إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

٢١ ـ (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ...) أي كما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا عليهم أهل مصرهم (لِيَعْلَمُوا) بعد اطّلاعهم على حالهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ) لآتية (لا رَيْبَ فِيها) لا شك فيها. وفي الحديث : كما تنامون تستيقظون وكما تموتون تبعثون ، النوم أخ الموت. (إِذْ يَتَنازَعُونَ) يعني أثرنا عليهم حين كانوا يتنازعون (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي أمر الفتية فقد قيل ماتوا ، وقيل ناموا (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) كالمقابر حتى يخفوا عن أعين الناس الكفرة. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي لم تقولون ما لا تعلمون؟ نحن العالمون أنّهم نائمون أم ميّتون. (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) إلخ أي الملك المؤمن وأعوانه الذين غلبوا على أمر الناس وحكموهم أمروا ببناء مسجد يصلّي فيه المسلمون ويكون ذكرى وعبرة لمنكري البعث والحشر.

٢٢ ـ (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ ...) أي أهل المدينة وملكهم أو المراد بالمتنازعين في العدد ، وهم أهل الكتاب والمؤمنون في عهد نبيّنا (ص) فكما اختلفوا في مدة لبثهم في الغار كذلك اختلفوا في عددهم ، فمن قائل : هم ثلاثة ، ومن قائل هم خمسة ، إلى قائل : هم سبعة (رَجْماً بِالْغَيْبِ) إلخ أي يقولون قولا من حيث لا علم لهم بالغيب ولا معرفة لهم بعددهم. بل قل يا محمد بأن الله أعلم بعددهم (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وهم النبيّ وأوصياؤه ومن تعلّم منهم. (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي لا تجادل في أمر الفتية إلّا أن تتلو عليهم ما أوحي إليك بلا تعنيف ودون أن تتعمّق فيه (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي لا تسأل في شأن الفتية من أهل الكتاب أحدا.

٢٣ و ٢٤ ـ (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ...) إلخ أي لا تصدر إلّا عن مشيئة الله تعالى ، وإلّا متلبّسا بها ، قائلا : إن شاء الله. قال الأخفش : فيه إضمار القول ، وتقديره : إلا أن تقول إن شاء الله والنهي في الآية تنزيهي لا تحريمي ، بل هو إرشاد إلى أمر مطلوب وهو خروج قولك بهذا الاستثناء عن الكذب إذا قلت شيئا بنحو قاطع وجازم ، فلا يلزم كذب إذا حلفت ولم تفعل. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي إذا نسيت الاستثناء والتّقييد فاستثن متى ذكرت أنّك لم تستثن ولم تقيّد كلامك ، فقل : إن شاء الله. وعن أمير المؤمنين (ع): الاستثناء في اليمين متى ما ذكرت وإن كان بعد أربعين صباحا. (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) إلخ أي أرجو من ربّي أن يلهمني ويعطيني ما هو أقرب وأوضح دلالة على نبوّتي من قصة أصحاب الكهف.

٢٥ ـ (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ...) أي ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياما.

٢٦ ـ (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ...) أي أعرف من الذين اختلفوا فيه من أهل الكتاب ، فلا بدّ من أن يؤخذ بما أخبر به الله وأن يترك قول أهل الكتاب. (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علم الغيب مختصّ به تعالى (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي بالله تعالى وهي صيغة تعجّب أي ما أبصره بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع (ما لَهُمْ) أي لأهل السّماوات والأرض (مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولّى مصالحهم ويفوّضون أمرهم إليه (وَلا يُشْرِكُ) لا يشارك الله (فِي حُكْمِهِ) قضائه وسلطانه (أَحَداً) من مخلوقاته المفتقرة إليه.

٢٧ ـ (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ...) أي اقرأ على الناس ما ننزله عليك من الوحي المكتوب في القرآن (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا مغيّر لما أخبر به فيه وما أمر به (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملجأ.

٣٠١

٢٨ ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ...) أي احبسها. و (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي رضاه وطاعته (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) لا تجاوز عينيك عن المؤمنين إلى غيرهم من أهل الدنيا (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي مجالسة الأشراف وأصحاب الأموال من أهل الدنيا (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي إفراطا وتجاوزا للحدّ.

٢٩ ـ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ...) أي أنّ القرآن من عند ربّكم (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) فليقبل (وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي فليأب ، فإن له الاختيار ، وهذا تهديد ووعيد بصيغة الأمر ، ولذلك عقّبه بقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلظَّالِمِينَ) الكافرين الذين باعوا أنفسهم بعبادة غيره سبحانه (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي فسطاطها ، (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا ... كَالْمُهْلِ) أي القيح المختلط بالدّم من الميّت خاصّة ، أو ما هو المذاب من المعدنيّات كالنحاس. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) ينضجها حرّه إذا ادني منها (بِئْسَ الشَّرابُ) أي المهل. (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي متّكأ. والارتفاق : هو نصب المرفق تحت الخدّ ، وذكره للمقابلة والمشاكلة بقوله : وبئست مرتفقا ، وإلا أين المخدّة والمتّكأ لأهل النار.

٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... أَحْسَنَ عَمَلاً) : أي لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا ، بل نجازيهم ونوفّيهم من غير بخس. وتدل الآية على أن العمل شرط في تحصيل هذه المثوبات إذ إن العطف يدل على المغايرة ، والإيمان المجرد عن العمل مقتض لا أنه علة لها.

٣١ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ ...) أي للذين ذكرناهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي جنات إقامة لأنهم يبقون فيها ببقاء الله دائما. وقيل عدن هو بطنان الجنة أي وسطها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) إمّا باعتبار أنهم على غرف في الجنّة أو لأنّ أنهار الجنة تجري في أخاديد وأقنية مرتبة في الأرض وتحت الغرف والقصور (يُحَلَّوْنَ فِيها) إلخ أي يجعل لهم فيها حليّ من أساور من ذهب (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) وهي أبهى الألوان (مِنْ سُنْدُسٍ) أي ما رقّ من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ) أي ما غلظ منه (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السّرير (نِعْمَ الثَّوابُ) أي الجنّة ونعيمها (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) أي السّرر من حيث الاتّكاء عليها والارتياح بها في تلك الجنّات.

٣٢ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) : أمر الله تعالى نبيّه (ص) بضرب مثل للكفرة ويريد الله بالرّجلين ابني ملك كان في بني إسرائيل توفي وترك ابنين ومالا جزيلا فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرّب به إلى الله تعالى وتصدّق به ، وأخذ الآخر وهو الكافر حقه فتملّك به ضياعا ، منها هاتان الجنتان اللّتان ذكرهما الله تعالى ومنها دار بني بألف دينار وتزوّج بامرأة بألف دينار ثم اشترى خدما بألف دينار ، فوصف الله سبحانه البستانين بصفات منها كونهما جنّتين بظلّ الأشجار. والصفة الثانية قوله سبحانه : (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل محيطا بالجنّتين ، إلى آخر الأوصاف المذكورة.

٣٣ ـ (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ...) أي أعطت ثمرها (وَلَمْ تَظْلِمْ) لم تنقص (مِنْهُ شَيْئاً) من الثمر المعهود ، (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي شققنا وسطهما نهرا ليسقيهما.

٣٤ ـ (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ...) أي كان للكافر أثمار من أموال مثمرة غير ثمر الكرم والنخل ، واختصاصهما بالذكر لغالبيتهما وإلا فالتنكير للتعميم. (فَقالَ لِصاحِبِهِ) أي لأخيه المؤمن (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي يجادله ويفتخر عليه (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي أقوى رهطا وخدما وأولادا وأعوانا.

٣٠٢

٣٥ ـ (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ...) أي أدخل أخاه المؤمن معه في البستانين يطوف به فيهما ويفاخره بهما ويعيّره على إتلاف أمواله في سبيل ربّه وإفراد الجنة هنا ، إما لأنهما بحكم الواحدة لتواصلهما ، أو لإرادة الجنس ، أو لأنه أدخله في واحدة منهما فقط دون الأخرى لأنها كانت مؤثرة في نفسه أكثر من أختها لطراوتها وبهجتها ونضارتها وسعتها .. إلخ ، كما هو الظاهر من إضافتها إلى نفسه. (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي ضار لها بعجبه وكفره. (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) أي لا أحسب أن تفنى هذه الجنة.

٣٦ ـ (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) : أي ما أظن أن القيامة آتية (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) بالبعث كما تزعم أيها الأخ (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي والله لتكوننّ عاقبة أمري ومرجعي يوم القيامة خيرا من دنياي. وإنما قال ذلك لتوهمه أو لأنه كان معتقدا بأن استحقاقه الذاتي مقتض لكونه موردا لألطافه تعالى في الدنيا ، وإذا كانت هذه هي العلة فهي باقية إلى يوم البعث.

٣٧ ـ (قالَ لَهُ صاحِبُهُ ... أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ...) لأن النّطفة أصل خلق الإنسان هي من الغذاء الذي ينبت من تراب الأرض والمقصود بصاحبه أخوه المؤمن عند جوابه له (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ما هو المادة القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) جعلك إنسانا مستقيما مستوي الخلقة.

٣٨ ـ (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ...) يعني : أنا أقول هو الله الذي ربّاني بعد ما أوجدني (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) لا أعبد غيره معه.

٣٩ و ٤٠ ـ (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ ...) إلخ أي هلّا قلت حين دخلت جنّتك كلمة المشيئة ، أي ما شاء الله إلخ (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) أي وإن كنت تراني فقيرا لا مال عندي ولا أولاد (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) أي فأرجو أن يرزقني ربّي ما هو أحسن من جنّتك في الآخرة ، كما أخشى أن تخرب جنّتك (وَيُرْسِلَ) الله (عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) أي يبعث عليها لكفرك عذابا أو شرّا أو بلاء من السّماء كالصّاعقة ونحوها (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أي أرضا ملساء لا تثبت عليها قدم. وقيل أرضا محترقة.

