هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

الأخذ والإعطاء ، مع البناء على ما هو الغالب من كونه (١) صحيح التصرف ، لا على (٢) قول الصبي ومعاملته من حيث إنّه كذلك (٣). وكثيرا (٤) ما يعتمد الناس على الاذن المستفاد من غير وجود ذي يد أصلا مع شهادة الحال بذلك ، كما في دخول الحمام ووضع الأجرة عوض الماء التالف في الصندوق. وكذا في أخذ الخضر الموضوعة للبيع ، وشرب ماء السقّائين ، ووضع القيمة المتعارفة في الموضع المعدّ لها (٥) ، وغير ذلك من الأمور التي جرت العادة بها ، كما يعتمد على مثل ذلك (٦) في غير المعاوضات من أنواع التصرفات (٧).

______________________________________________________

(١) أي : المالك صحيح التصرف شرعا أي غير محجور عليه بسبب من أسباب الحجر.

(٢) معطوف على الإذن ، يعني : أنّ الاعتماد على إذن المالك لا على قول الصبي.

(٣) أي : من حيث إنّه صبيّ. والغرض نفي موضوعيّة الصبي في المعاملة ، وأنّ المعاملة تقع مع المالك حقيقة.

(٤) غرض صاحب المقابس تنظير الاعتماد على الرضا المنكشف بجلوس الصبي ـ بالشرائط المزبورة ـ باعتماد الناس على شاهد الحال في بعض الموارد مما لم يكن ذو اليد حاضرا أصلا ، ولا يتوقفون عن التصرف والمعاملة ، كما في دخولهم الحمام حين غيبة الحمّامي ، ووضع الأجرة في الصندوق المعدّ لها.

(٥) كذا في المقابس وبعض نسخ المكاسب ، وهو الصحيح ليرجع الضمير إلى «قيمة الماء والخضر» فما في بعض نسخ المتن من تثنية الضمير لعلّه من سهو الناسخ.

ولعل التثنية باعتبار الأخذ والشرب ، يعني : وضع القيمة المتعارفة في الموضع المعد لأخذ الخضر وشرب الماء. لكنه غير وجيه كما هو واضح.

(٦) أي : الإذن المستفاد من حال المالك في الأخذ والإعطاء.

(٧) كالصلاة في البساتين.

٨١

فالتحقيق أنّ هذا (١) ليس مستثنى من كلام الأصحاب ، ولا منافيا له (٢) ولا يعتمد على ذلك (٣) أيضا في مقام الدعوى (٤) ، ولا فيما إذا طالب المالك بحقه ، وأظهر عدم الرضا» انتهى (١).

وحاصله : أنّ مناط الإباحة ومدارها في المعاطاة ليس على وجود تعاط قائم بشخصين أو بشخص منزّل منزلة شخصين ، بل على تحقق الرضا من

______________________________________________________

(١) المشار إليه هو : معاملة الصبيان ، على التقريب المزبور. وغرضه : أنّ معاملات الصبيان ليست داخلة في موضوع قول الأصحاب ببطلان معاملة الصبي حتى يكون الحكم بالصحة فيها منافيا له ومستثنى منه ، ومخصّصا له ، لأنّ المعاملة فيها تقع بين الكبار ، والصبيّ آلة محضة ، فصحة معاملات الأطفال حينئذ تكون على طبق القاعدة.

(٢) لأنّ المنافاة فرع وحدة الموضوع ، وهي غير متحققة هنا ، إذ موضوع حكمهم بالبطلان معاملة الصبي. والتقريب المزبور في الصحة يخرجه عن معاملة الصبي ويدرجه في معاملة البالغين.

(٣) أي : الظن بإذن المالك بمعاملة الصبي الحاصل من الأمارات المفيدة له في مقام الدعوى. توضيحه : أنّ الظن بإذن المالك الناشئ عن الجلوس مجالس الأولياء ليس ممّا يعتمد عليه في تقويم قول المشتري المدّعي لإذن المالك ، لموافقته لهذا الظهور. ويرفع اليد عن تقديم قول المالك بعدم إذنه الموافق للأصل ، إذ لا دليل على اعتبار هذا الظهور بهذا المقدار ، لعدم ثبوت جريان العادة على حجّيّته في هذا المقام.

وتظهر ثمرة النزاع بعد التلف ، فإنّه بناء على ثبوت الإذن يكون الضمان بالبدل الجعلي. وبناء على عدمه يكون الضمان بالبدل الواقعي. وأمّا قبل التلف فلا ثمرة له ، إذ المفروض جواز التراد في المعاطاة مع بقاء العين على المشهور.

(٤) يعني : ولا يعتمد على الظن بإذن المالك في مقام مطالبة المالك بحقه ، بأن يدّعي عدم الرضا بالمعاملة حينها.

__________________

(١) مقابس الأنوار ، ص ١٠ ، كتاب البيع.

