إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

٦٩ ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ...) أي ليس من واجب على المؤمنين المتجنّبين ما يسخط الله ، حين مجالسة الخائضين في آيات الله ، (مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) إذ لا تلحقهم تبعة الكافرين ولا يحاسبون بقول غيرهم. (وَلكِنْ) ينبغي أن يكون جلوسهم معهم (ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فعليهم تذكيرهم بالحسنى بخطاياهم لعلّهم يقلعون عن الاستهزاء بآيات الله.

٧٠ ـ (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ...) يعني : دع يا محمد هؤلاء الذين دينهم الذي هو عبادة الأصنام لهو ولعب ، لأن عبادتهم لأصنامهم لا تجر لهم نفعا ولا تدفع عنهم ضرّا (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعهم ما في الحياة على هذه الأرض من مغريات وقيل : إن الأمر بترك هؤلاء في هذه الآية قد نسخه آية السيف. (وَذَكِّرْ بِهِ) أي خوّف بالقرآن (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) يعني أن تسلم للهلكة وتعرّض للعذاب بسوء ما كسبت من الإثم وتؤخذ بقبح أعمالها حين تغدو و (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) فلا وكيل يدافع عنها ولا متوسّط يشفّع بها (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) أي ولو تدفع أية فدية كانت (لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي لا يقبل منها (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي حبسوا بأعمالهم الخبيثة وعقائدهم الفاسدة (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) أي ماء مغليّ حار وعذاب موجع (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم.

٧١ ـ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ...) قل لهم يا محمد : أنعبد غير الله ، ونسمّي ربّا لا يقدر على جلب النّفع لنا ولا يستطيع أن يدفع عنّا الضرّ (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) أي ننصرف عما نحن عليه ونرجع القهقرى ونترك دين الحق؟ (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) أرشدنا إلى الإسلام ، (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) أي كمن أغرته الأبالسة باتباع الهوى وقذفت به في مهواة سحيقة وتركته (فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) ضالّا لا يعرف كيف يتخلص (لَهُ أَصْحابٌ) رفاق (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) يرشدونه إلى الحق ويدلونه على طريق الرشاد قائلين له : (ائْتِنا) أي كن معنا ، فيعرض عن دعوتهم ف (قُلْ) يا محمد : (إِنَّ هُدَى اللهِ) إلى دين الإسلام (هُوَ الْهُدى) والرشاد الصحيح (وَ) نحن المسلمين إنما (أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أوجب علينا التسليم إلى الله والانقياد إليه. والمقصود من ذكر الإسلام بالخصوص هو التنبيه على عظمته ، ولذلك عقّب سبحانه بقوله :

٧٢ ـ (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ...) عطف على قوله السابق : لنسلم أي : أدّوها وأظهروا إقامتها. (وَاتَّقُوهُ) بتجنب معاصيه (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون يوم الحشر إلى الله ليجازى كلّ عامل بعمله. ففي الخبر : إن الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ.

٧٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) قد أشار سبحانه إلى ذلك ليبيّن عظمته لأنه خلقهما (بِالْحَقِ) أي على وفق الحكمة وفي غاية النظام وبقدرة غير متوفرة لسواه. (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) فالمراد بكلمة : كن ، هو إرادته سبحانه ، أي يريد فيكون ما يريد فبمحض إرادته يحصل المراد إيجادا كان أو إعداما من دون الحاجة إلى التلفظ بكلمة كن. أو لا تكن. (قَوْلُهُ الْحَقُ) أي الثابت الذي تجب طاعته (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي له السّلطة والسطوة حين النفخ في الصور لبعث الخلائق بعد الموت ، (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي العارف بما يشاهده المخلوقون وبما استتر عنهم. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أفعاله (الْخَبِيرُ) العالم بكل شيء.

١٤١

٧٤ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ...) أي واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه الذي كان اسمه آزر. (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) يعني أتجعل الأصنام أربابا من دون الله؟ (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ضلالة واضحة عن الصواب. وقد كان قوم إبراهيم (ع) يعبدون النجوم ، ولذا ردّ عليهم إبراهيم (ع) بأفولها ثم استهزأ بعبادتهم لها وللأصنام إذ هم يعبدون ما لا عقل له ولا إدراك بل هي جماد محض لا تملك من أمرها شيئا.

٧٥ ـ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ...) أي وبهذه الطريقة من التفهيم ، نبصّر إبراهيم (ع) (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني حقائقهما وما هما عليه في الواقع ، (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي المتيقنين بأن الله سبحانه هو الخالق والمالك لكل ذلك يقينا لا يمكن زواله ولا زلزلته.

٧٦ ـ (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...) أي أظلم وستره ظلامه (رَأى كَوْكَباً ، قالَ هذا رَبِّي) يعني قال ذلك على سبيل المماشاة والمصانعة مع قومه ليتدرّج إلى رفض ذلك بالحجة فإن الأنبياء كلهم معصومون. (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غرب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) لأن الغروب لا يجوز على الإله.

٧٧ ـ (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً ...) أي شارعا بالطّلوع (قالَ هذا رَبِّي) مستنكرا أن يكون هو المعبود (فَلَمَّا أَفَلَ) غرب (قالَ : لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يرشدني إلى الحق (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) بعبادة هذه الحوادث وبهذا القول أظهر عجز نفسه واستعان بربّه من أجل الوصول إلى الهدى.

٧٨ ـ (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ...) فحين نظر للشمس طالعة وقد ملأت الدنيا بنورها قال هذا ربي ـ منكرا ومستنكرا ـ هذا أكبر من الكوكب والقمر (فَلَمَّا أَفَلَتْ) غابت (قالَ : يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أتبرأ من شرككم بالله وعبادتكم لأجرام مخلوقة.

٧٩ ـ (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً ...) إنّي التفتّ بوجهي وأقبلت بقلبي إلى الله الذي خلق السماوات والأرض مخلصا مائلا عمّا أنتم عليه من الوثنية (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله سبحانه إذ ليس كمثله شيء.

٨٠ ـ (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ...) أي جادلوه في التوحيد والربوبية دفاعا عن أوثانهم (قالَ : أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ؟) تجادلونني بربي الواحد الأحد الخالق الرازق وفي وحدانيته ، (وَقَدْ هَدانِ) دلّني بفضله على توحيده؟ (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) ولا أرهب آلهتكم ، أن تضرّني كما لا آمل أن تنفعني لأنها جماد لا تنفع ولا تضرّ (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) يعني إلّا إذا قدّر ربّي أن يصيبني بذنب ارتكبته أو أن أختار لنفسي الكفر فيخلّي بيني وبين اختياري الفاسد ، (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) يعني أن علم الله تعالى واسع : أحاط بكل شيء (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أو ليس في ذلك ذكرى لكم.

٨١ ـ (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ ...) مع أن معبوداتكم لا يتعلّق بها نفع ولا ضرر؟ (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) القادر المهلك الذي هو حقيق بالخوف ، (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) الله (عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) برهانا يجيز إشراككم به سبحانه عن حجة قاطعة. (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أنا أو أنتم (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) من خوف عاقبة الأمر (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعقلون وتدركون مصائر الأمور وعواقبها.

١٤٢

٨٢ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ...) أي : ولم يمزجوا ولم يضمّوا ظلما إلى إيمانهم كالشرك (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) أي الأمان يوم القيامة من العقاب (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق وقيل الجنة.

٨٣ ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ ...) وتلك : إشارة إلى ما احتجّ به إبراهيم (ع) على قومه ، فتلك أدلتنا التي أعطيناها إبراهيم وأرشدناه إليها فاحتجّ بها (عَلى قَوْمِهِ) الكافرين فأفحمهم (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي : نرقّي في العلم والإيمان من نريد (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) بأحوال خلقه.

٨٤ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...) أي أعطينا إبراهيم إسحاق وهو ابنه من سارة ويعقوب حفيده من إسحاق (كُلًّا) أي كلّ الثلاثة (هَدَيْنا) أرشدنا إلى الحق (وَ) مثلهم (نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي قبل هؤلاء (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي نسل نوح أو إبراهيم (ع) (داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ) وكلّهم أنبياء (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نثيبهم (وَ) مثلهم (زَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني وجميعهم من عباد الله الصالحين.

