إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

١٠٦ ـ (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أمر إلى الأمة كلها على وجه التأديب ووضع الحكم في هذا الموضع ، من خلال المعصوم (ص) بالاستغفار عند الهم بالمخاصمة عن الخائن (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يصفح عن ذنوب المسلمين بلطفه ويترك مؤاخذتهم على معاصيهم بسعة رحمته ومغفرته.

١٠٧ ـ (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ...) أي : ولا تخاصم دفاعا عن الذين يخونون أنفسهم ويظلمونها بارتكابهم المآثم والمعاصي ، والخطاب يراد به الأمة من خلاله (ص). (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) يبغض من صارت الخيانة عادة له (أَثِيماً) أي فاعل الإثم.

١٠٨ ـ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ...) أي يكتمون الخيانة عن الناس (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) ولا يتستّرون من الله الذي يطّلع عليهم لأنه معهم أينما كانوا وكيفما كانوا (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) أي يدبّرون في الليل عند بياتهم ، قولا يكرهه الله لأنه كذب (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) حفيظا عالما بأعمالهم كلها.

١٠٩ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) الخطاب هنا للمدافعين عن الخائن موضوع الآيات فهؤلاء الذين (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) أي عنهم في هذه الحياة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أثناء هذه الحياة على الأرض (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ) ويدافع بين يديه عنهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولا شاهد ببراءتهم يمثل أمامه سبحانه؟ ... (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي من يتولّى معونتهم؟

١١٠ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ...) أي ومن يفعل قبيحا مكروها أو يظلم نفسه بارتكاب المعاصي بما دون الشرك (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) أي يطلب المغفرة من الله بعد توبته النصوح (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) يلقه يمحو السيئات ويرحم العباد.

١١١ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ...) هو واضح نظير : لا تكسب كل نفس إلّا عليها. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) مر معناه.

١١٢ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ...) أي : ومن يرتكب خطأ عن غير عمد ، أو يعمل ذنبا عمدا. ثم ينسب ذنبه إلى بريء لم يفعله وقيل : الخطيئة : الشرك ، والإثم : هو ما دون الشرك. (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) أي كذبا عظيما (وَإِثْماً مُبِيناً) وذنبا ظاهرا.

١١٣ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ...) خطاب للنبي (ص) قيل : فضل الله على النبي (ص) هو إنعامه عليه بالنبوّة ورحمته : هي نصرته بالوحي. وقيل : فضله ، هو تأييده له بألطافه ، ورحمته هي نعمته عليه ثم قيل : هما النبوة والعصمة. (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي أضمرت فرقة من الذين كفروا (أَنْ يُضِلُّوكَ) أي : يزيلوك عن الحق بشهادتهم للخائنين بالبراءة. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي : وما يزيلون عن الحق إلّا أنفسهم ، (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) يعني أن كيدهم لن يلحق ضررا بك لأن الله حافظك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي السنّة الشريفة. (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) يعني وعرّفك ما لم تكن تعرفه من الشرائع وغيرها. (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) إنعامه عليك منذ أن خلقك إلى أن بعثك وجعلك خاتم النبيين. (عَظِيماً) كبيرا.

١٠١

١١٤ ـ (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ...) اثنين. فلا خير فيما يتسارّون به فيما بينهم (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) فإن نجواه تكون خيرا (أَوْ مَعْرُوفٍ) أي أمر ببرّ لاعتراف العقلاء بحسنه (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي تأليف بينهم بالمودة. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) يعني من يعمل ما تقدم ذكره (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلبا لما يرضيه (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) أي نعطيه (أَجْراً عَظِيماً) مثوبة عظيمة في كثرتها ومنزلتها.

١١٥ ـ (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) : أي ومن يخالف الرسول مع إظهار العداوة له من بعد ما ظهر له الحق بالحجة والدليل (وَيَتَّبِعْ) يسلك طريقا (غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) غير طريقهم الذي هو الإسلام (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) يعني نكله إلى من وكل نفسه إليه (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أي ونلزمه بدخول جهنم عقوبة له على ذلك (وَساءَتْ مَصِيراً) مر معناه.

١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...) إلى آخر الآية قد مرّ تفسيرها فيما تقدّم.

١١٧ ـ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً ...) أي : ما يدعون من دون الله تعالى غير إناث وهي أصنامهم التي كانوا ينحتونها على صور الإناث. (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي : وما يدعون إلا شيطانا ماردا في كفره شديدا متماديا في عصيانه. وهو إبليس.

١١٨ ـ (لَعَنَهُ اللهُ ،) أي أبعده عن الخير (وَقالَ) أي الشيطان قال لما لعنه الله (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي حظا معلوما.

١١٩ ـ (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) بتزيين المعاصي لهم. (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) بخلودهم في الدنيا فينسون الآخرة (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي بقطع آذان الأنعام وهو من عادات المشركين في الجاهلية منهي عنه في الإسلام (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) يريد دين الله وأمره سبحانه بتحريم حلاله وتحليل حرامه. (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) أي يرتضيه ناصرا. وقيل ربا لنفسه ووكيلا وقائدا ، مؤثرا ما يدعو إليه لعنه الله على ما أمر الله تعالى به ، ومتجاوزا طاعة الله إلى معصيته (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي ظاهرا واضحا إذ استبدل الآخرة الباقية بالدّنيا الزائلة والجنة بالنّار.

١٢٠ ـ (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ...) أي الشيطان بعد الناس بالأكاذيب ، ويمنيّهم بالأباطيل والأوهام (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) والغرور هو إيهام النفع فيما فيه ضرر ، أي لا يكون لما يعدهم أصل ولا حقيقة.

١٢١ ـ (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ...) أي من اتخذ الشيطان وليا فمنزلهم الذي يؤويهم جهنم (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي لا يلقون معدلا ومهربا عنها.

١٠٢

١٢٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) : مر معناه في تفسير الآية ٥٧ من هذه السورة (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعد الله ذلك وعدا حقّا لا خلف فيه ف (وعدا) مصدر دلنا الكلام على فعله الناصب له : وحقا أيضا مصدر من حقّ يحقّ حقا ومعناه ثبت ووجب ولا خلف فيه. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي حديثا. والاستفهام إنكاري ، أي لا أحد أصدق من الله تعالى في جميع العوالم.

١٢٣ ـ (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ...) أي لا يكون ما وعد الله به من الثواب تابعا لتمنّياتكم أيها المؤمنون ، ولا تابعا لتمنّيات أهل الكتاب (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) من ارتكب شيئا من المعاصي يجازيه الله به إما في الدنيا أو الآخرة لتمنّيات أهل الكتاب (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) من ارتكب شيئا من المعاصي يجازيه الله به إما في الدنيا أو الآخرة وهذا هو العدل الرباني الذي لا يدانيه عدل. (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يجد من يعمل السوء لنفسه من يدفع عنه عقوبة الله أو ينصره وينجيه من عذابه.

١٢٤ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...) ومن عمل الأعمال الصالحة ، ذكرا كان أو أنثى ، وهو مؤمن بالله ورسله وملائكته وبما جاء من عنده (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) : أي ولا ينالهم ظلم ولو بمقدار النقير وهو الحفيرة الصغيرة في ظهر النواة كناية عن القلة. وهو سبحانه يعبّر تارة بالذرّة ، وأخرى بالنقير نفيا للظلم عن ساحته المقدسة.

١٢٥ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ...) أي ليس أصوب طريقة وأهدى سبيلا من الذي آمن بالله وأخلص في عمله له ، حالة كونه محسنا في جميع أقواله وأفعاله. (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي اقتدى بدينه وهو الإسلام (حَنِيفاً) أي مستقيما ، مائلا عن سائر الأديان المنسوخة. (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) أي حبيبا ألبسه ثوب الخلّة دون سائر الرسل وأنقذه من نار النمرود وجعله للناس إماما.

١٢٦ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) ملكا وملكا فهو الغني عن جميع مخلوقاته (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء من حيث العلم والقدرة ومن جميع الوجوه.

١٢٧ ـ (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ...) : أي يسألونك عن الفتوى وعن الحكم فيما يجب للنساء وعليهن. فقل يا محمد الله يبين لكم عما سألتم في شأنهن (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) أي ويفتيكم ما يقرأ عليكم في القرآن وتتعلّمون منه ـ وهو أعلم بما فيه ، وبما قاله بشأن النساء و (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) المراد بيتامى النساء هنّ البنات اليتيمات اللواتي كان يمنع عنهن ارثهن ، ويمنعن من التزوّج بالغير باختيارهن لأكل مالهنّ وحقهن. فورد الحكم في القرآن بحرمة ذلك والنهي عنه. (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي تتزوّجوهن. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أي ونفتيكم في المستضعفين من الصبيان الصغار الذين كانوا يحرمونهم حقهم وإرثهم (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، فأوجب إيصالهم جميعهم إلى حقوقهم كما شرح ذلك فيما تقدم من الآيات المتعلقة باليتامى. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي ما تصنعوا من إحسان إلى هؤلاء اليتامى ـ صبيانا وبنات ـ (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) أي عالما يجازيكم به.