٨٢

كلّ منهما بتصرّف صاحبه في ماله حتى لو فرضنا أنّه حصل مال كلّ منهما عند صاحبه باتفاق كإطارة الريح ونحوها ، فتراضيا على التصرف بإخبار صبي أو بغيره من الأمارات كالكتابة ونحوها ، كان (١) هذه معاطاة أيضا ، ولذا كان وصول الهدية إلى المهدي إليه على يد الطفل الكاشف إيصاله عن رضى المهدي بالتصرف ـ بل التملك ـ كافيا (٢) في إباحة الهدية ، بل في تملكها.

وفيه : أنّ ذلك (٣) حسن ، إلّا أنّه موقوف أوّلا على ثبوت حكم المعاطاة

______________________________________________________

(١) جواب الشرط في : «لو فرضنا». والفرق بينه وبين المعطوف عليه هو أنّ المشتري ـ في المعطوف عليه ـ يدّعي الإذن ، قبال دعوى المالك عدمه. وفي المعطوف يسكت أو يدّعي الجهل بالحال. هذا ما أفاده صاحب المقابس في توجيه كلام شيخه من حصول الإباحة بمعاملة الصبي المأذون ، وستأتي مناقشة المصنف قدس‌سره في كل منهما.

(٢) خبر قوله : «ولذا كان».

(٣) ناقش المصنف في كلام المقابس بوجهين :

الأوّل : منع ما أفاده في المقدمة الأولى ، فإنّ مناط الإباحة وإن كان مجرّد الرّضا من كلّ منهما بتصرف صاحبه في ماله. لكنه موقوف على الإكتفاء في المعاطاة بمجرّد الرّضا ، من دون تعاط خارجي ، ولا إنشاء إباحة أو تمليك. وهو ممنوع ، إذ لا فرق في توقف الملك والإباحة على الإنشاء بين المعاطاة والعقد اللفظي ، والمفروض في كلام المقابس انتفاء إنشاء الإباحة ، فلا وجه لحصولها.

ودعوى حصول الإنشاء بدفع الولي المال إلى الصبي ، مدفوعة بأنّه إنشاء لشخص غير معلوم ، وهو خارج عن المعاطاة موضوعا ، ومشكوك الدخول فيها حكما.

وقياس معاملة الصبي ـ في تحقق الإنشاء ـ بإيصال الهدية بيده إلى المهدي إليه ، مع الفارق ، لأنّ إعطاء الهدية إلى الطفل مقدمة لإيصالها إنشاء تمليكها أو إباحتها للمهدي إليه ، كما أنّ إذن الولي للصبي في إعارة ماله إنشاء إباحة الانتفاع للمستعير.

٨٣

من دون إنشاء إباحة وتمليك ، والإكتفاء فيها بمجرّد الرضا (١).

ودعوى حصول الإنشاء بدفع الولي المال إلى الصبي ، مدفوعة بأنّه إنشاء إباحة لشخص غير معلوم (٢). ومثله غير معلوم الدخول في حكم المعاطاة مع العلم بخروجه عن موضوعها.

وبه (٣) يفرّق بين ما نحن فيه ومسألة إيصال الهدية بين الطفل ، فإنّه يمكن فيه دعوى كون دفعه إليه للإيصال إباحة أو تمليكا ، كما ذكر أنّ إذن الولي للصبي في الإعارة إذن في انتفاع المستعير.

وأمّا دخول الحمام (٤) وشرب الماء ووضع الأجرة والقيمة فلو حكم

______________________________________________________

كما أنّ تنظير المقام بدخول الحمام وشرب الماء ممنوع أيضا ، لوجود السيرة على كفاية وصول العوضين في هذه المعاطاة ، بخلاف معاملة الصبي.

والحاصل : أنّه لا سبيل للالتزام بتوجيه صاحب المقابس لترتب الإباحة على معاملة الصبيان المأذونين من قبل أوليائهم.

(١) المفروض وجوده وانكشافه بجلوس الأطفال مواضع أوليائهم للمعاملة.

(٢) يعني : إذا كان طرف المعاملة غير معيّن في نظر الولي ، بل هو كلّيّ وهو عنوان «من عامل الصبي» فلا يجري هذا الاشكال لو كان الطرف معيّنا معلوما عند الولي.

(٣) أي : وبعدم الإنشاء ـ في المقام ـ يفرّق بين ما نحن فيه وبين مسألة إيصال الهدية بيد الطفل ، بأن يقال : انّ الدفع إلى الصبي إنشاء إباحة أو تمليك.

(٤) الذي ذكره صاحب المقابس مثالا لاستفادة الإذن الحاصل من شهادة الحال. وتوضيحه : أنّه لو حكمنا بصحة وضع القيمة والأجرة فيهما لأجل المعاطاة ـ بناء على حصولها بمجرد المراضاة الخالية عن الإنشاء ـ فإنّما هو لأجل دعوى قيام السيرة عليه فيهما ، لا لأجل كون المال يسيرا. فحينئذ ينحصر مورد الصحة مع وساطة الصبي في الإيصال والدفع والقبض بما قامت السيرة على

٨٤

بصحتهما ـ بناء على ما ذكرنا (١) من حصول المعاطاة بمجرد المراضاة الخالية عن الإنشاء ـ انحصر (٢) صحة وساطة الصبي فيما يكفي فيه مجرد وصول العوضين ، دون ما لا يكفي فيه (٣).