٤١ ـ (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً ...) أي ذاهبا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي لن تجد حيلة تردّه بها.

٤٢ ـ (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ...) أي أهلكت أمواله ومخبّاته. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) إلخ أي يضرب إحداهما على الأخرى كناية عن التندم والتحسّر (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي أن الأبنية ساقطة عن دعائم كرومها (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ) كأنّه تذكّر نصح أخيه ووعظه له وتنبّه إلى أن هذا العذاب من ناحية شركه.

٤٣ ـ (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ ...) إلخ أي جماعة تعينه على مصيبته (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ممتنعا بقوّته عن انتقام الله منه.

٤٤ ـ (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ...) أي يوم القيامة. أو في حال تنازع المؤمن والكافر والولاية بفتح الواو : هي النصرة ، وبكسرها السّلطان والملك. (خَيْرٌ عُقْباً) أي أحسن عاقبة.

٤٥ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا ...) أي اجعل يا محمد لقومك وللناس مثلا هو هذه الحياة التي يعيشونها في الدنيا فإنها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) كالمطر الذي انحدر من السماء (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فنما وكبر ونضج (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي يابسا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تنسفه وتطيّره بهبوبها. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي قادرا على الإنشاء والإفناء.

٣٠٣

٤٦ ـ (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ...) المال والبنون ممّا يتزيّن به في الحياة ولا ينتفع بهما في الآخرة. (وَ) لكن (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) من أعمال الخير والطاعات (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي أفضل ثوابا وأصدق أملا من سائر زينة الدنيا. وقيل إن الباقيات الصالحات هي الولاية ، وقيل هي التسبيحات الأربع وقيل الولد الصالح والكتاب النافع وغيرها.

٤٧ ـ (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ ...) أي نقلعها قلعا من أماكنها يوم القيامة (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) ظاهرة من تحت الجبال ليس عليها ما يسترها (وَحَشَرْناهُمْ) جمعناهم إلى الموقف (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي لم نترك أحدا إلا حشرناه.

٤٨ ـ (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ ...) أي وقفوا للحساب بين يديه سبحانه (صَفًّا) مصفوفين ، (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي أحضرناكم على الحالة التي أوجدناكم فيها حين خلقكم عراة ليس معكم من الأموال والأولاد شيء (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي : أيها المنكرون للبعث ليس الأمر كما تزعمون من أنّا لن نجعل لكم وقتا للبعث والحساب.

٤٩ ـ (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي جنسه من صحائف الأعمال لبني آدم في الأيمان والشمائل (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) إلخ أي خائفين مما فيه من الذّنوب (وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا) هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدّة وهمّ فيدعو على نفسه بالويل (ما لِهذَا الْكِتابِ) أي شيء لهذا الكتاب (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي لا يترك الصغيرة ولا الكبيرة من السيئات والذنوب إلا عدّها واثبتها وفي هذا التعبير دلالة على مدى إحاطة علمه سبحانه (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مكتوبا في صحيفة العمل (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لا ينقص من ثواب أحد ولا يزيد في عقاب مسيء.

٥٠ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ ...) إلخ لقد مر تفسيره فيما تقدم في سورة البقرة وذكر هذه القصّة تقريرا للتّشنيع على أهل الكبر من المنكرين للبعث وغيرهم من العصاة بأنّ ذلك من سنن إبليس وقيل : كرره تعالى في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك الحال ، وهكذا كل تكرار في القرآن. (أَوْلِياءَ) أي محبوبين (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) بئس بدل الظالمين بدلا عن الله تعالى من الشيطان وذرّيته.

٥١ ـ (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) إلخ أي الشيطان وذرّيته ما أحضرتهم حين خلق السماوات والأرض اعتضادا بهم (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي عونا.

٥٢ ـ (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ ...) إلخ يقول الله تعالى يوم القيامة لعبدة الأصنام نادوا شركائي الذين زعمتم في الدنيا أنهم كذلك فلينصرونكم دوني. وإضافة الشركاء إليه تعالى على زعمهم إنما هو من باب التوبيخ لهم والاستهزاء بهم. (فَدَعَوْهُمْ) فنادوهم للإعانة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) فلم يلبّوا النداء (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي بين الكفار وآلهتهم (مَوْبِقاً) حاجزا بين الكفار ومعبوديهم. من الملائكة والمسيح وعزير ، فندخل الكفرة في النار بينما ندخل هذين المعبودين الجنة ، كما فسّر الموبق بالمهلك ، وهو على ما قيل : دار في الجحيم ينزلها العبدة وآلهتهم حيث يشتركون في العذاب.

٥٣ ـ (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ...) أي أيقنوا الدّخول فيها (مَصْرِفاً) أي موضع فرار.

٣٠٤

٥٤ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ ...) أي بيّنا فيه مفصّلا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل شيء يحتاجون إليه من قصص الأمم الماضية للعبرة ، ومن دلائل القدرة الكاملة تقوية للبصيرة. وقد مر تفسيره في سورة بني إسرائيل (جَدَلاً) أي خصومة.

٥٥ ـ (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ...) إلخ أي لم يحجزهم عن الإيمان وطلب المغفرة بعد مجيء الدلالة غير طلب ما جرت العادة الإلهيّة عليه من إهلاك الظّلمة الماضين في الدّنيا ، و (الْعَذابُ) عذاب الآخرة (قُبُلاً) أي عيانا.

٥٦ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ ...) إلخ أي لم نبعث الأنبياء إلا ليرغّبوا الناس بالثواب وليخوّفوهم من العقاب (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يخاصم الكفار أهل الحقّ دفاعا عن مذهبهم (بِالْباطِلِ) من إنكار إرسال البشر كقولهم للأنبياء : ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو شاء الله لأنزل ملائكة ، ومن اقتراحهم الآيات بعد ظهور المعجزات ، ومن نسبة ما جاء به الأنبياء إلى السحر والشعر والكهانة (لِيُدْحِضُوا بِهِ) أي ليزيلوا بالجدال (الْحَقَ) القرآن أو الدّين القويم (وَاتَّخَذُوا آياتِي) يعني دلائل وجودي وقدرتي. (وَما أُنْذِرُوا) من ذكر القيامة وعذابها ، (هُزُواً) سخرية.

٥٧ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ...) إلخ أي ليس أظلم من الإنسان الذي ترشده إلى الحق فيعرض عنه (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي أغطية (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفهموا القرآن ، (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) إلخ صمما وثقلا ، كناية عن غباوة قلوبهم ومسامعهم عن قبوله ، فهم لا يهتدون أبدا.

٥٨ و ٥٩ ـ (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ...) إلخ واضح المعنى ، وهو لا يؤاخذ الناس بذنوبهم ولا يعجّل لهم العذاب في الدّنيا (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) يوم القيامة و (مَوْئِلاً) ملجأ. و (الْقُرى) عاد وثمود وأمثالهم (لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي لإهلاكهم وقتا معلوما لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون. وورد في تفسير القمي : لما سأل اليهود النبي (ص) عن قصة أصحاب الكهف وأخبرهم بها ، قالوا له (ص) : أخبرنا عن العالم الذي أمر الله موسى أن يتبعه وما قصته فأنزل الله تعالى قوله :

٦٠ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ...) أي يوشع بن نون سمّي فتى لأنه كان حديث السنّ أو لأنه كان يتبعه ويخدمه ، (لا أَبْرَحُ) أي لا أزال أسير (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي ملتقى بحري فارس وبحر الروم وهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر (عليهما‌السلام) (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أسير زمنا طويلا الحقب ثمانون سنة.

٦١ ـ (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما ...) أي ملتقى البحرين ، و (نَسِيا حُوتَهُما) أي تركاه ذهولا عنه (فَاتَّخَذَ) أي سلك الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) بارزا وقيل : مستترا. وقيل : إن موسى وفتاه لما بلغا ذلك الموضع جلسا ليستريحا فنام موسى من شدة التعب وعناء السفر ، واشتغل يوشع بالوضوء من ذلك الماء وكانت ماء الحياة فوقعت قطرة منه على ذلك الحوت المشوي أو المملوح فدبّت فيه الحياة فاتخذ الحوت سبيله ... إلخ.

٣٠٥

٦٢ ـ (فَلَمَّا جاوَزا ... آتِنا غَداءَنا ...) إلخ أي لمّا انصرفا وقطعا مسافة قال موسى ليوشع : أعطنا ما نتغذّى. والغداء : طعام الغداة كما أن العشاء طعام العشي. و (نَصَباً) عناء.

٦٣ ـ (قالَ أَرَأَيْتَ ...) أي : أو تدري (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) إذ استرحنا إليها (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) عندها وقد (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) إلخ فسهوت عنه ، (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي سار الحوت في البحر وكان بحيث يتعجّب منه لأنه كان ميّتا فصار حيّا.

٦٤ ـ (قالَ ...) أي قال موسى ليوشع (ع) (ذلِكَ) أي فقدان الحوت (ما كُنَّا نَبْغِ) هو الّذي نطلبه حيث إنّه علامة لمن نريده ونطلبه ، (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) فرجعا في الطريق الذي جاءا منه على آثار أقدامهما (قَصَصاً) رجوعا من حيث جاءا.

٦٥ ـ (فَوَجَدا عَبْداً ... آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ...) أي النبوّة ، أو الولاية ، أو الوحي. (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أي من علم الغيب الذي لم يكتب في الألواح.

