنهم أصروا على كذبهم وباطلهم.

٩١ ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ...) أي لم يتبنّ أحدا ، لا المسيح ولا عزير ولا الملائكة إذ كون ولد له ممتنع في حقه سبحانه لأنه الواجب الوجود لذاته. (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) لتقدسه عمّن يساهمه في الألوهيّة (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) مفادها ، مفاد قوله : لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا. وقد تقدّم شرحها. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ولطلب بعضهم قهر بعض ومغالبته كما هو شأن الملوك (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من نسبة اتخاذ الولد إليه والشريك له تعالى.

٩٢ ـ (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...) أي عالم بما غاب وبما حضر (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزّه عن إشراكهم في علمه وقدرته وألوهيته.

٩٣ و ٩٤ ـ (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ...) أي إن كان ولا بدّ من أن تريني ما تعدهم من العذاب (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا تعذبني معهم.

٩٥ ـ (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ...) أي نحن قادرون على أن نريك العقوبة التي وعدنا أن نعاقبهم بها ، لكن التأخير لمصلحة وحكمة اقتضته.

٩٦ ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ...) أي ادفع بالإغضاء والصّفح عن إساءة المسيء. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي بما يصفونك به من السحر والشعر والجنون. أو ما يصفوننا مما لا يليق بساحة قدسنا من الشريك والولد.

٩٧ و ٩٨ ـ (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ ...) أي قل على وجه الابتهال رب أعتصم بك. (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أي من وساوسهم (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي يقاربوني في شيء من الأحوال.

٩٩ و ١٠٠ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ ...) كلمة (حَتَّى) متعلقة ب (يَصِفُونَ) أي أن الكفّار يبقون على سوء ما هم عليه حتى يجيء إليهم الموت فيقول أحدهم (رَبِّ ارْجِعُونِ) مخاطبا الملائكة أو مستغيثا بالله (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) أي عملا صالحا (فِيما تَرَكْتُ) من الطاعات (كَلَّا) كلمة ردع عن طلب الرجعة ، أي لا سبيل إلى إرجاعك. (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي هو مجرّد لفظ لا حقيقة تترتّب عليه قاله لفرط تحسّره. (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ومن بين أيديهم حاجز بين الموت والبعث من القبور في القيامة.

١٠١ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ...) أي فإذا نفخ إسرافيل في القرن المعدّ إيذانا بيوم البعث فلا تنفعهم الأنساب بالتّعاطف والتراحم في ذلك اليوم. (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي يومئذ لا يسأل أحد أحدا عن حاله ومجاري أموره كما كان الحال بينهم في الدنيا وذلك من فرط الحيرة واستيلاء الدّهشة.

١٠٢ و ١٠٣ و ١٠٤ ـ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ...) أي من رجحت موزونات أعماله الحسنة المبنيّة على عقائده الصحيحة ، فهو من الفائزين (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) لخلوّها من العمل الصالح أو لرجحان السيئات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) غبنوها بإبطال أوقاتهم وأعمارهم في الدنيا فلم ينتفعوا بها (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) باقون في عذابها دائما (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرقها أشد حرق بلهبها وهم عابسون.

٣٥٣

١٠٥ ـ (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ...) أي ألم تكن تقرأ عليكم آياتي في القرآن أو حججي على أيدي أنبيائكم فكنتم بها تجحدون؟

١٠٦ ـ (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ...) والمعنى : استعلت علينا سيئاتنا التي أوجبت لنا الشقاوة وكنا قوما ذاهبين عن الحق.

١٠٧ ـ (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ...) أي يقولون : ربنا أخرجنا من النار فإن رجعنا إلى الكفر والمعاصي نكون ظالمين لأنفسنا. وقيل هذا آخر كلام يتكلم به أهل النار.