والحاصل : أنّ دفع الصبي وقبضه بحكم العدم (٤). فكلّما يكتفى فيه بوصول كلّ من العوضين إلى صاحب الآخر بأيّ وجه اتفق (٥) فلا يضرّ مباشرة الصبي لمقدمات الوصول.

ثم إنّ (٦) ما ذكر مختص بما إذا علم إذن شخص بالغ عاقل للصبي وليّا كان أم غيره.

______________________________________________________

الاكتفاء بمجرّد الوصول ، وعدم الحاجة الى الواسطة ، فلا يصح الاستدلال بصحة المعاطاة في الأمثلة التي ذكرها ـ ممّا قام الدليل وهو السيرة على عدم الحاجة إلى الإنشاء فيها ـ على صحتها في مطلق اليسير ولو لم يقم سيرة على عدم الحاجة إليه.

(١) يعني : في ثامن تنبيهات المعاطاة ، حيث قال : «فالمعيار في المعاطاة وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرف. وهذا ليس ببعيد على القول بالإباحة» (١).

(٢) جواب الشرط في قوله : «فلو حكم».

(٣) وهو بيع الصبي وشراؤه بإذن الولي ، لعدم قيام السيرة المتشرعية على كفاية مجرّد وصول العوضين في ذلك.

(٤) كما اعترف كاشف الغطاء به أيضا ، لكنّه أراد تصحيحه بكاشفيّة قبضه قبض وليّه.

(٥) بإطارة ريح أو بواسطة عبد أو صبيّ ، أو بوضع اجرة الحمامي في الصندوق المعدّ لها.

(٦) هذا إشكال آخر على صاحب المقابس ، وملخّصه : أنّ ما ذكره في وجه تصحيح معاملة الصبي الجالس مجلس وليه من كون المناط في الإباحة هو

__________________

(١) هدى الطالب ، ج ٢ ، ص ٣٠٢.

٨٥

وأمّا ما ذكره (١) كاشف الغطاء أخيرا من صيرورة الشخص موجبا

______________________________________________________

التراضي من المالكين ـ أخصّ من المدّعى ، لاختصاصه بصورة علم من يعامل الصبي بأنّه مأذون من المالك الجائز التصرف ، مع أنّ المدّعى أعم من ذلك ، وهو ترتب الإباحة أو الملك على بيع الصبي وشرائه ، في قبال المشهور.

(١) ناقش المصنف في ما أفاده كاشف الغطاء في ذيل كلامه ـ من نفي البعد عن ترتّب الملك على المعاملة مع الصبي المأذون ، لكون الطرف موجبا قابلا ـ بوجهين أيضا :

الأوّل : أنّ مفروض كلامه كون ولي الطفل هو أحد طرفي العقد من جهة استكشاف رضاه من جلوس الصبي ، ولمّا كان هذا الولي غائبا عن مجلس المعاملة فلا بدّ أن يكون الطرف الآخر موجبا عن الولي بالوكالة ، وقابلا لنفسه بالأصالة. وهذا لا بأس به في حصول الملك ، لكن الإشكال في الصغرى ، وذلك لانتفاء الإذن الخاص لهذا الطرف ، لعدم علم الولي به حتى يأذن له بإجلاس الصبي مجلس نفسه.

ودعوى «علم الطرف برضا وليّ الطفل بالبيع والشراء ، وهذا العلم كاف في أن يقصد الإيجاب وكالة عن الولي ، والقبول عن نفسه ، فيتم ركنا العقد» غير مجدية ، لما سيأتي في بحث بيع الفضول إن شاء الله تعالى من عدم خروج العقد ـ عن عنوان الفضول ـ بمجرّد علم العاقد برضا المالك ، ولا أقل من كون المسألة خلافيّة.

وحيث كان العقد مع الصبي فضولا توقّف على مراجعة وليّه للإمضاء ، والمفروض أنّ من يعامل الطفل لا يراجع وليّه بعد المعاملة أصلا ، ولا ريب أنّ صحّة عقد الفضول معلّقة على إجازة من بيده الأمر.

الثاني : أنّ صيرورة الطرف موجبا بإذن الوليّ مجرّد فرض لا واقع له خارجا ، إذ المحسوس بالوجدان عدم كون الطرف قاصدا للنيابة عن وليّ الطفل حتى يصير موجبا من قبله ، بل لا يقصد إلّا القبول الذي هو وظيفة المشتري. ومقتضى خلوّ هذه المعاملة عن الإيجاب بطلانها رأسا ، فهي لا تفيد الإباحة فضلا عن الملك الذي تصوّره الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره.

٨٦

وقابلا ، ففيه أوّلا : أنّ تولّي وظيفة الغائب ـ وهو من أذن للصغير ـ إن كان بإذن منه (١) فالمفروض انتفاؤه. وإن كان (٢) بمجرد العلم برضاه فالاكتفاء به في الخروج عن موضوع الفضولي مشكل ، بل ممنوع (*).