١٠٣

١٢٨ ـ (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ...) أي إن خافت المرأة أن يعرض عنها زوجها ويجفوها ويستعلي عليها أو يطلقها. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) أي يجب على كل من الزوجين أن يصلحا ما فسد بينهما (يُصْلِحا) بأن تهب جميع حقوقها التي كانت لها على زوجها حتى لا يطلّقها. (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الطلاق أو الجفاء على الأقل. (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) أي جعل الشحّ حاضرا لها والغرض من إيرادها هنا هو بيان بأنّ المرأة لا تسمح لنفسها بصرف النظر عن حقها وقسمها ، والرجل ـ كذلك ـ يضن بأن يسمع لها ويتعبها في بيتها ولا سيّما إذا أحبّ غيرها وكرهها ، وفي تلك الحالة لا بد من الافتراق ... إذا عري القلب عن الإيمان لأنه يشح بالطاعة ولا يبذل الانقياد لأمر الله جلّ وعلا. وقد قال بعض العارفين : الشح في نفس الإنسان ليس بمذموم لأنه طبيعة ، خلقه الله تعالى في النفوس كالشهوة والحرص والحسد بعض العارفين : الشح في نفس الإنسان ليس بمذموم لأنه طبيعة ، خلقه الله تعالى في النفوس كالشهوة والحرص والحسد لابتلاء البشر ولمصلحة عمران الكون. وإنما المذموم أن يستولي سلطانه على القلب فيطاع ... (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) أي تفعلوا أزواجا وزوجات فعلا حسنا من حيث المعاشرة والاختلاط وتتّقوا النشوز وما يجرّه من أضرار الظلم بالزوجة أو الزوج ، مثل هذه الظروف (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) عارفا بما يكون منكم في أمرهن ومنهن في أمركم.

١٢٩ ـ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ...) أي لن تقدروا على التعامل معهن بحيث يرضين كلهنّ منكم إذا كان لأحدكم زوجات متعددات ولو حرصتم على العدل القلبي فلا تكلفونه ولا تؤاخذون عليه. (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي لا تقبلوا كل الإقبال على من ملكتم محبتها بحيث يحملكم ذلك على الجور على صواحبها مما قد يجركم إلى ترك ما فرضه الله عليكم لهن من نفقة وغيرها (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي أنها ذات بعل وكأنها ليست بذات بعل. (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) تصلحوا في القسمة بينهن والنفقة لهن وتتجنّبوا الميل الكلّي امتثالا لأمر الله تعالى بحفظ الجميع. (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يعفو عن التقصير السالف في حقهن ، ويرحم محاول العدل.

١٣٠ ـ (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ...) أي فإن لم يحصل الوفاق بين الزوجين بل حصلت النفرة فإن يتفرقا بالطلاق حينئذ فإن الله يغني كلّا منهما من واسع رزقه وفضله (وَكانَ اللهُ) أزلا وأبدا (واسِعاً) جزيل الفضل ، (حَكِيماً) في تدبير خلقه.

١٣١ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) مر معناه (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا) أي أمرنا (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) اليهود والنصارى وغيرهم (وَإِيَّاكُمْ) أي وأمرناكم أيها المسلمون (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) تجنبوا جميعا مخالفة ما يأمر به. (وَإِنْ تَكْفُرُوا) تجحدوا وصيته (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) مر معناه (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) يعني أنه غنيّ عن الخلق وعبادتهم (حَمِيداً) مستحقا للحمد حمد أم لم يحمد.

١٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) مر معناه. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي حافظا لجميع ما في الكون قادرا على تقدير أموره.

١٣٣ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ...) أي أنه إذا أراد سبحانه يفنيكم أيها الناس (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يجيء بغيركم بدلكم ، (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) أي قادرا على الإفناء والتبديل.

١٣٤ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا ...) كالمجاهد الذي يطلب الغنيمة من وراء جهاده مثلا (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي عنده سبحانه الثوابين لأنه مالك الدنيا والآخرة (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) مر معناه.

١٠٤

١٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ...) أي دائبين على القيام بالعدل قولا وفعلا (شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي أقيموا الشهادة الصادقة خالصة لله ولو كانت الشهادة عليكم (أَوِ) على (الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي على أبوي الشاهد أو ذوي قرابته. (إِنْ يَكُنْ) الشاهد أو المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) إذ لا الغنى يجيز الشهادة على الغني ، ولا الفقر يمنع الفقير عن إقامة شهادته حين الإدلاء بها. فلا بد من إقامتها في جميع الموارد. (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي أنه سبحانه أنظر للغني والفقير من سائر الناس (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أي لا تعرضوا عن قول الحق والحقيقة ميلا مع هواكم النفسي ومخالفة لأمر ربكم في إقامة الشهادة على وجهها (وَإِنْ تَلْوُوا) أي تماطلوا في أداء الشهادة بالحق (أَوْ تُعْرِضُوا) تمتنعوا عن أدائها وإقامتها ، (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) يعلم ليّ ألسنتكم ، ويرى إعراضكم.

١٣٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) الخطاب لكافة المسلمين الذين أظهروا الإسلام بألسنتهم ، (آمَنُوا) فصدّقوا بقلوبكم بحيث يتطابق ما في قلوبكم مع ما على ألسنتكم ، (بِاللهِ) ربكم (وَرَسُولِهِ) نبيكم (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) قرآنكم (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ) الله (مِنْ قَبْلُ) على أنبيائه السابقين كالتوراة والإنجيل وغيرهما. (وَمَنْ يَكْفُرْ) أي ينكر ويجحد (بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لم يصدق بكل واحد من هذه الخمسة المسمّيات (فَقَدْ ضَلَ) أي فقد بعد عن الحق (ضَلالاً بَعِيداً) ضاربا في البعد.

١٣٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ...) يقصد بهم اليهود الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم العجل (ثُمَّ آمَنُوا) بعد رجوعهم عن عبادة العجل. وقيل بأنهم النصارى آمنوا بعيسى (ثُمَّ كَفَرُوا) يعني بهم اليهود والنصارى الذين كفروا بعيسى وكانوا مأمورين بالإيمان به (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أي بمحمد (ص) (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي لا يعفو عن كفرهم وارتدادهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) ولا يدلهم على طريق تنجيهم من عذاب السعير.

١٣٨ ـ (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) : أي أخبرهم تهكما بأن الله أعد للمنافقين في دينه عذابا موجعا.

١٣٩ ـ (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...) فالمنافقون هم الذين مالوا إلى الكافرين وتولّوهم وأخلصوا الود لهم وفارقوا المؤمنين ورضوا بالكفار من دونهم (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟) يعني هل يطلبون عند الكفار العون والمنعة؟ (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فهو العزيز الجبار الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء.

١٤٠ ـ (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ...) أي في القرآن (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) أنكم إذا كنتم بين أناس يسخرون من آيات الله ، ويستهزئون بما جاء من عنده (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) فلا تجالسوهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي حتى يتناولوا الحديث في غير القرآن وآيات الله (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) لا فرق بينكم وبينهم إذ شاركتموهم المجلس وأقررتموهم على استهزائهم بسكوتكم. (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) يجمعهم يوم القيامة في نار جهنم ، كما اجتمعوا في دار الدنيا على أذى المؤمنين والاستهزاء بآيات الله.

١٠٥

١٤١ ـ (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ...) أي إن الكفار والمنافقين هؤلاء وتفصيل حال المنافقين. والذين : بدل من المنافقين والكافرين ، أولئك ينتظرون نتائج حروبكم مع الكفار (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) نصر منه (قالُوا) لكم : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ولو في قلوبنا فأعطونا من الغنائم حقّنا (وَإِنْ كانَ) حصل (لِلْكافِرِينَ) الذين حاربوكم (نَصِيبٌ) من النصر وكسب الغنيمة (قالُوا) أي قال المنافقون لهم : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ؟) يعني : ألم نمنعكم من المؤمنين ونجعلكم تغلبونهم بما زيّنا لهم ، (وَنَمْنَعْكُمْ) نحفظكم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وبأسهم. (فَاللهُ يَحْكُمُ) بعدله (بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وبين هؤلاء الكافرين والمنافقين يوم الفصل (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ولو من طريق الحجة والبرهان إن لم يكن من ناحية القوّة والغلبة. بل لا بدّ لهذا الدين أن يحفظه ربّ العالمين إلى أن يرث الأرض ومن عليها.