٨٦ ـ (وَإِسْماعِيلَ ...) أي ابن إبراهيم (ع) هو من تلك الذرية الصالحة (وَ) كذلك (الْيَسَعَ) قيل هو ابن أخطوب (وَيُونُسَ) بن متّى (وَلُوطاً) بن هاران (وَكلًّا) منهم (فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أي قدمناهم على الناس في زمانهم بالنبوّة.

٨٧ ـ (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ ...) يعني أنه سبحانه فضّل غير أولئك الرسل المذكورين أيضا من آبائهم وإخوانهم وذريّاتهم على أهل أزمنتهم. (وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي واصطفيناهم (وَهَدَيْناهُمْ) دللناهم على الحق (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) طريق الهدى وهو الإسلام.

٨٨ ـ (ذلِكَ هُدَى اللهِ ...) أي أن هذه الإنعامات على النبيّ إبراهيم وذرّيته هي إرشاد منه سبحانه إلى الثواب المختص بالمؤمنين (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي من يريد (وَلَوْ أَشْرَكُوا) وعدّوا معي من لا يماثلني (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لفسد عملهم وبطل لأنهم أوقعوه على غير الوجه المطلوب.

٨٩ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ...) المراد بالكتاب الجنس ، يعني أنه أعطى كلّ واحد ممن ذكر من الأنبياء كتابا فيه بيان أوامره ونواهيه ، (وَالْحُكْمَ) أي الحكمة (وَالنُّبُوَّةَ) في زمانه (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي إذا أنكر هذه الثلاثة الأشياء التي منحناك إياها يا محمد ، (هؤُلاءِ) أي الكفار الذين جحدوا نبوته (ص) (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي منحنا التفويض في الإيمان بها (قَوْماً) من غيرهم (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) لا ينكرونها.

٩٠ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ...) والمعنى أن من ذكرناهم من الأنبياء هم الّذين هداهم الله (فَبِهُداهُمُ) أي بطريقتهم في التصديق والصبر (اقْتَدِهْ) أي اجعلها لنفسك قدوة. (قُلْ) يا محمد للناس : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي جعلا وأجرة على تبليغ الرسالة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي أن تبليغي تذكير للناس كافة.

١٤٣

٩١ ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) الضمير في : قدروا : عائد لليهود ، أي ما عرفوه حق معرفته وما عظموه حق عظمته (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) حين أنكروا بعثة الرّسل والوحي. (قُلْ) يا محمد : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى؟) وهو التوراة (نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ؟) يستضاء به في الدين كما يستضاء بالنور في الدنيا ودلالة يهتدون بها (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) جمع قرطاس وهو الورقة. أي تجعلون كتابكم أوراقا متفرّقة (تُبْدُونَها) أي تظهرونها (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) ممّا حوى صفات محمد (ص) (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أي أنكم أيها اليهود تفعلون ذلك في حال أنكم ـ بفضل القرآن ـ قد عرفتم الكثير مما كنتم تجهلونه ويجهله آباؤكم. (قُلْ) يا محمّد أنزلها (اللهَ) تعالى (ثُمَّ ذَرْهُمْ) دعهم (فِي خَوْضِهِمْ) باطلهم (يَلْعَبُونَ) ويلهون عابثين.

٩٢ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ ، مُبارَكٌ ...) هذا : يشير به إلى القرآن نعته بالبركة لكثرة نفعه وجليل فائدته ، أنزلناه من السماء إلى الأرض فهو (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي يشهد بأنها حق (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي : لتحذّر وتخوّف من العقاب أهل مكة (وَمَنْ حَوْلَها) يعني أهل الشرق والغرب والجهات الأخرى ، (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ويصدّقون بالبعث والحساب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يصدّقون بهذا الكتاب (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي أنهم يداومون على صلاتهم ويؤدونها بشروطها وأجزائها.

٩٣ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أظلم ممّن يدّعي النبوّة وهو ليس بنبي افتراء على الله. (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ، وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وهذا كلّه بيان لحال من يدّعي ذلك ، وقيل إنها كلها في ابن أبي سرح ، وهي تكرار لما كان يقوله ويذيعه بين أترابه ... (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي : ليتك يا محمد ، تنظر إلى الظالمين وهم يعالجون سكرات الموت ويذوقون شدائدها المنكرة (وَالْمَلائِكَةُ) من حولهم (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي قد مدّوا أيديهم لقبض أرواحهم وقالوا لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي أعطونا أرواحكم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي عذابا تلقون فيه الهوان والذل (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فأنتم مستحقّون لذلك لأنكم كذلك.

٩٤ ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ...) يقول سبحانه : جئتم إلينا واحدا واحدا ، صفر اليدين ممّا كنتم تملكون من جاه ومال وعشيرة. (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : كما كنتم في بدء الخليقة لا ناصر ولا معين (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي خلّفتم وراءكم كلّ ما تفضّلنا عليكم به (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) في دار الدّنيا (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) والمراد بالشّفعاء الأصنام فإننا لا نراها معكم لتشفع لكم ، بل (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي انقطعت الصلة بينكم وبينهم. (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي : ضاع (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الذي كنتم تظنّون أنه شفيع وشريك له سبحانه في ربوبيّته.

١٤٤

٩٥ ـ (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ...) يعني شاقّ الحب والنوى أي الحب والبذور ليخرج منها الأشجار المثمرة بأنواعها (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي الحيوان من النّطفة ، (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) كخروج البيضة من الدجاجة. (ذلِكُمُ اللهُ) أي فاعل ذلك كله هو الله (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي إلى أين تنصرفون عنه إلى غيره.

٩٦ ـ (فالِقُ الْإِصْباحِ ...) أي أنه تعالى مخرج عموم الصّبح ومبين النور من ظلمات الليل (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي سكونا فيه للناس يستراح فيه (وَ) جعل (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي لحساب الأوقات في النهار والليل. (ذلِكَ) أي ما ذكر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) كان بتقدير قادر قاهر دقيق العلم بها وبغيرها.

٩٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) قد ذكر سبحانه النجوم لأنها أعمّ من القمر ولأنها كثيرة العدد ، خلقت لتهتدوا بضوئها وطلوعها ومواقعها أثناء سيركم في البر والبحر. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بينّا الحجج وأظهرناها ، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يتفكرون فيتيقنون.

٩٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) أي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس آدم (ع) (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي هناك محل تستقرّون فيه ومحلّ نودعكم إياه. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي يعلمون عن تفكّر وتبصّر وتدبّر.

٩٩ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) المراد بلفظ السماء يعني الفوق والعلوّ ، سواء كانت السماء الدّنيا أو ما فوقها أو ما تحتها ، وقيل : المراد منه السحاب. (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي فأبرزنا بواسطته جميع ما تنبته الأرض. (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) أي نبتا أخضر (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي يركب بعضه بعضا كالسّنبل (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) أي ونخرج من حمل النخل أعذاق الرطب قريبة المتناول (وَ) كذلك أنشأنا (جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ ، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي أن بعضها يماثل بعضا في الطّعم واللّون والحجم ، وبعضها مغاير له (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) وتأمّلوه تأمّل اعتبار (إِذا أَثْمَرَ) حين خروج ثمره (وَ) انظروا (يَنْعِهِ) أي نضوجه (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) ففي هذه الظواهر العجيبة معاجز وبراهين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون.

١٠٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) .. الجنّ بيان للشركاء أو بدل من اللفظة ، والمراد بالجنّ هنا الملائكة وقد سمّاهم تعالى هكذا لخفائهم عن الأنظار ، ذلك أن الكافرين كانوا يشركون به سبحانه ويعبدون الملائكة. (وَخَلَقَهُمْ) أي خلق جميعهم من عبّاد ظالّين ومعبودات باطلة. (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ) أي كذبوا واصطنعوا من عندهم بنين وبنات لله تعالى إشارة إلى النصارى واليهود حيث جعلوا عزيرا والمسيح ابني الله وإلى المشركين الذين جعلوا الملائكة بناته. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير حجة (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أي عزّ وسما عن أن يكون له ولد لأنه لم يلد ولم يولد.