وثانيا : أنّ المحسوس بالوجدان عدم قصد من يعامل مع الأطفال النيابة (٣) عمّن أذن للصبي (٤).

ثم (٥) إنّه لا وجه لاختصاص ما ذكروه من الآلية بالصبي ، ولا بالأشياء

______________________________________________________

(١) الضمير راجع إلى «من» الموصول المراد به وليّ الصبي.

(٢) أي : وإن كان تولّي ـ من يتعامل مع الصبي ـ لمجرّد علمه برضا الولي كانت المعاملة فضوليّة.

(٣) مفعول به ل «قصد».

(٤) بل لا يقصدون إلّا الأصالة ، ولا يتحمّلون وظيفة الطرف الآخر.

(٥) هذا إشكال ثالث يرد على صاحب الرياض وكاشف الغطاء وغيرهما ممّن يصحّح معاملة الصبيان بالآلية أو في المحقرات. وتوضيحه : أنّ مقتضى كون الصبيان آلات هو وقوع المعاملة بين الكبار ، فتكون صحيحة. وهذا يستلزم الإيراد عليهم بلزوم التعميم لموردين.

أحدهما : الالتزام بآليّة الصبي في الأشياء الخطيرة ، وتخصيص آليّته بالمحقرات بلا موجب.

__________________

(*) هذا المنع ينافي ما سيأتي منه قدس‌سره في بيع الفضولي من ترجيح خروج المعاملة المقرونة برضا المالك عن بيع الفضولي موضوعا أو حكما ، فلاحظ قوله هناك : «وإن كان الذي يقوى في النفس لو لا خروجه عن ظاهر الأصحاب عدم توقفه على الإجازة اللاحقة ، بل يكفي فيه رضا المالك المقرون بالعقد ..» ولعلّ إشكاله على كاشف الغطاء مبني على صغروية العلم بالرضا للفضولي ، وترتفع المنافاة حينئذ.

٨٧

الحقيرة ، بل هو (١) جار في المجنون والسكران ـ بل البهائم ـ في الأمور الخطيرة ، إذ المعاملة إذا كانت في الحقيقة بين الكبار وكان الصغير آلة فلا فرق في الآلية بينه وبين غيره (٢).

نعم من تمسّك في ذلك (٣) بالسيرة من غير أن يتجشّم لإدخال ذلك تحت القاعدة (٤) فله (٥) تخصيص ذلك بالصبي (٦) ، لأنّه المتيقّن من موردها ، كما أنّ ذلك

______________________________________________________

ثانيهما : الالتزام بآلية المجنون والسكران والبهيمة أيضا ، لفرض كون المتعاملين حقيقة هما البالغان العاقلان القاصدان للمدلول. مع أنّهم اقتصروا في الآلية على الصبيان.

نعم يندفع الإيراد بأن يقال : إن القائل بالآلية لا يدرج معاملة الصبي في عنوان البيع ولا في المعاطاة حتى يدّعى صدق عنوان العقد فيما كان الآلة بالغا مجنونا أو سكرانا ، أو كان المبيع ثمينا جدّا ، وإنّما يقول بصحته لدليل تعبدي وهو السيرة الممضاة ، وهي دليل لبي تختص بمورد العمل ، وهو بيع المحقّرات وشراؤها ، وكون المتصدي صبيا ، هذا.

(١) الضمير راجع الى «ما ذكروه» من الآليّة.

(٢) مع أنّهم خصّصوا الآلية بالصبيّ.

(٣) أي : في جواز المعاملة مع الصبيّ.

(٤) المراد بالقاعدة الأصل اللفظي كعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وكإطلاق حلّ البيع والتجارة عن تراض ، فهي لا تشمل بيع الصبي ـ بنظر القائل ـ بصحته للسيرة.

(٥) جواب «من تمسّك» الذي هو موصول اشرب معنى الشرط.

(٦) وجه الاختصاص وجود السيرة القائمة على الاكتفاء بالظن برضا المالك في معاملة الصبي في الأشياء اليسيرة ، وعدم وجود السيرة في غير معاملة الصبي وغير الأشياء اليسيرة. ومقتضى القاعدة لزوم العلم برضا المالك.

٨٨

مختصّ بالمحقّرات (*).

__________________

(*) لا يخفى أنّ هنا قولين في قبال المشهور القائلين بكون الصبي مسلوب العبارة :

الأوّل : التفصيل بين المحقرات وغيرها. قال الفيض في محكي المفاتيح : «الأظهر جواز بيعه وشرائه فيما جرت العادة به منه في الشي‌ء الدّون ، دفعا للحرج في بعض الأحيان». وفي المقابس بعد نقل هذه العبارة «ويمكن أن يستأنس لذلك ـ مضافا إلى السيرة المستمرة وقضاء الحاجة والضرورة في كل من المعاملة ودفع العوض وأخذه منه ـ بما رواه الشيخ في الموثق كالصحيح عن عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة الصبي والمملوك ، فقال : على قدرها يوم أشهد تجوز في الأمر الدّون ، ولا تجوز في الأمر الكثير» (١) (٢).

