إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

٥٥ ـ (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ...) هذا الخطاب للنبيّ (ص) ولكنّه موجّه لسائر المؤمنين ، يعني : أيها السامع لا ينبغي لك أن تعجب بحسن ما تراه من كثرة أموال المنافقين وكثرة أولادهم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بأمرهم بالإنفاق في الزكاة والغزو فيدفعون كارهين ويتحمّلون مشقة في الدنيا ولا يرجون منها ثوابا في الآخرة. (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) تهلك بالموت. (وَهُمْ كافِرُونَ) باقون على حالتهم من الكفر.

٥٦ ـ (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ ...) أي يقسم المنافقون الأيمان أنهم أمثالكم لا يفرقون عنكم. (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي وليسوا مثلكم مؤمنين بالله ولا برسوله (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي قوم يصيبهم انزعاج النفس من توقّع الضرر من القتل أو أخذ الأموال منهم أو الأسر إن هم لم يظهروا الإسلام.

٥٧ ـ (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً ...) أي يتمنى هؤلاء المنافقون أن يجدوا موضعا يتحصّنون فيه ، أو مغارات : جمع مغارة ، وهي الثقب الغائر في الجبل ، أو مدّخلا : والمدّخل المسلك الذي يدخل فيه الإنسان أو غيره ليتوارى به عن العيون (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) أي انصرفوا إليه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون في الذهاب إلى ما يخلّصهم منكم.

٥٨ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ...) اللّمز هو العيب ، يعني أن من المنافقين من يعيبك ـ يا محمّد ـ ويطعن عليك في أمر الصدقات وتوزيع الغنائم نزلت يوم حنين في ابن أبي ذي الخويصرة رأس الخوارج فيما بعد. (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) أي إذا منحوا من الصدقات (رَضُوا) اعترفوا بعدل التقسيم (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها) وحرموا لعدم استحقاقهم (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي يغضبون وينقمون ثم يعيبون التقسيم.

٥٩ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ...) أي : لو أن المنافقين الذين عابوا توزيع الصدقات قنعوا بما أعطاهم الله ورسوله منها (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) يعني : يكفينا الله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) أي سيعطينا الله من إنعامه ، ويعطينا رسوله من تفضّله (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) أي متوجّهون إليه بكليّتنا ، وقيل : راغبون في ثوابه وصرف عذابه.

٦٠ ـ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) هذه الآية الكريمة تبيّن وجوه صرف زكاة الأموال. فهي تعطى للفقراء والمساكين ، والفرق بين الفقير والمسكين دقيق لا يكاد يعرّف وإن كانوا قد قالوا : إن الفقير هو المتعفّف الذي لا يسأل ، والمسكين هو الذي يسأل. وقيل غير ذلك (وَ) ل (الْعامِلِينَ عَلَيْها) أي السّعاة الذين يجبون الزكاة (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) الذين كان النبي (ص) يعطيهم من الزكاة ليتألّف قلوبهم ويرغّبهم في عدل الإسلام ، وليستعين بهم على قتال العدوّ. (وَ) تصرف أيضا (فِي الرِّقابِ) أي في فكها من الرق (وَ) في (الْغارِمِينَ) أي الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف ، (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) يعني البذل للجهاد ، وعندنا تدخل فيه مصالح المسلمين من بناء مساجد وعقد جسور وغيرها (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر الذي انقطع في بلاد الغربة يعطى منها ولو كان غنيّا في بلده. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي واجبا مقدّرا. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.

٦١ ـ (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...) أي : ومن المنافقين جماعة يقولون أو يفعلون ما يجلب للنبي الأذية (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يعني أنه يدير أذنه ويصغي إلى كل ما يقال. فلهؤلاء (قُلْ) يا محمد : هو أذن خير يجلب للنبي الأذية (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يعني أنه يدير أذنه ويصغي إلى كل ما يقال. فلهؤلاء (قُلْ) يا محمد : هو (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي يستمع إلى ما فيه خيركم كالوحي وغيره ، (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فكونه أذنا لا يضرّ طالما هو يؤمن بالله ويصدّق المؤمنين فيما يقولونه له دون قول المنافقين ، (وَ) هو كذلك (رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) لأنهم لم ينالوا الإيمان إلّا بهدايته (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) (ص) ويزعجونه في قول أو فعل (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع في الآخرة والدنيا أيضا.

٢٠١

٦٢ ـ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ...) أي يقسمون لكم الأيمان أيها المؤمنون بأنّ ما يبلغكم عنهم من قول أو فعل هو باطل وتكون أيمانهم من أجل إرضائكم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي أن الله ورسوله بالحقيقة هما أحق منكم بأن يرضوهما ويطلبوا منهما قبول اعتذارهم ، (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) مصدقين بالله ورسوله.

٦٣ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا ...) هذا توبيخ للمنافقين واستهزاء بهم وتقريع لهم. أي : هلّا علم هؤلاء (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني يتجاوز حدود الله التي حمّلها للمكلّفين ، ويتجاوز أوامر النبيّ (ص) (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) باقيا إلى الأبد و (ذلِكَ) هو (الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) الذلّ الكبير والإبعاد من الرحمة.

٦٤ ـ (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ...) أي يحترز المنافقون ويخشون نزول سورة من الوحي (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) تخبرهم وتكشف ما يضمرون من نفاق وكيد للرسول ودعوته (قُلِ) لهؤلاء يا محمد : (اسْتَهْزِؤُا) أي اسخروا ، (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر ما تخافونه وحيا لرسوله (ص) ليبيّن له نفاقكم وكيدكم.

٦٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ ...) أي إذا استفهمتهم عمّا بدر منهم من استهزاء وكيد ، فإنهم سيقولون لك : (كُنَّا نَخُوضُ) نتبادل الحديث ونخوض فيه خوض الرّكب في الطريق (وَنَلْعَبُ) أي لا نتكلّم جدّا. (قُلْ) يا محمد : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ) أي في الله وفي بيّناته (وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) تسخرون؟.

٦٦ ـ (لا تَعْتَذِرُوا ، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) أي لا تبدوا الأعذار الكاذبة ، فقد مرقتم من الدّين بعد أن كنتم قد أظهرتم الإيمان (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) أي إن نتجاوز عن فريق تاب منكم (نُعَذِّبْ طائِفَةً) من الذين يصرون على النفاق بسبب أنهم كانوا مجرمين قد أجرموا بأقوالهم وأفعالهم. أما الطائفتان اللتان تحدثت عنهما هذه الآية فقيل أنهم كانوا ثلاثة فمنهم اثنان هذيا بالنفاق المحكي عنه ، والثالث ضحك من هذيانهما. ثم تاب هذا الثالث الذي هو مخشى بن حمير فعفا الله تعالى عنه.

٦٧ ـ (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ...) بعد أن حكى سبحانه عن المنافقين وعمّا قالوا وما فعلوا ، ذكر المنافقات وقال : إنهم بعض من بعض في اجتماع الكلمة على النفاق والكيد ومقت الله لهم (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) أي بالمعاصي والكفر (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) عن كل ما هو حسن قد أمر الله به. (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي يمسكونها عن الجهاد (نَسُوا اللهَ) أي لم يشغل الله شيئا من وعيهم بدليل ترك جميع طاعاته (فَنَسِيَهُمْ) الله أي تركهم في النّار ومنع رحمته عنهم فكانوا بحكم المنسيّين. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أن المنافقين والمنافقات ـ لأن اللفظ يشمل الطرفين ـ هم الخارجون على أوامر الله ونواهيه.

٦٨ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ...) هؤلاء الذين تظاهروا بالإسلام ومارسوا النفاق ، من الرجال والنساء ، ومعهم الكفار أيضا ، وعدهم الله النار في الآخرة. (خالِدِينَ فِيها) باقين دائما (هِيَ حَسْبُهُمْ) يعني : هي كافية لهم ولائقة بذنوبهم (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم لا يزول.

٢٠٢

٦٩ ـ (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ...) قد نقل سبحانه الحديث من الإخبار إلى الخطاب و (كَالَّذِينَ) في موضع نصب لفعل محذوف ، والتقدير : وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم وقد فعلوا مثل فعلكم ، و (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) أقوى منكم جسديا وماديا وعددا وعدة (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي طلبوا المتعة ورغد العيش وأخذوا نصيبهم من الملذّات العاجلة ثم أهلكناهم رغم قوّتهم ومالهم وبنيهم (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) مثلهم (بِخَلاقِكُمْ) بحظّكم من الدنيا (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي أنكم فعلتم مثل فعلهم مع أنكم أضعف منهم (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي تمرّغتم في الكفر واستهزأتم بالمؤمنين كما فعلوا (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي أن أولئك الكفار والمنافقين بطلت أعمالهم وخسرت صفقتهم عاجلا وآجلا إذ لا ثواب لأعمالهم لكفرهم ولأنها ليس فيها طاعة لله. (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم خسروا أنفسهم في الآخرة بعد أن لفظتهم دنياهم ...