٦٦ ـ (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ ...) أي هل تسمح لي بمصاحبتك والمضيّ معك لأجل أن تعلّمني (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) بعض ما أفاضه الله تعالى عليك من الهداية؟ وقيل : بأن موسى (ع) لما رآه قال له : السلام عليك ، فأجابه : السلام عليك يا عالم بني إسرائيل ، ثم وثب فأخذ عصاه بيده ، فقال له موسى (ع) : إني قد أمرت أن اتّبعك على ... إلخ.

٦٧ و ٦٨ ـ (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) : أجابه الخضر (ع) قائلا : إنك يثقل عليك الصبر بمرافقتي لأنني وكّلت بأمر لا تطيقه ، ووكّلت بعلم لا أطيقه (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي كيف يتأتّى لك الصبر على أشياء قد تقع أمامك ولا تعرف وجه الحكمة فيها. أو تسكت عما يحدث أمامك وأنت لا تعرف السر في حدوثه؟

٦٩ ـ (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ...) قال موسى (ع) : سترى أنني أصبر بمشيئة الله (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) وسأطيعك وأمتثل أوامرك أثناء مصاحبتي لك.

٧٠ ـ (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ...) أجابه الخضر (ع) : إذا أردت مصاحبتي فلا تسأل عن شيء تراني أفعله أثناء صحبتنا (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أبتدئك بتفسيره.

٧١ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ ...) فمضيا معا حتى ركبا سفينة ف (خَرَقَها) أي ثقبها الخضر (قالَ) موسى (ع) : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) لتعرّض ركّابها للغرق في البحر؟ (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي فعلت شيئا عظيما أو منكرا.

٧٢ و ٧٣ ـ (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ...) إلخ قال الخضر مجيبا موسى (ع) : ألم أقل لك سلفا : إنك لا تقدر على الصبر أثناء متابعتي لأنك لا تعرف وجه الحكمة في أفعالي.؟ (قالَ) موسى (ع) : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) آمل العفو عمّا نسيته من شرط متابعتك (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تعاملني بما لا أطيق في مرافقتك ، وفي اعتراضي عليك واستباقي للحوادث.

٧٤ ـ (فَانْطَلَقا ، حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ...) ثم نزلا إلى البر ومشيا فصادفا في طريقهما فتى فقتله الخضر ، ف (قالَ) موسى (ع) : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) نفسا طاهرة من الذنوب (بِغَيْرِ نَفْسٍ) بدون أن تستحق القتل بقود وشبهه (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) فعلت فعلا منكرا بقتل هذا الغلام من دون سبب.

٣٠٦

٧٥ و ٧٦ ـ (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ...) إلخ مرّ تفسيرها ، ف (قالَ) موسى (ع) : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) إذا استفهمت منك عن شيء تفعله من الآن وصاعدا فلا ترافقني (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي أنك معذور من جانبي. لأنني أنا الذي لم ألتزم بشرط مصاحبتك.

٧٧ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ ...) فتابعا سيرهما إلى أن دخلا قرية ، وكان من عادة أهلها أن يسدّوا بابها عند غروب الشمس. فلا يفتحوه لأحد إلا عند طلوعها ، وكلما اجتهدوا وطلبوا فتح الباب لهم لم يجبهم أحد. (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي طلبا الطعام من أهلها. (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) فبقيا دون أكل خارج سور القرية إلى أن أصبح الصباح (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي رأيا في ضاحية القرية حائطا مشرفا على الانهيار (فَأَقامَهُ) بناه الخضر وساعده موسى ولكنه (قالَ) له : (لَوْ شِئْتَ) أردت (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أجرة نشتري بها طعاما نقتات به.

٧٨ ـ (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ...) أي أن قولك : لو شئت لاتّخذت عليه أجرا ، صار سببا للفراق بيننا وقد ذكر الفراق ثم كرر ذكر البين ليؤكد عدم مصاحبته بعدها. (سَأُنَبِّئُكَ) سأخبرك (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي بحكمة الأشياء التي لم تقدر على السكوت عليها حتى تعرف وجه الحكمة فيها. والتأويل : هو صرف الكلام عن معناه الظاهر إلى معنى أخفى منه ، وهو مأخوذ من آل إذا رجع ، ويقال : تأوّل فلان الآية ، أي نظر إلى ما يؤول إليه معناها.

٧٩ ـ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ ...) إلخ أمّا السّفينة التي خرقتها فإنها ملك لبعض الفقراء من البحّارة ، (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) قصدت أن أجعل فيها عيبا لتصير غير صالحة للاستعمال. (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) ظالم (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) من أصحابها ليسخّرها في مصالحه الشخصيّة. فأنقذتها بهذا العمل من المصادرة.

٨٠ و ٨١ ـ (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ ...) أي الفتى الذي قتلته هو ابن لمؤمنين مرضيّين وهو مكتوب في جبينه أنه كافر ، (فَخَشِينا) أي خفنا (أَنْ يُرْهِقَهُما) يثقل كاهلي أبويه (طُغْياناً وَكُفْراً) ظلما وجحودا (فَأَرَدْنا) رغبنا بقتله (أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أن يرزقهما غيره ولدا خيرا منه طهارة وصلاحا (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي أشد عطفا عليهما ورحمة بهما. وعن الصادق عليه‌السلام أنه سبحانه أبدلهما جارية فولدت لهما سبعين نبيا.

٨٢ ـ (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ...) وأمّا الحائط الذي بناه في المدينة تبرعا فهو لولدين فقدا أبويهما (وَكانَ تَحْتَهُ) أي تحت الجدار (كَنْزٌ لَهُما) مال مدفون لهما. وقيل لم يكن مالا بل صحف علم وكان مكتوبا فيها : لا إله إلا أنا ، من أيس لم يضحك سنّه ، ومن أيقن بالموت لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله. (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) مؤمنا بالله مطيعا له ، (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي أن يكبرا ويصبحا راشدين (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) يكشفانه (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) لطفا منه بهما (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) يعني أنني ما قمت ببناء الجدار من تلقاء نفسي ، بل أمرني بذلك ربّي. (ذلِكَ تَأْوِيلُ) تفسير (ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) هي : تستطع.

٨٣ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ...) أي يسألك يا محمد كفار المدينة ويهودها عن خبر ذي القرنين (قُلْ) لهم : (سَأَتْلُوا) أقرأ (عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) أي خبرا.

٣٠٧

٨٤ ـ (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ...) أي جعلنا له فيها سلطانا حتى استولى عليها (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) أي أعطيناه من كل شيء في الأرض طريقة توصله إلى ما يريد.

٨٥ و ٨٦ ـ (فَأَتْبَعَ سَبَباً) : أي فاتّخذ طريقا وسلكه (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي وصل إلى المحل الذي يتراءى له فيه غروبها من سطح الأرض. (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي وجد الشمس تغيب عن ناظريه في عين كثيرة الطّين الأسود المنتن. (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) أي في تلك البقعة من الأرض وجد أناسا كفرة (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) موحين له وملهمين : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) هؤلاء القوم بقتلهم إن اصرّوا على الكفر (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) أو أن تسلك فيهم طريقة الإحسان إليهم بهدايتهم إلى الإيمان.

٨٧ و ٨٨ ـ (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ...) أي قال ذو القرنين في نفسه : إنني سأدعوهم إلى الإيمان فإن أصرّوا على الكفر فقد ظلموا أنفسهم ، فنعذّب المصرّ بالقتل أو بالأسر في دار الدنيا (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) بعد الموت (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي منكرا غير معهود أي في النار (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) مر معناه. (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي سنأمره بما يسهل عليه القيام به من التكاليف.

٨٩ و ٩٠ ـ (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) : أي أخذ طريقا آخر وسلكه (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي وصل إلى الموضع الذي تطلع الشمس عليه أولا من المعمور (وَجَدَها تَطْلُعُ) تشرق (عَلى قَوْمٍ) جماعة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أي أنهم عراة لا يتّقون أشعّتها بأيّ لباس ، وليس في أرضهم أي جبل أو شجر أو بناء لأنها أرض رخوة.

٩١ ـ (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) : أي علمنا بما كان لدى ذي القرنين من جند كثير ، وعدّة عديدة ، وعلم غزير وسياسة وتدبير.

٩٢ و ٩٣ ـ (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) : ثم تابع سيره (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي وصل إلى ما بين جبلين فاجتازهما ف (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) وراءهما (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي اختصوا بلغة لا يكادون يعرفون غيرها.

٩٤ ـ (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ...) أي أنهم كلّموه رأسا. (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالقتل والنهب والإتلاف ، فقد قيل إنهم كانوا يأكلون كلّ ما يدبّ على الأرض حتى الناس (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) مبلغا من المال. (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي من أجل أن تجعل فاصلا ما بيننا وبينهم يحجزهم عنّا كالسور وغيره.

٩٥ ـ (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ...) أي أنه أجابهم قائلا : إن ما ملّكني إياه ربّي ، وأقدرني عليه من المال والسلطان (خَيْرٌ) ممّا تبذلون لي من مالكم (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) فساعدوني بقوة الرجال أو هم مع الآلات (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي حاجزا حصينا متراكبة طبقاته بعضها فوق بعض.

٩٦ و ٩٧ ـ (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ...) أعطوني قطع الحديد (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي سوّى بين جانبي الجبلين بما جعل بينهما من ردم الحجارة والأتربة وقطع الحديد (قالَ) ذو القرنين : (انْفُخُوا) بالمنافخ التي صنعها لهذه الغاية من أجل إشعال النار وإضرامها في مختلف أجزاء الردم ، فنفخوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أي صيّر الحديد نارا (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أعطوني النحاس الذي أعددته لأفرغه على الحديد الملتهب (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي ما قدروا على تجاوزه والصعود عليه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) ولا قدروا على ثقبه وتدميره لصلابته وثخنه.