لكن لا يمكن المساعدة على شي‌ء منهما. أمّا السيرة فاستقرارها على معاملات الصبي في الأمور الحقيرة وإن لم يكن قابلا للإنكار ، إلّا أنّها لا تكشف عما نحن بصدده من استقلال الصبي في المعاملات. بل من جهة جريان المعاطاة بين الناس في المحقّرات بوضع الثمن في الموضع المعدّ له ، وأخذ المتاع بإزائه ، كما في دخول الحمّام ووضع الأجرة في كوز الحمامي. والمقام من هذا القبيل ، فإنّ قبض الصبي ليس بأقل من وضع الفلوس في كوز الحمّامي ، فلا وجه لجعل ما نحن فيه من مستثنيات عدم نفوذ أمر الصبي ، إذ لا ربط بينهما ، لأنّ المقصود إثبات استقلال الصبي في معاملاته بالنسبة إلى المحقرات باستقرار السيرة على ذلك ، وهذا المعنى أجنبي عن المعاطاة الواقعة بين البالغين التي لا تتوقف على الإعطاء والأخذ.

نعم إذا كان القبض شرطا للعقد كما في الهبة فلا عبرة بقبضه ، لا بما أنه قبض ، بل بما أنّه التزام شرط للعقد ، وهو مرفوع عن الصبي.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٢٥٣ ، الباب ٢٢ من أبواب الشهادات ، ح ٥.

(٢) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٩.

٨٩

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أنّ دعوى السيرة على نفوذ معاملات الصبي في المحقرات مطلقا ولو بدون إذن الولي كما هو المقصود ممنوعة ، فإنّ سيرة المتدينين على خلاف ذلك.

مضافا إلى كفاية إجماع السيد ابن زهرة والعلامة قدس‌سرهما على حجر الصبي عن التصرف للرّدع عنها. ولا أقل من عدم إحراز إمضائها شرعا.

وأمّا الرواية ففيها : أنّها أجنبية عن مورد البحث ، إذ الشهادة غير المعاملة. ومورد الرواية هو الأول ، والتعدي عن موردها مما لا دليل عليه.

ومن هنا يظهر ضعف ما في المقابس : «وهذا القول لا يخلو عن قوة ، إلّا أنّ الأصحاب تركوا العمل بالخبر» وذلك لأنّ العمل بالرواية لا يجدي في معاملات الصبي ، لكون الشهادة غير المعاملة ، ولا ملازمة بينهما أصلا.

وبالجملة : الرواية قاصرة عن إثبات المدّعى. والسيرة المتشرعية على صحة معاملات الصبي بالاستقلال في المحقرات أيضا مفقودة. والسيرة العقلائية مردوعة بما دلّ على عدم نفوذ معاملات الصبي. ومع الشكّ فمقتضى أصالة الفساد عدم نفوذ معاملات الصبي بالاستقلال حتى في المحقرات ، فلا وجه لصحة معاملات الصبي ، هذا.

القول الثاني : نفوذ معاملات الصبي تمسكا بوجوه :

الأوّل : رواية السكوني عن الصادق عليه‌السلام قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كسب الإماء ، فإنها إن لم تجد زنت ، إلّا أمة قد عرفت بصنعة يد ، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده ، فإنه إن لم يجد سرق» (١) تقريب الاستدلال بها : أنّ عقد الصبي لو كان باطلا كان الأنسب أن يعلّل النهي به ، لا بالأمر العرضي وهو سرقة الصبي ، لأنّ التعليل بالأمر الذاتي أولى من التعليل بالأمر العرضي ، فهذا التعليل يكشف عن صحة معاملات الصبي ، وأنّ النهي تنزيهي ، وحكمته ما ذكر في الرواية من السرقة.

ونوقش فيه أوّلا : بضعف الرواية بالسكوني ، وعدم انجبارها.

لكن فيه : أنّه قد ثبت في محلّ آخر صحة الاعتماد على رواية السكوني.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١١٨ ، الباب ٣٣ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

٩٠

.................................................................................................

__________________

وثانيا : بأنّ المراد بكسب الغلام إمّا معناه المصدري ، وإمّا معناه الاسم المصدري وهو المال المكسوب. فإن أريد به الأوّل فمعناه مباشرة الصبي للتجارة عند احتياج وليّه إلى ذلك ، لكن هذه المباشرة تبعيّة لا استقلالية ، فيكون الصبي بمنزلة الآلة لوليه في إيجاد المعاملة بينه وبين المشتري. والقرينة على إرادة هذا المعنى قوله عليه‌السلام في صدر الرواية : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كسب الإماء ، فإنّها إن لم تجد زنت». مع أنّه لا شبهة في نفوذ كسب الأمة بإذن مولاها.