٧٠ ـ (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي ألم يصل إلى هؤلاء المنافقين خبر المنافقين الّذين وصفهم وكانوا سابقين لهم ك (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ، وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) فأهلك قوم نوح بالغرق ، وعادا بالريح الصرصر ، وثمود بالرجفة ، وقوم إبراهيم بسلب النعمة وظلم النمرود ، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظّلمة ، والمؤتفكات : أي القرى الثلاث التي كان يسكنها قوم لوط هلكت بالخسف. (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاءوهم بالحجج والدلائل والمعجزات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي لم يظلمهم حين أهلكهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فهم ظلموا أنفسهم بكفرهم لما كذّبوا رسلهم.

٧١ ـ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ...) قابل سبحانه في هذه الآية النقيض بالنقيض فقال : إن المؤمنين والمؤمنات بعضهم وليّ بعض في النّصرة والموالاة وسائر مظاهر الحياة ، شأنهم شأن النفس الواحدة ، (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بجميع ما أمر الله به (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي يمنع بعضهم بعضا عمّا نهى الله عن فعله (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) حسب أوامره سبحانه ويداومون على فعل الطاعات جميعها ، (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) و (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) تنالهم رحمته في الآخرة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) مر معناه.

٧٢ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ...) هؤلاء الّذين مرّت صفاتهم في الآية السابقة ، وعدهم الله في الآخرة جنات النعيم التي (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تسيل أنهارها منسابة تحت أشجارها الوارفة الظّلال ، (خالِدِينَ فِيها) مقيمين دائما (وَ) أعدّ لهم فيها (مَساكِنَ طَيِّبَةً) تحلو فيها الحياة وتطيب لأنها مبنيّة من الياقوت والزبرجد واللآلئ وهم لا يرون فيها همّا ولا غمّا ، وهي معدّة لهم (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) قد تكون وسط الجنّة أو أعلاها قرب منازل الأنبياء (ص) والأولياء (ع) (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) أي أن الرضا الّذي ينالونه من ربّهم سبحانه هو أكبر من ذلك كلّه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هو النجاح الكبير.

٢٠٣

٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ...) خطاب لرسول الله (ص) بأن يأخذ الكفار بالسيف والقتل والمنافقين بالوعظ والتخويف وإقامة الحدود (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي شدّد اللهجة ولا تشفق عليهم ، (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) مسكنهم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ساء ذلك المرجع وذلك المسكن.

٧٤ ـ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ...) هؤلاء المنافقون يقسمون بالله ـ كاذبين قطعا ـ أنهم ما قالوا الكلام الذي نقل عنهم من نفاقهم (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) بالحقيقة لأن الله تعالى أقسم على ذلك باللام وحققه بقد. وكلمة الكفر هي جحدهم بنعم ربّهم وطعنهم في الدّين (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي بعد إظهارهم الإسلام أظهروا ما كانوا يبطنون من الكفر (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني أن النعمة التي عمّتهم بفضل محمّد (ص) قد أبطرتهم وفعلوا ضد واجب شكرها ، فقابلوا الإحسان بالكفران (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) أي إذا عاد هؤلاء المنافقون إلى الحق تكون توبتهم خيرا لهم من بقائهم على النفاق (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي يعرضوا عن الحق (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً) موجعا (فِي الدُّنْيا) بما يصيبهم من ويلات وسوء سمعة (وَالْآخِرَةِ) بنار جهنم (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي فيما حولهم من الناس (مِنْ وَلِيٍ) صاحب (وَلا نَصِيرٍ) يعينهم على ما هم فيه من ويلات ويدفع عنهم العذاب.

٧٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ...) أي من المنافقين من قال عليّ عهد الله إن رزقني (لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي لنتصدّقنّ على الفقراء ونحسن إلى المساكين

٧٦ ـ (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) أي فلمّا رزقهم كما تمنوا شحّت نفوسهم بالوفاء بعهد الله ومنعوا حق الله الواجب (وَتَوَلَّوْا) انصرفوا (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عمّا أمرهم الله تعالى به وعن الوفاء بعهدهم الكاذب. وهذه الآيات نزلت في ثعلبة بن حاطب ، وهو من الأنصار.

٧٧ ـ (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ...) أي أن بخلهم بالصدقة وامتناعهم عن دفع حقّ الله أورثهم النفاق الذي يلازمهم إلى يوم القيامة حيث يتلقّون الله به (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) أي بسبب نكثهم للعهد وإخلافهم للوعد (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بسبب كذبهم في دار الدنيا.

٧٨ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ...) يعني : أما يعرف هؤلاء المنافقون المعاهدون الناكثون أنّ الله سبحانه يعلم ما يخفون في أنفسهم وما يتناجون به بينهم (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والعلّام هو الكثير العلم الشديد الاطّلاع ، والغيوب مفردها : غيب ، وهو كل ما غاب عن الإحساس ولم تستطع الحواس أن تنفذ إليه وتعرفه ، فالله عزّ اسمه وحده يعلم الغيب.

٧٩ ـ (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ...) اللمز هو العيب ، وهذه صفة ثانية للمنافقين بأنهم يعيبون المتبرّعين بالصدقة المؤمنين بوجوبها (وَ) يعيبون معهم (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي المتصدّقين بالقليل لأنهم لا يملكون إلّا القليل (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) يستهزئون بصدقاتهم ، فأولئك المنافقون (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) يعني جازاهم جزاء سخريتهم (وَلَهُمْ) فيها (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع.

٢٠٤

٨٠ ـ (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...) يبدو أن صيغة الفعل صيغة أمر ، وهو في الحقيقة مبالغة في الأياس من المغفرة والرحمة ، فالاستغفار لهم وترك الاستغفار لهم سيّان. (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي : فلن يغفر الله لهم البتة. أما ذكر السبعين مرة فهو للمبالغة لا لعدد الذي يوجب المغفرة ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فلم يصدّقوا بوجود الله ، ولا بدعوة رسوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) مرّ تفسيره سابقا.

٨١ ـ (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ ...) المخلّفون : ويعني بهم سبحانه الذين تركهم رسول الله (ص) يوم خروجه إلى تبوك إذ استأذنوه في التخلّف فلم يخرجهم معه لأنهم جماعة من المنافقين ، ففرح هؤلاء بقعودهم عن نصرته (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ويبذلوها (فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا) للمسلمين صدّا لهم عن الغزو معه (ص) : (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي لا تخرجوا مع الجيش في هذه الأيام الحارة (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المنافقين (نارُ جَهَنَّمَ) التي وجبت لهم بقعودهم عن الجهاد (أَشَدُّ حَرًّا) من الحرّ الذي يتعلّلون به ، وهي أولى بأن يتّقوها (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي : لو كانوا يفقهون أوامر الله ونواهيه.

٨٢ ـ (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ...) هو أمر يحمل التهديد أي فليستهزءوا وليضحكوا قليلا في حياتهم الدنيا ، وليبكوا كثيرا في الآخرة لأن اليوم فيها مقداره خمسون ألف سنة ، فذلك (جَزاءً) لهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بما احتطبوا من المعاصي والكفر والتخلّف عن الجهاد بغير عذر.

٨٣ ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ ...) أي : يا محمد إن ردّك الله تعالى من غزوك هذا (إِلى طائِفَةٍ) جماعة (مِنْهُمْ) من أولئك المتخلّفين عن نفرك (فَاسْتَأْذَنُوكَ) وطلبوا منك الإذن (لِلْخُرُوجِ) معك إلى غزوة أخرى (فَقُلْ) لهم : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) لن أسمح لكم بمرافقتي (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) في حرب من حروبي التي أجاهد بها الكفار إذ (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ) عن الجهاد (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي في غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) يعني ابقوا مع المتأخّرين عن الجهاد ، الذين قيل إنهم النساء والصبيان ، وقيل هم المعتذرون.

٨٤ ـ (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ...) هو أمر ينهاه به عن الصلاة على أي واحد مات من هؤلاء المنافقين وكان من عادته (ص) ذلك (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي لا تقف على قبره كما هي عادتك لتدعو له بالمغفرة ، حيث (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أنكروهما (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) خارجون على حكم الله.

٨٥ ـ (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ...) مر معنى هذه الآية عند تفسير الآية ٥٥ من هذه السورة فراجع.

٨٦ ـ (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ ...) أي إذا أنزلت سورة من القرآن تدعو إلى التصديق به سبحانه (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) يعني : كونوا معه في جهاد عدوّه (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) أي طلب الإذن منك في التخلّف أصحاب المال والقدرة من المنافقين (وَقالُوا) لك (ذَرْنا) دعنا (نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) نبقى مع المتأخرين عن الجهاد.

٢٠٥

٨٧ ـ (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ ...) الخوالف هم النساء والصبيان والمرضى سمّوا بذلك لتخلفهم عن الجهاد. فالمنافقون قنعوا بأن يكونوا معهم ، (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) مر تفسيره (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون.

٨٨ ـ (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ...) انتقل سبحانه إلى الثناء على رسوله (ص) وعلى الّذين صدّقوه واتّبعوه فقال : إنّ هؤلاء (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) إذ أنفقوها في سبيل الله (وَ) جاهدوا ب (أَنْفُسِهِمْ) في بذلها في سبيل قتال الكفار (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) الكثيرة في جنّة النعيم ـ وعلى ما يقتضيه الجمع المحلى بالألف واللام ـ فإن لهم جميع الخيرات ، من الحياة الطيبة ونور الهدى والشهادة ، وسائر ما يتقرّب به إلى الله سبحانه (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجحون. الفائزون بالسعادة.