١٠٨ و ١٠٩ و ١١٠ و ١١١ ـ (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ...) أي اسكتوا ممقوتين خائبين مخيّبين. (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) المؤمنين بي (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) صدّقنا بكلماتك (فَاغْفِرْ لَنا) تجاوز عن ذنوبنا (وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أرأف بنا فإنك أحرم من كل رحيم. وكان هذا دعاؤهم في الدنيا (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) جعلتم هؤلاء المؤمنين (سِخْرِيًّا) هزأتم بهم (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) وقد نسب الإنساء إلى المؤمنين وإن لم يفعلوا لأنهم كانوا السبب في ذلك ، فمن فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم نسيتم ذكري وكذّبتم بهذا اليوم. (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) استهزاء بهم. (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ) إلخ بصبرهم على أذيّتكم لهم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بالجنة يوم القيامة.

١١٢ و ١١٣ ـ (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ...) السائل هو الله تعالى ، أو الملك المأمور بالسؤال للكفار في يوم البعث. كم بقيتم في قبوركم أو فيها وفي حياتكم الدنيا وهذا سؤال توبيخ واستهزاء لمنكري البعث والحساب. (قالُوا) بفشل وخيبة : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم كانوا ينكرون الآخرة وانحصر اللبث في الدنيا فاستقبلوا حياتهم في الدنيا أو فيها وفي القبور لطول مكثهم في النار. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) يعنون الحفظة الذين يحصون أعمال العباد.

١١٤ ـ (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً ...) هذا القول منه تعالى تصديق وتوبيخ لهم في كون مكثهم في الدنيا يسير بالإضافة إلى طول مكثهم في عذاب جهنم. (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نسبة الدنيا كلها في جنب الآخرة وخلودكم في النار.

١١٥ ـ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) أي هل ظننتم أيها الجاحدون للبعث أننا خلقناكم لا لحكمة بل للهو (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) لمجازاة الأعمال؟.

١١٦ ـ (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ...) إلخ أي الذي يحق له الملك تسامى عما يصفه به الجاهلون من الشريك والولد ، إذ لا إله غيره. (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي خالق السّرير الأعظم.

١١٧ ـ (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ...) أي لا حجة له فيما يدّعيه لأن الباطل لا برهان له ، (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) إلخ أي فإن معرفة مقدار ما يستحقه من العذاب مختصة بالله ، إنه لا يظفر الجاحدون للبعث بخير.

١١٨ ـ (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ...) إلخ وقل يا محمد رب اغفر الذنوب وأنعم على خلقك وأنت أفضل المنعمين وأوسعهم رحمة.

٣٥٤

سورة النور

مدنية ، عدد آياتها ٦٤ آية

١ ـ (سُورَةٌ ...) أي هذه قطعة من القرآن (أَنْزَلْناها) من عالم القدس إليك (وَفَرَضْناها) أوجبنا العمل بأحكامها (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدّلالة على وحدانيّتنا أو الحدود والأحكام (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتفكروا فتعلموا بما فيها فتعملوا.

٢ ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ...) أي من زنت من النّساء وزنى من الرّجال. (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) هذا حكم الأعزب غير المحصن أمّا المحصن فحدّه الرجم بالحجارة. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) أي رحمة في حكمه فتعطّلون حدّه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي أن الإيمان يقتضي الحدّ في طاعة الله والاجتهاد في إقامة أحكامه. (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي وليحضر حين إقامة حد الجلد على الزانية والزاني المحصنين جماعة من المؤمنين وهم ثلاثة فصاعدا.

٣ ـ (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ...) إلخ معناها أنّ الزنا لا يرغب فيه الصّلحاء غالبا وإنما يرغب الإنسان بمشاكله ومماثله. (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي صرفت الرغبة بالزنا عن المؤمنين. والتحريم هنا تنزيهيّ ، فقد نزّههم الله تبارك وتعالى عن إتيان الزنا.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) أي يقذفون العفائف بالزنا ، (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) إلخ عدول يشهدون على صحّة ما رموهنّ به من الزنا فعقوبتهم الجلد كل واحد منهم ثمانون جلدة. (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي في شيء قبل الجلد وبعده أبدا ما لم يتب (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) بفعل هذه الكبيرة.

٥ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ...) أي عن القذف بأن يكذّبوا أنفسهم (وَأَصْلَحُوا) إلخ عملهم فإنّ الله يغفر لهم.