وأنت خبير بما فيه ، حيث إنّ التقييد باحتياج الولي غير ظاهر من الكلام ، بل لا بدّ من استفادته من الخارج. مع أنّه بعد تسليمه بكون الصبي مأذونا في إنشاء المعاملة كمأذونيّة البالغ فيه ، فجعل الصبي آلة غير ظاهر. بل الصبي ينشئ المعاملة بإذن الولي كإنشاء البالغ الوكيل عنه للمعاملة.

وإن أريد به الثاني ـ أي المال الذي يكتسبه الصبي ـ فالمراد به المال الذي يحصّله بالالتقاط أو الاستعطاء أو حيازة المباحات أو العمل بأمر الغير ممّا لا يكون عقدا ، فلا يشمل المال الذي يحصّله الصبي بالعقد ، فلا يدلّ على صحة عقد الصبي كما هو المقصود.

لكن فيه أيضا : أنّ هذا الحمل مما يأباه الإطلاق.

وعليه فدلالة هذه الرواية على نفوذ معاملات الصبي ظاهرة كما لا يخفى.

وقد استدل أيضا على هذا القول بقوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (١) فإنّ الظاهر من الابتلاء هو الامتحان والاختبار بالمعاملات على الأموال حتى يتبين رشدهم. ولا وجه لحملها على الابتلاء بمقدمات العقد من المقاولة أو على المعاملات الصورية التمرينية كعباداته على ما عن جماعة ، لكونه خلاف الظاهر من غير موجب. كما أنّ ظاهرها كون الابتلاء قبل

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٦.

٩١

.................................................................................................

__________________

البلوغ ، للتعبير عن الأطفال باليتامى ، لذهاب اليتم بالبلوغ. وبعدم الفصل يتحقق العموم لكل صبي وإن لم يكن يتيما.

فالمتحصل من الآية المباركة أنّ دفع المال منوط بأمرين : أحدهما البلوغ ، والآخر إيناس الرشد منهم. فولاية الولي ترتفع بهذين الأمرين. كما أنّ حجر الصبي عن ماله يرتفع بهما ، فلا مانع من صحة عقد الصبي الاختباري وإن لم يجز دفع المال إليهم ، لتوقف جواز دفعه إليه على الأمرين المزبورين.

ولو سلّم توقف الابتلاء بالبيع والشراء على دفع المال إليهم فالمراد دفع بقية الأموال الزائدة على المقدار المحتاج إليه في اختبارهم.

فالمتحصل : أنّ دلالة الآية على نفوذ معاملات الصبي الاختبارية غير قاصرة.

الثالث : السيرة العقلائية الجارية على معاملة الصبيان المميزين معاملة البالغين ، وعدم الفرق بين البالغ والصبي المميّز الذي يبلغ بعد ساعة مثلا. وهذه السيرة ثابتة قطعا ، ولا مجال للتشكيك فيها ، وليست مردوعة إلّا في استقلال الصبيان في المعاملات. فالإشكال على السيرة باحتمال كونها ناشئة عن عدم المبالاة في الدين موهون.

كوهن الاشكال على إطلاق السيرة ـ كما في المتن ـ بأنّها مختلفة باختلاف عمر الصبي ، وموضوعات معاملاته. إذ فيه أنّ هذا الاختلاف ليس للبناء على عدم الجواز ، بل للاحتياط في حفظ المال ، والتحذر من الانخداع الموجب للوقوع في الغبن ، ولذا اختلفت السيرة في توكيل البالغين أيضا في المعاملات ، فربّ شخص يكون ماهرا في معاملات الأراضي دون غيرها ، فيوكّلونه فيها ، ولا يوكّلونه في شراء الحيوانات مثلا ، وهكذا. ومن المعلوم أنّ منشأ هذا الاختلاف هو التحفظ على الأموال ، وإلّا فلا إشكال في جواز توكيل دلّال الحيوانات في شراء الأراضي وبالعكس.

ودعوى : أنّ ما عليه السيرة هو المعاطاة التي يكفي فيها الإذن بالتصرف والرضا به. أو : «أنّ ذلك من إذن الولي في تولّي البالغ لطرفي العقد» غير مسموعة ، لعدم برهان عليها.

٩٢

.................................................................................................

__________________

مضافا إلى : أنّ الدعوى الثانية لا مجال لها مع عدم بلوغ الطرفين.

فعليه لا يبعد القول بصحة عقد الصبي إذا كان بإذن الولي كما هو خيرة جماعة منهم المحقق الأردبيلي ، وقبله الفخر في الإيضاح على ما حكى عنهما ، واختاره في إجارة الشرائع وتردّد فيه ، واختاره في عاريتها (١) وحكي عن جماعة.

فتلخص من جميع ما ذكرناه أمور :

الأوّل : عدم جواز تصرّف الصبي في أمواله مستقلّا مع إذن الوليّ ، لأنّه لا يجوز للولي أن يدفع مال الصبي إليه ويأذن له في البيع والشراء وأمثالهما ، لأنّ جواز ذلك قد أنيط ببلوغه ورشده ، فهو محجور عليه في التصرف في أمواله ، ولا يرتفع الحجر إلّا بالبلوغ والرشد ، خلافا للمحقق الإيرواني قدس‌سره استنادا إلى أن البلوغ اعتبر أمارة على الرشد من دون موضوعية له ، فالصبي إذا كان رشيدا جاز دفع ماله إليه ، وتصرفه فيه بالاستقلال.