٨٩ ـ (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ ...) أعدّ : هيأ وقد مر معنى الآية في الآية ٧٢ من هذه السورة فراجع.

٩٠ ـ (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ...) المعذّرون : جمع معذّر سواء كان له عذر أو لم يكن ، معذّر أي : مقصّر ، وهو الذي يريك أنه معذور ولا عذر له. والمعنى أنه جاء هؤلاء المعتذرون إليه (ص) (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) في عدم الخروج إلى الجهاد (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما كانوا يبطنونه من النفاق (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) والفريقان من الذين كفروا ، أي الذين اعتذروا كاذبين ، والذين قعدوا ولم يعتذروا سيحل بهم عذاب موجع.

٩١ ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ...) أي ليس على الذين لا قوة لهم لعجزهم أو زمانتهم على الخروج للجهاد ، ولا على أصحاب العلل التي تحول دون المشاركة في الجهاد ، (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) بسبب فقرهم (حَرَجٌ) ضيق وجناح في تخلفهم أو أن الحكم بالوجوب الذي وضع كان حكما حرجيا وكذا ما يستتبعه الحكم من الذم والعقاب على تقدير المخالفة. (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بإخلاص العمل وبالطاعة فرفع الحرج عن هؤلاء وهو الذم والعقاب مقيد بما إذا نصحوا الله ورسوله وخلصوا من الغش والخيانة ولم يجروا في قعودهم على ما يجري عليه المنافقون المتخلفون من تقليب الأمور وإفساد القلوب في المجتمع الإسلامي ، وإلّا فيجري عليهم ما يجري عليهم من ذم وعقاب. (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس من طريق لذمّ من فعل الحسن وقعد عن الجهاد وإذا كان لا يملك غير ذلك ، وقيل هو عامّ في سائر وجوه الإحسان (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.

٩٢ ـ (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ...) يعني أنه ليس من حرج أيضا على الذين يجيئونك سائلين منك مركبا تحملهم عليه ليخرجوا إلى الجهاد معك (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) أي ليس لديّ مركّب تركبونه ، ف (تَوَلَّوْا) انصرفوا من عندك (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أي تسيل بالدمع لأجل الحزن الذي يصيبهم من جراء عدم مشاركتهم إيّاك في الجهاد.

٩٣ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ ...) أي أن الطريق مشرعة إلى ذمّ وتقريع ، أولئك الذين يطلبون الإذن منك بالقعود (وَهُمْ أَغْنِياءُ) متمكّنون من مشاركتك في المال والنفس وقد (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) مرّ تفسيره (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) مرّ تفسيره أيضا.

٢٠٦

٩٤ ـ (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ...) ما زال الكلام عن المعتذرين للنبيّ (ص) وللمؤمنين جميعا عن عدم الخروج معه إلى غزوة تبوك اعتذارا باطلا بعد رجوعه (ص) والمؤمنين إلى المدينة (قُلْ) يا محمد لهؤلاء (لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدّقكم في قولكم على ما تعتذرون به إذ (قَدْ نَبَّأَنَا) أخبرنا (اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) وعرّفنا حقيقة أمركم مما يظهر به كذبكم ونفاقكم فيما تعتذرون به (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سيطّلع هو سبحانه ورسوله (ص) على أعمالكم وهل أنكم تتوبون عن نفاقكم أم تداومون عليه ، (ثُمَّ تُرَدُّونَ) أي ترجعون يوم القيامة (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الذي يعلم ما غاب منكم وما حضر (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بعملكم حسنه وقبيحه فيجازيكم عليه.

٩٥ ـ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ...) أي سيقسم المتخلّفون عن النّصرة ليعتذروا إليكم أيها المؤمنون حين ترجعون إليهم (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي لتنصرفوا عن جريمتهم وتوبيخهم فلا تتعرضوا لهم بالتقريع والعتاب وما يستتبعهما (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) انصرفوا عنهم انصراف رد وتكذيب (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) نجس يجب أن تجتنبوه (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) مقرّهم الدائم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي.

٩٦ ـ (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ...) أي طلبا لرضاكم عنهم إضافة إلى أنه كان للتوصل به إلى صرفكم عن تقريعهم وذمهم وتوبيخهم كما مر (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) تصفحوا عنهم لجهلكم بحالهم (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الذين يخرجون عن طاعة الله لعلمه بحالهم ولذا فلن ينفعهم رضاكم. لأنكم إن رضيتم عنهم فإنكم تكونون قد رضيتم عمن لم يرض الله عنه ، أي رضيتم بخلاف رضى الله ولا ينبغي لمؤمن أن يرضى عما يسخط ربّه.

٩٧ ـ (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ...) أي الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، وإنما كانوا أشد كفرا من الحضر لأنهم قساة جفاة فهم أبعد عن سماع الدعوة بسبب بعدهم عن مجالس العلم والتوعية (وَ) هم (أَجْدَرُ) أي أحرى (أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي أن يقوموا بفرائض الله تعالى وما شرع على يد رسوله (ص) من حلال وحرام ، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.

٩٨ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ...) يعني أن من منافقي هؤلاء الأعراب من يعتبر أن النفقات التي يصرفها في سبيل الجهاد ضريبة لحقت به وهم لا يرجون ثوابا عليها قال في المجمع : المغرم والغرم هو نزول نائبة بالمال من غير خيانة وأصله لزوم الأمر يقال : حرب غرام ، أي لازم ، والغريم يقال لكل واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر (وَيَتَرَبَّصُ) ينتظر (بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي حوادث الزمان وصروفه كالموت والقتل وغيرهما. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء عليهم بالبلاء بعد العافية وبسوء العاقبة (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.

٩٩ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) أي ومن هؤلاء الأعراب من يصدّق بالله ورسوله ويوم الجزاء (وَيَتَّخِذُ) يعدّ (ما يُنْفِقُ) يبذل في الجهاد (قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) أعمال طاعة تقرّبه من مرضاة الله ، (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) ويبتغي بها دعاء الرسول له بالخير والبركة (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي أن نفقتهم وصلوات الرسول تقرّبهم من ثواب الله لأنهم قصدوا بها وجهه (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي أنه سيرحمهم ويدخلهم الجنة. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.

٢٠٧

١٠٠ ـ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) بعد ذكر المنافقين والكفار ذكر سبحانه السابقين إلى الإيمان والجهاد ممن هاجروا من مكة أو ممن آووا ونصروا النبيّ وأصحابه في المدينة ، فقال : هؤلاء وهؤلاء (وَ) معهم (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) أي تابعوهم على عمل الخير والدخول في الدّين وسلكوا منهاجهم (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) قبل أعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) لكثرة ما أجزل لهم من الثواب (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) مرّ تفسيرها مكرّرا.

١٠١ ـ (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ...) يعني : ومن جملة من هم حول مدينتكم أعراب يسكنون البادية (مُنافِقُونَ) يظهرون لكم الإيمان ويبطنون الكفر ، كمزينة وأسلم وغفار وأشجع ، (وَ) بعض (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) نفسها منافقون كذلك (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي مرنوا عليه وتجرّأوا (لا تَعْلَمُهُمْ) يا محمد (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) نعرفهم (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي مرة في الدّنيا بالفضيحة كالذين أخرجهم رسول الله (ص) من المسجد وأخزاهم ، وكالذين يصيبهم القتل والسّبي والجوع وغير ذلك ، ومرة بعذاب القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) ينالونه يوم القيامة.

١٠٢ ـ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ...) أي ومن أولئك الأعراب قوم آخرون تابوا من ذنوبهم وأقرّوا بها ، وكانوا قد (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) فأحسنوا مرة وأساؤا مرة (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معناه : لعلّ توبتهم تقبل ، وقيل : إن (عَسَى) من الله تعالى واجبة ، يعني أنه أخذ على نفسه المغفرة لهم ، ولكنه استعمل (عَسَى) ليكونوا بين الخوف والرجاء ولئلا يتّكلوا على العفو ويتخلّوا عن التوبة والعمل الصالح. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مرّ تفسيره.

١٠٣ ـ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ...) الخطاب للنبيّ (ص) ، يأمره الله عزوجل بأخذ الصدقة وزكاة الأموال ممّن ذكرهم في الآية السابقة ، تطهيرا لهم وتنسبهم إلى الزكاة بها وتكفيرا عن ذنوبهم. (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) تنظّفهم من دنس الذنوب. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم بقبول الصدقة كما هي عادتك ، (إِنَّ صَلاتَكَ) يا محمد (سَكَنٌ لَهُمْ) أي أن دعاءك لهم تسكن به نفوسهم وقيل : رحمة لهم (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مر معناه.

١٠٤ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ...) هذا استفهام منه سبحانه يعني به أنه ينبغي أن يعلم ، بل يجب أن يعرف أن الله يقبل التوبة الصادرة عن عباده وفي هذا ما فيه من الترغيب بالمسارعة إلى التوبة. (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) التي يقدّمونها فيتقبلها ويضمن الجزاء لهم عليها (هُوَ) ليعلموا (أَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) جملة مرّ تفسيرها.