٣٠٨

٩٨ ـ (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ...) أي قال ذو القرنين : هذا السد نعمة من نعم الله لعباده أنعم بها عليهم في دفع شر يأجوج ومأجوج عنهم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) فإذا اقترب مجيء أشراط الساعة وهو خروج يأجوج ومأجوج قبيل ذلك ، فحينئذ يجعله ربّي مدكوكا حتى يسوّيه بوجه الأرض. (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي أنه كائن قطعا.

٩٩ ـ (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ...) أي خلّينا يأجوج ومأجوج يوم خروجهم من السدّ يندفعون بكثرة مختلطين حالهم حال المياه الكثيرة التي تضطرب أمواجها وتتلاطم في جريانها واندفاعها. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وقد اختلف في شكل ذلك الصور فقيل هو قرن ينفخ فيه إسرافيل (ع) ثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع ،! والثانية النفخة التي يصعق منها من في السماوات والأرض وبها يموتون ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين. (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أي حشرناهم في صعيد واحد للحساب.

١٠٠ و ١٠١ ـ (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) : أي أبرزناها لهم حتى شاهدوها قبل دخولها ، فهم (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي الذين غفلوا عن الاعتبار والتفكّر بقدرتي الموجب لذكري واعرضوا عن الاعتبار بآياتي فصاروا بمنزلة من يكون على عينيه غطاء يمنعه عن الإدراك (وَكانُوا) مع ذلك العمى (لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي يعرضون عن استماع ذكر الله تعالى.

١٠٢ ـ (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي ...) أي : هل ظنّوا أن يتخذوا عبادي الذين خلقتهم ودانوا بربوبيّتي : (مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) آلهة ومعبودات لهم. وأن ذلك ينجيهم من عذابي؟ (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا (جَهَنَّمَ) بعذابها الشديد (لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي مأوى ومنزلا.

١٠٣ ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) : أي قل يا محمد للناس : أتريدون أن نخبركم بأشد الناس خسرانا في العمل يوم القيامة؟

١٠٤ ـ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) إلخ أي ضاع عملهم وكدّهم لكفرهم فلم يأجرهم الله عليه ويظنون أنهم محسنون وأن أفعالهم طاعة وقربة.

١٠٥ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ ...) أي جحدوا دلائل ربّهم من القرآن وغيره ، وأنكروا البعث والقيامة (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت بكفرهم لأنهم أوقعوها على خلاف ما أمر الله (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي لا نرفع لهم ميزانا توزن به أعمالهم إذ ليس لهم أعمال بعد الحبوط ، أو أن المعنى : لا نجعل لهم مقدارا ولا اعتبارا.

١٠٦ ـ (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ ...) هي تفسير لسابقتها بمعنى أن عدم اعتبار عملهم ذا أهمية جعل جزاءهم يوم القيامة جهنّم (بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) بسبب كفرهم واتخاذهم دلائلي على وحدانيتي ورسلي موضع هزء وسخرية.

١٠٧ و ١٠٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) أي أن المصدّقين به وبرسله وآياته (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) في يوم القيامة ، فهي مثواهم الذي يخلدون فيه ويتنعّمون. والفردوس أعلى درجات الجنة. (خالِدِينَ فِيها) يعيشون أبدا. (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) لا يطلبون تحوّلا عنها إلى غيرها.

١٠٩ ـ (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ...) قل يا محمد ، لو كان البحر حبرا أو مدادا تكتب بها كلمات ربي ويسجّل به علمه (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) انتهى (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) وتنتهي آياته وعلمه (وَلَوْ جِئْنا) لهذا البحر (بِمِثْلِهِ مَدَداً) عونا يرفده ولو كان مثله حجما.

١١٠ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ...) أي : قل يا محمد للناس : أنا مخلوق لله تعالى كما أنكم مخلوقون له ، لا فضل لي عليكم إلا بالوحي والنبوة (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا ربّ سواه ولا شريك له (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي يطمع في الحصول على جزاء ربه والوقوف بين يديه يوم القيامة لنيل ثوابه. (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) أي خالصا لله (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي لا يقصد بعمله الرياء الذي يسمّى بالشّرك الخفيّ الذي يكون في الأعمال.

٣٠٩

سورة مريم

مكية ، وعدد آياتها ٩٨ آية

١ ـ (كهيعص) : لقد مر معنا الكلام حول هذه الحروف المقطعة في أوائل السور فلا نعيد.

٢ ـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) : أي هذا خبر رحمة ربك لزكريا عبده ويعني بالرحمة إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد. ووصفه له بالعبودية كاشف عن سمو مقامه وعلو رتبته ، كما فعل من نبينا (ص) حيث وصفه بذلك الوصف الشريف في سورة الإسراء.

٣ ـ (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) : أي حين دعا ربّه دعاء ستره عن الآخرين. ويستشمّ من هذه الآية الكريمة استحباب الدعاء إخفاتا ولعل وجهه أن ذلك يكون أبعد عن الرياء وأقرب إلى الاجابة ، كما أن هناك فرقا بين موارد الدعاء ولا سيما فيما يدعو به لنفسه أو لغيره أو يدعى له به من قبل الغير. ويلاحظ أن دعاء زكريا (ع) كان دعاء شيخ طاعن في السن وامرأته عاقر وقد يستهزئ به الناس إذا دعا ربه طالبا الذرية بشكل علني مسموع ولذا أخفت في دعائه ذاك.

٤ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ...) أي ضعف العظم مني (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أي عمّه البياض وتلألأ فيه الشيب (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي بدعائي إيّاك فيما مضى من أيام عمري لم أكن مخيّبا محروما.

٥ و ٦ ـ (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ...) أي إني خفت أن يرثني بنو عمومتي وهم من شرار الخلق بعد موتي إذ لا وارث لي غيرهم. (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي أنها لا تلد أبدا (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي ارزقني ولدا ذكرا يكون أولى بميراثي (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) أي يرث النبوّة منّي ومنهم وما هو دونها وأعم منها (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) مرضيّا عندك وعند الناس جميعا.

٧ ـ (يا زَكَرِيَّا ...) ها هنا حذف تقديره : فاستجبنا دعاءه وأوحينا إليه : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) نخبرك الخبر السارّ (بِغُلامٍ) ولد ذكر (اسْمُهُ يَحْيى) كما قدّرنا و (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي لم نخلق قبله أحدا سمّي بهذا الاسم. وروي أن الحسين (ع) عند ما خرج إلى كربلاء كان لم يهبط واديا ولا نزل منزلا إلا ذكر يحيى بن زكريا قائلا من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل.

٨ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ...) أي قال زكريّا (ع) ذلك في مقام التعجب لا من حيث إنكار قدرة الله تعالى والمعنى كيف يكون لي ولد (وَكانَتِ امْرَأَتِي) زوجي (عاقِراً) لا تلد أصلا ، (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي وصلت إلى سنّ العجز. والعتوّ كبر السنّ.

٩ ـ (قالَ كَذلِكَ ...) أي قال الله تعالى له ، أو الملك : الأمر على ما أخبرت من هبة الولد على الكبر ومن المرأة العاقر (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) سهل يسير (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي أنشأتك من العدم ولم تكن موجودا قبل خلقك. فإزالة عقر زوجتك ، وإرجاع قوّتك أهون بنظر الاعتبار من بدوّ الإنشاء.

١٠ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ...) أي علامة أستدل بها أمام الناس على وقت كونه (قالَ) الله سبحانه (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) يعني أنك تبقى ثلاث ليال غير قادر على مكالمة الناس ومخاطبتهم من غير علّة في جسدك.

١١ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ...) أي أنه بعد سماع هذا القول ظهر على الناس وترك مصلّاه (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) يعني أومى إليهم وأشار. (أَنْ سَبِّحُوا) أي نزّهوا الله واذكروه وصلّوا له (بُكْرَةً) صباحا (وَعَشِيًّا) مساء.

٣١٠

١٢ ـ (يا يَحْيى ...) انتقل سبحانه إلى خطاب يحيى وطوى ذكر الفترة الطويلة التي مضت ، فقال تعالى له : (خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة (بِقُوَّةٍ) بعزيمة وقم بما فيها من أوامر ونواه (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي أعطيناه الحكمة والعقل والرشد وهو في زمن طفولته.

١٣ ـ (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) : أي رحمة منّا به وتعطّفا عليه آتيناه الحكم صبيّا (وَزَكاةً) أي تزكية له من الخبائث والأدناس (وَكانَ تَقِيًّا) متجنّبا للخطايا لم يهمّ بسيئة.

١٤ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) : أي أنه كان حافظا لحق أبويه تمام الحفظ ولم يكن (جَبَّاراً) متكبّرا (عَصِيًّا) عاصيا لربّه.

١٥ ـ (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ...) إلخ أي تحية مباركة له من ربّه وأمان منذ ولادته إلى يوم القيامة.

١٦ و ١٧ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ...) بعد قصة زكريّا ويحيى (عليهما‌السلام) المعجزة ، شرع سبحانه في بيان قصة عيسى ومريم (عليهما‌السلام) التي هي أكبر إعجازا في عالم الخلق والقدرة. (اذْكُرْ فِي الْكِتابِ) القرآن (مَرْيَمَ) أي قصّتها (إِذِ انْتَبَذَتْ) حيث اعتزلت (مِنْ أَهْلِها) فابتعدت عن ذويها واتّخذت (مَكاناً شَرْقِيًّا) إذ أقامت في مسجد القدس ولم تزل تشتغل بالتبتّل والعبادة ، وقيل شرقي منازل أهلها (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) جعلت بينها وبينهم سترا (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) فبعثنا لها جبرائيل (ع) (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي تصوّر بصورة آدميّ تامّ الخلق.