١٠١ ـ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي : هو مبدعهما ومنشؤهما بعلمه ابتداء لا من شيء ولا على مثال سبق. (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) فكيف ومن أين يكون له ولد (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أي زوجة تصاحب الزوج عادة (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) خلق كلّ ما صدق عليه الشيء المخلوق من الذرّة إلى الدّرة وهو عارف تمام المعرفة بها جميعها.

١٤٥

١٠٢ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ...) يعني هذا الموصوف بما سبق هو الله خالقكم ومالككم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا ربّ سواه ، لأنه (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : بارئه وصانعه وواهبه الوجود (فَاعْبُدُوهُ) لأنه جلّ وعلا مستحقّ للعبادة وحده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حافظ ومدبر.

١٠٣ ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ...) أي لا تراه العيون ولا تحيط بكنهه العقول بل هو يراها ويحيط بها. (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي هو الرفيق الرؤوف بعباده العليم بكل ما يصلحهم ويفسدهم.

١٠٤ ـ (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ...) يعني جاءتكم من ربّكم براهين شافية لمن تبصّر بها (فَمَنْ أَبْصَرَ) رأى الحق وآمن به (فَلِنَفْسِهِ) أي أنه ينفعه ذلك لنفسه (وَمَنْ عَمِيَ) لم ير الحقّ وكفر (فَعَلَيْها) يعني يكون قد جنى على نفسه فوقع عليها وبال عماه بسوء اختياره لها (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لست برقيب على أعمالكم أحصيها عليكم.

١٠٥ ـ (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ...) أي على هذا الشكل من البيان نغيّر الآيات ونبدّل بعضها ببعض ، وننقلها من حال إلى حال ليتمّ البرهان القاطع على صدق ما أنزلناه (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي اليهود أو قريش يقولون تعلّمت تصريف هذه الآيات من أهل الكتاب ، (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي نوضح القرآن بلحاظ ما اشتمل عليه من آيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وهم المؤمنون المنتفعون به.

١٠٦ ـ (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) أي : اسلك طريق ما نزل عليك من وحي الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا ربّ غيره (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي : انصرف عنهم وعن أقوالهم لا شيء فيها من الحقائق بل هم عمي عن طريق نجاتهم.

١٠٧ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا ...) يعني : لو أراد الله أن يتركوا الشرك جبرا لفعل إلا أنه لم يرد ذلك لأنه ينافي فلسفة الثواب والعقاب فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين. (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي لم ننصبك عليهم مراقبا (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ولست موكّلا بأمورهم لتجبرهم على التوحيد.

١٠٨ ـ (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي لا تشتموا المشركين الذين يسمّون غير الله بالرّبوبية (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) أي اعتداء على الحق (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل به سبحانه ، (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي في مثل هذه الحال أرينا كلّ قوم عملهم مقبولا وحسنا بنظرهم وفقا لاختيارهم دون جبر (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) أي معادهم (فَيُنَبِّئُهُمْ) يخبرهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إذ يطلعهم على ما فعلوه.

١٠٩ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) أي حلفوا به تعالى أيمانا مغلظة (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من الآيات التي كانوا يقترحونها عليه (ص) (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ليصدّقنّ بها ، (قُلْ) يا محمد : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) فإنزال المعجزات منحصر بالله لأنه وحده القادر عليها. (وَما يُشْعِرُكُمْ) أي ما يدريكم والاستفهام إنكاري (أَنَّها) أي الآيات التي يقترحونها (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) فهؤلاء كذّابون مكذّبون.

١١٠ ـ (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ...) أي نحوّل قلوبهم وعيونهم عن سبيل المعرفة المؤدية إلى الإيمان إلى تلك التي تؤدي إلى الشرك (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) المراد بأول مرة : قبل بعثة محمد (ص) ودعوتهم للإسلام ، فهو سبحانه عالم بحالهم ومآلهم ، وبأنهم لا يؤمنون أبدا ولا أزلا. (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي ندعهم مستغرقين في تجاوزهم طريق الهداية ، متحيّرين متخبّطين فيما هم فيه.

١٤٦

١١١ ـ (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ...) كما طلبوا منك ورأوا الملائكة (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) وذكروا لهم ما رأوه من أهوال الموت والقبر والبرزخ (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) أي : ولو جمعنا إليهم كلّ شيء قبائل وجماعات ، (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) باختيارهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ويريد إرادة جبر وإكراه على الإيمان. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) لا يعلمون بأن الله قادر على كل ذلك.

١١٢ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ...) أي كما أنّ لك أعداء يا محمد ، فكذلك كنّا قد جعلنا لغيرك من الأنبياء أعداء. (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) أي مردة هؤلاء وهؤلاء. (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي ينفث هذا لهذا قولا منمّقا يموّه الحقائق على نحو الغش والخداع (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشيئة جبر (ما فَعَلُوهُ) ولكفّوا عن عداوتك مكرهين (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) يعني : اتركهم في كذبهم على الله وعلى الناس.

١١٣ ـ (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ ...) أي : دع أعداءك على ما هم عليه من الافتراء وزخرف القول وليستمع إليهم من يستمع من الّذين لا يؤمنون بالبعث والحساب ، (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي ليأثموا ويكتسبوا الذنوب.

١١٤ ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً ...) أي : قل يا نبيّ الله لهؤلاء المعاندين : أتريدون مني أن أطلب حكما بيني وبينكم غير الله سبحانه وتعالى؟ (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) وهو الذي أنزل إليكم القرآن مبيّنا مبهمه ظاهرة آياته ، (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني اليهود والنّصارى (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) يعرفون ذلك عن القرآن ويعرفون أنه حقّ ، لما رأوه في توراتهم وإنجيلهم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكّين المتردّدين في حقانيته والخطاب للأمة من خلاله (ص).

١١٥ ـ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ...) يحتمل قويّا أن يكون المراد بالكلمة هو الإسلام حيث اتّصف بالصدق. وقيل إن المراد بالكلمة القرآن الذي هو عدل في كل جانب من جوانبه (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا مغيّر لأحكامه. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مر معناه.

١١٦ ـ (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) نهى الله سبحانه النبيّ (ص) عن إطاعة أكثر الناس وهم الكفار وقال له : لأنهم يضلّونك عن طريق الحق وعن الدّين الذي اختاره لك. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي لأنهم لا يتبعون فيما يعتقدون من شرك إلا الظن من دون برهان وحجة (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يكذبون على الله سبحانه.

١١٧ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ...) أي إنه سبحانه أكثر علما من كلّ عليم ، يعرف الضالّين عن طريقه (وَهُوَ أَعْلَمُ) كذلك (بِالْمُهْتَدِينَ) الذين اتّبعوا سبيله.

١١٨ ـ (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) أي : ذكر اسم الله على ذبحه ، لا ممّا ذكر عليه اسم غيره تعالى من الأوثان أو ممّا مات حتف أنفه. (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين بحججه سبحانه.

١٤٧

١١٩ ـ (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) أي : ولا مانع يمنعكم من أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه خصوصا (وَقَدْ فَصَّلَ) بيّن (لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي جعله محظورا ممنوعا ، (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي قد تلجئكم الضرورة إلى أكل ذلك الحرام من اللحم فيكون حلالا أكله ، لأن الضرورات تبيح المحظورات (وَإِنَّ كَثِيراً) من الناس (لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) أي : يحلّلون المحرّم حسب رغباتهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل بالحكم. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) لأنه مطّلع على المتجاوزين لحدود الله.

١٢٠ ـ (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ...) يعني : دعوا ما فيه ذنب في ما يعلن وما يسرّ ، وقيل : أراد بالظاهر افعال الجوارح وبالباطن أفعال القلوب. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أي يقترفون الذنوب (سَيُجْزَوْنَ) يعاقبون (بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) بسبب ما كانوا يجنون من معاصي وآثام.