٦ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ...) أي يقذفون (أَزْواجَهُمْ) بالزنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) والمعنى : أن الذين ينسبون الزنا إلى زوجاتهم ولم يكن لهم أربعة شهداء يشهدون لهم بصحة قولهم فلا بد لهم أن يشهدوا بالله أربع مرات مرة بعد أخرى إنه لمن الصادقين.

٧ ـ (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ...) أي والشهادة الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين في شهادته عليها. وعندئذ يدرأ عنه حد القذف ويفرّق بينه وبين زوجته من دون طلاق وتعتدّ. ثم إنّها إن كانت تريد أن تدفع الحدّ عن نفسها قد بيّنه سبحانه بقوله :

٨ ـ (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ...) أي يدفع عنها الرّجم (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) تقول أربع مرات مرة بعد أخرى : أشهد بالله إلخ.

٩ ـ (وَالْخامِسَةَ ...) أي تشهد شهادة خامسة (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) أي عذابه عليّ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماني به من الزّنا. ثم يفرّق الحاكم بينهما ولا تحلّ له أبدا.

١٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ...) أي بالنّهي عن الزنا والفواحش ، وإقامة الحدود ورحمته من يرجع عن المعاصي منكم (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) يقبل التوبة (حَكِيمٌ) فيما يحكم.

٣٥٥

١١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ...) أي بالكذب العظيم (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي جماعة (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) لا تظنّوا ذلك الإفك أمرا سيئا لكم (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور ما نزل من القرآن في براءة ساحتكم وتشديد الوعيد في من تكلّم بهذا الأمر (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاء ما اكتسب منه بقدر ما خاض فيه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي تحمّل معظمه (مِنْهُمْ) من الخائضين وهو عبد الله بن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه بين الناس عداوة لرسول الله عند ما أشاع عن إحدى زوجات النبي (ص) بالفاحشة. (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة أو في الدنيا من جلده ووهنه ورد شهادته.

١٢ ـ (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ...) إلخ. أي هلّا حينما سمعتم أيها المؤمنون بالإفك والكلام الباطل أنكرتم ذلك؟ وكان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول القاذف أن يكذّبوه وأن لا يسرعوا إلى التهمة بل يشتغلون بحسن الذكر لمن عرفوا طهارته ولم يظنّوا به إلّا خيرا لأنّه كأنفسهم.

١٣ ـ (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ...) يعني هؤلاء الأفكة إذا كانوا صادقين في قولهم لماذا لا يجيئون على مدّعاهم ببيّنتهم ، بأربعة شهداء؟ (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) ولن يأتوا بهم أبدا (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فلا بدّ من أن يجري عليهم حد القذف لأنهم كاذبون في حكم الله.

١٤ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) إلخ أي لو لا فضل الله عليكم في الدّنيا بأنواع النّعم التي من جملتها الإمهال للتّوبة ، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة (لَمَسَّكُمْ) أصابكم (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي خضتم فيه (عَذابٌ عَظِيمٌ) دائم.

١٥ ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ...) أي ينقله بعضكم عن بعض (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) تحكون الخبر بلا حجّة ومن غير برهان (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) أي سهلا لا إثم فيه (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الإثم لأنه كذب وافتراء.

١٦ ـ (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ...) أي هلّا قلتم حينما سمعتم قول الإفك (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) لا يصحّ لنا حكايته وذكره لحرمة ذلك (سُبْحانَكَ) تنزيها لك يا رب (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي الذي قالوه زور عظيم وزره.

١٧ ـ (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ ...) أي ينهاكم الله أو يحرّم عليكم العود لمثله من الإفك (أَبَداً) طول أعماركم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين بالله ورسوله.

١٨ ـ (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ...) الدّالة على الشّرائع ومحاسن الآداب كي تتّعظوا وتتأدّبوا (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.

١٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ...) أي يفشو ويظهر الزنا والقبائح (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) بأن ينسبوها إليهم ويقذفوهم بها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بإقامة الحد ورد شهادتهم (وَالْآخِرَةِ) بالنّار. (وَاللهُ يَعْلَمُ) الضّمائر والمصالح والمفاسد (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.