ولا بأس بنقل عبارته ، وهي هذه «لا يبعد استفادة كون المدار في صحة معاملات الصبي على الرشد من الآية (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) على أن تكون الجملة الأخيرة استدراكا عن صدر الآية ، وأنّه مع استيناس الرشد لا يتوقف في دفع المال ولا ينتظر البلوغ ، وأنّ اعتبار البلوغ طريقي اعتبر أمارة إلى الرشد ، بلا موضوعية له» (٢). بدعوى : أنّ الابتلاء ـ وهو الاختبار ـ إنّما يكون قبل البلوغ ، وهذا الاختبار يحصل بدفع شي‌ء من مال الصبي إليه ليتصرف فيه ، ومقتضى إطلاقه جواز تصرفه مستقلّا ، هذا.

لكن فيه : أنّ اختبار الصبي لا يتوقف على دفع ماله إليه ليستقل بالتصرف فيه ، لإمكان الاختبار بمباشرة الصبي للبيع والشراء بنظارة الولي أو المنصوب من قبله ، أو

__________________

(١) تقدمت كلماتهم في ص ١٩ ، فراجع.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٧.

٩٣

.................................................................................................

__________________

بمباشرة الصبي لمقدمات المعاملة حتى يتصدّى الولي لإيقاعها.

والحاصل : أنّه لا يجوز للصبي أن يتصرف في أمواله حتّى مع إذن الولي ، بحيث يرتفع الحجر عنه بإذن الولي.

الأمر الثاني : أنّه يصح مباشرة الصبي للعقد والإيقاع في أمواله بإذن الولي ، وكذا يصح أن يكون وكيلا من الولي في ذلك. والوجه في ذلك : أنّ النهي تعلّق بدفع مال اليتيم إليه لأن يكون هو المتصرف بالاستقلال ، فلا يعمّ مباشرة الصبي لإنشاء عقد أو إيقاع في ماله بإذن الولي.

ودعوى : «كون الصبي مسلوب العبارة ، لما دلّ من النصوص على عدم نفوذ أمره ، وعلى رفع القلم عنه ، وعلى كون عمده وخطائه واحدا» غير مسموعة ، لما مرّ سابقا من عدم دلالة شي‌ء منها على ذلك ، فراجع.

الأمر الثالث : أنّه يجوز أن يكون الصبي وكيلا عن غير الولي في العقد والإيقاع بالاستقلال بدون إذن الولي ، وذلك للعمومات والإطلاقات ، وعدم دليل على التخصيص أو التقييد ، لأنّ الآية الشريفة تدلّ على المنع عن تصرفات اليتامى في أموالهم لا أموال غيرهم. فالمانع عن تصرفاته في مال غيرهم إمّا عدم القول بالفصل بين التصرف في مال نفسه والتصرف في مال غيره ، وإمّا الروايات المتقدمة الدالة على عدم نفوذ أمر الصبي قبل البلوغ.

أمّا الأوّل فعهدته على مدّعيه.

وأما الثاني فقد تقدم عدم دلالته على بطلان توكيله.

الأمر الرابع : أنّ القائلين بصحة معاملات الصبي ـ بهذا العنوان ـ بين من يقول بصحتها من غير خروجها عن عنوانها تمسّكا بالسيرة وغيرها من الأدلة التعبدية ، فبيع الصبي مع كونه بيع الصبي صحيح. إمّا مطلقا ، لعدم اشتراط البلوغ فيه كما حكي عن

٩٤

.................................................................................................

__________________

القاضي. وإمّا في نوع منه ، فيكون مستثنى عن عنوان مطلق البيع الذي ثبت فيه اشتراط البلوغ.

وبين من يقول بصحة نوع من معاملة الصبي تطبيقا له على القاعدة ، بإدراجه في عنوان يقتضي الصحّة ، وقد وقع هذا على وجوه :

أحدها : ما ذكره صاحب مفتاح الكرامة وبعض من : عدم اشتراط شروط عقد البيع وغيره من العقود في المعاطاة ، لأنّها معاملة مستقلة كما ذهب إليه الشهيد رحمه‌الله ، فلا يعتبر فيها شروط عقد البيع ، بل قد قامت السيرة على صحّتها وإن لم تجمع شروط العقود. خلافا للمحقق الأردبيلي قدس‌سره حيث اعتبر شروط العقود في المعاطاة أيضا.

ثانيها : ما يحتمله صدر عبارة كشف الغطاء المذكورة ، وحاصله : أنّ وليّ الطفل الذي أجلسه مقام نفسه أباح لمن يشتري من الطفل ماله بعوض ، وجلوس الطفل أمارة على ذلك ، فإن أفاد القطع فهو ، وإلّا فلا أقلّ من إفادته للظن ، فالآخذ من الطفل يأخذ بظن أنّ المالك أباح له المال بعوض.