١٨ ـ (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) : فمريم (ع) لمّا رأت جبرائيل (ع) في ذلك المكان قالت : اعتصمت بالله منك (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) مطيعا لله متجنّبا لما يغضبه ...

١٩ ـ (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ...) أي أنا مرسل إليك من الله تعالى (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) لأمنحك من الله ولدا ذكرا طاهرا من الأدناس.

٢٠ و ٢١ ـ (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ...) كيف يكون لي ولد ، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) والحال أنني لم يلمسني إنسان على نحو الزوجية (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي ولم أن زانية (قالَ) جبرائيل (كَذلِكِ) أي الأمر كما تقولين ولكن (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي خلق الولد بلا زوج هو عليه في غاية السهولة (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي علامة لهم وبرهانا على كمال قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا) على العباد يهتدون به (وَكانَ) أي إحداث الولد منك ، بلا أب كان (أَمْراً مَقْضِيًّا) مقدّرا من عنده تعالى ومحتوما ومحكوما به.

٢٢ ـ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) : أي حملت بعيسى (ع) واعتزلت به بعيدا عن الناس حياء من أهلها وغيرهم وكانت مدة حمله تسع ساعات.

٢٣ و ٢٤ ـ (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ ...) أي ألجأها وجع الولادة إلى جذع النخلة لتستتر به وتعتمد عليه عند الوضع. (قالَتْ :) مريم (ع) عند المخاض : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) الأمر الذي ابتليت به ، (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي شيئا حقيرا لا يذكر ولا يعبأ به. وعلى كل حال ، قال ابن عباس : فسمع جبرائيل (ع) كلامها (فَناداها مِنْ تَحْتِها) قيل : المنادي كان جبرائيل وكان أسفل منها تحت أكمة أو أن المنادي كان عيسى (ع) (أَلَّا تَحْزَنِي) أي لا تغتمي (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي جعل تحت قدميك جدول ماء عذب تشربين منه وتتطهّرين.

٢٥ ـ (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ...) أي حرّكيها واجذبيها إلى نفسك. (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) أي تنزل عليك رطب التّمر اليانعة السهلة الاجتناء.

٣١١

٢٦ ـ (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ...) أي : كلي من الرّطب ، واشربي من ماء السّري ، وكوني مهنّأة مرتاحة البال بهذا المولود المبارك ، ولتكن دمعة السرور باردة في عينيك (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي : إذا ما رأيت آدميّا ـ كائنا من كان ـ إن استنطقك وسألك عن ولدك هذا (فَقُولِي) له : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا والمعنى أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلّم مع أي إنسان.

٢٧ و ٢٨ ـ (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ ...) يعني أنها بعد أن ولدته لفته في خرقة وحملته وعادت إلى قومها (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أتيت بمنكر عظيم لأنك جئت بولد من غير زوج يكون أبا له ... (يا أُخْتَ هارُونَ) أي يا من تنسب إلى هذا النسب الشريف ، وقد نقل أن هارون كان أخاها من أبيها ، وأنه كان قد اشتهر بالزّهد والصلاح وحسن السيرة وكثرة العبادة في عصره. (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) أي ما كان يفعل السيّئات والمنكرات (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) زانية تبغي الرجال.

٢٩ ـ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ...) فأومأت إلى عيسى (ع) بأن كلّموه واسألوه عن أمري (قالُوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي كيف نخاطب طفلا رضيعا في الحجر.

٣٠ ـ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) : قدّم إقراره بالعبودية أولا ليبطل قول من يدّعي له الرّبوبية. والمعنى : إني عبد الله سيؤتيني الكتاب وسيجعلني نبيا. وقيل المراد بالكتاب الإنجيل. وقيل التوراة وأنه سبحانه علّمه إياها.

٣١ ـ (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ...) أي خلقني الله تعالى نفّاعا للناس معلّما للخير في أيّ مكان أكون (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ) أمرني بها (وَالزَّكاةِ) أؤدّيها. (ما دُمْتُ حَيًّا) أي ما بقيت على وجه الأرض.

٣٢ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَتِي ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) : أي جعلني بارّا بها حسن المعاملة لها ولم يجعلني متجبرا متكبرا ولا من الأشقياء.

٣٣ ـ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ...) إلخ وقد مرّ تفسيرها. في الآية (١٥) من هذه السورة.

٣٤ ـ (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) : أي ذاك الذي قال إني عبد الله هو عيسى (ع) نقول فيه قول الحق الذي يشكك فيه اليهود والنصارى ويتخاصمون.

٣٥ و ٣٦ ـ (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ ...) أي ما يصلح لله ولا يستقيم أن يتخذ ولدا فهو منزّه عن ذلك وهو رد على النصارى واليهود معا. (إِذا قَضى) الله (أَمْراً) وحتمه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي أنه حين يريد أمرا هو قادر على إحداثه وإيجاده على الوجه الذي أراده بمجرد الأمر بكونه. (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) هذا من قول عيسى (ع) وقد مرّ تفسير مثلها.

٣٧ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ...) أي اختلف اليهود والنصارى في عيسى فمنهم من قال هو الله ومنهم من قال هو ابن الله وقال بعضهم هو ثالث ثلاثة والمؤمنون قالوا هو عبد الله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) هي كلمة وعيد معناها شدة العذاب للذين كفروا بالله في قولهم بالمسيح (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي من حضورهم يوم القيامة الذي يكون عظيما عليهم بأهواله.

٣٨ ـ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا ...) هاتان الكلمتان للتعجب والمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة وإن كانوا في الدنيا صمّا وبكما عن الحق. (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أن الظالمين لأنفسهم ولغيرهم ، يوم القيامة سوف يرون أنهم في ضلال واضح عن الحق.

٣١٢

٣٩ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ...) يعني : حذّرهم يا محمد من يوم يتحسّر فيه المسيء على إساءته ، والمحسن على قلّة إحسانه إذ فرغ من الأمر وأدخل قوم الجنة وقوم النار ووجد كل إنسان جزاء عمله. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أنهم كانوا في دار الدنيا غافلين عن هذا ولا يصدّقون به.

٤٠ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها ...) أي نفني سكانها فنرثها ومن عليها من العقلاء إذ بعد افنائنا لهم لا يبقى فيها مالك غيرنا (وَإِلَيْنا) إلى الله (يُرْجَعُونَ) يردّون يوم القيامة عند النفخة الثانية في الصور.

٤١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) : أي بعد ذكر زكريّا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام اذكر يا محمد لهؤلاء القوم حال إبراهيم (ع) الذي كان صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن الله وكان عليا رفيع الشأن برسالة الله سبحانه.

٤٢ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ...) أي اذكر حين قال لأبيه : كيف تعبد شيئا لا يسمعك إذا دعوت ، ولا يراك إذا وقفت بين يديه (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي لا يكفيك لا في دفع ضرّ ولا في جلب نفع.

٤٣ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ...) أي قد آتاني الله من المعرفة به ما لم يجئك (فَاتَّبِعْنِي) كن على طريقتي (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أرشدك إلى طريق قويم لا عوج فيه.

٤٤ ـ (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ...) كرّر مخاطبته بلطف عجيب أي انته عن عبادة الشيطان بإطاعته في وسوسته (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) كثير العصيان.

٤٥ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ ...) أي إني أخشى عليك من أن يصيبك عذاب مؤلم (مِنَ الرَّحْمنِ) الربّ الرؤوف بالناس (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) مواليا للشيطان موكولا إليه ولن يغني عنك من العذاب من شيء.

٤٦ ـ (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ ...) أي قال آزر لإبراهيم بعد دعوته له إلى الإيمان ، أمعرض أنت عن عبادة آلهتي وهي الأصنام. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) لم تدع هذا الأمر (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأقتلنّك رجما بالحجارة حتى تموت (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي فارقني زمنا طويلا.

٤٧ ـ (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ...) أي لن يصيبك منّي مكروه ثم استعطفه ووعده بالدّعاء له بالمغفرة ، لعلّ الله سبحانه يوفّقه للإيمان وللتوبة والرجوع عن الكفر وقال له (إِنَّهُ) أي الله (كانَ بِي حَفِيًّا) أي مبالغا في البرّ بي والعطف والرحمة.

٤٨ ـ (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) وإنّي منصرف ومبتعد عنكم وعمّا أنتم فيه من عبادة غير الله من الأصنام ، (وَأَدْعُوا رَبِّي) فأعبده وأطلب منه وحده حاجاتي (عَسى) أي آمل (أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) سوف لا أكون خائبا بدعائه كما خبتم بدعائكم الأصنام.

٤٩ ـ (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي حين تنحّى عنهم وعن أصنامهم ، وفارقهم من أرض بابل إلى بلاد الشام وتزوّج فيها بسارة (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) رزقناه الولدين هذين (وَكُلًّا) منهما (جَعَلْنا نَبِيًّا) رسولا من الله لقومه في زمانه.

٥٠ ـ (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ...) أي أعطيناهم ثلاثتهم سوى الأولاد البررة ، نعم الدّين والدّنيا (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي جعلنا لهم ثناء جميلا حسنا ، وروي أن المقصود بقوله تعالى : (مِنْ رَحْمَتِنا) هو محمد (ص) الذي هو من نسل إسماعيل. والمقصود بقوله تعالى : (عَلِيًّا) أمير المؤمنين (ع).

٥١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً ...) بعد الكلام عن عطاياه الجليلة لإبراهيم وبنيه (عليهم‌السلام) شرع بقصة موسى بإيجاز أي : يا محمد بيّن لقومك خبر موسى (ع) الذي أخلصه الله سبحانه من كل سوء واختص جميع أحواله بنفسه تعالى. وقيل : مخلصا : موحدا أخلص عبادته من الشرك. (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أرسله الله عزوجل إلى فرعون وقومه وكان رفيع الشأن.