١٢١ ـ (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) أي عند الذبح مما حلّ أكل لحمه وفي هذا تصريح باشتراط الحلية بالتسمية على الذبيحة. والحاصل أنه سبحانه وتعالى نهى عن أكل غير ما ذكر اسمه عليه وقال : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي أن الأكل مما لم يذكر اسمه عليه عند ذبحه حرام لأنه خروج على حكم الله (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أي أن الأبالسة من الإنس والجنّ يوسوسون إلى أتباعهم (لِيُجادِلُوكُمْ) ليحاجّوكم (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) تذعنوا لقولهم بأكل الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بترك دين الله واتباعهم.

١٢٢ ـ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ...) أي هل من كان ميتا بالكفر فأحييناه بهدايتنا له إلى الإيمان (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) أي علما (يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) بذلك النور حيث يسير على هداه (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) أي لا يكون كالذي صفته في ظلمات الكفر والضلال (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) حال كونه باقيا في جهله (كَذلِكَ) أي كما زيّن للمؤمن إيمانه (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني حسّن لهم الشيطان عقائدهم الفاسدة.

١٢٣ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها ...) أي كما جعلنا أكابر مكة فسّاقها ، كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر فجرتها (لِيَمْكُرُوا فِيها) ولنعرف من يتّبع الحق ممّن يتّبع مكرهم (وَ) لكن (ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أي أنهم لو عقلوا لرأوا أن وبال مكرهم يحيق بهم دون غيرهم (وَما يَشْعُرُونَ) ولا يحسّون بذلك.

١٢٤ ـ (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ ...) أي إذا جاءت كفّار مكة معجزة من عند الله قالوا لن نصدّق بها. وقالوا لن نؤمن (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي حتى ينزل علينا مثل ما نزل عليك من الوحي. (اللهِ) تعالى (أَعْلَمُ) أعرف (حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أين يضعها وعلى من ينزلها. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي سيحلّ بهؤلاء الأكابر وغيرهم ممن انقطع إلى الكفر (صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) أي : ذلّ يوم القيامة. (وَ) سينالهم أيضا (عَذابٌ شَدِيدٌ) صعب أليم (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي : بسبب مكرهم وعنادهم في دار الدنيا.

١٤٨

١٢٥ ـ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ...) أي من يلطف به بأن يريد له الهدى ويشاءه (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) يوسع قلبه لذلك ويفسح له فيه. (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي : ومن لا يستحق الهداية ولا يرغب فيها يجعل قلبه كثير الضّيق بالأمور السماوية ، وإذا أمر بالإيمان كأنما أمر بالصعود إلى السماء مع ما فيه من المشقة (كَذلِكَ) أي في مثل هذه الحالة (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي الشكّ (عَلَى) قلوب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون بالله ورسوله.

١٢٦ ـ (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ...) أي أن الإسلام وما أنت عليه مما أمرناك به يا محمد هو طريق الله لا اعوجاج فيه. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي أقمنا الحجج بيّنة ، (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي للجماعة التي تريد أن تنتفع بما فيها.

١٢٧ ـ (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...) أي دار السلامة الدائمة المضمونة لهم عند ربهم وهي الجنة. وهي دار الله التي أعدّها للمؤمنين الصالحين. (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي المتولّي لأمورهم والناصر لهم على أعدائهم. (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم الصالحة في الدّنيا.

١٢٨ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) أي يجمع جميع الخلق يوم القيامة جنّهم وإنسهم (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) أي يا جماعة الجن منهم : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي رغبتم في ازدياد عددكم وعدد من اضللتموهم من الإنس. (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي الّذين أطاعوهم من الإنس (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي انتفع الإنس بالجنّ لأنهم زيّنوا لهم شهواتهم فأنسوا بذلك حين ظنّوا أن الجنّ أقدروهم على ذلك (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) يعني فعلنا ذلك حتى أتى يوم القيامة (قالَ) الله (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي أن جهنّم مقامكم (خالِدِينَ فِيها) مقيمين دائما (إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي أنه في أفعاله حكيم وبخلقه عليم.

١٢٩ ـ (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً ...) أي نخلّيهم في نار جهنّم حتى يتولّى بعضهم بعضا. (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب ما ارتكبوه من الذنوب فصار سببا لدخولهم

النّار.

١٣٠ ـ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ...) هذا نداء واستفهام توبيخيّ منه سبحانه ، يعاتب فيه الإنس والجنّ بأنه قد أرسل إليهم رسلا منهم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : يحكون لكم ما أنزلته عليهم من الآيات التي تبيّن الأوامر والنواهي ، ويخوّفونكم من يوم القيامة الذي أحاسبكم فيه. (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي : اعترفنا بالتقصير والعصيان. (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي غشّتهم بما فيها من زينة (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أقروا بالكفر واستحقاق العقاب.

١٣١ ـ (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ ...) أي أن الأمر كما ترى يا محمد ، فالله لا يظلم ولا يعاقب أحدا إلّا بعد إتمام الحجة بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين وحاشاه أن يهلك أحدا أو أن يهلك قرية (وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي بغتة من دون تنبيه وإنذار وإعذار.

١٤٩

١٣٢ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ...) أي أن لكلّ واحد من المكلّفين مراتب معيّنة يوم القيامة بسبب ما فعلوه في الدنيا من الطاعات أو المعاصي. وهذه الدرجات تكون طباق عملهم وجزاء فعلهم. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) أي ليس ساهيا ولا ناسيا ولا لاهيا (عَمَّا يَعْمَلُونَ) من خير أو شر.

١٣٤ ـ (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ...) أي أنه تبارك وتعالى غير محتاج إلى خلقه لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم بل هو صاحب النعمة على خلقه مع كونه غنيا عنهم يترحم عليهم بالتكليف لنفع أنفسهم وليجود عليهم بنعم الآخرة. وبما يعوضه من درجات فيها لا تنال إلّا استحقاقا بالعمل بالطاعات والتي لا تقاس بما في دار الدنيا من نعيم زائل ولذة موهومة ، وهو سبحانه : (إِنْ يَشَأْ) إذا أراد (يُذْهِبْكُمْ) أي يهلككم ويفنكم ويستغن عن وجودكم أيها الطغاة (وَيَسْتَخْلِفْ) أي يخلق (مِنْ بَعْدِكُمْ) أيها الناس (ما يَشاءُ) من الخلق (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي قرنا بعد قرن. وأحفادا بعد آباء وأجداد.

١٣٤ ـ (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ...) أي ما نعدكم به من الحشر والثّواب والعقاب كائن محتوم (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ولستم بخارجين من سلطان الله تعالى ولا من مملكته.

١٣٥ ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ...) يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ولسائر الكفّار : اعملوا غاية استطاعتكم (إِنِّي عامِلٌ) أنا صانع أيضا على مكانتي واقتداري كما أمرت بحيث أبقى ثابتا على ديني (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ستعرفون بعد حين (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي من هو الذي يفوز بالدار الحسنى والجنة في يوم القيامة. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يظفرون بمرادهم. ولا يخفى أن التهديد جاء بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد ، وتسجيلا على المأمور بأنه لا يأتي منه إلّا الشر ، وهذا كقوله سبحانه : اعملوا على مكانتكم.

١٣٦ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ...) يعني أن المشركين ، بعقيدتهم الفاسدة ، جعلوا لله سبحانه سهما ممّا بثّ في الدّنيا من المزروعات ، والأنعام. (فَقالُوا : هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي هذا لله وهذا لأصنامهم التي يعبدونها (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أي أن سهم آلهتهم لا يصرف في جهة يقصد بها وجه الله (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) يعني سهم الله يمكن أن يبذل في جهة معبوداتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء حكمهم.