٢٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ...) أي لو لا فضله ورحمته لعاجلكم بالعقوبة أو ما زكى أحد منكم وقد مر تفسير شبيهتها قبل آيات.

٣٥٦

٢١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ...) أي لا تتبعوا آثاره ومسالكه مما يؤدي إلى موالاته. وقيل خطواته وساوسه. (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يطيعه (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ) تابعيه (بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الفحشاء هو ما أفرط في قبحه ، والمنكر ما أنكره الشرع والعقل. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ) أي ما طهر أحد منكم من دنس الذّنوب (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي يطهّر بلطفه من هو أهل لذلك (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.

٢٢ ـ (وَلا يَأْتَلِ ...) أي لا يحلف من الإيلاء أو لا يقصّر من ألى يألو (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) بالحسب والنّسب (وَالسَّعَةِ) في المال (أَنْ يُؤْتُوا) قال الذين يفسرون الائتلاء بمعنى الحلف : إن كلمة (لا) هنا محذوفة أي : لا يحلفون أن لا يؤتوا ، لأن لا تحذف في اليمين كثيرا. وإن قلنا بأن الائتلاء من ألى يألو أي التقصير يكون المعنى : لا يقصروا بإيتاء إلخ. (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل : نزلت في جماعة من الصّحابة حلفوا ألّا يتصدّقوا على من تكلّم بشيء من الإفك ولا يواسوهم (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أمرهم الله أن يعفو عما صدر عن الآفكين الآثمين وليصرفوا أنفسهم عن الانتقام منهم. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أي إذا فعلتم كان غفران الله ورحمته شاملين لكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.

٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) : أي يقذفون العفائف (الْغافِلاتِ) عن الفواحش التي نسبت إليهنّ (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي أبعدوا من رحمة الله في الدارين. وقيل عذّبوا في الدنيا برد شهادتهم وفي الآخرة بالنار.

٢٤ ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ...) إلخ بإنطاق الله هذه الجوارح ليعترفوا بما صدر عنها من الأقوال والأفعال.

٢٥ ـ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ...) أي يوم القيامة يتمم الله لهم جزاءهم المستحق (وَيَعْلَمُونَ) علما وجدانيا (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي هو الثابت بذاته الظاهر بألوهيته يبيّن لهم حقائق الأمور.

٢٦ ـ (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ...) أي أن النسوة الخبيثات للرّجال الخبثاء وأن النسوة الطاهرات للرجال الطاهرين وهكذا العكس بحكم انجذاب الطبع إلى ما يناسبه (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي أن الطيبين والطيبات مبرأون مما يقال فيهم من الإفك دليل ظاهره على أن المعنى الثاني هو المراد من الآية وقيل : إن الإشارة راجعة إلى النبيّ (ص) وصفوان وعائشة ، أي أنهم مبرأون مما قيل. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي رزق لا نقص فيه ولا تعب لأنه كثير دائم.

٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) : أي لا ينبغي لكم الدخول في بيوت يسكنها غيركم (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي تستأذنوا ، (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) بالتحيّة الإسلاميّة كقوله السّلام عليكم. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاستئذان والتّسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تذكرون مواعظ الله لتتأدّبوا بآدابه.

٣٥٧

٢٨ ـ (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ...) يأذن لكم (فَلا تَدْخُلُوها) لأنه ربما كان فيها ما لا يجوز أن تطّلعوا عليه (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي حتى يأذن لكم ربّ البيت في ذلك. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي إن طلب منكم الانصراف فانصرفوا بلا إلحاح منكم بالدخول فهو أطهر لكم وأقرب إلى أن تصيروا أزكياء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها.

٢٩ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ...) كالرّبط والحوانيت فيجوز لكم الدخول فيها بغير استئذان (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي للاستمتاع بها كالتحفظ من الحر والبرد إلخ. وربما قيل : ـ كما في تفسير الميزان ـ إن المراد بالمتاع المعنى الاسمي ، وهو الأثاث والأشياء الموضوعة للبيع والشراء كما في بيوت التجارة والحوانيت ، فإنها مأذونة في دخولها إذنا عاما ، ولا يخلو من بعد لقصور اللفظ. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي مطلع على سركم وجهركم ونواياكم.