١٤٢ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ ...) فالمنافقون الذين يخادعونكم بإظهار الإيمان وإبطان الكفر لحقن دمائهم وحفظ أموالهم إنما يخادعون الله بزعمهم ، ويظنّون أن الحيل تنطلي عليه كما تنطلي على الناس ، (وَهُوَ خادِعُهُمْ) بأن أمهلهم حتى يظهروا كل مكرهم وكيدهم في دار الدنيا ، ثم هو مجازيهم بالعقاب الشديد في الآخرة (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ) ليؤدّوها (قامُوا كُسالى) أي متثاقلين (يُراؤُنَ النَّاسَ) يقصدون بصلاتهم الرياء والسّمعة (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) أي لا يصلّون إذا كانوا غائبين عن أعين المسلمين ، وإذا ذكروا الله فإنما يفعلون من غير إخلاص ولذا وصفه بالقليل.

١٤٣ ـ (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ...) أي متردّدين بين الكفر والإيمان فهم لا مع المؤمنين على بصيرة ولا مع الكافرين على جهالة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي لن تجد له طريقا يكون به خلاصه من النار.

١٤٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...) : يخاطب سبحانه المؤمنين ناهيا لهم عن أن توصلهم علاقتهم بالكافرين بحيث يتولى هؤلاء شؤونهم ويباشرون قضاياهم ويتناصرون معهم من دون المؤمنين لأنهم يصيرون بذلك مثلهم. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أتبتغون بعملكم هذا أن تجعلوا لله عليكم سبيلا إلى عذابكم وحجة واضحة على تكذيبكم بموالاتكم للكافرين.

١٤٥ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ...) وعيد منه سبحانه للمنافقين بأنه سوف يلقيهم في أسفل طبقة من جهنم (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ولا تجد ـ يا محمد ـ ناصرا لهؤلاء المنافقين ينقذهم من عذاب الله.

١٤٦ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ ...) استثنى سبحانه منهم الذين تابوا من نفاقهم وأصلحوا نياتهم وتمسكوا بكتاب الله وصدّقوا رسوله قولا وعملا (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) فصاروا لا يبتغون في أعمالهم وأقوالهم إلّا الله سبحانه (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إنهم حينئذ يعدون من المؤمنين ويكونون معهم في الدارين (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) أي يعطيهم ـ يوم القيامة ـ ثوابا كثيرا.

١٤٧ ـ (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ...) الاستفهام إنكاري ، والمعنى ليس لله من حاجة إلى تعذيبكم في الدرك الأسفل من النار إن حمدتم الله على نعمه بعد إيمانكم به وبرسوله إذ لا تضره معصية من عصاه ولا طاعة من أطاعه لأنه الغني. (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) أي لم يزل سبحانه مجازيا لكم على شكركم عالما بما تستحقونه من الثواب على الطاعات.

١٠٦

١٤٨ ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ...) يعني أنه سبحانه يكره كلام السوء يقال علنا. (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي من لم يصل إلى حقه فقد استثنى سبحانه من الحكم المتقدم جهر المظلوم بأن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء عند من يعينه في دفع ظلامته ، أو من يشتم فيرد على الشتيمة لينتصر لنفسه. (وَكانَ اللهُ) دائما منذ كان (سَمِيعاً) للأقوال ، (عَلِيماً) عارفا بالأعمال.

١٤٩ ـ (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ ...) أي إن تظهروا حسنا من القول أو الفعل أو تخفوا ذلك (أَوْ) إن (تَعْفُوا) تتجاوزوا (عَنْ سُوءٍ) في قول أو فعل (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أي لا زال غافرا صفوحا عن خلقه قادرا على الانتقام منهم.

١٥٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ ...) أي ينكرونه تعالى ولا يصدّقون رسله (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أي يرغبون أن يتكلموا في وجود الله بجهة منفردة ، وفي رسله وأنبيائه في جهة ثانية مستقلة عن الأولى. (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كما فعل اليهود حين آمنوا بموسى وبمن قبله ، ثم كفروا بعيسى وبمحمد (ص) وكما فعل النصارى حين آمنوا بعيسى وأنكروا نبوّة محمد (ص) (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي طريقا بين الإيمان ببعض ، والكفر ببعض.

١٥١ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ...) الذين يمثّلون حقيقة الكفر. فلن ينفعهم التبعيض في الإيمان (وَأَعْتَدْنا) وأعددنا (لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي يوجع ويذل صاحبه.

١٥٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ...) أي صدقوا ، بخلاف الذين كفروا (وَلَمْ يُفَرِّقُوا) كالكافرين (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي آمنوا بهم جميعا. (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) نعطيهم ثوابهم المستحق بإيمانهم بجميع ما أمروا به. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) : مر معناه.

١٥٣ ـ (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ...) أي : يطلب منك اليهود أن تنزّل عليهم كتابا مكتوبا من عند الله كما كانت التوراة مكتوبة في الألواح (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى) وطلبوا منه (أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) أعظم ممّا طلبوا منك (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ) دعنا ننظر إليه (جَهْرَةً) أي عيانا (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) المهلكة ، فأحرقتهم (بِظُلْمِهِمْ) أنفسهم بسؤالهم ذاك (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي اتخذوه معبودا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) وبعد رؤية المعجزات الظاهرة والدلائل الباهرة (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) تجاوزنا عنه برحمتنا لطفا بهم (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي أعطيناه سلطة ظاهرة عليهم إذ أطاعوه بقتل أنفسهم للتكفير عن ذنبهم العظيم.

١٥٤ ـ (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ ...) أي ورفعنا جبل الطور كالمظلة فوق رؤوسهم لما رفضوا ما جاءهم به موسى من تكاليف تهديدا باطباقه عليهم. (بِمِيثاقِهِمْ) يعني بسبب العهد المأخوذ عليهم بأن يعملوا بالتوراة فيخافوا فلا ينقضوه. (وَقُلْنا لَهُمُ) أي بلّغناهم على لسان موسى (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) : مر تفسير ذلك في الآية ٥٨ والآية ٦٥ من سورة البقرة. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا وثيقا مؤكدا على الطاعة والامتثال.

١٠٧

١٥٥ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ...) ما : هنا مزيدة للتأكيد ، والباء سببية ، أي بسبب نقض اليهود ما عاهدوا الله عليه عملنا بهم ما عملنا من العقوبات. (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) وجحودهم بحججه الدالّة على صدق رسوله (وَ) بسبب (قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كزكريّا ويحيى (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي مغلفة وقد مر معناه في سورة البقرة (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) : مر معناه في تفسير الآية ٨٨ من سورة البقرة.

١٥٦ ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ...) أي بكفرهم بعيسى (ع) وبرميهم مريم بأعظم الكذب وهو الفاحشة.

١٥٧ ـ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ...) وقالوا : إنا قتلنا المسيح (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وصلبناه (رَسُولَ اللهِ) بزعمه استهزاء بنبوّته ورسالته (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) نفى الله سبحانه زعمهم قتل عيسى وصلبه (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي اشتبه عليهم الأمر حيث ألقى سبحانه شبه عيسى على من كلف من قبل اليهود بمراقبة عيسى ورصد حركاته ليحيطهم بها فيقتلوه فعند ما دخلوا لينفذوا مكرهم قتلوا صاحبهم هم باعتبار شبهه بعيسى فقالوا : قتلنا عيسى وصلبناه. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في عيسى (ع) من ناحية قتله وصلبه ، ومن ناحية رفعه إلى السماء ، (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي في ريب من أمره. (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) يقين (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) لكنهم يتّبعون الظن ، (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي ما قتلوا عيسى حقا. ولكنه الظن والشك :

١٥٨ ـ (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ...) مر تفسيره في الآية ٥٤ و ٥٥ من آل عمران (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) : مر معناه.

١٥٩ ـ (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ...) المراد بأهل الكتاب هم الذين يكونون موجودين في عصر نزول عيسى (ع) من السماء أيام ظهور القائم المنتظر (عج). فما من أحد من أهل الكتاب يشهد نزوله حينئذ إلّا يؤمن به مؤكدا (قَبْلَ مَوْتِهِ) ويتوفى (ع) بعد أربعين سنة من خروج المهدي (ع). (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي أنه يشهد يوم القيامة بكفر اليهود.

١٦٠ ـ (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ...) أي بسبب صدور ظلم اليهود لأنفسهم (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) ما كان حلالا من (طَيِّباتٍ) النعم التي كانت (أُحِلَّتْ لَهُمْ) كأجزاء كثيرة من لحوم البقر والغنم والإبل إلخ. (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أي بسبب منع اليهود لأناس كثيرين عن طريق الحق :

١٦١ ـ (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا ...) الذي يتعاملون به (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي عن الربا (وَ) بسبب (أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بغير استحقاق من ربا ورشى في الأحكام وغيرها (وَأَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) موجعا مهينا.