١٣٧ ـ (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ...) كذلك أي : كما زيّن لهم فعلهم من جعل النّصيب لله ولآلهتهم على الكيفية المذكورة سابقا ، قد حسّن للكافرين الشياطين من سدنة أصنامهم قتل أولادهم بحجج واهية كخوف الفقر وغيره. (لِيُرْدُوهُمْ) أي ليهلكوهم بالإغواء ، والردى : هو الموت والإهلاك. (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي ليشتبه عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل (ع) (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) أي : لو أراد الله غير ذلك ما فعله المشركون ولا شركاؤهم ، ولكنه لا يجبر أحدا على فعل لأن الجبر مناف للتكليف. (فَذَرْهُمْ) أي دعهم يا محمد (وَما يَفْتَرُونَ) أي وكذبهم على الله وافتراءهم عليه ، فإنه سيرتد وبالا عليهم يوم القيامة.

١٥٠

١٣٨ ـ (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ...) هذه : إشارة إلى ما جعلوا لآلهتهم من النّصيب في الزروع والأنعام فهو محجور وممنوع الاستمتاع بها سواء في الركوب أو في ذبحها وأكل لحمها (لا يَطْعَمُها) أي لا يأكلها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) إلّا من نريد (بِزَعْمِهِمْ) أي برأيهم الذي لا يرتكز إلى دليل (وَأَنْعامٌ) أخرى غير ما ذكر (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) أي منع ركوبها ، (وَأَنْعامٌ) أخرى أيضا (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) عند النّحر أو الذّبح (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي كذبا على الله (سَيَجْزِيهِمْ) سيعاقبهم (بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) بسبب كذبهم عليه.

١٣٩ ـ (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ...) أي أنهم قالوا إن الجنين إذا خرج حيا من بطن أمه فهو خاصّ بالذكور ، وإن خرج ميّتا أكله النساء والرجال (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) الله بالعقاب جزاء وصفهم الذي افتروه عليه سبحانه (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) مر معناه.

١٤٠ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) أي هلك الجماعة الذين قتلوا أولادهم : خوف الفقر ، أو العار جهلا لأنه تسبب في استحقاقهم العقاب الأبدي (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) ممّا ذكرنا من الأنعام التي منعوا الانتفاع بها (افْتِراءً عَلَى اللهِ) كذبا عليه (قَدْ ضَلُّوا) تاهوا عن جادة الصواب (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى الحق.

١٤١ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ...) أي : إن الله سبحانه أوجد من العدم بساتين مرفوعات على ما يحملها من الدعائم كالعرائش (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) كبقية النباتات المثمرة الملقاة على وجه الأرض كالبطيخ والخيار والقثّاء وغيره مما هو غير داخل في الأشجار المعروشة. (وَ) أنشأ كذلك (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) يعني مختلفة ألوانه وطعومه وروائحه (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) خلقه كذلك مختلفا بأشكاله وألوانه وأحجامه ومتشابها فيها (كُلُوا) أيها العباد (مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) قبل النضج وبعده (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي تصدّقوا بشيء منه غير الزكاة حين جنيه. ففي الكافي والعياشي عن الصادق (ع): في الزرع حقّان : حق تؤخذ به وحق تعطيه ، أما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وأما الذي تعطيه فقوله عزوجل : وآتوا حقه يوم حصاده ، فالضّغث تعطيه ثم الضّغث ، والضّغث هو الكفّ من التّمر إذا خرص. (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تبذّروا في التصدّق. (إِنَّهُ) تعالى (لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي يكره المبذّرين. وفي الكافي والعياشي أن الإمام الرضا (ع) سئل عن هذه الآية فقال : كان أبي يقول : من الإسراف في الحصاد الجذاذ ، أن يتصدّق الرجل بكفيه جميعا. وكان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدّق بكفيه صاح به : اعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة ... إلخ.

١٤٢ ـ (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ...) أي أنه سبحانه خلق من الأنعام ما يستعمل في حمل الأثقال ويستفاد منه في نسج الفرش من صوفه ووبره. وقيل : الفرض الغنم. (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) منها من لحم ولبن (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) مر معناه في سورة البقرة.

١٥١

١٤٣ ـ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ : مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...) الزّوج ما معه آخر من جنسه. من الغنم ، والمعز ، اثنين : أي الأهلي والوحشيّ وثمانية : بدل من : حمولة وفرشا ، ولذلك جاءت منصوبة. (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) أي حرّم الله ذكر الضأن والمعز أم الأنثى من كلّ منهما؟ (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من كلا الجنسين حرّمه. (نَبِّئُونِي) خبّروني (بِعِلْمٍ) أي عن أمر متيقّن (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ما ادّعيتم به من التحريم.

١٤٤ ـ (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ...) هذا تبيان لبقية الأزواج الثمانية والإبل منها العراب ومنها البخاتي وهي الإبل الخراسانية والبقر منه الأهلي ومنه الوحشي (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) مرّ تفسيرها (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي : أكنتم حاضرين (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أي أمركم بهذا التحريم الذي وصفتموه ولا دليل ولا طريق لكم إلى معرفته إلا المشاهدة ، ولا مشاهدة ، فمن أين قلتم بهذا التحريم؟ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟) أي : هل أحد أظلم ممّن يكذب على الله صراحة؟ والمراد به كبراؤهم الذين سنّوا ذلك وأقرّوه ، فبحّروا البحائر وسيّبوا السوائب. (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بقصد إضلال الناس عن غير معرفة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى الثواب والجنة لأنهم مستحقون للعقاب الدائم بكفرهم.

١٤٥ ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) أي طعاما محرّما (عَلى طاعِمٍ) أي آكل (يَطْعَمُهُ) يأكله. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) أي حيوانا مأكول اللحم مات دون تذكية (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي مصبوبا كالدّم الذي يتدفق من العروق دون ما يكون ممتزجا باللحم عادة. (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) نجس حرام (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ما ذبح دون تذكية ولم يذكر اسم الله عليه خلافا لأمره تعالى وهذه الآية تدل على أنه لا تحريم في المأكل إلّا بالوحي (فَمَنِ اضْطُرَّ) ألجأه الاضطرار إلى أكل محرّم من اللحوم من غير طلب لذة (غَيْرَ باغٍ) أي عن غير بغي (وَلا عادٍ) وغير تعدّ على حدود الله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عن مثل هذه الأمور الاضطرارية ولا يؤاخذ العباد لشدة رحمته بهم.

١٤٦ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ...) الّذين هادوا هم اليهود وقد حرّم الله عليهم زمن موسى كل حيوان تنتهي قوائمه بظفر أو مخلب من الدوابّ كالسّباع والطيور (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) أي الشحم الرقيق الذي يغشّي الكرش وشحوم الأمعاء وغيرها (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي اشتملت عليه الظهور مع اللحم الذي تحمله (أَوِ الْحَوايا) أي ما اشتملت عليه الأمعاء ، وهو جمع حوية (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) كشحم الإلية المختلط بالعصعص وهو عظم الذنب (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي بسبب ظلمهم ـ أي اليهود ـ حرمهم من أكل تلك الأشياء ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نقول من أخبار ووعد ووعيد.

١٥٢

١٤٧ ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ...) فإن كذّبوك يا محمد فيما تقول فقل إن الله لا يعجل عليكم بالعقوبة لسعة رحمته وأمهلكم فلا تغترّوا لإمهاله ، فإنه يمهل ولا يهمل. (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فإن عذابه الشديد لا يرجعه أحد عن المكذبين لو وقع.

١٤٨ ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ...) أي أن المشركين سيتعلّلون بالأعذار الواهية ويقولون لو أراد الله ما كنّا مشركين به نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا شيئا مما ذكر (كَذلِكَ) أي كما كذّبوا شهادة الحجج العقلية والنقلية (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وافتروا على الله تعالى مثل افترائهم هذا ، وأنكروا براهين الرسل والأنبياء (ع) حيث قلّد المتأخرون المتقدمين بمقالتهم الكفرية وصرّحوا بأنهم على دين آبائهم وأنهم مقتفون آثارهم (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي نالوا عذابنا (قُلْ) يا محمد (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي حجة معلومة (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي تبدوه لنا (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : إنكم تسيرون بحسب التخمين والوهم وهما لا يغنيان عن الحق شيئا (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي تكذبون عليه تعالى.