٣٠ ـ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ...) عمّا يكون محرّما عليهم النظر إليه فإن النظر بريد الزنا. (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) يستروها من النظر المحرّم وقيل : عمن لا يحل لهم وعن الفواحش. (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر وأنفع لهم (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي بما يصدر عن أبصارهم وفروجهم وجميع جوارحهم.

٣١ ـ (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ...) إلخ أمر النساء بما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج. فلا يجوز لهن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ويجب عليهن ستر العورة عن الأجنبي والأجنبية. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي لا يظهرن مواضع الزينة لغير المحرم ومن هو في حكمه (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) قيل : الزينة الظاهرة الكحل والخاتم ، وقيل : هي الثياب. وقيل : الوجه والكفان. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) الخمر جمع خمار وهو الذي تستر المرأة به رأسها ورقبتها. أمرهن سبحانه بإلقاء خمرهن على صدورهن تغطية لنحورهن. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) الإبداء : هو الإظهار ، والمراد بزينتهن : مواضع الزينة. كرّره مقدّمة لبيان من يحلّ له الإبداء ومن لا يحلّ ، ومن يحلّ هم الذين استثناهم الله تعالى بقوله (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أي أزواجهن إلى قوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) الآية ، والمراد بقوله (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني المؤمنات فلا يتجرّدن للكافرات ، وقيل إن الأمة إذا كانت مملوكة لا بأس أن تتجرّد السيّدة المالكة لها عندها ولو كانت كافرة لقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) والمراد بالتابعين هم الذين يتبعون الناس ويدخلون معهم البيوت لفضل طعام أو ما يحتاجون إليه ، ولا حاجة لهم إلى النساء لهرم أو بله أو جنون وأمثالهم (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي أن الطفل إذا كان بحيث لم يعرف العورة ولم يميّزها لقلّة سنّة وعدم بلوغه حدّ الوطء فلا بأس بتجرد المرأة عنده. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) إلخ على الأرض حين المشي ليتبين خلخالها أو تسمع قعقعته. (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بسعادة الدارين.

٣٥٨

٣٢ ـ (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ...) إلخ أيامى جمع أيّم وهو الأعزب أي زوّجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم. وزوجوا أيضا المؤمنين المستورين من عبيدكم والمؤمنات المستورات من إمائكم. (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) إلخ أي إن لم يكن لديهم سعة مالية للتزوج فإن الله يوسّع عليهم لو تزوجوا فإنه سبحانه واسع كريم.

٣٣ ـ (وَلْيَسْتَعْفِفِ ...) أي لا بدّ من الجهد في تحصيل العفة وقمع الشهوة (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي لا يجد السبيل إلى أن يتزوج من المهر والنفقة (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من إحسانه وكرمه. (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) أي يطلبون المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) أي من مماليككم عبدا كان أو أمة فأجيبوهم إلى ما رغبوا (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي قدرة على اكتساب مال المكاتبة. وقيل رشدا. وقيل دينا ومالا. (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للسّادة بإعطائهم شيئا من أموالهم ومثله حطّ شيء من مال المكاتبة. (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أي إمائكم ، والبغاء هو الزّنا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعفّفا (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) علة للإكراه ، أي من كسبهن أو بيع أولادهن. (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمكرهات لا للمكرهين لأن الوزر عليهم.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ ...) أي ظاهرات في الأحكام والحدود (وَمَثَلاً) إلخ خبرا من أخبار من كان قبلكم ، لتعتبروا بها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي زجرا لهم عن المعاصي.