١٦٢ ـ (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ...) الراسخون بالعلم هنا هم المتفقّهون بالتوراة من أحبار اليهود والمتعمقون في دراسة الثابتون على ما فيه من عقائد ، كعبد الله بن سلام وغيره ممن اعترف بالحق منهم ، وقوله : منهم ، متعلق بالراسخين الذين ذكرناهم. وضمير الجمع راجع إلى أهل الكتاب الذين حكى سبحانه حالهم. (وَالْمُؤْمِنُونَ) أصحاب النبي (ص) من غير أهل الكتاب (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي يسلمون مع إيمانهم بالله وبك وبما نزل عليك من ربك وبما نزل على غيرك من الرسل ، ثم (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ويراد بهم الأنبياء والأئمة المعصومون (ع) (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطف على ما سبقه : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معطوف على ما سبقه أيضا ، أو هو مبتدأ خبره : (أُولئِكَ) الذين (سَنُؤْتِيهِمْ) نعطيهم (أَجْراً عَظِيماً) ثوابا على أعمالهم كبيرا.

١٠٨

١٦٣ ـ (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى ...) هذه الآية الكريمة احتجاج قاطع وحجة دامغة تبطل قول المقترحين على النبي (ص) أن ينزّل عليهم كتابا من السماء حيث يبيّن سبحانه فيها بأن أمره في الوحي إليه (ص) كأمره في الوحي لغيره من الأنبياء الماضين الحذو بالحذو من هذه الجهة ، وهم جميعا بأمره ووحيه يعملون ، من نوح إلى سائر المرسلين من بعده ك (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا) أعطينا (داوُدَ زَبُوراً) أي كتابا مثل كتبهم وصحفهم يسمى بهذا الاسم. والأسباط جمع سبط وهو الحفيد. والمراد بهم هنا أسباط بني إسرائيل الاثنا عشر الذين هم من ولد يعقوب (ع) ، سمّوا بذلك للتفريق بينهم وبين أولاد إسماعيل وإسحاق (ع).

١٦٤ ـ (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ ...) أي : بعثنا رسلا كثيرين حدّثناك عنهم (مِنْ قَبْلُ) أن نرسلك إلى الناس (وَ) أرسلنا أيضا غيرهم (رُسُلاً) كثيرين (لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) وما حدثناك عنهم (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) حكى معه وخاطبه بغير آلة ولا لسان.

١٦٥ ـ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...) رسلا : بدل مما سبقها. أرسلناهم ليبشروا المطيعين برحمة الله ويخوّفوا العاصين (لِئَلَّا) من أجل أن لا (يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فلا يبقى لأحد عذر. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) : مر معناه.

١٦٦ ـ (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ...) أي إن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوة فالله يشهد لك بذلك بما أنزل إليك من القرآن المعجز وشهادة الله تعالى تكفيك ولا تحتاج معها إلى شهادة أحد. (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي عالما به أو الذي فيه علمه. فلا اعتبار لموقف قومك منه في عالم التقييم. أنّه تأليف بليغ وتركيب بديع ونمط يعجز عنه كل بيان ويكل دونه كل لسان ، يشهد بكونه صادرا عن عالم القدس والربوبية ، بل (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) برسالتك يا محمد. وبأن كتابك من عند الله (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي شهادته سبحانه وحده تكفي في ثبوت المشهود به فهو خير الشاهدين.

١٦٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أي الذين لم يؤمنوا بالإسلام ، ومنعوا غيرهم عنه وعن الجهاد في سبيل نشره. (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) انحرفوا عن طريق الحق انحرافا بعيدا لأنهم إضافة إلى ضلالهم هم أضلوا غيرهم.

١٦٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ...) أي لم يصدّقوا بمحمد فظلموه بتكذيبهم إياه وظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم بصدّهم عن الإيمان (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لا يعفو عن ذنوبهم بل سوف يعاقبهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) ولا ليدلهم على طريق التوبة والرجوع عن كفرهم وغيّهم وهذا هو سبب عدم شمولهم بالغفران.

١٦٩ ـ (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ...) أي ولكن يهديهم إلى طريق جهنّم جزاء كفرهم وظلمهم (وَكانَ ذلِكَ) أي إيصالهم إلى جهنم وعدا (عَلَى اللهِ يَسِيراً) أمرا سهلا.

١٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ...) الخطاب لعامة الخلق. بأن قد جاءكم محمد (ص) بالدين المرضي لكم من قبله سبحانه (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من عند ربكم والجار متعلق بجاء (فَآمِنُوا) أي وصدّقوا به وبالحق الذي جاء به (خَيْراً لَكُمْ) أي آمنوا خيرا لكم مما أنتم عليه من الكفر. (وَإِنْ تَكْفُرُوا) تنكروا الحق الذي جاء به الرسول (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو مالكهما بما فيهما ، وهو غني عن إيمانكم وعنكم ، وهو عارف بمناشئ جميع الأشياء ومصادرها بمقتضى خلقه لها حكيم في تدبيره لشؤونها.

١٠٩

١٧١ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ...) خطاب لليهود والنصارى ، أن لا تفرطوا ولا تجاوزوا الحق في دينكم أما النصارى فقد غلوا في المسيح (ع) بإفراط ، واليهود غلوا فيه بتفريط وبهتوا أمه (ع) وقالوا ولد سفاحا ، والغلوّ : مجاوزة الحد على كل حال فهؤلاء أنكروه ، وأولئك جعلوه ابن الله وألّهوه وعبدوه. (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) بتنزيهه عن الشّرك والولد والتثليث. (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) فعيسى هو ابن مريم لا ابن الله بل هو عبد من عباده أرسله إلى الناس برسالته (وَكَلِمَتُهُ) أي أمره الذي هو : كن (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أوجدها وأحدثها في رحم مريم بقدرته الكاملة. أو أن كلمته هي عبارة عن قصده سبحانه إحداث المسيح وتكوينه بإرادته ، وهذه مرتبة أعلى من مرتبة التلفظ بكن. وكلامه سبحانه صفة قديمة قائمة بذاته. (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي روح مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى (ع). (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي صدقوا به وبهم جميعا (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) خطاب للنصارى أي لا تجعلوا الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم أو لا تقولوا الله ثلاثة الأب والابن والروح القدس. (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أي ائتوا بالانتهاء عن قولكم الشنيع خيرا لكم مما تقولون (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) بوحدة حقيقية لا تتجزأ ووحدانيته ذاتية لا شريك له (سُبْحانَهُ) تنزيها له (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) لأنه لم يلد ولم يولد (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) مر معناه.

١٧٢ ـ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ...) أي لن يستكبر ولن يترفع عن عبادة الله ، بل العبودية له هي فخر الأنبياء والرسل وكل عارف به تعالى حق المعرفة ، والتذلل إليه في الطاعة عز أيّ عز ، (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) يتكبرون ويتأنّفون عن شرف العبودية لله. (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) أي يمتنع عنها (وَيَسْتَكْبِرْ) يترفّع عن ذلك (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ) يجمعهم إليه يوم القيامة (جَمِيعاً) لا يترك منهم أحدا ليحاسبهم ويجازيهم مطيعين كانوا أو عاصين.

١٧٣ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ...) أي المؤمنون المصدّقون بوحدانيته ورسله ويعملون بطاعته يعطيهم جزاء ذلك وافيا تاما بل يزيدهم على ما كان وعدهم عليها من الفضل (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) من المعاندين والمتكبّرين عن عبادته (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) موجعا لم يذوقوا مثله في دار الدنيا. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يلاقون من يحميهم من العذاب ولا ناصرا ينقذهم من غضب الله.

١٧٤ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) خطاب لجميع الناس بلا استثناء أحد ، ختم به جميع الآيات البينات التي سبقت لينذرهم الإنذار الأخير ، إذ وصلهم من عند الله حجة واضحة وهو رسول الله (ص) (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي القرآن الكريم الذي هو النور الساطع والبرهان القاطع. وعن الصادق (ع): انه ولاية علي بن أبي طالب (ع). فلا عذر لكم أيها الناس في الكفر بعد أن أنزل الله إليكم من عنده ما يكفي لأن يدلكم إلى طريق الهدى ويجنبكم مزالق الكفر والضلال.

١٧٥ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ...) أي صدّقوا رسولنا وصدّقوا بما جاء في كتابنا وتمسكوا بإيمانهم ونبيّهم وقرآنهم (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) والرحمة هي عطفه ولطفه تعالى ويتفضل عليهم بإحسان زائد على ما يستحقونه (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يدلّهم على نفسه ببراهينه ، فيسلكون بهدايته دين الإسلام ، الذي هو الطريق المستقيم ، ويحصّنون إسلامهم بولاية علي (ع) وقد سكت سبحانه عن ذكر الكافرين هنا استخفافا بهم ولأنه كرر ذكر أنّ مصيرهم إلى النار.

١١٠

١٧٦ ـ (يَسْتَفْتُونَكَ) : أي : يسألونك يا محمد (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والكلالة لغة : التعب. وقد تجيء كلّل بمعنى : أحاط.