١٠٥ ـ (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ...) أي : قل يا محمد للمكلّفين من الناس : اعملوا ما أمركم الله تعالى به واعلموا أنه مجازيكم على أفعالكم لأنه يرى عملكم هو ويراه رسوله (ص). (وَالْمُؤْمِنُونَ) قيل إن عملهم يراه أيضا الشهداء أو أراد بهم الملائكة الحفظة كاتبي الأعمال ، ولكن أصحابنا رووا أن أعمال الأمة تعرض على النبيّ (ص) في كلّ اثنين وخميس فيعرفها ، وكذلك تعرض على أئمة الهدى (عليهم‌السلام). وهم المعنيّون بهذا القول. (وَسَتُرَدُّونَ) ترجعون (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وهو الله تعالى الذي يعلم السرّ وما غاب عن الآخرين (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيثيبكم عليه أو يجازيكم.

١٠٦ ـ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أي أن هناك آخرين من العباد مؤخّرون وموقوفون لما يأتي من أوامر الله بشأنهم قبل أن يصار بهم إلى الجنة أو إلى النار ، ف (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) فيدخلهم النار باستحقاقهم لها (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فيتجاوز عن ذنوبهم التي تابوا عنها ويدخلهم الجنة. وهذا يعني أن فريقا من العصاة يكون أمرهم إليه سبحانه إن شاء عذّبهم وإن شاء عفا عنهم لأن قبول التوبة بحدّ ذاته تفضّل من الله (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.

٢٠٨

١٠٧ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً ...) أي ومن المنافقين الذين تكلّمنا عنهم قوم بنوا مسجدا ضرارا : طلبا للضّرر ، وكفرا : طلبا لإقامة الكفر فيه والاجتماع للطعن على رسول الله (ص) (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي بقصد تفريقهم عنك ولبث الشّقاق بينهم (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي أرصدوا ذلك المسجد لأعدائك كأبي عامر المترهّب الذي حسدك وحزّب عليك وذهب إلى قيصر الروم ليأتي بجنده لمحاربتك (وَلَيَحْلِفُنَ) إنهم والله ليقسمنّ الأيمان قائلين : (إِنْ أَرَدْنا) يعني : ما أردنا (إِلَّا الْحُسْنى) إلّا الفعلة الحسنى الجيّدة كالتوسعة على الضعفاء من المسلمين ، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وكفاهم خزيا أن يشهد الله تعالى بكذبهم ونفاقهم.

١٠٨ ـ (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ...) أي : يا محمد : لا تقم للصلاة في ذلك المسجد أبدا. (لَمَسْجِدٌ) أي : والله إن مسجدا (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أي قام أساس بنيانه على طاعة الله واجتناب معاصيه (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) منذ وضع أساسه (أَحَقُ) أجدر (أَنْ تَقُومَ فِيهِ) وهو أولى أن تقيم الصلاة فيه. قيل إنه مسجد قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي يحبّون أن يصلّوا متطهّرين من الخبائث كالطهارة بالماء من البول والغائط (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي المتطهرين.

١٠٩ ـ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ ...) إلى آخر الآية ... استفهام إنكاريّ بيّنا تفسيره فيما مضى ، فقد شبّه الله تعالى بنيانهم لهذا المسجد الممقوت ، بمن بنى بيتا على جانب نهر قد يجرفه الماء ولا يثبت أمام فيضانه وكذلك بناؤهم هذا سينهار بهم في نار جهنم. وهذا يعني أنه لا يستوي عمل المتّقين وعمل العاصين ...

١١٠ ـ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ...) أي سيبقى البناء الذي بنوه حسرة أو شكّا في قلوبهم في إظهارهم للإسلام وثباتهم على النفاق ، (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي : إلّا أن يموتوا فينقطع الشك والحسرة من نفوسهم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مر معناه.

١١١ ـ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ...) الاشتراء لا يجوز عليه سبحانه لأن المشتري يشتري ما لا يملك ، وهو جلّ وعزّ مالك السماوات والأرضين. ولكنه لمّا ضمن الثواب على نفسه لقاء الإيمان والقيام بالطاعات ، عبّر عن ذلك بالاشتراء مجازا. فهو هنا يرغّب المؤمنين بالجهاد لأنه يشتري ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ نفوسهم التي يبذلونها في سبيل إعلاء كلمته ، وأموالهم التي ينفقونها ابتغاء مرضاته (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) أي اشترى ذلك بالجنّة فجعلها ثمنا لأنفسهم ومالهم. (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فأوضح السبب الذي من أجله اشترى أنفسهم وأموالهم (فَيَقْتُلُونَ) أعداءهم الكافرين (وَيُقْتَلُونَ) أحيانا ويكونون شهداء (وَعْداً عَلَيْهِ) أي : وعدهم الله تعالى وعدا (حَقًّا) لا شكّ فيه (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي في الكتب السماوية المقدّسة ، (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) وهل هناك من يفي بالعهد غير الله سبحانه. (فَاسْتَبْشِرُوا) أيها المؤمنون خذوا البشارة (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا ببيع الزائل بالباقي ، (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي النجاح الكبير.

٢٠٩

١١٢ ـ (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ ...) هذه كلّها صفات للمؤمنين الّذين اشترى سبحانه منهم أنفسهم وأموالهم ، وهم الّذين يعبدونه وحده ولا يشركون به شيئا ، ويحمدونه على كل حال في السرّاء والضرّاء ، والسائحون : أي الصائمون. وقيل هم المتردّدون في الأرض المتأملون بعجائب صنعه ، أو الذين يضربون في الأرض لطلب العلم ، و (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي المقيمون للصلاة بأركانها ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الهادون غيرهم إلى فعل أوامر الله. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) المانعون الناس عمّا نهى الله تعالى عنه (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) القائمون بطاعته حسبما حدّد في أوامره ونواهيه والواجبات ، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : يا محمد انقل هذه البشارة للمصدّقين بالله وبك ، وخاصة لمن جمعوا هذه الصفات وأخبرهم بالثواب الجزيل والأجر العظيم.

١١٣ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...) أي : ليس للنبيّ (ص) ولا للمؤمنين أن يطلبوا المغفرة من الله تعالى للمشركين. (وَلَوْ كانُوا) أي : ولو كان المشركون (أُولِي قُرْبى) من أقرب الناس إليهم كأن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو غيرهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد أن اتّضح لهم كونهم من أهل النّار.

١١٤ ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ...) بعد النّهي عن الاستغفار للمشركين البتة ، ذكر سبحانه أن استغفار إبراهيم (ع) لأبيه ، لم يكن (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي : لم يصدر إلّا بسبب موعدة وعدها إياه وذلك قوله : سأستغفر لك ربّي ... وقيل إنه كان يستغفر له بشرط الإيمان. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) مصرّ على الكفر : ترك الدعاء له (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) أي : إنه كثير الدعاء والبكاء صبور على الأذى صفوح عن زلّات غيره.

١١٥ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ...) أي أن الله سبحانه لا يحكم بضلال قوم بعد ما هداهم (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) أي حتى يوضح لهم ما ينبغي أن يفعلوه وأن يجتنبوه فإن عصوا حكم بضلالتهم (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يشذ شيء عن علمه.

١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) مر معناه. (يُحْيِي) الجماد (وَيُمِيتُ) الحي متى شاء بقدرته ، (وَما لَكُمْ) أيها الناس (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره (مِنْ وَلِيٍ) يتولّى أموركم ويحفظكم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم ويدفع عنكم العذاب والسخط من الله.

١١٧ ـ (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) اللام في (لَقَدْ) هي لام القسم ، وهذا يعني أنه تبارك وتعالى قبل توبة المهاجرين والأنصار ، وذكر على رأسهم النبيّ (ص) مفتاحا للكلام وتزيينا له وتحسينا للكلام عنها ولكون النبيّ (ص) سبب كلّ خير أصابوه (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) وخرجوا معه إلى غزوة تبوك (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي حين الصعوبات التي عانوها فقد كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان طعامهم من الشعير المسوّس والتمر المدوّد. (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي بعد أن كاد ينحرف ميل كثيرين منهم عن الجهاد ، وراودتهم نفوسهم بالانصراف (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) من بعد ذلك الزيغ الذي كاد أن يقع في قلوبهم (إِنَّهُ) سبحانه (بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قد عطف عليهم وتداركهم برحمته.

٢١٠

١١٨ ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...) أي أنه تعالى تاب أيضا على الثلاثة الذين تأخروا عن مرافقة النبيّ (ص) في حرب تبوك ، وهم :

كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية الذين تخلّفوا عن الزحف لا عن نفاق بل عن توان ، ثم ندموا وجاؤوا إلى النبيّ (ص) بعد رجوعه ليعتذروا فلم يكلّمهم وهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم ، فهجروهم ، حتى الصبيان ، فجاءت نساؤهم إلى النبيّ (ص) فقلن : يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال : لا ، ولكن لا يقربوكنّ. فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال وكان ذووهم يأتونهم بالطعام ولا يكلّمونهم ، ولمّا رأوا هذه الحال تهاجروا فيما بينهم وتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان حتى مضى خمسون يوما كانوا أثناءها يتضرّعون إلى الله ويبتهلون فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية ... (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي ضاقت عليهم مع سعتها. (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) لشدّة الغم التي غمر صدورهم (وَظَنُّوا) أي اعتقدوا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) أي لا عاصم منه (إِلَّا إِلَيْهِ) بصدق التوبة (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) يعني سهّل لهم طريق التوبة ليعودوا إلى حالتهم الأولى (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الكثير القبول للتوبة من عباده الرحيم بهم.