١٤٩ ـ (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ...) أي له وحده سبحانه البيّنة التي تبلغ قطع عذر المحجوج المعاند ، (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو أراد إرادة إلجاء إلى الإيمان لتمكّن من ذلك بمجرّد المشيئة ولكن لم يشأ ذلك لأنه مناف للتكليف. وفي الأمالي عن الصادق (ع) أنه سئل عن قول الله تعالى : ولله الحجة البالغة؟ فقال : إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فإن قال نعم ، قال له : أفلا عملت ما علمت؟ وإن كان جاهلا قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل ، فيخصمه ، فذلك الحجة البالغة.

١٥٠ ـ (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا ...) أي قل : أحضروا شهداءكم الذين يشهدون بصحة ما تزعمون من أنه سبحانه حرّم ما ذكر من ادعاءات المشركين المتقدمة فتابعتموهم فيه. (فَإِنْ شَهِدُوا) وأقرّوا بما ادّعوه (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تؤيّدهم في شهادتهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ولا تسلك طريقتهم السائرة في تكذيب حججنا وفق رغباتهم الشيطانية (وَ) لا تتّبع أيضا (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ممن يجحدون البعث والنشور (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له نظيرا.

١٥١ ـ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...) أي أقرأ ما منع ربّكم عليكم : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فأوجب توحيده سبحانه (وَبِالْوالِدَيْنِ) الأب والأم (إِحْساناً) أن تحسنوا إليهما ، (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي خوف الفقر ، (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فالرزق يشمل الوالد والمولود (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي المعاصي والقبائح (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ما بان منها وما استتر (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) النفس التي حرم قتلها هي المسلم والمعاهد واستثنى ما يجب فيه إقامة الحد بالحق كالقصاص وغيره. (ذلِكُمْ) إشارة إلى موارد جواز القتل وحرمته (وَصَّاكُمْ بِهِ) لتحفظوه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يعني لكي تفهموا ما أوصاكم به ولتعملوا وفق حلاله وحرامه.

١٥٣

١٥٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) حرّم سبحانه التصرف في مال اليتيم إلا بأحسن وجوه التصرّف التي تحفظه وتنمّيه عينا كما يحفظ الإنسان ما يملكه من ماله ويعمل على تنميته. (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي حتى يبلغ كامل العقل رشيدا. (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي أتموهما بالعدل بدون بخس (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي أنه تعالى لم يطلب من العبد إلّا الحدّ الذي يطيقه. ومن المؤكد أن مراعاة العدل الواقعي في إيفاء حقه تعالى أو أي حق متعسرة ، فلم يطلب إلّا ما هو في وسع الإنسان وهو سبحانه يعفو عما سواه. (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي قولوا الحق وإن كان على ذي قرابة لكم (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي بما عهد إليكم ممّا أوجبه عليكم فأدّوه كاملا (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لأجل أن تتّعظوا بما وصّاكم به ولا تنسوا وصية الله سبحانه.

١٥٣ ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً ...) أي أن طريقه الذي أشار إليه سبحانه هو الطريق العدل المؤدي إلى ما فيه الرشاد دون التواء (فَاتَّبِعُوهُ) أي فاسلكوه (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي لا تسلكوا طرق الكفر والشبهات (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) يعني : فتتوزّع وتأخذ بكم وتصرفكم عن طريق الحق المستقيم (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي وصّاكم بذلك لتتجنبوا التّيه في الضلال والتفرّق عن الحق.

١٥٤ ـ (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) عطف سبحانه ب. ثم ، للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرّتبة ، كأنه قيل : ذلكم وصّاكم به قديما وحديثا. ليبين حالة لليهود وهي عصيانهم يوم آتى موسى (ع) التوراة (تَماماً) أي كاملا (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكلّ ما يحتاج إليه في الدّين (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي ودلالة على الدين الحق ونعمته (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي ليصدقوا بجزاء ربهم يوم القيامة. وهو هنا يقصد اليهود المشركين الذين خصّهم بكتابهم ليؤمنوا ويصدّقوا بلقائه يوم البعث والجزاء.

١٥٥ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ...) يعني القرآن الذي أوحى به سبحانه من السماء إلى محمد (ص) وجعله كثير الخير (فَاتَّبِعُوهُ) أي اعملوا بما فيه (وَاتَّقُوا) واحذروا (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بأمل أن تنالكم الرحمة باتّباعه.

١٥٦ ـ (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ...) يعني أننا أنزلنا القرآن لتعملوا به ولنقطع احتجاجكم أيها الكافرون أن تقولوا : أنزل الكتاب من السماء على طائفتين : هما اليهود والنصارى. ودعا هؤلاء وأولئك للإيمان. (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي عن مدارستهم وتلاوة ما نزل عليهم (لَغافِلِينَ) لا ندري ما هي. ولأننا لا نعرف مثلها ، واللام جاءت هنا للتأكيد بعد : وإن التي تعني : وإننا كنّا.

١٥٧ ـ (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ...) أو تقولوا أيها الكافرون لو كان لنا كتاب لكنّا أسرع إلى الهدى من اليهود والنصارى إذ لا تنقصنا الفصاحة والفهم (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة واضحة أنزلها الله سبحانه لكم (وَهُدىً) لمن اتّبعها (وَرَحْمَةٌ) لمن تأمل فيها (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) أي : هل أظلم لنفسه من الذي كذّب ببراهين ربه (وَصَدَفَ عَنْها) أي أعرض (سَنَجْزِي) نعاقب (الَّذِينَ يَصْدِفُونَ) يعرضون (عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) العذاب الأليم (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي بسبب إعراضهم.

١٥٤

١٥٨ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ...) هذا استفهام إنكاري يعني : ما ينتظر كفّار مكة إلّا مجيء الملائكة إليهم إمّا للوفاة وإمّا للعذاب (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي أمر ربّك (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) بعض ما وعدهم به من الأهوال والعذاب. (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ويزول التكليف عندها. (لا يَنْفَعُ) لا يفيد (نَفْساً) أحدا من الناس (إِيمانُها) تصديقها (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) لانسداد باب التوبة عندئذ وارتفاع قلم التكليف (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي ربحت أجرا لتصديقها (قُلِ) يا محمد (انْتَظِرُوا) اصبروا حتى يحلّ ذلك بكم (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) متربّصون له.

١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) أي آمنوا ببعض ما أمروا به وكفروا بالبعض الآخر (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا متنازعة (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي ما أنت المسؤول عن تفرّقهم (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) أي حسابهم إليه (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي يخبرهم بكل ما عملوه حين محاسبتهم يوم القيامة.

١٦٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ...) أي : من فعل الخير يكتب الله له عشر حسنات تفضّلا (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي اقترف ذنبا كبيرا أو صغيرا (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي لا يجازى إلا بمقدارها عدلا منه. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص الثواب ويزيد العقاب.

١٦١ ـ (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...) أي اقطع يا محمد نزاع القول مع القوم الكافرين وقل : إنني هداني ربّي : أي قل يا محمد : أرشدني ربي إلى الطريق الذي لا اعوجاج فيه (دِيناً قِيَماً) أي ثابتا دائما (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي طريقة إبراهيم (ع) (حَنِيفاً) مائلا عن الكفر إلى الإسلام (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) نفى سبحانه شرك إبراهيم (ع).

١٦٢ ـ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ...) أي دعائي وعبادتي وقرباني (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي حياتي وموتي (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ذلك كلّه خالص لوجهه سبحانه.

١٦٣ ـ (لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ...) أي لا أشرك معه غيره أحدا في عبادتي وقد أمرني لأعترف بما ذكر في صدر الآية ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لأن إسلامه (ص) يتقدّم إسلام أمّته.

١٦٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ...) يعني أنه (ص) لا يطلب غير الله سبحانه إلها والاستفهام إنكاري (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي أن كل ما سواه مربوب لا يصلح للرّبوبية ، (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) أي أن كل نفس تتحمل تبعة عملها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي معادكم يوم القيامة إلى خالقكم (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي بما كنتم في دار الدّنيا تفترقون فيه بتمييز الحق من الباطل.