٣١٣

٥٢ ـ (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ...) أي من ناحية جبل هناك معروف بالطّور وكان حين مناداة الله له على يمينه. (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي جعلناه قريبا منّا تقريب كرامة وتشريف ومناجيا كليما.

٥٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) : أي منحناه بأن رحمناه وجعلنا أخاه هارون نبيّا يؤازره ويشدّ عضده إجابة لدعوته.

٥٤ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ ...) أي اذكر يا محمد لقومك خبر إسماعيل في القرآن. (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) بحيث إذا وعد بشيء وفي به ولم يخلف أبدا حتى صار مشهورا بذلك (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) مر تفسيره.

٥٥ ـ (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ...) إن كان المراد بالصلاة والزكاة المفروضتين ، فالمراد بالأهل هنا هو الأمّة والقوم ، وإن حمل على الصلاة والزكاة المندوبتين ، فالمراد هم أهله خاصّة. (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) في جميع أقواله وأفعاله لأنها كانت كلها طاعات ليس فيها قبائح.

٥٦ و ٥٧ و ٥٨ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ...) مر تفسير مثله. وإدريس هو جد أبي نوح (ع) ودعي بإدريس لكثرة دراسته. (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) أي مكانا عاليا وقيل إنه رفع إلى السماء الرابعة أو السادسة. (أُولئِكَ) من تقدم ذكرهم (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) إلخ بالنبوة والثواب العظيم وبسائر النعم الدينية والدنيوية. (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي اخترنا. (إِذا تُتْلى) إن تقرأ (عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) أي آياته المنزلة التي تتضمّن الوعد والوعيد (خَرُّوا سُجَّداً) انكبّوا على الأرض ساجدين خضوعا وخشية (وَبُكِيًّا) جمع باك ، أي حال كونهما باكين.

٥٩ و ٦٠ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ...) أي فعقبهم من بعدهم عقب سوء. (أَضاعُوا الصَّلاةَ) بتركها أو تأخيرها عن وقتها (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) فعلوا ما حرّم عليهم ممّا تشتهيه أنفسهم الأمّارة بالسوء (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) سينالون الشر وجزاء الضلال ، يوم القيامة ، (إِلَّا مَنْ تابَ) ندم على ما سلف (وَآمَنَ) في مستقبل عمره (وَعَمِلَ صالِحاً) فقام بالواجبات والمندوبات (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) بعد التوبة والإيمان والعمل الصالح (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) لا ينقصون من حقّهم شيئا.

٦١ و ٦٢ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ ...) فالتائبون يدخلون جنات عدن التي وعد الله تعالى بها عباده المؤمنين (بِالْغَيْبِ) أي بوعد وأمر هو غائب عنهم غير مشاهد من قبلهم ، (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي أمرا واقعا آتيا لا محالة. (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنان (لَغْواً) فضول كلام. (إِلَّا سَلاماً) تسليما وتحيات من الملائكة عليهم ، ومن بعضهم على بعض ، (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها) يكون موفورا حاضرا بلا تعب ولا جهد (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي في أوقات الحاجة إليه والمواعيد المرغوب فيها.

٦٣ ـ (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) : أي هذه الجنّة الّتي وعدنا بها المؤمنين والعاملين المنيبين إلينا ، هي التي نورثها للأتقياء من عبادنا ، أي للذين تجنّبوا غضبنا وعملوا بأوامرنا.

٦٤ ـ (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ...) هذه الآية الكريمة حكاية قول جبرائيل (ع) في جواب النبيّ (ص) عند ما أبطأ عليه الوحي مرة فسأله : ما منعك أن تزورنا؟ فأجاب : وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي أن له مستقبل أمرنا ، وما مضى منه ، وحاضره ، وجميع ذلك بيده تعالى ، (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي أن عدم أمر ربّك لي بالنزول ما كان ناشئا عن نسيانه لك إذ هو ممتنع في حقه تعالى.

٣١٤

٦٥ ـ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ...) أي فالذي نعتناه لك بأنه لا ينسى هو ربّ هذه الكائنات كلها بما فيها وما بينها. (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) فقم بما أوجب عليك من العبودية له بصبر ورضى ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي مثلا وشبيها. وقيل : هل تعلم أحدا يستحق أن يسمّى إليها غيره.

٦٦ و ٦٧ ـ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ...) نزلت هذه الآية عند ما قال أبيّ بن خلف أو غيره من المشركين بعد أن أخذ عظاما بالية ففتّها بيده : أيزعم محمد أننا نبعث بعد ما نموت؟ (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟) أفلا يتفكّر بأننا أوجدناه أولا من العدم المحض؟ أولا يقدر الخالق من العدم ، أن يعيد ما كان أوجده وأحياه ، ثم أماته وأفناه؟

٦٨ و ٦٩ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ...) وحقّ إلهك يا محمد ، لنجمعنّهم يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) أي لنأتينّ بهم ولنجعلنّهم جاثين على ركبهم حول نار جهنم ، (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) لنأخذنّ عنوة من كل فرقة ممن اتّبعوا مبدأ مّا ، الضالّين المضلّين فنجعلهم في جهنم ونحن نعلم (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) نعرف من كان منهم عصيا معاندا للرّحمان.

٧٠ ـ (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) : ونحن أيضا أعرف بالمستحقّين منهم للإحراق بالنار.

٧١ ـ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ...) أي وما منكم أحد إلّا وارد جهنم والورود على الشيء هو الوصول إليه والإشراف عليه لا الدخول فيه. (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي أوجبه الله على نفسه وصار أمرا محتوما.

٧٢ ـ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ...) فسنخلّص المتّقين للشرك والذين صدّقوا من عذاب جهنم (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) وندع الكفار والمشركين (فِيها جِثِيًّا) أي في جهنم مكبكبين جماعات باركين على ركبهم.

٧٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي إذا تقرأ على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن ظاهرات الإعجاز والدلالة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) خاطبوهم مستهزئين قائلين : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) من المؤمنين بها والجاحدين لها (خَيْرٌ مَقاماً) خير منزلا ومكانا (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أعلى وأجمل مجلسا.

٧٤ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ ...) أي كثيرا ما أهلكنا قبلهم (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) جيل وأمّة أحسن منهم متاعا وفرشا (وَرِءْياً) منظرا.

٧٥ و ٧٦ ـ (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ...) أي قل يا محمد : من رضي بأن يكون ضالّا كافرا بالإسلام فليمدد له الله بطول العمر والتمتّع بالعيش استدراجا له إلى أن يجيء أجله ، (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من غلبة المسلمين (إِمَّا الْعَذابَ) بقتلهم أو أسرهم بأيدي المسلمين في دار الدّنيا (وَإِمَّا السَّاعَةَ) التي تأتيهم بيوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) يعرفون عند كلا الحالين (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) في الحياة أو بعد الممات (وَأَضْعَفُ جُنْداً) وأقلّ ناصرا ومعينا. (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) على يديه (ص) (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي الأعمال الحسنة التي تبقى عائدتها إلى القيامة (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أجرا (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي مرجعا ونفعا عائدا منها وهي خير لأن ما عداها من النعم يفنى ويزول.

٣١٥

٧٧ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا ...) هذا إخبار بقصة الكافر العاص بن وائل حين طالبه الخبّاب بن الأرتّ بدين كان له عليه و (قالَ) أي العاص. ألستم تزعمون البعث بعد الموت؟ قال : نعم. فقال مستهزئا : أحلف بإلهك أنني يوم القيامة (لَأُوتَيَنَ) لأعطينّ (مالاً وَوَلَداً) فأعطيك هناك بأزيد ممّا تطلبني هنا إذا بعثنا.

٧٨ و ٧٩ ـ (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : ومعناه : أعلم الغيب حتى يعرف أنه لو بعث رزق مالا وولدا ، أم هل بيده عهدا من الله تعالى بذلك؟ (كَلَّا) هذه كلمة ردع وتنبيه إلى أنه مخطئ فيما تصوّره لنفسه ، (سَنَكْتُبُ) نسجّل عليه (ما يَقُولُ) من الخطل (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) ونطيل زمن عذابه فنخلّده فيه تخليدا.

٨٠ ـ (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) : أي أننا نرث قوله من بعد أن نهلكه ، (وَيَأْتِينا) يجيء إلينا يوم القيامة (فَرْداً) وحده لا يصحبه مال ولا ولد ولا ناصر.

٨١ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) : أي جعل هؤلاء الكافرون لأنفسهم أربابا من دون الله تعالى وادّعوا أن هذه الأرباب تقرّبهم من الله زلفى ، وهي تعزّهم وتكرّمهم بين يديه سبحانه.

٨٢ ـ (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) : لا ، فإنهم يوم القيامة سينكرون أنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام وتكون هي ضدّهم لأنها تتبرّأ من شركهم بالله.

٨٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ ...) أي : ألا ترى يا محمد كيف بعثنا الشياطين وخلّينا بينها وبين الكافرين فوسوست إليهم ودعتهم إلى الضلال وهي (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تحثّهم على المعاصي بالتسويلات والإغراءات؟

٨٤ ـ (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) : لا تستعجل يا محمد بهلاكهم لتستريح من شرورهم ، فإنهم لم يبق لهم إلّا أنفاس معدودة ونحن نحصيها عليهم إحصاء ونأخذهم بأعمالهم الشريرة المعدودة عليهم أيضا.