١١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...) خطاب منه سبحانه للمؤمنين يشرّفهم به إذ يخاطبهم آمرا إياهم باجتناب معاصيه واتّباع أوامره بالطاعات. (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي اقتدوا بالصادقين الذين لا يكذبون في قول ولا فعل. وروى الكلبي عن ابن عباس : كونوا مع الصادقين : مع عليّ وأصحابه ، وعن الباقر (ع): مع آل محمد (ص). وقيل غير ذلك.

١٢٠ ـ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ ...) أي ليس لأهل المدينة ومن يحيط بهم (مِنَ الْأَعْرابِ) سكّان البادية (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) أي عن الغزو معه إلى تبوك ، أو غيرها بغير عذر مشروع (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) وليس لهم ، ولا لأحد أن يطلب نفع نفسه دون نفس رسول الله (ص) (ذلِكَ) أي ذلك النهي عن التخلّف (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ) تعب بدنيّ (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي مجاعة وهم في طريق طاعته سبحانه (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) يعني : ولا يضعون أقدامهم في موضع ليجلبوا الغيظ للكفار حين مهاجمتهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أي : ولا يصيبون من أعدائهم أمرا من القتل والسّبي والكسب ، (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) إلّا اعتبره الله تعالى طاعة مقرّبة (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي لا ينقص العاملين شيئا من عملهم الحسن الذي يستحقون به المدح والثواب.

١٢١ ـ (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ...) أي أن المجاهدين مع النبي (ص) لا يقدّمون من نفقة في الجهاد صغيرة أو كبيرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي : لا يتجاوزونه في حال زحفهم (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أجر ذلك وثوابه (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) يأجرهم بقدر استحقاقهم بل (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأنه تعالى متفضل كريم يجعل الثواب دائما أحسن من العمل.

١٢٢ ـ (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...) كان رسول الله (ص) إذا خرج في غزو لا يتخلف عنه إلّا المنافقون والمعذرون ، ففضح الله تعالى المنافقين في تلك الغزوات ، فصار المسلمون ينفرون جميعا كلّما أمر رسول الله (ص) بالسرايا ويتركون رسول الله (ص) وحده ، فأنزل سبحانه أن ليس للمؤمنين أن يخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم ويتركوا النبيّ (ص) وحيدا. وقيل نزلت في النّفر للتفقه في الدين (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) جماعة معدودة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) التفقه في الدين هو طلب الفقه أي العلم به. (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي ليخوّفوهم إذا عادوا وليعلّموهم القرآن والسنّة (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي عسى أن يخافوا سخط الله فلا يعملون بخلاف ما أمر؟.

٢١١

١٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ...) أي قاتلوا من بجوارحكم من الكفار الأقرب فالأقرب بالنسب أو الدار والجوار وقد كان ابن عباس يقول : أمروا بقتال عدوهم الأدنى فالأدنى (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي شدّة وقسوة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي هو يعينهم وينصرهم.

١٢٤ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ...) أي : أن المنافقين الذين ذكرناهم لك ، إذا أنزلت عليك سورة من القرآن (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) فبعضهم يقول لمن يليه على سبيل الإنكار : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) أي تصديقا؟ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) أي زادت إيمان المؤمنين يقينا ووجه زيادة الإيمان هنا أن المؤمنين كانوا يصدقون ما سبق نزوله من آيات فكلما نزلت آية جديدة صدّقوا بها وانضم تصديقهم اللاحق إلى ما سبق منه. (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي يتناقلون البشارة وتتهلّل وجوههم فرحا بنزول ما ينزل من الوحي.

١٢٥ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي المنافقين الذين مرضت قلوبهم بالشكوك (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) يعني كفرا ودنسا ، إلى جانب نفاقهم وريائهم وزيادة رجس وكفر المنافقين عينا كزيادة إيمان المؤمنين مع استبدال التصديق هناك بالإنكار هنا. (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي على حالة الكفر.

١٢٦ ـ (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ...) أي : أولا يعلم المنافقون المذكورون أنّهم يمتحنون في كل سنة دفعة أو دفعتين بالأمراض والآلام التي هي نذير بالموت؟ (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) أي لا يرجعون عن كفرهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ولا يتذكّرون نعم الله عليهم ووجوب شكرها.

١٢٧ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ...) أي أنهم كلّما نزل وحي (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تبادلوا في حضرة النبيّ (ص) النظرات الدالّة على كره ما يسمعون وعلى أنهم يحذرون أن ينكشف نفاقهم لأحد (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) أي هل لاحظ هذه العلامة الفارقة فيكم أحد من المحدقين بالنبيّ (ص)؟ (ثُمَّ انْصَرَفُوا) قاموا وخرجوا من المجلس ، (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن ذلك وعن كل ما ينتفع به المؤمنون ، وقيل : هو دعاء عليهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون مراد الله بخطابه للناس.

١٢٨ ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) المقصود بالرسول محمد (ص) والمعنى : أنه جاءكم رسول من جنسكم من البشر ثم من العرب ثم من بني إسماعيل فهو منكم أيها البشر ومنكم أيها العرب ومنكم يا بني إسماعيل (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي صعب عليه ما يلحقكم من الضرر بترك الإسلام ، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على الكافر أن يؤمن لتشمله رحمة الله وينجو من عذابه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تشملهم رحمته ورأفته التي هي أشد من الرحمة ...

١٢٩ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ ...) أي يا محمد : إذا اعرض هؤلاء عمّا تدعوهم إليه من الإقرار بوحدانيّة الله وبصدق نبوّتك ، فقل حسبي الله : أي هو كافيّ ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وما من ربّ سواه يستحق العبودية (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فوضت إليه أموري (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وربّ كل شيء فعلا ، ولكنه ذكر العرش بالخصوص هنا تفخيما لشأنه عزّ وعلا ، لأن العرش كناية عن الملك والسلطان في السماوات والأرضين.

٢١٢

سورة يونس

مكية ، عدد آياتها ١٠٩ آية

١ ـ (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : قد تكلّمنا عن معاني الحروف المعجمة الواقعة في أول السور ، فيما مضى. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه السور والتي كل واحدة منها عبارة عن مجموعة آيات هي من ذلك الكتاب الذي ربما كان اللوح المحفوظ الذي سمّاه حكيما لأنه ينطق بالحكمة ويؤدي إلى الصواب في العلم والمعرفة.

٢ ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ...) هو استفهام إنكاري ، يعني : هل كان وحينا المنزل على رجل من الناس وقيل بأن المقصود بهم أهل مكة ـ مدعاة لتعجّبهم؟ (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) خوّفهم بالعذاب (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) عرّفهم الخبر السارّ المفرح وهو (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أن لهم أجرا حسنا ومنزلة سامية عند الله بما قدّموا من صالح الأعمال. (قالَ الْكافِرُونَ) المنكرون : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي أن النبيّ (ص) يأتي بسحر يخفي الحقيقة بالحيلة ، ويظهرها على غير وجهها ، حتى يتوهّم الناس أنه يأتي بالمعاجز. وقد قالوا ذلك لعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن ليعارضوه به.

٣ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أن خالقكم ومدبّر شؤونكم الذي يجب عليكم عبادته هو الله الذي انشأ السّماوات والأرض أيضا ، بما فيهما من التنظيم وعجائب الصنع (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لا تزيد ولا تنقص مع أن قدرته تسع خلقهما دفعة واحدة ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فسرنا ذلك في سورة الأعراف ، (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يقدّره على الوجه الأكمل (ما مِنْ شَفِيعٍ) أي ليس من متوسط بالشفاعة لأحد (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي بعد أمره والترخيص له بذلك. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي أن الموصوف بتلك الصفات هو إلهكم المستحق للعبادة (فَاعْبُدُوهُ) وحده ولا تشركوا معه شيئا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني : هلّا تتفكّرون فيما يخبركم به؟.

٤ ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ...) أي : إلى الله مرجعكم الّذي هو إمّا معادكم وإمّا موضع رجوعكم يوم حشركم جميعا في صعيد واحد (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي : أنه سبحانه وعد بذلك عباده وعدا صادقا. (إِنَّهُ) جلّ وعلا (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئه ابتداء وعلى غير مثال (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد موته (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ليعطيهم ثواب أعمالهم الحسنة (بِالْقِسْطِ) أي العدل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) ماء حارّ غاية الحرارة من شدة نار جهنّم (وَ) لهم (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم وجزاء لهم عليه.

٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ...) أي أن هذا المتوحّد في الربوبيّة والخلق والتدبير هو الذي جعل الشمس ضياء بالنهار (وَالْقَمَرَ نُوراً) بالليل والضياء أبلغ في دفع الظلمة من النور. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أمكنة ينتقل من واحد منها إلى الآخر (لِتَعْلَمُوا) أي لتعرفوا بالقمر ومنازله (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي أول كل شهر وآخره ، وتمام كل سنة وانقضاءها. (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) الخلق العجيب (إِلَّا بِالْحَقِ) إلّا شاهدا بحق الربوبيّة وبحقّ كونه آية دالّة على الوحدانيّة ، والله (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يشرحها ويوضحها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعونها ويعطونها حظّها من الفهم والتدبّر في عظمتها.