١٦٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ...) الله سبحانه هو الذي جعل الناس يخلف بعضهم بعضا (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) جعلكم متفاوتين في المراتب (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) أي ليعلم أتشكرون نعمه أم تكفرون بها؟ (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) أي سريع العذاب الشديد لمن كفر (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن شكره.

١٥٥

سورة الأعراف

مكية ، عدد آياتها ٢٠٦ آية

١ ـ (المص ...) قد مرّ تفسيره عند كلامنا على الحروف المقطعة سابقا.

٢ ـ (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...) أي هذا الذي أوحيناه إليك هو كتاب أنزلناه عليك بواسطة الملائكة وبأمر منّا. (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي فلا يضيقنّ صدرك بما فيه من الأوامر والنواهي الكثيرة التي تخاف من أن لا تقوم بتبليغها حق القيام. (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي لتخوف بالقرآن متوعدا من يخالف أوامر الله ونواهيه. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي موعظة لهم.

٣ ـ (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ...) الخطاب لسائر المكلّفين ، فقل يا محمد لهم : تصرّفوا بما في المنزل إليكم من الله أمرا ونهيا. (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي لا تقلّدوا أولياء تتولّونهم وتطيعونهم في معصية الله ، (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا تذكّركم وكونكم متّعظين بما فيه. والمقصود به الأمر أي : تذكروا كثيرا كلّ ما أوجبه الله تعالى عليكم.

٤ ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ...) كم : لفظة توضع للتكثير والمعنى : أهلكنا كثيرا من أهل القرى بالإبادة والعذاب. (فَجاءَها بَأْسُنا) أي حين حلّ فيها عذابنا (بَياتاً) في الليل (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) يعني وقت القيلولة وهي منتصف النهار.

٥ ـ (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا ...) أي لم يكن دعاء من أهلكناهم عقوبة على كفرهم حين نزول عذابنا بهم (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يعني لم يقع منهم سوى الاعتراف بظلمهم لأنفسهم ، عند معاينة العذاب.

٦ ـ (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ...) قد أقسم الله سبحانه أنه سيسأل المكلّفين الذين أرسلت إليهم الرّسل عن الطاعة (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الّذين بعثناهم عن التبليغ.

٧ ـ (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ...) أي لنخبرنّهم بأعمالهم (بِعِلْمٍ) أي بمعرفة تامة بأعمالهم ليدركوا أنها كانت محفوظة في كتاب كل منهم. (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن شيء من أفعالهم ولا أفعال الرسل.

٨ ـ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ...) أي يوم القيامة يكون وزن الأعمال وزنا حقّا. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي رجحت حسناته على سيئاته. (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالثواب.

٩ ـ (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ...) فتثقل كفة سيّئاتهم فإنهم يخسرون باستحقاقهم لعذاب الأبد (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي بسبب جحودهم بحججنا.

١٠ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ...) التمكين هو إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع ، فقد مكنّاكم في الأرض على هذا الأساس من إعطائكم جميع ذلك (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) فقد وفّرنا لكم في الأرض ما تعيشون به من أنواع النعم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي أنكم مع كل هذه النعم قلّ شكركم.

١١ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي أنّا بدأنا خلق آدم ثم صوّرناه ، فابتداء خلقه (ع) من التراب عقبته الصورة التي صار عليها. (ثُمَ) بعد هاتين المرحلتين (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) بعد الفراغ من خلقه وتصويره نحن نخبركم بأمرنا للملائكة بالسجود لآدم (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) قد مرّ تفسير ذلك في سورة البقرة.

١٥٦

١٢ ـ (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ...) يعني قال الله تعالى : ما منعك من السجود يا إبليس حين أمرتك بالسجود لآدم. (قالَ) إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي أنا خير من آدم لأنك أوجدته من تراب ، وأنا مخلوق من نار ، والنار تقوى على الطين.

١٣ ـ (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها ...) أي قال الله عزوجل لإبليس : انزل من السماء أو من الجنّة أو ممّا أنت عليه من الدرجة الرفيعة (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ) عن أمر الله ، (فِيها) أي الجنّة أو ما ذكرناه (فَاخْرُجْ) يا إبليس مما أنت فيه أو عليه (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) يعني الأذلّاء بالمعصية.

١٤ ـ (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ...) قال إبليس : أمهلني إلى يوم بعث الناس من قبورهم.

١٥ ـ (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ...) أي قال الله له : إنك من المؤخّرين إلى ذلك اليوم.

١٦ ـ (قالَ ...) أي قال إبليس بعد إجابة طلبه (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي اعتبرتني غاويا ضالا. (لَأَقْعُدَنَ) أي لأجلسنّ (لَهُمْ) لأبناء آدم (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي على طريق الحق الذي تسنّه لأصدّهم عنه.

١٧ ـ (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي لأحضرنّهم في دنياهم ولأسدنّ عليهم الطّرق مزيّنا لهم الدّنيا وما يضمن سوء العاقبة لهم في الآخرة. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي أن الأكثر منهم يكونون كافرين بأنعم الله بتزيين إبليس لهم المعاصي.

١٨ ـ (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً ...) قال سبحانه لإبليس : اخرج من الجنّة معابا بعصيانك مدفوعا بهوان ومطرودا بذل (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي : من أطاعك من بني آدم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) يعني سأملأ جهنّم منك ومن ذرّيّتك وممن أطاعك من بني آدم مجموعين في جهنّم.

١٩ ـ (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ...) أمر سبحانه آدم (ع) بسكنى الجنّة والإقامة فيها مع زوجته حواء (ع) (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي من أي مكان أردتما ، (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي لا تأكلا منها (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي الباخسين نفوسهم أعظم الثواب.

٢٠ ـ ٢١ ـ (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) يعني أنه ألقى في قلبيهما المعنى بصوت خفيّ ، (لِيُبْدِيَ لَهُما) أي ليظهر لهما. (ما وُورِيَ) يعني : ستر (عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي عوراتهما. (وَقالَ) لهما : (ما نَهاكُما) منعكما (رَبُّكُما عَنْ) الأكل من (هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أي تتغيّر صورتكما وتصير إلى صورة الملائكة (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي لا تفنى حياتكما (وَقاسَمَهُما) أي حلف بالله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي المخلصين في النصيحة.

٢٢ ـ (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ ...) أي غرّهما بيمينه فأوقعهما في المكروه (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي تناولا شيئا قليلا منها (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) يعني ظهرت لهما عوراتهما (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي أخذا يجعلان ورقة فوق ورقة على جسديهما ليستترا. (وَناداهُما رَبُّهُما) خاطبهما : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) ألم أمنعكما (وَأَقُلْ لَكُما) وأخبركما (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) مبين : أي ظاهر العداوة.

١٥٧

٢٣ ـ (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) يعني أن آدم وحوّاء (ع) قالا : ربنا إننا بخسنا أنفسنا الثواب ، بتركنا ما ندبتنا إليه. (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) أي تستر علينا ذنوبنا (وَتَرْحَمْنا) تتفضّل علينا بنعمتك لتعويض ما فوتناه (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من جملة الذين يخسرون فضلك.

٢٤ ـ (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ...) مر تفسير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة.

٢٥ ـ (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ...) أي قال الله سبحانه : في الأرض تقضون حياتكم الدنيا ، وفيها أيضا تنتهي حياتكم ، ومنها تبعثون يوم القيامة.

٢٦ ـ (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ...) هذا خطاب لجميع المكلّفين من البشر أنه سبحانه أعطاهم لباسا يغطّي عوراتهم. وكل ما يعطي الله العباد فهو منزل عليهم أي مخلوق لهم (وَرِيشاً) يعني أثاثا مما تحتاجون إليه. (وَلِباسُ التَّقْوى) أي العمل الصالح. (ذلِكَ خَيْرٌ) يعني لباس التقوى هو خير من جميع ما يلبسه الإنسان. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) يعني جميع ما خلقه وأنزله من حججه الدالة على توحيده (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لكي يتفكّروا ويؤمنوا.