أما معنى الكلالة اصطلاحا فهم قرابة الإنسان ما عدا الوالدين والأولاد ، كالإخوة والأعمام ونظائرهم. (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أي إن مات إنسان (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) يعني أنه كلّ (وَلَهُ أُخْتٌ) لأم وأب ، أو لأب فقط (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) تملك هذا النصف إرثا بالفرض ، وترث النصف الآخر بالرد بحسب مذهبنا الشيعي (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي في صورة كون الميت هو الأخت والكلالة منحصرة في أخيها فقط. وتقسم تركته تنصيفا بين الأختين إذا لم يوجد غيرهما لقوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) تأخذانه بالفرض وتأخذان الباقي تنصيفا بالرد. (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً ، رِجالاً وَنِساءً) فإذا كانت الكلالة للميت مؤلفة من رجال ونساء (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي يعطى للذكر سهمان وللبنت سهم (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) الأحكام ويظهرها (أَنْ تَضِلُّوا) مخافة أن لا تعرفوا وجه تقسيم المواريث في هذه الحالة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي عالم بجميع الأشياء وبكافة أمور معاشكم ومعادكم.

سورة المائدة

وهي مدنية ، وآياتها ١٢٠ آية

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...) العقد هو الاتفاق الذي يحصل بين طرفين أو أكثر لغاية تحقق مصالح المتعاقدين. وهو تعالى يقصد به هنا العبادات والمعاملات وجميع ما يتعاقد عليه الناس والمؤمنون في مقاصدهم وبعد محاوراتهم ، وفيما كلّفهم الله وألزمهم به من الإيمان به عزّ اسمه وبملائكته ورسله وحلاله وحرامه وجميع فرائضه وسننه ... (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وهذا شروع ببيان عقوده تعالى وأحكامه. والبهيمة ـ لغة ـ كلّ حيوان لا يميز لما في صوته من الإبهام ، أو هي كل ذات أربع. والمراد بها الإبل والبقر والغنم. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي سوى ما يذكر لكم منعه وحرمته في آيات أخرى. (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فهذا بعض ما تلا علينا حرمته. فإنه يحرم على الإنسان كلّ ما يصطاده في حال الإحرام (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من تحليل المحلّلات ، وتحريم المحرّمات ، على ما توجبه الحكمة وما تقتضيه المصلحة ولا رادّ لحكمه.

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...) تحلوا ، من أحلّ : أي تصرّف بالأمر على أنه مباح. والشعائر جمع شعيرة ، وهي ما كان شعارا وعلما ، وهي هنا مناسك المواقف والطواف والسعي والعمرة والمواقف وسائر أفعال الحج. والمراد بالنهي عن التحليل هو النهي عن تحريفه والتصرف فيه لإخراجه عن وجهه ، فلا ينبغي إحلال شيء من فرائض الله ، (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي الشهر الذي حرّم فيه القتال. وأريد من الشهر الجنس فيشمل النهي مجموع الأشهر الأربعة التي حرم فيها القتال ، ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ورجب ... فلا تتعاملوا حسب تحليلكم : لا بشعائر الله ، ولا الأشهر الحرم (وَلَا الْهَدْيَ) أي الحيوان الذي يهدى إلى بيت الله من الإبل أو البقر أو الغنم ، فإنه ليس لأحد أن يتعرض له بسوء ما دام مسوقا إليه ولم يصل إليه. (وَلَا الْقَلائِدَ) أي الشيء الذي يقلّد به علامة على أنه هدي فلا يتعرض له أحد حتى يصل سالما إلى محل ذبحه وتضحيته ... (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي قاصدين إياه أي فلا تحلوا وتمنعوا أيّها المؤمنون قوما قاصدين المسجد الحرام (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) أي يطلبون إحسانا وثوابا منه تعالى (وَرِضْواناً) وأن يرضى عنهم. (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) يعني إذا حللتم الإحرام وشئتم التصيّد فاصطادوا فلا جناح عليكم عند ذلك ولا جرم ، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) أي ولا يحملنّكم بغضاء قوم. (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي فلا يكسبنّكم بغض هؤلاء القوم الاعتداء عليهم بالانتقام وإلحاق الضرر بسبب صدّكم عن المسجد الحرام ، (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي تعاضدوا على العفو وتجنّب الهوى (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أي لا تتساعدوا على ما فيه ذنب واعتداء (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يعني أنه يجازي من يخالف قوله أعظم جزاء.

١١١

٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...) تلا سبحانه من المحرمات : البهيمة التي تموت دون ذبح وتذكية. والدم المسفوح عند الذبح ثم حرم ما لا يقبل التذكية كالخنزير الذي يحرم أكل أي شيء منه. (وَ) حرم أيضا (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ما ذكر عند ذبحه غير اسمه تعالى والإهلال هو رفع الصوت. (وَ) حرمت (الْمُنْخَنِقَةُ) أي التي خنقت (وَالْمَوْقُوذَةُ) التي ضربت حتى ماتت (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) التي وقعت عن صخرة أو سطح أو في بئر ثم ماتت (وَالنَّطِيحَةُ) التي نطحها كبش أو بهيمة مثلها فماتت من النطح. (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) والمراد به فريسة السّباع من الحيوانات المفترسة ، فقد نهى الله تعالى عن أكلها إلا بشرط تقع فيه الحلّية إذا كانت قابلة للتذكية الشرعية التي أناطها بها. (وَ) كذلك (ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) جمع نصاب. وهي أحجار كانت حول الكعبة يهل عليها ويذبح عندها لغير الله والفرق بينها وبين الأصنام ، أنها أحجار والأصنام تماثيل كانت تعبد. (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) الأزلام هي جمع : زلم ، والاستقسام بالأزلام هو طلب معرفة ما يقسم له مما لا يقسم له بالأزلام. وقيل هو الميسر. (ذلِكُمْ) هذه كلها (فِسْقٌ) أي خروج عن طريق الحق والصلاح ، أو هو الذنب. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أي لم يعد لهم أمل أن يبطلوا دينكم فترجعوا مشركين (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أي لا تخافوهم وخافوا معصيتي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أتممت ما تحتاجون إليه في تكليفكم من الحلال والحرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أكملت فضلي عليكم بولاية علي بن أبي طالب (ع) ورضيت لكم الإسلام طاعة لي. (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) أي من حكم عليه الاضطرار في مجاعة بحيث لم يجد سوى هذه المحرّمات ولحفظ حياته من الهلاك (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) يعني غير مائل أو متعمد لإثم. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.

٤ ـ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ...) أي يسألونك يا محمد مستفهمين بعد ما مرّ من تحريم وتحليل اللحوم في الآية الشريفة السابقة ف (قُلْ) لهم : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهي جمع طيّب : وهي ما تشتهيها النفوس وترغب فيها الطّباع (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي أحل لكم أكل لحم ما تحمله لكم الكلاب التي علّمتموها حمل ما تصطادونه من الحيوانات بطريقة علّمكم الله تعالى إياها لتعتبر لحوما مذكّاة إن هي ماتت حين حملها وقبل وصولها إليكم. (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي اذكروا اسم الله حين ترسلون الكلب لجلب الطريدة أو تطلقون النار لصيدها. (وَاتَّقُوا اللهَ) أي تجنّبوا مخالفته في هذا الموضوع. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) مر معناه.

٥ ـ (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ...) أراد سبحانه بكلمة : اليوم ، الوقت الذي نزلت فيه الآية الشريفة وما يتصل به إلى يوم لقائه فمنذ ذلك اليوم وإلى يوم القيامة أحلّت لكم جميع ما يستطاب (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس على فرض أنهم أصحاب كتاب. واختلف في الطعام ما هو وما المراد به؟ ... وعن الإمام الصادق (ع) هو مختصّ بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى تذكية ... (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فلا جناح عليكم أن تطعموهم وأن تتعاملوا معهم بالأطعمة وغيرها وفق ما شرع الله ... (وَ) كذلك (الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) أحلت لكم ، العفيفات من نسائكم المؤمنات. (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هن اللواتي أسلمن من محصنات أهل الكتاب. (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي إذا دفعتم ما قرّرتم لهن حتى يرضين بزواجكم ، بشرط أن تكونوا (مُحْصِنِينَ) أعفّاء (غَيْرَ مُسافِحِينَ) لا زانين بهنّ (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) وغير متخذين أصدقاء وصديقات يزنون بالسرّ. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي يجحد الإيمان ويتنكّر له (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي ذهب سدىّ لأنه فاسد (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي الهالكين لأنهم لم يجنوا ثمرة عمل عملوه ولا اكتسبوا ثواب خير فعلوه.