٦ ـ (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي : في اختلاف تعاقب اللّيل والنهار على ما تقتضيه الحكمة في الآفاق وفعله في السماوات على ما تقتضيه الحكمة من النجوم والكواكب والمجرات ثابتها ومتحركها وفعله في الأرض كذلك من الحيوان والجماد والنبات وجميع النعم الأخرى (لَآياتٍ) براهين ودلالات على وحدانيته وحكمة صنعه (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) لجماعة يجتنبون المعاصي ويخافون العقاب.

٢١٣

٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ...) أي : إن المنكرين للبعث الكافرين بالثواب والعقاب ، (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي قنعوا بها فلا يعملون إلا لها (وَاطْمَأَنُّوا بِها) يعني سكنوا إليها وركنت قلوبهم لمتعتها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) أي الذين هم في غفلة عن حججنا ودلائلنا.

٨ ـ (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ ...) أي مقرّهم نار جهنّم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) جزاء معاصيهم.

٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) أي الذين صدّقوا به وبرسله ثم أضافوا إلى ذلك التصديق عمل الطاعات والخير. (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) يدلّهم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي من تحت قصورهم في الجنّة ومن بين أيديهم وهم يتنعّمون غدا.

١٠ ـ (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ ...) أي أن دعاء المؤمنين في الجنة وكلّ عملهم لا يتعدّى أكثر من قولهم : سبحانك يا الله لا على وجه العبادة إذ لا تكليف في الجنة وإنما التذاذا بالتسبيح (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) التحية : التكرمة ، أي من الله لهم في الجنة هي : سلام ، وقيل هذه تحية بعضهم لبعض. وقيل تحية الملائكة لهم. (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) الدعاء الأخير عندهم : (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهذا آخر كلّ كلام لهم ، لا أنه آخر كلمة يقولونها ولا يتكلّمون بعدها بشيء.

١١ ـ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ ...) أي لو أن الله سبحانه يعجّل في استجابة دعاء النّاس على أنفسهم أو غيرهم بالشرّ ، وأهلهم حين يتضجّرون من شيء ويقولون : أمات الله فلانا ، ولعن الله أبا فلان ، ولا بارك الله في رزق فلان ولا في عمره (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) يعني كما يعجّل لهم إجابة أدعيتهم في طلب الخير إذا استعجلوه (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لأهلكهم وفرغ من تدميرهم (فَنَذَرُ) ندع (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الذين لا يصدّقون بالبعث ، (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي يتحيّرون في كفرهم.

١٢ ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا ...) أي إذا أصابه البلاء أو المحنة في الدنيا ، ابتهل إلينا وتضرّع (لِجَنْبِهِ) وهو مضطجع (أَوْ قاعِداً) أو جالسا (أَوْ قائِماً) أو واقفا ، (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) أي عندنا أزلنا عنه ذلك الضرّ الّذي أصابه (مَرَّ) استمرّ على حاله الأولى في إعراضه عن شكرنا (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) كأنّه ما دعانا لكشف ضرّه الذي أصابه (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي على هذا الشكل زيّن للمشركين عملهم هذا من قبل أنفسهم أو من قبل الشيطان ، أو بعضهم من قبل بعض ، فمنحوا العافية بعد البلاء ولم يشكروا مانحها.

١٣ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ...) القرون : جمع قرن ، وهو أهل كل عصر من العصور ، وقد سمّوا بذلك لمقارنة بعضهم ببعض. فالله تعالى قد أهلك أهل جميع العصور التي سبقتكم بأنواع العذاب لأنها عصت أوامر ربّها وأشركت به. (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أتاهم أنبياؤهم بالدلالات الواضحة والمعجزات (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي : وفي معلومنا السابق ما كانوا ليؤمنوا لو أبقيناهم ، (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي ، وبمثل ذلك نعاقب المشركين مستقبلا فنهلكهم إذا علمنا أنهم لا يؤمنون بعد قيام الحجة عليهم.

١٤ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ ...) الخطاب لأمّة محمد (ص) فقد جعل المسلمين يخلفون الأمم التي أهلكها الله بظلمها ، وأسكنهم الأرض من بعدها ، (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي لنرى عملكم وهل تقتدون بتلك الأمم في الكفر أم تصلحون.

٢١٤

١٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) الضمير في (عَلَيْهِمْ) يعود لمشركي قريش فقد نزلت في خمسة منهم اجتمعوا وقالوا للنبيّ (ص) : ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام أو بدّله. فهؤلاء وأضرابهم إذا قرئت عليهم آياتنا الواضحة (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) من أمثال هؤلاء الكافرين بالبعث والحساب : (ائْتِ) جيء (بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) الذي تتلوه علينا (أَوْ بَدِّلْهُ) فاجعله على خلاف ما هو عليه من عيب الأصنام وترك عبادتها ، (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المعاندين : (ما يَكُونُ لِي) أي ليس لي حقّ (أَنْ أُبَدِّلَهُ) أغيّره (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي من جهة نفسي ، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي : ما أتّبع إلا الوحي كما ينزل (إِنِّي أَخافُ) أخشى (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) في اتّباع غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عذاب يوم القيامة.

١٦ ـ (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ... قُلْ) يا محمد لهؤلاء : (لَوْ شاءَ اللهُ) أراد (ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) ما قرأت آيات هذا القرآن عليكم (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي : ولا أعلمكم الله به (فَقَدْ لَبِثْتُ) أقمت (فِيكُمْ) بينكم (عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي مدة طويلة قبل نزول القرآن عليّ فما ادّعيت رسالة ولا تلوت وحيا حتى أكرمني الله برسالته وقرآنه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تتفكّرون بعقولكم.

١٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي ليس أحد أظلم ممن اخترع الكذب على الله وافتراه عليه. (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) رفضها (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي لا ينجح المشركون.

١٨ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ...) أي أن الكفار يعبدون غير الله وهو الأصنام مع أنها لا تضرهم إذا تركوا عبادتها ، ولا هي تنفعهم إن عكفوا عليها (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) أي يدّعون أنه سبحانه أذن لهم بعبادتها وسيشفّعها بهم يوم القيامة. (قُلْ) لهم يا محمد : (أَتُنَبِّئُونَ) تخبرون (اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) بشيء لا يعرفه من عبادتكم للأصنام أو بما لا يعرفه ممّا (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فهو خالقهما والمحيط علمه بما فيهما. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه الله وسماه عن أن يستحق غيره العبادة.

١٩ ـ (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ...) قيل : إن الناس كانوا أمة واحدة من حيث الفطرة على الإسلام والتسليم لله بالوحدانية منذ كانوا ، ثم اختلفوا في الأديان واعتناق العقائد. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) هي أنه لا يعاجل العصاة بالعقاب إذ سبقت رحمته غضبه فلو لا ذلك (لَقُضِيَ) أي فصل (بَيْنَهُمْ) وحكم لهم أو عليهم (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وذلك بأن يهلك الكفار وينجي المؤمنين.

٢٠ ـ (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...) يعني هؤلاء الكفار يقولون : هلّا أنزل على محمد آية من ربه تلزم الخلق بتصديقه إلزاما فلا يلزمهم بعدها نظر ولا استدلال. (فَقُلْ) يا محمد لهؤلاء المتعنّتين : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) الله وحده يعلم الغيب وما في الأمور من المصالح قبل كونها وبعد كونها ، ويعلم ما في إنزاله إصلاح فينزله ، كما أنه يعلم ما ليس في إنزاله إصلاح فلا ينزله. (فَانْتَظِرُوا) ما يصيبكم من عقابه في الدنيا والآخرة. (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وقد وعدني النّصر عليكم وأنا انتظر إعزاز الدّين وإذلالكم.

٢١٥

٢١ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ...) أي إذا أصبنا الكفار ـ لا الناس جميعا ـ برحمة منّا ، تشملهم من بعد أن يكونوا قد أصيبوا ببلاء. (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) يعني : فإذا هم يحتالون لإنكار آياتنا استهزاء وتكذيبا (قُلِ) لهم يا محمد : (اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) يعني هو سبحانه أقدر جزاء على المكر وذلك بإنزال العقاب بهم بأسرع من مكرهم (إِنَّ رُسُلَنا) أي الملائكة الحفظة (يَكْتُبُونَ) يسجلون (ما تَمْكُرُونَ) ما تدبّرون من حيل وسوء تصرّف.

٢٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) أي أنه تعالى هو الذي يمكّنكم من المسير في هذا وذاك بما خلق لكم من آلات السير في كل منهما بما يناسبه (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي لحين كونكم في السّفن (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي ومشت السفن وبراكبيها جارية كجري الماء. (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي ليّنة (وَفَرِحُوا بِها) أي سرّوا بتلك الريح لأنها تساعدهم في السير نحو هدفهم ، (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) أي ضربت السفينة ريح عصفت عليها بهبوبها المخيف ، (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي اضطرب البحر وجاء الركاب الموج المتلاطم من جميع الجهات (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) اعتقدوا أن الموج طوّقهم وأيقنوا بالغرق ف (دَعَوُا اللهَ) ابتهلوا إليه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي فعلوا ذلك على وجه الإخلاص في العقيدة ولم يذكروا وثنا ولا صنما لعلمهم بأنه لا ينفع ولا يغني شيئا ، (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) يا ربّنا (مِنْ هذِهِ) الورطة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي لنصيرنّ في جملة من يشكرك على نعمتك وفضلك.