٨٥ و ٨٦ ـ (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ ...) يعني يوم القيامة حين يجمع الله المؤمنين به في دار كرامته ومحلّ قدسه. (وَفْداً) أي جماعة وافدين واردين. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ) نحثّهم على السير إليها كما تساق البهائم وندفعهم إلى النار دفعا ويأتونها (وِرْداً) واردين إليها عطاشا كالإبل التي ترد الماء.

٨٧ ـ (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : أي : يومئذ لا تكون الشفاعة ملك أحد إلّا من وعده الرّحمان بذلك وعهد إليه أن يأذن بشفاعته ، كالأنبياء والأوصياء.

٨٨ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) : هذه حكاية قول اليهود والنصارى ومشركي العرب أيضا.

٨٩ و ٩٠ و ٩١ و ٩٢ ـ (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ...) أي أنكم أيها المدّعون لله ولدا قد أتيتم بشيء منكر شنيع ، (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي لو تشقّقت السّماوات لشيء عظيم لكانت تشققت لهذه الفرية (وَتَنْشَقُ) تتفطّر أيضا (الْأَرْضُ) منها (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) تنهدم وتتساقط في السفوح وينقلب أعلاها على أسفلها. (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) حيث جعلوه كائنا ذا أولاد. (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ولا يليق بحضرته وقدسه وتعاليه عن الشبيه والمثل ، أن يكون له ولد لا بكيفيّة التجانس ، ولا بالتبنّي ، لأنه إمّا أنه مستلزم للمحال أو للتجسيم الذي هو محال أيضا.

٩٣ و ٩٤ و ٩٥ ـ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ...) فإنّ كل كائن عاقل في السّماوات أو في الأرض هو عبد داخر لله عزوجل ، ويأتي يوم القيامة خاضعا لربوبيّته مذعنا لحكمه (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) حسبهم وعرف عددهم بأشخاصهم وأفعالهم وأقوالهم بل وأنفاسهم وأعيانهم واحدا واحدا. (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي كل واحد منهم يجيئه يوم القيامة بمفرده لا مال له ولا ولد ولا عشيرة ولا ينفعه إلا عمله.

٣١٦

٩٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) مر معناه (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ) يحدث لهم ربّهم (وُدًّا) محبة في القلوب ، قلوب بعضهم البعض مضافا إلى مودّته لهم المترجمة بالرحمة.

٩٧ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ...) أي : إنّما سهّلنا عليك هذا القرآن بأن جعلناه بلغتك ولغة قومك لتسهل عليهم معرفة ما فيه فتتمّ الحجة عليهم ، فتفرح المؤمنين بتبشيرهم بما وعدهم الله تعالى من الأجر والثواب (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) ولتحذّر الأعداء الشديدي العداء لك ولدعوتك.

٩٨ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ...) مرّ تفسير مثلها. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هل تشعر بوجود أحد منهم (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا خفيفا ونأمة؟.

سورة طه

مكية ، عدد آياتها ١٣٥ آية

١ ـ (طه) : قد سبق تأويل الحروف المقطّعة في أوائل السور.

٢ ـ (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) : أي لم نوح به إليك لأجل أن تتعب نفسك وتجعلها في العسر.

٣ ـ (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) : أي لكننا أنزلنا القرآن عليك للوعظ لمن يتّعظ ، ويخشى الله.

٤ ـ (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) : أي : أنزلناه عليك لهذه الغاية تنزيلا من خالق السماوات الرفيعة وخالق الأرض ومنشئ الكائنات.

٥ ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : أي : هو الرّحمان ، خالق ذلك ، وهو الذي استولى على العرش وعلى جميع الممكنات من الذرّة وما دونها ، والدّرة وما فوقها.

٦ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ...) له كل ذلك (وَما تَحْتَ الثَّرى) الثّرى : هو التراب النديّ ، فلله سبحانه وتعالى ملك السّماوات والأرضين ، وما فيهن وما بينهن وما وارى الثرى من معادن وكنوز وما أشبه ذلك.

٧ ـ (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) : والمعنى أنك إن رفعت صوتك بذكر الله ، أو إذا أخفتّه وذكرت بما دون الجهر فإنه تعالى يعلم ويسمع السرّ ويعلم ما هو أخفى من السرّ كالذي توسوس به النفس من حديثها الخفيّ.

٨ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : ذاك هو الله لا معبود يستحق العبادة غيره وله الأسماء الدالة على توحيده وأنعامه وعلى المعاني الحسنة فبأيها دعوته جاز.

٩ و ١٠ ـ (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ، إِذْ رَأى ناراً ...) أي هل بلغك يا محمد قصة رسولنا موسى بن عمران حينما خرج من مدين متجها إلى مصر وضلّ الطريق فرأى نارا مضيئة من بعيد (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أي لزوجته ومن عمران حينما خرج من مدين متجها إلى مصر وضلّ الطريق فرأى نارا مضيئة من بعيد (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أي لزوجته ومن معها (امْكُثُوا) أقيموا مكانكم (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرت نارا (لَعَلِّي) متمنيا أن (آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي بشعلة من النار تتدفّؤون بها (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أو لعلي أصادف هناك هاديا يدلني على الطريق.

١١ و ١٢ ـ (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ...) فلما وصل إلى المكان الذي ظنّ فيه نارا دعي باسمه : يا موسى ، إني أنا ربّك وخالقك (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي انزع نعليك ، وامش حافيا ، (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي في الوادي المطهّر المبارك المسمّى بطوى ، وقيل طوى : أي المبارك مرتين.

٣١٧

١٣ ـ (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) : أي قد انتجبتك للنبوّة والرسالة ، فأصغ بكل وعيك لما ينزل عليك من كلامي.

١٤ ـ (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ...) إنّني أنا الله ، وهذا فيض من نوري ، لا إله غيري ولا معبود سواي (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فاجعل عبادتك خالصة لي ، وصلّ واذكرني في صلاتك وعبادتك وحدي.

١٥ ـ (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ...) أي إن القيامة متيقّنة الوقوع لا محالة ، وأنا أريد إخفاءها عن عبادي لئلا تأتيهم إلا بغتة وذلك رحمة بهم ولتخويفهم فيحذروا منها ويهيئوا أنفسهم لها. (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي لتثاب أو تعاقب بحسب عملها.

١٦ ـ (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها ...) أي لا يمنعنّك عن الإيمان بما ذكرنا لك من التوحيد ، والعبودية ، وإقامة الصلاة ، والتصديق بالساعة (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) الذي يكفر بها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) سار مع هوى نفسه في طريق الضلال (فَتَرْدى) فتهلك.

١٧ ـ (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟ ...) سأله عما في يده اليمنى من العصا تنبيها له إليها ليثبت فيها تمهيدا لحصول المعجزة.

١٨ ـ (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ...) المراد من ذلك السؤال وهذا الجواب بهذه الأمور الواضحة إضافة إلى ما تقدم إطالة الحديث مع الحبيب بعبارات وألفاظ مختارة غاية الاختيار. فهل العصا لأكثر من الاعتماد عليها عند التعب؟ ... (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي أضرب بها الأشجار لتتناثر أوراقها على الأغنام فترعاها؟ (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي قضاء حاجات مختلفة من صدّ العدوّ والوحش الضاري والتهويل في كل مناسبة؟.

١٩ و ٢٠ ـ (قالَ أَلْقِها يا مُوسى ...) أي قال الله تعالى له : ارمها من يدك واطرحها على الأرض (فَأَلْقاها) موسى : رماها (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أفعى مدهشة تنسرب على الأرض.

٢١ ـ (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ ...) قال الله تعالى لموسى : خذها ولا تأخذك الرهبة منها (سَنُعِيدُها) نرجعها (سِيرَتَهَا الْأُولى) حالتها التي كانت عليها من الهيئة والخاصيّة.

٢٢ ـ (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ ...) أي أدخل يدك تحت إبطك ، (تَخْرُجْ) يدك (بَيْضاءَ) مشرقة لها نور قوي يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير مرض أو علة كالبرص. (آيَةً أُخْرى) أي فنزيدك حجة ودلالة ثانية.

٢٣ ـ (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) : أي لتنظر إلى دلائلنا ومعاجزنا العظيمة التي يعجز الخلق عن الإتيان بما يشبهها.

٢٤ ـ (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) : ثم أمره سبحانه بأن يذهب إلى فرعون ملك مصر المتربّب على الناس الذي تكبر وتجبّر في كفره.

٢٥ و ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ ـ (قالَ : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ...) أي امنن عليّ بسعة الصدر لأصبر على عناد فرعون ومقاومة كفره. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) سهّل لي أمر تبليغ رسالتك وأعنّي عند الدخول على فرعون لدعائه إلي أمر تبليغ رسالتك وأعنّي عند الدخول على فرعون لدعائه إلى الإيمان. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) أي أطلق لساني من عقاله واجعله فصيحا بليغا في الأداء. (يَفْقَهُوا قَوْلِي) يتفهّمونه حين أبلّغهم رسالتك ويكون أوقع في نفوسهم إذا كان واضحا فصيحا.

٢٩ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢ ـ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي) : أي صيّر لي أخي هارون وزيرا لي في التكليف يعينني في هذه المهمة وهو من المؤازرة : أي المساعدة. (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) قوّ به أمري وشدّ عضدي (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) اجعله شريكا لي في أمر الدعوة.

٣٣ و ٣٤ و ٣٥ ـ (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ...) أي : كي نقدّسك وننزهك ونذكر آلاءك ونعماءك علينا (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا وأمورنا واحتياجنا في أداء رسالتنا إلى ما سألتك إياه.

٣٦ ـ (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ...) أي : قال الله لموسى : قد أجيبت دعوتك وقضيت حاجتك.

٣٧ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ...) أي أن نعمتنا جارية عليك قديما وحديثا وقد عدّدها بقوله : مرة أخرى قبل هذه النعمة التي أوليناك إياها ، وذلك.