٢٧ ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ ...) أي لا يضلّنكم بصرفكم عن الحق (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) أي كما كان سببا بإخراجهما منها بإغوائه (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) أي يلقي عنهما بوسوسته لباس الجنّة الذي لا مثيل له (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) لتفتضح أمامهما عوراتهما (إِنَّهُ) أي الشيطان (يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) أي نسله وقيل قبيله يعني جنوده وأتباعه من الجن والشياطين. (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) بنو آدم لا يرونهم لأن أجسامهم شفافة لا تتلبّس بمادة (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي قضينا بذلك وحكمنا به لأنهم ينصر بعضهم بعضا على الباطل.

٢٨ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ...) يعني إذا عملوا جرما كبيرا مستهجنا ـ ثم نهوا عنه ـ (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) وهي حجة واهية (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) يقولون ذلك افتراء عليه سبحانه (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فقد أنكر صدور ذلك عنه سبحانه ، (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فقد أنكر صدور ذلك عنه سبحانه ، (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني أتكذبون عليه سبحانه؟.

٢٩ ـ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ...) قل يا محمد : أمر ربّي بالعدل والاستقامة وجميع الطاعات (وَ) أن (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي أخلصوا وجوهكم لله في الطاعة عند تأدية كل صلاة. (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أمر سبحانه بالدعاء والابتهال إليه على وجه الإخلاص من دون شوب رياء في إخلاصكم له الدّين. (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) أي كما خلقكم أولا ، فسيعيدكم بعد الموت للجزاء.

٣٠ ـ (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ...) أي جماعة حكم الله لهم بالاهتداء لقبولهم الهدى وإرادته. وجماعة وجب عليهم الضلال لأنهم لم يقبلوا الهدى ولا أرادوه (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أنه سبحانه لم يبدأهم بعقوبة إلّا بعد استحقاقها على عصيانهم للخالق وإطاعتهم لأوليائهم من الشياطين (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي يظنّون مع ذلك كله أنهم على حق.

١٥٨

٣١ ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...) يعني خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها للصلاة في الجمعات والأعياد. وقيل : عند كل صلاة. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) مما رزقكم ، (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تبذّروا وتتجاوزوا الحلال إلى الحرام. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) يعني أنه يبغضهم.

٣٢ ـ (قُلْ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء الذين يحرّمون على أنفسهم بعض الأمور في بعض الأمكنة أو الأزمنة يمتنعون عن أكل السمن والألبان في الإحرام ، قل لهم : (مَنْ حَرَّمَ) منع (زِينَةَ اللهِ) من الثياب التي يتزيّن بها الناس (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) وأباحهها لهم هي (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أي ما لذّ وحسن طعمه (قُلْ) للناس : (هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أن الزينة والطيبات محلّلة للذين آمنوا في حدود ما أنزل الله ، يشاركون الكفار فيها في الدنيا ، وهي في الآخرة خالصة لا يحاسبون عليها ، لهم دون الكفار. (كَذلِكَ) أي بحسب ما ذكرنا (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نشرح الحجج والدلالات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعرفون الحق في الأمور.

٣٣ ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ...) : مر معناه. (وَ) كذلك حرّم (الْإِثْمَ) الذي قيل إنه الخمر هنا. (وَ) حرّم (الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي الظّلم والفساد بدون موجب له. (وَ) حرّم (أَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ) تعبدوا معه غيره (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) يعني ما لم يقم عليه حجة وبرهانا ، (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أن تكذبوا عليه.

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ...) أي لكل جماعة موعد لإهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم عن طريق الرّسل. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي حان وقت نهايتهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) لا يتأخرون (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لا يتقدمون ساعة على ذلك الوقت.

٣٥ ـ (يا بَنِي آدَمَ ...) خطاب لسائر المكلّفين من البشر ، (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) أي إن يأتكم (رُسُلٌ) أنبياء (مِنْكُمْ) أي من جنسكم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي يخبرونكم بدلالاتي وحججي (فَمَنِ اتَّقى) تجنّب إنكار الرّسل (وَأَصْلَحَ) عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدنيا (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة.

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي الذين لم يصدقوا حججنا (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي رأوا أنفسهم أكبر من أن يصدّقوها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الذين يكونون ملازمين لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون أبدا.

٣٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله وافترى عليه وهو إخبار بصورة الاستفهام فكان أبلغ. فليس أظلم من المفتري على الله (أَوْ) ممّن (كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي أنكر حججه الدالة على توحيده وصدق رسله (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أولئك يعني بهم المكذّبين المفترين يصل إليهم نصيبهم من العذاب. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) يعني ملك الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي يقبضون أرواحهم أو لحشرهم إلى النار (قالُوا) أي الملائكة توبيخا (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ما سمّيتموه ربّا كالأوثان والأصنام. (قالُوا) أي الكفار : (ضَلُّوا عَنَّا) يعني ذهبوا ولم يهتدوا إلينا (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي أقرّوا على أنفسهم بالكفر بهذه الشهادة.

١٥٩

٣٨ ـ (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) أي قال الله لهؤلاء : ادخلوا في صفّ الأمم السالفة التي قد مضت وطواها الهلاك وخلا منها مكانها ، (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) محشورين (فِي النَّارِ) أمة بعد أمة لكفرهم مثلكم. وفي الآية دلالة على أن من الجن أمما يموتون بآجال خاصة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم. (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) منهم النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) أي الأمة التي سبقتها إلى الكفر. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) أي تداركوا يعني أدرك بعضهم بعضا ، اللاحقون السابقين ، وبلحوق أخراهم لأولاهم (فِيها) أي النار (جَمِيعاً) كلهم. (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أي قالت الأخيرة دخولا إلى النار وهم الأتباع ، لأولاهم دخولا وهم السادة (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) أي ضيّعونا عن طريق الحق (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) أي عذّبهم عذابا مضاعفا (قالَ) الله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي للتابع والمتبوع عذاب مضاعف (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما لكل فريق منكم من العذاب جزاء ضلالكم وإضلالكم.

٣٩ ـ (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ ...) يعني قال المتبوعون للتابعين : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي لستم أفضل منّا ، (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر بسوء اختياركم في اتباعنا.

٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ...) مر معناه (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) يعني لا تفتح لقبول أرواحهم عند الموت ، بل تردّ إلى سجّين كما ردّت أعمالهم القبيحة من قبل. (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) يعني لا يصيرون إلى الجنة إلا حين يدخل البعير في ثقب الإبرة ، كناية عن استحالة دخولهم إليها. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي وبهذا الشكل نجزي المجرمين الذين يكذّبون بآياتنا ...

٤١ ـ (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ...) أي أنهم يكون لهم في جهنم فراش وجهنم : اسم من أسماء نار الآخرة التي بها التعذيب ، وقد قيل : إنه مأخوذ من قولهم : بئر جهنام ، أي بعيدة القعر ، وقيل : فارسي معرّب. (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي أغطية من فوقهم تغشّيهم وهذه كناية عن أن النار تحيط بهم من الأعلى والأسفل. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك.

٤٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) والمصدّقون بالله ورسوله الذين عملوا أعمالا مرضية عند الله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) يعني لا نكلّف أحدا إلّا بما يقدر عليه من الطاعات. وهو مسوق للتخفيف وتقوية الرجاء في قلوب المؤمنين (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مقيمون فيها دائما.

٤٣ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ...) يعني : أخرجنا ما في قلوبهم من حقد (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي تجري مياه أنهار الجنة تحت منازلهم (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي دلّنا على الإيمان والعمل الصالح الذي أوصلنا إلى النعيم (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) لهذا النعيم (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) أي لولا توفيقه لنا إلى الهدى وفيه إشارة إلى اختصاص الهداية به تعالى فليس إلى الإنسان من الأمر شيء. (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) اعتراف منهم بصدق الرسالات السماوية وبصدق المرسلين (وَنُودُوا) أي ناداهم مناد من جهته سبحانه : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أي هذه الجنة ، (أُورِثْتُمُوها) أعطيتموها كالإرث وصارت لكم. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم الصالح مع الإيمان. وهذا يدل على أن الجنة لا تورث إلا بعمل الطاعات بعد أن كانت مبذولة للمؤمن والكافر جميعا غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله.

١٦٠