٢٣ ـ (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...) أي : فلمّا خلّص الله تعالى ركاب السفينة من كارثة الغرق التي أوشكت أن تحلّ بهم ، إذا هم يعملون بالمعاصي في الأرض وينشرون الظلم والفساد (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أن بغيكم فيما بينكم إنما تأتونه لحبكم الحياة العاجلة (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) أي أن مآلكم في الآخرة إلينا (فَنُنَبِّئُكُمْ) نخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بعملكم في الدّنيا لأننا سجّلناه عليكم.

٢٤ ـ (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ ...) لمّا رغّب سبحانه في الآخرة وزهّد في الدنيا في الآيات السابقة ، أتبع ذلك بصفة هذه وتلك ، فشبّه سرعة الفناء في الحياة الدّنيا بالماء الذي أنزله (مِنَ السَّماءِ) مطرا مجتمعا ما لبث أن توزّع (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) لأن المطر يتخلّل النبات ويمتزج به ويغذّيه ويدخل في تركيبه ويصير جزءا فيه جميعه (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) من حبوب وفواكه وخضار ، (وَالْأَنْعامُ) كالعشب المختلف (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي بهجتها وحسنها (وَازَّيَّنَتْ) يعني تزيّنت وتزخرفت في عيون الناظرين إليها (وَظَنَّ أَهْلُها) أي أيقن مالكوها (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) مستطيعون أن ينتفعوا بها على الدوام (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) جاءها قضاؤنا الذي حتمناه لإتلافها (فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي صيّرناها محصودة نقتلعها من الأرض يابسة جافّة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأنها لم تكن قائمة غنّاء زاهية في أمسها (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وبمثل ذلك المثل نبيّن حججنا للمعتبرين.

٢٥ ـ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ...) قيل إن السلام هو الله تعالى ، ودار السلام هي الجنّة التي أعدّها للمطيعين ، وقيل إن دار السلام هي التي يسلم فيها المؤمنون من الآفات. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بواسطة رسله (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى طريق الصلاح الموصلة إلى الدين الحق بنصب الأدلّة للمكلّفين ، وقيل يهدي عباده الصالحين إلى طريق الجنة.

٢١٦

٢٦ ـ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ...) الكلام متصل بين الآية وسابقتها ، أي قد أعدّ سبحانه في دار السلام للمحسنين ممّن أطاعوا الله في الدنيا جزاء حسناهم ، مع زيادة من منازل اللذّات والنعيم تفضلا منه. (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) أي لا يلحق وجوههم سواد أو غبرة ولا هوان (أُولئِكَ) أي الّذين أحسنوا (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مضى تفسيره.

٢٧ ـ (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ...) أي : ارتكبوا المعاصي (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) فهم يجزون بحسب ما يستحقون على أعمالهم دون زيادة ، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يلحقهم هو ان لأن في العقاب إذلالا لهم. (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ليس لهم مانع يمنع عنهم عقاب الله (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي كأن وجوههم غطّيت بظلمة الليل لسوادها من شدة خوفهم وذلتهم (أُولئِكَ) المسيئون (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مر معناه.

٢٨ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) والمعنى : أننا يوم نجمعهم من كل حدب وصوب إلى موقف القيامة (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) مع الله غيره في عبادتهم وأموالهم. (مَكانَكُمْ) أي الزموا مكانكم ، (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) ومعكم شركاؤكم من الأوثان والأصنام في المحشر كما كنتم في الدنيا (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ميّزنا وفرّقنا بينهم لسؤال هؤلاء وحدهم ، وسؤال أولئك بمفردهم ، (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) لهم : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) إذ ينطقهم الله سبحانه بقدرته فيقولون لعبدتهم من المشركين : لم نشعر بأنكم كنتم تعبدوننا.

٢٩ ـ (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...) أي كفى به عزّ اسمه فاصلا للحكم بالحق بيننا وبينكم أيها الّذين أشركتم بعبادتنا مع الله (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) مضى تفسيره.

٣٠ ـ (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ...) أي حينئذ ، وفي ذلك المكان تجرّب وتختبر حاصل ما قدّمته من حسنات وسيئات (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ) أرجعوا بالبعث والقيامة إلى ربّهم و (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) وليّهم الحقيقي الذي لا يزول ولا يحول والذي يملك الحكم عليهم وحده لأنه خالقهم ومالكهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضاع من بين أيديهم ما كانوا يعدّونه شريكا مع الله تعالى ، افتراء عليه.

٣١ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء : من يعطيكم الأرزاق من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات والشجر (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي : فمن هو الذي يملك إعطاءكم حاستي السمع والبصر ولو شاء لسلبهما؟ (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من النطفة. (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالبيضة من الدجاجة وكالبذرة من النّبتة. وقيل : المقصود : من يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي الأمور في السماوات والأرضين ، بالشكل المحكم الذي ليس فيه خلل؟ ... (فَسَيَقُولُونَ : اللهُ) يعني : سيعترفون بأن الله يفعل ذلك كلّه وأن معبوداتهم من الأصنام لا تقدر عليها (فَقُلْ) يا محمد لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تفكّرون بعقولكم وتدركون هذه المعاني؟

٣٢ ـ (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ...) والمعنى أن من وصفته الآية السابقة هو الله ربكم الحق الذي وجبت له الألوهية والعبادة (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِ) الذي تقرّر بالحجة والبرهان (إِلَّا الضَّلالُ) أي الضياع في متاهات الكفر؟ (فَأَنَّى) كيف وأين (تُصْرَفُونَ) تعدلون عن عبادة الله الحق إلى الباطل.

٣٣ ـ (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ...) أي : بمثل ذلك الاستدراج البسيط والاستقراء الحكيم ، وجبت كلمة ربّك ، وهي حكمة عليهم بالعقوبة على شركهم (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي تعدّوا على حدود الله (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني بأنهم لا يصدقون.

٢١٧

٣٤ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ...) قل يا محمد لهم : هل واحد من أصنامكم يملك إنشاء الخلق وابتداعه ابتداء من العدم ثم يفنيه (ثُمَّ يُعِيدُهُ) في نشأة ثانية بعد موته وفنائه؟ ... (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لأن جوابهم الحتمي : ليس من شركائنا من يفعل ذلك أو يقدر عليه ، بل لله الخلق والإنشاء ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) كيف تقعون في الإفك وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟

٣٥ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ...) فتابع معهم الحجاج يا محمد واسألهم : هل من معبوداتكم التي أشركتموها مع الله معبود يدل على طريق الحق ويدعو إلى ترك الباطل ، ويأمر بالرشاد والخير (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) وتابع جدالهم بقولك : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) ويدل على ما فيه الصلاح والخير في الدارين (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) أي يؤخذ بأوامره ونواهيه (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) يعني أم من لا يهتدي ولا يهدي أحدا إلى شيء (إِلَّا أَنْ يُهْدى) يدل إذا كان يسمع أو يرى. (فَما لَكُمْ) ما بكم ، وما عراكم؟ (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) كيف تقضون في هذا الأمر؟.

٣٦ ـ (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ...) أي لا يأخذ أكثر هؤلاء الكفار إلّا بالتخمين كتقليد آبائهم. و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) لأن الظّن غير العلم ، والعلم هو الحقيقة ، فالظنّ لا يكفيهم بديلا عن الحق ، وقد يأتي على خلاف ما ظنّوا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) عارف جيدا بما يعملون من عبادة غيره وسيجزيهم على ذلك الجزاء الملائم لشركهم.

٣٧ ـ (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ...) أي : ما كان يمكن افتراء هذا القرآن الكريم ، لكي يمكن قول مثله (مِنْ دُونِ اللهِ) من غيره ، (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) بل هو مصدّق لما سبقه من الكتب الموحى بها وقيل : إنه مؤكّد لما يأتي من بعده من البعث والحساب (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي : ومبيّنا لما كتب في اللوح المحفوظ من التكاليف ، (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شكّ في أنه منزل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وحيا لا يمكن تبديله ولا افتراء مثله.

٣٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي : أيقولون افترى محمد (ص) هذا القرآن؟ (قُلْ) لهم يا محمد (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يعني : جيئوا بسورة واحدة تشبهه مع أنكم من أهل لغته العربية ، (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي استعينوا بمن شئتم ـ غير الله ـ ليساعدوكم في معارضته (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم إنه مفترى ...

٣٩ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ...) أي أنهم كذّبوا بالقرآن حين عجزوا عن فهمه فحكموا ببطلانه إذ لم يعرفوا معانيه ومراميه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي لم يجئهم بعد تفسيره وبيان ما فيه من المحكم والمتشابه ، وممّا يؤول إليه أمرهم من العقوبة ، (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كمثل تكذيبهم كذّبت الأمم السابقة أنبياءها (فَانْظُرْ) تأمل يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي أن من قبلهم هلك بتكذيب الرّسل ، وعاقبة هؤلاء ستكون كذلك بسبب تكذيبك.