١١٢

٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...) أي هذه الآية الكريمة يبيّن الله سبحانه كيفية كلّ من الوضوء والتيمم وموردهما ، ويعلّم كيفية كل واحد منهما فعلا فعلا فيقول عز اسمه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وحدّ غسل الوجه من قصاص الشّعر إلى آخر الذقن طولا ، وما دارت عليه الوسطى والإبهام عرضا فاغسلوه بإراقة الماء عليه من يدكم اليمنى وتكرير الغسل إلى أن تصل المياه إلى كل جزء منه. (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فاغسلوها ، من آخر المرافق ، أي ما يرتفق عليه أي يتكأ ، إلى أطراف الأصابع من دون نكس وهذا هو مذهب أهل البيت (ع) ، بحيث لا يبقى جزء في هذا الحد إلّا وقد وصله ماء الوضوء. (وَ) بعد ذلك الغسل (امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعب هو العظم النابت في القدم عند معقد الشراك والمعنى : امسحوا بعض رؤوسكم وبعض أرجلكم من أطراف الأصابع إلى الكعب من كل رجل. (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) بالاغتسال وهو أن تغسلوا جميع البدن استعدادا للصلاة وقبل مباشرتها. (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) : مر معناه في الآية ٤٣ من سورة النساء (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ما فرض الله عليكم هذه الطهارات ليوقعكم في ضيق وتعب (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي يأمركم بتلك الطهارات من أجل تنظيف أبدانكم من الأوساخ وإزالة الخبث عنها وإزالة جميع الأقذار والأدران التي قد تعلق بالأيدي وتفرزها الأجسام. (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بما ذكر لكم من التشريع في هذه المواضيع (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون نعمه.

٧ ـ (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) أي لا تنسوا فضل الله عليكم (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) هو العهد الذي أخذه عليكم في عالم الذرّ بالإيمان به وبرسوله وتمت المواثقة ، أي التعاهد والتعاقد ، عليه بين يدي ربكم. وقيل بأن المراد بالميثاق بيعة الرضوان وقيل : المراد بها بيعة الحديبية التي هي كسابقتها تجديد عهد له (ص) عليهم ، وتشديد ميثاق على الأخذ بما أمر والعمل بما جاء به. فلا تنسوا : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وعينا ما قلت ، ونطيعك فيما تأمر وتنهى. (وَاتَّقُوا اللهَ) مر معناه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما فيها من أسرار وبما يختلج فيها من أفكار.

٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ...) أي اجعلوا قيامكم وانبعاثكم إلى العمل لله ، يعني خالصا له تعالى ومحضا لما يرضيه. ولفظة : قوّامين ، تدل على المبالغة ، فينبغي لكم أن تكونوا شديدي القيام والمسارعة للأمور التي يطلبها سبحانه منكم. (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) أي لا يحملنكم بغض الكفار لكم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي على الجور عليهم (اعْدِلُوا) أي اعملوا بالعدل فالعدل (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) لاتّقاء ما يغضب الله عزوجل (وَاتَّقُوا اللهَ) تقوى حقيقة قد طلبها سبحانه مكررا حيث (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) : مر معناه.

٩ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) وعد الله الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الطاعات واجبات ومندوبات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي عفو وثواب جزيل ... والجنة. وليعلم أن فعل : وعد ، له مفعولان ، أحدهما : الذين آمنوا. والثاني : لهم مغفرة. وكلاهما منصوبان محلا.

١١٣

١٠ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ...) بعد ذكر وعد المؤمنين بالمغفرة والجنة عقّبه سبحانه بالوعيد للكافرين والذين جحدوا الله ورسوله وكذّبوا بدلائل الله وبراهينه (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي أهل نار السعير وأصحابها. فانها معدة لهم وهم فيها ماكثون لأنهم المعدّون لها وهي بانتظارهم.

١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يذكّر الله تعالى المؤمنين بنعمة خاصة منّ بها عليهم (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) أي حاول جماعة (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) أي أن يبطشوا بكم ، ومعنى بسط اليد هو مدها إلى المبطوش به. وحين أرادوا الفتك بكم رأف سبحانه بكم. (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي منعها وجعلها مكفوفة منقبضة قصيرة عن أن تنالكم بسوء والمقصود محاولة قتل يهود بني النضير لرسول الله (ص) فأخبره جبرائيل (ع) بنيتهم وأنجاه الله منهم. (وَاتَّقُوا اللهَ) مر معناه. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأنه كاف من توكل عليه وهو حسبه.

١٢ ـ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...) أي أنه تعالى عاهد اليهود ، على الوفاء منهم بما أخذ عليهم من عهد. (وَبَعَثْنا) أي أرسلنا (مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) بعدد أسباط بني إسرائيل جعل لكل عشيرة نقيبا هو الذي يفحص عن أحوال جماعته وتكون له الرئاسة عليهم. فالنقيب هو الرئيس ، وقد قيل بأن هؤلاء النقباء كانوا في عصر موسى (ع) وكانت لهم الوزارة في زمنه ثم كانوا أنبياء من بعده ، وقيل أيضا إنهم أوصياء ولكنه قول لا يعتدّ به. والله سبحانه لم يذكر شيئا يكشف عن حقيقة حالهم فالسكوت عما سكت عنه تعالى أولى. (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أعينكم عليهم وأنصركم. (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) يا بني إسرائيل (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) أي أعطيتموها (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) فصدّقتموهم. (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي احترمتموهم. (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي بذلتم في سبيل الله من أموالكم بلا منّة ومن غير رياء. بل خالصا لوجهه سبحانه وهذا هو القرض الحسن. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) فأعفو عن ذنوبكم (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) واضح المعنى (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ) أي بعد الميثاق (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) يعني ضاع عن طريق الهداية.

١٣ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ...) أي ابعدنا اليهود عن رحمتنا بإخلافهم لذلك العهد الذي أخذناه منهم بأن مسخناهم وعذبناهم بصنوف العذاب. وما زائدة (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي يابسة غليظة فلم ندخل فيها من رحمتنا لتلين ، فتحجرت ، ومنهم من قرأها : قسيّة ، مبالغة في قساوتها ورداءتها ، بحيث صاروا : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي يزوّرون الأحكام ويغيّرون الأوامر والنواهي وما يجيء من عند الله. وهذا منتهى الذم لهم. (وَنَسُوا حَظًّا) أي تركوا نصيبا وافرا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ونهتهم أو أمرتهم به التوراة كوجوب اتّباع محمد (ص) (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي لا يزال ينكشف لك ـ يا محمد ـ خيانة جماعة منهم اتخذوا الخيانة دأبا ودينا لهم. (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) لا يكونوا خائنين ، بل آمنوا به (ص) واتبعوه ، وهم الذين أوصاه (ص) بالكف عنهم ورعايتهم ليثبتوا على الإيمان فقال له : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) أي تجاوز عن بعض سقطاتهم ، وتسامح عما يبدو منهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأنه محسن غاية الإحسان.

١١٤

١٤ ـ (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى ...) أي : ومن الذين سمّوا أنفسهم بهذا الاسم مدّعين أنهم أنصار الله وهذه الآية معطوفة على سابقتها (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) وشرطنا عليهم عهدا كما شرطنا على اليهود من قبلهم (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) يعني : غفلوا وتركوا نصيبهم الذي كان قد كتب لهم في حال الوفاء بالعهد واتّباع محمد (ص) (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : أوقعنا في قلوبهم عداوة بعضهم لبعض وكره بعضهم بعضا إلى يوم لقاء الله أو إلى يوم خروج المهدي (عج) ولا يمكن أن يزول الخلاف بين فرقهم إلا يومذاك. فطوائف النصارى تخلو قلوبها يومئذ من العداوة والبغضاء لأن الكل يصيرون مسلمين متآخين بعد أن يظهر الله الإسلام على الدين كله بيد الحجة (عج) ، ولذلك يسمى عصر خروجه (عج) بعصر القيامة الصغرى. أما يوم القيامة الكبرى وبعث الناس بعد موتهم فسيحاسب الله النصارى الذين بقوا على الكفر وماتوا عليه (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي أنه تعالى يخبرهم يومئذ بما عملوا وبما فعلوا.

١٥ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ..) يا أيها اليهود والنصارى قد بعثنا رسولنا الذي وعدناكم به (يُبَيِّنُ لَكُمْ) يوضح لكم (كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أي صفات وأوصاف نبيّ آخر الزمان (ص) وكثيرا مما كتمتم من معلوماتكم الموجودة في التوراة والإنجيل عنه (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) مما تخفونه (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) هو هذا النبيّ محمد (وَكِتابٌ مُبِينٌ) واضح المعاني هو القرآن الكريم.

١٦ ـ (يَهْدِي بِهِ اللهُ ...) أي : يرشد ويدل (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي : الذي سلك السبيل المؤدية إلى رضاه (سُبُلَ السَّلامِ) يعني طرق الرضى والتسليم ... (وَيُخْرِجُهُمْ) أي المتّبعين لرضوانه (مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الجهل والكفر (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان وضياء الحقيقة المتجلّية بالإسلام. (بِإِذْنِهِ) أي بإجازته ولطفه وتوفيقه. (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى الطريق المستقيمة وهي الإسلام حيث يصلون من خلاله إلى الجنة.