٣٥ ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي أنه سبحانه الهادي أهل السموات والأرض إلى ما فيه صلاحهم في الدارين. (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) أي كوّة في الحائط (فِيها مِصْباحٌ) سراج (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) في قنديل زجاجيّ (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) تضيء كأنّها الزّهرة في لمعانها (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) كثيرة المنافع (زَيْتُونَةٍ) بدل من الشجرة. (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لا يفيء عليها ظل شرق ولا غرب بل هي في مكان تكون فيه ضاحية للشمس باستمرار وبذلك يكون زيتها أصفى وأنفع. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي قبل أن تمسّه النار لفرط صفائه وكثير لطافته (نُورٌ عَلى نُورٍ) متضاعف صفاؤه حيث انضمّ إلى نور المصباح ولمعان الزّجاجة التي وضع فيها صفاء الزيت أيضا. (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يرشده إلى هداه ويبيّن له الضلالة (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) تقريبا للمعقولات إلى المحسوسات للأفهام ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مر معناه.

٣٦ ـ (فِي بُيُوتٍ ...) الجارّ متعلق بما قبله وهو المشكاة أي هذه المشكاة في بيوت هذه صفتها وهي المساجد وقيل هي بيوت الأنبياء أو بيوت النبي (ص) (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) إلخ بتعظيمها من تلاوة كتابه فيها ، أو ذكر أسمائه الحسنى فيها ، أو تطهيرها. (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) أي يصلّي له فيها (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي بالغدايا وهي بكور النهار والعشايا وهي أواخرها. وقد يمتد ذلك إلى العتمة.

٣٥٩

٣٧ ـ (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ ...) أي يسبح له فيها رجال لا تشغلهم (تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) لا شراء ولا بيع (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) إلخ أي إقامة الصّلاة ودفع الزكاة المفروضة إلى مستحقيها (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي تضطرب فيه القلوب والأبصار من الهول أو تتغير أحوالها فتتيقّن القلوب بعد الشك وتبصر الأبصار بعد العمى وهو يوم القيامة.

٣٨ ـ (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ...) أي يعطيهم أحسن جزائهم (وَيَزِيدَهُمْ) على ذلك (مِنْ فَضْلِهِ) أشياء لم يعدهم على أعمالهم (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بلا استحقاق على عمل بل تفضلا منه سبحانه.

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ...) أي التي يعملونها ويعتقدون أنها طاعات كشعاع بأرض بياض مستوية (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) يظنّه العطشان ماء (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) حتّى إذا انتهى إليه لم يجد مما حسب وقدّر شيئا أرضا لا ماء فيها. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) عند جزائه محاسبا إيّاه (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أعطاه جزاء عمله تماما (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يمنعه حساب بعض عن محاسبة الآخر.

٤٠ ـ (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ...) أي أن أعمالهم في خلوّها عن نور الحق مثل ظلمات في بحر عميق (يَغْشاهُ مَوْجٌ) إلخ أي من فوق الموج موج (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) من فوق الموج الثاني سحاب حجب نور الكواكب (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي الظلمات المتراكمة إذا أراد أن يلاحظ يده فأخرجها إلى مقابل عينيه لم يقارب أن يراها لشدّة الظلمة (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) من لم يقدّر له الهداية (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) وهو في ظلمة الباطل دائما.

٤١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ ...) إلخ أي ينزّهه عمّا لا يليق به أهل السّماوات من الرّوحانيّين وأهل الأرض من الإنس والجن (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهنّ وواقفات في الجوّ. (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) إلخ معناه أن جميع ذلك من المسبّحين ، وقد علموا صلوات أنفسهم وتسبيحهم ، وهم يؤدّونها في وقتها ، أو أنه سبحانه قد علم ذلك كله من الجميع وهو وسع كل شيء علما.

٤٢ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي على الحقيقة لا يشاركه فيه أحد (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

٤٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ...) أي يسوقه برفق إلى حيث يريد (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بضمّ بعضها إلى بعض فتصير قطعة واحدة (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متراكما ومتراكبا بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ترى المطر يخرج من فتوقه وفرجه ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) أي ينزّل من السحاب مما تحمله من الجبال المتكونة من البرد وهو قطع الثلج. (فَيُصِيبُ بِهِ) بالبرد (مَنْ يَشاءُ) من يريد (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) يدفعه عنه (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة.

٣٦٠