٤٠ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ...) أي أن منهم من يؤمن به بينه وبين نفسه ويعترف بصحته ولكنه شاكّ متحيّر ، ومنهم من لا يصدّق به ويخالف وقيل : بأن الآية ناظرة إلى حال هؤلاء مستقبلا حيث يعلم الله بأن منهم من سوف يؤمن بهذا القرآن ومنهم من سوف يبقى على تكذيبه به. (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي بمن يدوم على الفساد ولا يقلع عن العناد ولا يرجع إلى الصواب.

٤١ ـ (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ...) هذا خطاب منه سبحانه لرسوله (ص) يعني : إذا كذّبك قومك وداوموا على معاندتك فقل لهم : لي عملي وما يجرّ عليّ من نفع أو ضرر ، ولكم عملكم وجزاؤه الذي يترتّب عليه (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) لن يصيبكم شيء من نتيجة عملي (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي وأنا أتبرّأ إلى الله من سوء عملكم ووزره.

٤٢ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ...) أي ومن هؤلاء الكفار من يطلب سماع ما تتلوه وما تدعو إليه بدافع معاندتك (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) أي هل تقدر يا محمد أن توصل صوتك إلى من فقد حاسة السمع (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي : حتى ولو كانوا في غاية الجهل؟.

٢١٨

٤٣ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ...) أي ومن هؤلاء الكفار من ينظر إلى أقوالك وأفعالك نظرا لا عبرة فيه (أَفَأَنْتَ) أي هل أنت يا محمد (تَهْدِي) تدل (الْعُمْيَ) على طريقهم وترشدهم إليه (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي لا ينظرون المعالم التي تدلّهم عليها؟ والاستفهام في كلتا الآيتين إنكاري.

٤٤ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ...) أي أنه يوفّيهم جزاء أعمالهم غير منقوص لأنه منزّه عن الظلم (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ولكن العباد العاصين يظلمون أنفسهم بأنفسهم حين ينصرفون عن دعوته سبحانه اتباعا لأهوائهم.

٤٥ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ...) أي حين يجمع سبحانه هؤلاء الكفار يوم القيامة (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) كأنّهم لم يبقوا قبل البعث في الدنيا ، أي أنهم استقلوا مكثهم في الدنيا إذ هو في جنب مكث الآخرة كساعة ليس إلّا (إِلَّا ساعَةً) من الزمن كجزء (مِنَ النَّهارِ) الذي هو من الفجر إلى أول الليل. (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يتعرّف بعضهم إلى بعض إذا خرجوا من قبورهم ، ويعرف بعضهم خطأ بعض وكفره ، (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي قد ظهر خسرانهم بلقاء الجزاء على سوء عملهم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) للحق في دار الدنيا.

٤٦ ـ (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ...) أي : فإمّا أن نريك يا محمد ـ في حياتك ـ بعض ما نعد هؤلاء الكفار ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أو نأخذك من بينهم بالوفاة قبل نزول ما وعدناهم به في الدّنيا من العقوبة بالقتل وغيره (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) معادهم (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) أي أنه تعالى ناظر عالم بما يقومون به وسيوفّيهم جزاء عملهم.

٤٧ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ...) أي ولكل جماعة مجتمعة على طريقة واحدة نبيّ أرسلناه إليها وحمّلناه ما ينبغي لها فعله وتركه ، (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) أي إذا بعث إليهم وبلّغهم. فصدّقه البعض وكذّبه الآخر. (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي حكم بنجاة المصدّقين ، وإهلاك المكذّبين ، (بِالْقِسْطِ) أي العدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا يلحق جور على المكذّبين ، ولا ينقص من ثواب المطيعين.

٤٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) والوعد يكون للخير ، والوعيد للشر. والمعنى أن الكفار يقولون إنكارا وتكذيبا : متى يقع هذا الوعد للمطيعين بالفوز بالجنّة؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في القول الذي تقولونه أيها الرّسل.

٤٩ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً ...) قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذّبين : أنا لا أقدر على جلب نفع لنفسي ولا على دفع ضرّ عنها فكيف أملكه لغيري؟ (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) إلّا ما أراد (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي لكل أمة وقت محدد أجله لتعذيبها على تكذيب رسوله (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) حان وقت موعدهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) يملكون طلب تأخير (ساعَةً) لنزول العذاب عن ذلك الموعد ، (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) يملكون طلب تقديم مثلها للوصول إلى الثواب.

٥٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً ...) أي : قل يا محمد للمشركين : هل دريتم أنه إن جاءكم عذاب الله الذي وعد به الكافرين ليلا وأنتم بائتون (أَوْ نَهاراً) وأنتم مستيقظون (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي ما هو الشيء المطموع به الذي يطلب العصاة تعجيله لنفعهم؟.

٥١ ـ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ...) ومعناه : أحين وقع عليكم العذاب في وقته المعيّن صدّقتم بالله أو بالقرآن أو بالعذاب. (آلْآنَ) أفي هذا الوقت الذي لا يفيد فيه الندم ، تؤمنون؟ (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) وكنتم قبل وقوعه تطلبون استعجاله.

٥٢ ـ (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ ...) أي بعد وقوع العذاب يوم القيامة يقال لمن ظلموا أنفسهم : ذوقوا العذاب الدائم الذي لا يخفّف ولا تنقضي مدته ، (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي هل نالكم إلّا جزاء ما ارتكبتم من المعاصي؟

٥٣ ـ (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ...) أي يطلبون منك يا محمد أن تخبرهم أحقّ هو : ما جئت به من الرسالة والقرآن والشريعة ، أو ما وعدتنا به من البعث والعذاب ، ف (قُلْ) مجيبا إياهم : (إِي وَرَبِّي) : نعم وحقّ الله (إِنَّهُ لَحَقٌ) لا شكّ فيه (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لستم بفائتين له.

٢١٩

٥٤ ـ (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ ...) أي : لو كانت كلّ نفس أشركت بال ٥٤ لّه ، تملك جميع ما في الأرض (لَافْتَدَتْ بِهِ) لفدت نفسها به يوم القيامة من العذاب (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي وأخفوا ندامتهم حين شاهدوا العقاب الذي ينتظرهم (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي حكم بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا يصيبهم ظلم ممّا يفعل بهم بسبب جنايتهم على أنفسهم.

٥٥ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) المعنى : اعلموا أن الله تعالى يملك السماوات والأرض وله حق التصرف بهنّ وبمن فيهنّ ولا يقدر أحد على الاعتراض عليه إن أراد أن ينزل عذابه على مستحقّيه (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بإنزال عقابه بالكافرين (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لم يعرفوا صحة ذلك الوعد لجهلهم المطبق بالله تعالى.

٥٦ ـ (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : أي أنه سبحانه يردّ الناس أحياء بعد موتهم ، ويميتهم بعد أن جعلهم أحياء ، وإليه تردّون أيها الناس فيجازيكم على أعمالكم.

٥٧ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) هذا خطاب لجميع الناس ينبّههم فيه إلى أنه قد جاءتكم من الله موعظة تخوّفكم من (جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) هذا خطاب لجميع الناس ينبّههم فيه إلى أنه قد جاءتكم من الله موعظة تخوّفكم من المعصية والعقاب وترغّبكم بالطاعة والثواب ، وهي القرآن. (وَ) هي (شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) برء للنفوس تعافيها ممّا فيها من الجهل. (وَهُدىً) أي دلالة إلى طريق الحق (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي نعمة لمن أخذ بها وانتفع بما فيها.

٥٨ ـ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ...) أي : قل يا محمد للناس : بإفضال الله ونعمته (فَبِذلِكَ) أي بفضله وبنعمته (فَلْيَفْرَحُوا) فليسرّوا ، فذلك (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدّنيا ، لأن ما في الدنيا يزول وهذا باق.

٥٩ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ...) قل يا محمد لكفار مكة : هل نظرتم إلى ما أعطاكم الله من رزق وجعله حلالا لكم (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) أي فجعلتم من عند أنفسكم بعضه حلالا وبعضه حراما كتحريم السائبة والبحيرة وغيرهما (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أي تكذبون. ومعناه : لم يأذن لكم بشيء من ذلك ، وأنتم تكذبون عليه فيما حلّلتم وحرّمتم.

٦٠ ـ (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) يعني : أي شيء يظن الذين يكذبون على الله وماذا يعتقدون أنه يصيبهم بسبب كذبهم عليه إلا العذاب الشديد (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بما منّ عليهم من النّعم والأفضال (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) لا يحمدونه على أفضاله ونعمه بل يجحدونها.

٦١ ـ (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ...) ومعناه : أنك يا محمد ما تكون في حال من أحوالك (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أي : وما تقرأ من الله من الكتاب الذي ينزله عليك منجّما ، بل (وَلا تَعْمَلُونَ) أيها الناس جميعا (مِنْ عَمَلٍ) كائنا ما كان (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) مشاهدين لكم وناظرين إليكم (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) إذ تخوضون فيه (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) أي : وما يغيب عن رؤيته وعلمه (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) أي أصغر وزن ممكن (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) من أعمال ساكنيهما (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ) أي : ولا أصغر من الذرّة (وَلا أَكْبَرَ) منها (إِلَّا) كان ذلك مسجّلا (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) في كتاب بيّنه الله تعالى وهو اللوح المحفوظ.

٢٢٠