١٧ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا ...) أكّد سبحانه بحرف التحقيق كفر جميع الّذين قالوا : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) لأن المسيح عليه‌السلام عبد مخلوق مرزوق ، خلقه بقدرته ، وجعله معجزة للتدليل على عظمته ، وجعله نبيا في المهد ليكون دليلا على أمره ورسولا إلى عباده ، فما هذه الجرأة منهم على الله؟ (قُلْ) لهم يا محمد : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي من عنده وله قدرة تفوق قدرة الله تعالى ، (إِنْ أَرادَ) وشاء (أَنْ يُهْلِكَ) يميت (الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) الذي اتّخذتموه ربّا ، (وَأُمَّهُ) مريم (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) يفنيهم بأسرهم؟ ... (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يملكهما مع ما فيهما من كائنات (هُوَ) يملك (ما بَيْنَهُما) من شموس وكواكب ومجرّات ، فالمسيح وأمه (ع) سيّان مع بقية الأشياء والكائنات بالنسبة للوجود فهما مقهوران له تعالى كغيرهما ، وكيف يمكن أن يكونا معبودين وقد أوجدا ويمكن أن يفنيا ، وهما محتاجان للأكل والنوم ومفتقران لرحمة الله كسائر مخلوقاته؟ (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كيف يشاء وحين يشاء بلا منازع ولا حاجة لمعين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء مهما عظم في عالم الإيجاد.

١١٥

١٨ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ...) أي : وادّعى هؤلاء أنهم أبناء الله وأنه تعالى يحبهم وأنهم ليسوا كغيرهم من الناس. فأنت يا محمد (قُلْ) لهم موبّخا ومستهزئا (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ويزجّ المذنب منكم في النار مع أن الأب يشفق على ولده فلا يعاقبهم؟ فكيف إذا كان يحبهم (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) كبقية البشر (مِمَّنْ خَلَقَ) لا تزيدون على الناس بقرابة ولا تتمتعون بأفضلية ، كلّ بحسب وزره (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يغفر للمؤمنين المطيعين ويعاقب الكفرة العاصين (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) مر معناه (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي مرجع الموجودات جميعا علويّها وسفليّها يردها إليه بقدرته ويجازي كل عامل طبق عدالته.

١٩ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ...) مر معناه. (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي حين انقطاع الوحي مدة طويلة ، فبعث نبينا (ص) حيث لم يكن نبي ولا وصي يبين للناس ما اختلفوا فيه. (أَنْ تَقُولُوا) غدا يوم القيامة : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ) أي نبيّ يبشرنا برحمة الله ويدلنا على صراطه المستقيم. (وَلا نَذِيرٍ) يخوّفنا من سخطه إن نحن اجترأنا على معاصيه. (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) هو محمد (ص) (وَاللهُ) ينذركم بقدرته لأنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي مستطيع.

٢٠ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ...) أي : اذكر يا محمد لهؤلاء المعاندين الذين كانوا يعصون أمر نبيّهم موسى (ع) عند ما قال لهم (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي فضله (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) اختارهم لهدايتكم ، يقال إن عددهم بلغ ألف نبي في مدة ألف وسبعمائة سنة كانت بين موسى وعيسى (ع). (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) سلاطين كطالوت وداود وسليمان (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي أعطاكم ما لم يعط غيركم في عالمي زمانكم من النعم ووسائل القوة. والتي لم تشكروا الله عليها بمقدار ما اغتررتم بها وطغيتم.

٢١ ـ (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ...) أي أن موسى (ع) قال لقومه : إن الله يأمركم أن تدخلوا ـ بعد هذا التيه ـ إلى أرض بيت المقدس (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي قدّر وكتب ذلك في اللوح المحفوظ (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) لا ترجعوا القهقرى منهزمين خوفا (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي فتبوؤا بالخسران في الدنيا والآخرة.

٢٢ ـ (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ...) فأجابوا بأن فيها جماعة قوية ذات بأس شديد وكان أهلها من العمالقة (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) أي لن ندخلها ما دام هؤلاء الجبابرة فيها. (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) إذ لا طاقة لنا بالكون معهم.

٢٣ ـ (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ...) قيل إن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا وكانا يخافان الله (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالإيمان الصادق. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي فاجئوهم بدخول باب قريتهم (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) أي منتصرون. (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي سلّموا الأمر إليه تعالى إن كنتم مصدّقين بقوله ووعده.

١١٦

٢٤ ـ (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها ...) : أي العمالقة وتمردوا بذلك على نبيهم ولم يعبأوا بمقالة الرجلين المؤمنين وامتنعوا عن دخول تلك القرية مستعملين النفي بلن. (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) الذي أوحى لك بهذا الأمر (فَقاتِلا) العمالقة وحدكما ... (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) لا نشترك بحرب معكما بل ننتظر نصركما وغلبتكما!

٢٥ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ...) شكا موسى (ع) بثّه إلى ربه بعد عصيان قومه فلم يطمئنّ إلى أحد سوى نفسه وأخيه هارون (ع) (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : افصل بيننا وبين هؤلاء المنافقين الخارجين عن أمرك.

٢٦ ـ (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ...) فقد حرّم الله سبحانه عليهم دخول الأرض المقدسة مدة أربعين سنة بسبب عصيانهم. (يَتِيهُونَ) أي يضلون ويضيعون (فِي الْأَرْضِ) التي هم فيها ـ وهي صحراء التيه من سيناء ـ (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فلا تحزن على القوم الخارجين على أوامر الله.

٢٧ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ...) أي واقرأ عليهم يا محمد خبر ابني آدم قابيل وهابيل بالصدق وقيل إن الخطاب لموسى (ع) (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) وهو ما يتقرب به العبد إلى الله عزوجل فيبذله في سبيله كالضحيّة وغيرها (فَتُقُبِّلَ) أي قبله الله تعالى ورضيه (مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) بل رفضه لأن قابيل الذي قرّبه لله حاسد لم يقصد به وجه الله تعالى. (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) هذا قول من لم يتقبل الله قربانه لأخيه الذي تقبّل قربانه مؤكدا ذلك باللام والنون. (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ) يرضى القربان والعمل وهذا قول من تقبّل قربانه (مِنَ الْمُتَّقِينَ) الذين يخافونه ويطلبون رضاه.

٢٨ ـ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ...) أي إذا مددت يدك إلى لتقتلني (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ) وقرئ بسكون الياء (إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) فإني لا أمدّ يدي لقتلك يا أخي (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وأخشى غضبه وسخطه.

٢٩ ـ (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ...) أريد أن ترجع من فعلتك هذه آثما مضاعف الإثم تحمل ذنبي وذنبك. وكلامه هذا يدل على أنه هو أيضا قادر على قتل قابيل الذي هو أكبر منه سنا ولكنه لا يريد أن يفعل هذا. (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) : أي فتصير بذلك من الملازمين للنار وذلك عقاب العاصين.

٣٠ ـ (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ...) المعنى أن نفسه الخبيثة سهّلت له قتل أخيه وجعلته طوع يديه (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) فخسر دنياه وآخرته.

٣١ ـ (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ...) فإن قابيل لمّا قتل أخاه ورآه ميتا وقف متحيّرا لا يدري ما يصنع؟ وماذا يفعل ليخفي هذه الجثة عن والديه وإخوانه وعن السباع؟ وكيف يسترها ويواريها عن الأنظار؟ فوقع نظره على طائر ـ هو الغراب ـ (يَبْحَثُ) أي يحفر الأرض (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي) يستر (سَوْأَةَ) أي جثة (أَخِيهِ) الميت. فتعلّم طريقة دفن أخيه وقال : (قالَ يا وَيْلَتى) أي له الويل والحزن (أَعَجَزْتُ) ما قدرت (أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) وأستر جثته وأدفنه كما دفن هذا الغراب أخاه؟ ... (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي على قتله أخاه حين لا ينفع الندم ...

١١٧

٣٢ ـ (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ...) يعني من أجل قصة هابيل وقابيل ، فرضنا وقضينا وقدّرنا على بني إسرائيل ، وغيرهم طبعا. ولكنه خصهم بالذكر لأنهم أهل شغب وفتن واعتداءات. (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي من غير قصاص ، بحيث يقتل القاتل بمن قتله فقط. (أَوْ) بغير (فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أي فتن وشغب موجب للقتل كقطع الطريق والشرك فإنه يتحمل إثم كل قاتل من الناس لأنه يكون بفعله قد سهّل القتل لغيره ، ومن زجر عن قتلها بما فيه حياتها فقد أحيا الناس بسلامتهم منه. وفيه أقوال أخر. (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) أي بالبراهين لإتمام الحجة على بني إسرائيل وعلى جميع الناس سيما بعد إنزال الكتب السماوية عليهم (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (بَعْدَ ذلِكَ) الذي كتبناه عليهم من القصاص الشديد في الآخرة (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي متجاوزون عن الحق وعن حدود الشرع : المسرفون هم الذين يستحلّون المحارم ويسفكون الدماء كما ورد في المجمع عن الصادق (ع).