٣١٨

٣٨ و ٣٩ ـ (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) يوم ألهمناها ما كان فيه نجاتك حين ولدتك فخلّصناك من القتل (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) ضعيه بلا تباطؤ في الصندوق المستطيل المصنوع من سعف النخل ، (فَاقْذِفِيهِ) أي التابوت بمن فيه (فِي الْيَمِ) في البحر. (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أي أن موج البحر يقذف ذلك التابوت على الشاطئ فلا يغرق ولا يصيبه مكروه. (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) أي فرعون حيث كان عدوا لله ورسله وعدوا لموسى خاصة لمعرفته بأن زوال ملكه إنما يكون على يديه. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي جعلت في جميع القلوب محبة لك بحيث يحبك كل من يراك حتى أن امرأة عدوّك آسية ، وعدوّك فرعون ، قد أحبّاك وتبنّياك وربّياك في حجرهما (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي لتربّى وأنا راعيك وحافظك.

٤٠ ـ (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ ...) وذلك حين كانت شقيقتك تستقصي أخبارك فرأتهم يطلبون لك مرضعة فتقول لهم : هل أرشدكم إلى مرضعه وأهل بيت يهتمّون به ويتعهدون راحته وحفظه؟ بعد أن رفض ثدي أية مرضعة غيرها (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) فرددناك سالما محفوظا إلى أمّك إقرارا لعينها وإثلاجا لصدرها ، ولئلا تحزن لفراقك (وَقَتَلْتَ نَفْساً) وهو القبطيّ الكافر (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) خلّصناك من القتل وغمّه وامنّاك من الخوف (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي اختبرناك اختبارات متعددة وأوقعناك في الفتن حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي بقيت عشر سنين في بلدة مدين راعيا لشعيب (ثُمَّ جِئْتَ) حضرت الآن (عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أي في زمان مقدّر أن تتلقى فيه الوحي وتكون نبيا.

٤١ و ٤٢ ـ (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ، اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ ...) أي اخترتك لرسالتي ووحيي فامض للأمر أنت وأخوك هارون (بِآياتِي) معجزاتي التّسع (وَلا تَنِيا) أي لا تفترا وتضعفا (فِي ذِكْرِي) تبليغ رسالتي والدعوة إليّ.

٤٣ و ٤٤ ـ (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ ...) تقدم هذا الأمر الإلهي وكان هناك خاصا بموسى وهنا أشرك فيه هارون. (إِنَّهُ طَغى) تكبّر وتجبّر (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي ارفقا به في الدعوة ولا تغلظا له. وقيل : قولا لا يحبّه ولا يكرهه ، بحيث يظنّ أنه يؤثّر فيه ، (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) المراد بيان الغرض من بعثتهما وهو أن يتذكر فرعون ما أغفل عنه من ربوبية الله وعبودية نفسه ويخشى العقاب والوعيد. وقيل : بأن التعبير بلعل هنا المقصود فيه : ادعواه على الرجاء والطمع لا على اليأس من فلاحه فالرسل إنما يبعثون وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم.

٤٥ ـ (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا ...) أي نخشى أن يعجل علينا فيأخذنا ويعاقبنا فلا نقدر على إتمام الدعوة وإظهار المعجزة. (أَوْ أَنْ يَطْغى) يتكبّر ويتجبّر.

٤٦ ـ (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) : لا ينبغي أن تخافا فرعون ، وأنا معكما أتولّى حفظكما من بطشه اسمع ما تقولان وما يقول فألهمكما الجواب السديد وأرى ما يحدث بينكما وبينه. فلن يصل كيده إليكما.

٤٧ ـ (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ...) فاذهبا إليه ، وقولا له : إننا مرسلان من قبل خالقك (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) دعهم من أسرهم واتركهم لنا لنرحل بهم عن بلادك (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالأعمال الشاقة وقتل الرجال واستعباد النساء ، (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) أتيناك بمعجزة دالّة على صدق رسالتنا هي (مِنْ رَبِّكَ) إذ لا يستطيع البشر أن يصنع مثلها ، (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي أن من آمن سلم من عذاب الله.

٤٨ ـ (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) : أي فقولا لفرعون إن ربّنا قد أوحى إلينا أن نقول لك : إن من رفض دعوة ربّه بتكذيب رسله فإن العذاب الأليم يقع عليه من الله انتقاما لدينه.

٤٩ ـ (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟) : أي قال فرعون في مقام الجواب من ربك ورب أخيك يا موسى؟ وخصّ موسى (ع) وحده بالنداء لأنه هو الذي دعاه ، وهارون (ع) إنما هو وزيره وتابعه.

٥٠ ـ (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) : قال موسى : ربنا هو الذي أعطى كل شيء صورته التي قدّرها له ثم هداه إلى مأكله ومشربه ومنكحه وغير ذلك. بل يشمل جواب موسى كل مخلوقات الكون من الحيوان والنبات والجماد.

٥١ ـ (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟) : أي قال فرعون : ما حال الأمم السابقة من حيث العبادة ، إذ عبدت غير ما تدعوان إليه.

٣١٩

٥٢ ـ (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ ...) أجاب موسى (ع) أمرهم وعلمهم عند ربّي ، وقد سجّل عليهم كلّ ما عملوه في اللوح المحفوظ إذ (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) فالأشياء المثبتة في ذلك الكتاب كلّها نصب عين ربّي وهي لا تذهب عن علمه ولا ينساها بل سوف يجازيهم.

٥٣ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ...) أي فراشا ممهدا لإقامتكم (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) جعل لكم فيها طرقا (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي المطر (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) فكان من أثر الماء أن خرج نبات الأرض بقدرة الله على اختلاف أشكاله وألوانه وأنواعه ، لأنه جعل من الماء كل شيء حيّ. وشتّى جمع شتيت ، كمرضى جمع مريض.

٥٤ ـ (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ ...) أي كلوا مما أنبت لكم من الأرض وارعوا مواشيكم منه. وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أقسام النباتات ، فمنها ما يصلح لطعام الإنسان ، ومنها ما يصلح لغيره من الحيوانات ، وقد خاطب الإنسان أولا باعتبار أن كل ما في الأرض مسخّر له من نبات وجماد وحيوان. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي : إن فيها ذكر لكم لعبرا وأدلة لذوي العقول. والنّهى : جمع نهية ، سمّي بها العقل لنهيه عن القبيح ، وعن الإمام الباقر (ع) أنه قال : قال النبي (ص): إن خياركم أولو النهي ، قيل : يا رسول الله : ومن أولو النهى؟ قال : أولو الأخلاق الحسنة والأحلام الرزينة ، وصلة الأرحام ، والبر بالأمهات والآباء ، والمتعاهدون للفقراء والجيران واليتامى ويطعمون الطعام ، ويفشون السلام في العالم ، ويصلّون والناس نيام.

٥٥ ـ (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) : أي من التراب أنشأناكم ، وفي ذلك التراب نعيدكم عند الموت فتدفنون في الأرض وتنحلّ أجسادكم إلى تراب ومن ذلك التراب نخرجكم تارة أخرى ، فنحشركم للحساب بتأليف أجزائكم الترابية وردّ الأرواح إليها لتعدوا أحياء كما كنتم.

٥٦ ـ (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) : أي عرّفنا فرعون معاجزنا التّسع التي بعثنا بها موسى لتكون دالّة على نبوّته وصدق رسالته ، فكذّب بها عنادا واستكبارا وامتنع عن قبولها.

٥٧ ـ (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟) : أي قال فرعون : إنك لساحر ، وهل جئتنا بهذا السحر لتخرجنا من مصر.

٥٨ ـ (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ...) أكّد بأنه سيجيئه بسحر مثل سحره (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) فاضرب موعدا معيّنا يكون بيننا وبينك ، نحن وأنت أثناءه (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) فلا يتأخّر أحدنا عنه (نَحْنُ وَلا أَنْتَ) واختر له (مَكاناً سُوىً) معيّنا مستويا مسافة وبعدا فيما بيننا وبينك.

٥٩ ـ (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ...) أي قال موسى : الموعد بيننا يوم العيد الذي جعلتموه لكم في كلّ عام تتزينون فيه وتزينون أسواقكم (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أي أنهم يجتمعون بعد شروق الشمس من ذلك اليوم فينظرون في أمري وأمرك.

٦٠ ـ (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) : أي فارق موسى من المجلس على هذا الموعد فجمع السحرة من أطراف مملكته ثم جاء معهم في الموعد المضروب.

٦١ ـ (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي قال موسى ذلك القول للسحرة الذين أحضرهم فرعون الويل والعذاب لكم ، لا تكذبوا على الله فتنسبوا معجزاتي إلى السحر وسحركم إلى الحق. (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) فيهلككم بعذاب (وَقَدْ خابَ) خسر (مَنِ افْتَرى) فنسب الباطل إلى الله.

٦٢ ـ (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) : أي فتشاوروا فيما سمعوه من حديث موسى وفرعون وفيما توعدهم به موسى من عذاب الله فيما لو كذبوا عليه وأخفوا تشاورهم عن فرعون وغيره.

٦٣ ـ (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ...) إلخ. أي : ثم قال فرعون وجنوده للسحرة إن موسى وهارون ليسا سوى ساحرين يريدان أن يكيدا بكم ليخرجاكم من مصر. (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي بدينكم وما أنتم عليه من نظام الأشراف والعبيد واستخدام بني إسرائيل. وقيل بأن الذين قالوا ذلك هم السحرة.

٦٤ ـ (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ...) أي هيّئوا مكركم للقاء موسى وهارون ثم تقدّموا مصطفّين منظّمين (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ) فاز اليوم (مَنِ اسْتَعْلى) من كان فعله غالبا متفوّقا.

٣٢٠