٣٣ ـ (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ...) أي أن الله وضع حدا لمن يحاربون أولياء الله والمؤمنين بشهر السلاح وقطع الطرق وغيرها وهو (أَنْ يُقَتَّلُوا ، أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ... أي فإن قتل فعليه القتل ، وإن زاد عليه بأخذ المال فقط فجزاؤه مضافا إلى القتل أن يصلب للفضيحة والعبرة ، وإذا أخذ المال فقط فجزاؤه أن تقطع يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط بلا تجاوز إلى أحد فإنما عليه النفي من بلده إلى بلد آخر ، يتوب حقيقة أو يموت أو يخرج من بلاد الإسلام. (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) أي أن ما ذكر من عقاب هو لفضيحتهم في الدنيا (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) والإبهام في عذابهم يشير إلى شدته وعظمه. وفي هذا دلالة على بطلان قول من ذهب إلى أن إقامة الحدود تكفير للمعاصي ، لأنه سبحانه بين أن لهم في الآخرة عذابا عظيما مع أنه أقيمت عليهم الحدود ، نعم قد استثنى سبحانه الذين عناهم بقوله :

٣٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ...) هؤلاء هم الذين يتوبون عن أفعالهم قبل أخذهم واقتداركم عليهم. (فَاعْلَمُوا) أيها الناس (أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقبل التوبة ، ويعفو عن المذنبين ويرحم عباده ...

٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...) أي حاذروه وتجنّبوا ما يغضبه (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) اطلبوا واسطة تقربكم إلى رحمته ورضاه. (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) وحاربوا الأعداء لرفع كلمة الله ... (لَعَلَّكُمْ) أي عساكم (تُفْلِحُونَ) أي تفوزون دنيا وآخرة.

٣٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ ...) أكّد سبحانه مكررا أنه لو ملك الذين كفروا كل ما على وجه الأرض من الأموال (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) بحيث يصير ضعفي ما على الأرض (لِيَفْتَدُوا بِهِ) أي ليجعلوه فدية لأنفسهم ، تقيهم (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ما قبل منهم فدية ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع مهيأ حاضر لا يدفع عنهم.

١١٨

٣٧ ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ ...) أي أن الكفار يتمنّون ويرغبون في الخروج من النار يوم القيامة (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) إلى الأبد إذ لا وسيلة لديهم توصلهم إلى ذلك. (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم ، مستقر. لا ينفك عنهم ولا ينفكون عنه.

٣٨ ـ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...) هذه الآية تتناول حدّا من الحدود التي فرضها الله على معصية معينة. فقد قال سبحانه اقطعوا يد السارق أو السارقة بكيفية محدّدة وشروط منصوصة في السنة الشريفة. إذا ثبت جرمهما شرعا. (جَزاءً بِما كَسَبا) عقابا موافقا لما جنياه من الإثم ، و (نَكالاً مِنَ اللهِ) أي انتقاما منه (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) مر معناه. وأصل الحكم بقطع يد السارق مما أجمع عليه فقهاء الإسلام سواء كان السارق ذكرا أو أنثى وان اختلفوا في بعض جزئياته وشروطه.

٣٩ ـ (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ...) أي ندم على سرقته وظلمه لنفسه ولغيره ، وأصلح ببراءة ذمته وردّ ما سرقه إلى صاحبه قبل أن يقدر عليه الحاكم. (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أي يقبل توبته. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مر معناه.

٤٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) على ما في السابق ، ثم يقول له : ألم تتيقّن ـ يا محمد ـ بأن ربك يملك السماوات والأرضين يتصرف فيهن بلا منازع (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) من عباده العصاة (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) من التائبين النادمين المنيبين إليه ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ذو قوة تقهر كل شيء ولا يقوم لها شيء.

٤١ ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...) يا محمد : لا تحزن لاستعجال من يرمي نفسه في الكفر من هؤلاء المنافقين ، ولا لتظاهرهم بإعلانه كلما سنحت لهم الفرصة إلى ذلك. فهم (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) فإيمانهم لم يتجاوز حدود القول باللسان دون العقيدة القلبية الصادقة. (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي اليهود المعاندون فهم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي : كثيرو الاستماع إلى الكذب ، يستغرقون وقتهم وطاقاتهم فيه. (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) كثيرو الاستماع لكلام طائفة أخرى من اليهود لم يحضروا إليك ـ يا محمد ـ بغضا لك (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يغيّرون المقصود به ، ويميلونه عمّا أراد الله له ، (يَقُولُونَ) أي المحرفون يقولون للمنافقين الذين يستمعون إليهم. (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أي إن أفتاكم محمد (ص) بهذا الحكم المحرّف فاقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) وإن حكم لكم بخلاف ذلك فكونوا حذرين ولا تقبلوا فتواه. (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي اختباره لفضيحته وخذلانه (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تقدر أنت ولا أحد أن ينجيه من الفضيحة المهلكة غير الله سبحانه (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) لأنهم اختاروا تدنيسها بالكفر والنفاق فأوكلهم الله إلى اختيارهم بعد أن علم أنهم ليسوا أهلا لرحمته كما هو شأنه سبحانه مع المؤمنين. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) بدفع الجزية ، وبإجلائهم عن المدينة ، وبظهور الإسلام عليهم. وبكسر شوكتهم وطردهم من حصونهم ومعاقلهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ينتظرهم وسيخلدون فيه إلى أبد الأبد.

١١٩

٤٢ ـ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ...) كرّر سبحانه كونهم سمّاعين للكذب ليبيّن أن غاية اهتمامهم كانت منصبّة على الكذب والاستماع الكثير إليه. وهم إلى جانب ذلك كثير والأكل للحرام. لأن أكّال صيغة للمبالغة. وقد سئل الصادق (ع) عن السحت فقال : الرّشى في الحكم وثمن الميتة ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغيّ ، وأجر الكاهن ، وفي رواية : ثمن العذرة سحت. (فَإِنْ جاؤُكَ) أي : إذا أتاك هؤلاء المتجرئون على الله يا محمد للتحاكم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولك الخيار بالحكم بينهم ، أو بالإعراض عنهم وعدم الحكم بينهم. (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) لا يمكن أن يحصل لك أذىّ من جرّاء الحكم ولا من جرّاء عدم الحكم. (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الذين يعدلون مع الناس في قولهم وفعلهم.

٤٣ ـ (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ...) كيف يتحاكمون عندك وهم لا يعتقدون بنبوّتك وغير مؤمنين برسالتك ، في حين أن الحكم الذي يطلبونه منك منصوص في كتابهم التوراة التي فيها حكم الله. (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي يعرّضون عن الحكم الحق حتى ولو طابق حكم كتابهم السماوي. (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي ليسوا بمصدّقين بما في كتابهم ، ولا بحكمك المطابق له.

٤٤ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ...) يؤكد سبحانه أن في التوراة ما يهدي الناس إلى الحق ، وما ينير لهم طريق الرشاد ، مثلها مثل القرآن الكريم (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) أي أنبياء بني إسرائيل ومن أسلم على أيديهم واهتدى بهداهم. (لِلَّذِينَ هادُوا) أي لليهود المصدّقين بالله وأنبيائه. (وَ) كذلك (الرَّبَّانِيُّونَ) أي الروحانيون (وَالْأَحْبارُ) الرؤساء الدينيون (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) أي بما كانوا متعاهدين بحفظه من التوراة التي أنزلها الله (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي شاهدين على تطبيق أحكامه ، (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) تخافوا الناس (وَاخْشَوْنِ) خافوا جانبي (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تبيعوها بالثمن الزهيد عنادا وجهلا ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وبدّل حسب هواه (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) واضح المعنى.

٤٥ ـ (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...) أي ألزمنا اليهود بما فيها ، من أن من قتل نفسا محترمة بغير جرم موجب للقتل فلا بدّ من قتله (وَالْعَيْنَ) إذا فقئت عدوانا ، تفدى (بِالْعَيْنِ) أي عين الجاني (وَ) كذلك (الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) يفدى بالأنف حين جدعه ظلما (وَالْأُذُنَ) التي تشرط أو تجتذّ (بِالْأُذُنِ) يفعل بها ما فعل بغيرها (وَالسِّنَّ بِالسِّنِ وَالْجُرُوحَ) إذا حصلت ظلما فهي (قِصاصٌ) أي ذات قصاص ينظر بشأنه أهل الحكم ويقدّرون أرشه أو جزاءه (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي عفا وتنازل عن حقه قربة إلى الله (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي صدقة عنه وتكفيرا لذنوبه. وفي الكافي عن الصادق (ع): يكفّر عنه من ذنوبه بمقدار ما عفى من جراح غيره. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القصاص أو العفو ، (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم ولغيرهم.

١٢٠