وهذا مبني على أن يكون المراد بالإباحة في صدر العبارة إباحة الأولياء ، أو يكون المراد بقوله : «حتى يظن أنّ ذلك من إذن الأولياء» حصول الظن من جلوسهم ، وتظاهرهم : «بأن إقامة الأولياء إيّاهم مقام أنفسهم» إذن منهم للآخذ في الأخذ. وهذا هو الذي أوضحه بعض المحققين بأنّه ينطبق على القاعدة من جهة دخول مثل ذلك في المعاطاة ، وأنّه يكفي فيها مجرّد وصول عوض كل من المالين إلى مالك الآخر ، كما في كوز الحمامي والموضع المعدّ لوضع فلوس السقّاء فيه ، فالصبي هنا بمنزلة كوز الحمّامي.

لكن الظاهر أنّ المراد بالإباحة هي الإباحة الشرعية ، وأن لفظة «ذلك» إشارة إلى قيامهم مقام الأولياء. وأنّ لفظة «من» نشوية ، فيصير المحصّل اعتبار معاملة المميّز بإذن الولي ، غاية الأمر أنّ الإذن هنا غير معلوم ، بل قامت عليه الأمارة الظنية.

٩٥

.................................................................................................

__________________

ثالثها : ما في ذيل كلام كاشف الغطاء رحمه‌الله من قوله : «ولو قيل بتملك الآخذ منهم لدلالة مأذونيّته في جميع التصرفات ، فيكون موجبا قابلا لم يكن بعيدا» (١) ومحصله : أنّ جلوس الطفل في ذلك المقام وتظاهره في المعاملات على رؤس الأشهاد أمارة على أنّ الآخذ من الطفل مأذون من طرف المالك الذي هو وليّ الطفل ، فيكون الآخذ موجبا من جهة ، وقابلا من أخرى. فإذا اشترى من الطفل كان موجبا على وجه الفرعية ، لتفرعه على إذن ولي الطفل ، وقابلا بالأصالة ، لكونه مشتريا لنفسه. ولو باع على الطفل كان الأمر بالعكس ، فكأنّ الآخذ وكيل عن المالك.

لكن في الجميع ما لا يخفى.

إذ في الأوّل : عدم الالتزام بكون المعاطاة معاملة مستقلة.

وفي الثاني أوّلا : أنّ تأثير الإباحة العامة بلا عوض ـ كالمضايف ـ في ترتيب آثار الملكية مما لم يقم عليه دليل ، وغاية ما يترتب على الإباحة المزبورة جواز التصرفات.

وثانيا : أنّ الثابت هو الإباحة مع العلم بالرضا ، فإنّه الذي استقرّت عليه السيرة ، دون الظن بالرضا.

وفي الثالث : أنّه ليس هناك إذن سابق مفيد للتوكيل. نعم الرّضا من المالك موجود ، لكنّه لا يكفي في التوكيل ، فيصير فضوليا ، والتصرف فيما اشتراه فضولا حرام إلّا بعد الإجازة اللفظية. ولذا لو علم رجل برضى صاحبه ببيع ماله فباعه لم يكن له التصرف في الثمن الذي يقبضه ، فإن تصرف فعل حراما.

بل قد يقال في رد هذا الوجه : بأنّ صيرورة القابض من الصبي موجبا قابلا بإذن وليه مخالفة للإجماع والسيرة أيضا ، إذ لا نجد ذلك لا في أنفسنا ولا في أنفس سائر المتعاملين مع الصبيان ، بل الثابت عند الجميع عدمه.

وكيف كان فالحق صحة معاملة المميّز بإذن الولي ، لعدم مسلوبية عبارته ، سواء تعلّقت بماله أم بمال الولي أم الأجنبي ، هذا.

__________________

(١) تقدم مصدره في ص ٧٧ ، فراجع.

٩٦

مسألة (١):

ومن جملة شرائط المتعاقدين قصدهما لمدلول العقد الذي يتلفظان به.

______________________________________________________

الشرط الثاني : القصد إلى المدلول

(١) تعرّض المصنف قدس‌سره في هذه المسألة لشرط آخر من شرائط المتعاقدين ، وهو قصد تحقق مضمون العقد في وعاء الاعتبار ، وينبغي الإشارة إلى أمرين قبل توضيح المتن :

الأوّل : أنّ دخل هذا القصد في العقد بمعنى كونه مقوّما لمفهومه ، بخلاف دخل البلوغ الذي اعتبره الشارع في المتعاقدين ، بحيث كان العقد العرفي صادقا على إنشاء الصبيين المميّزين. وسيأتي في قوله : «بل في تحقق مفهومه» المسامحة في جعل القصد شرطا.

الثاني : أنّ الإنشاء متقوم بقصود ثلاثة مقدمة على أمر رابع وهو الرضا بالمضمون وطيب النفس به ، وتلك القصود الثلاثة هي :

أوّلها : قصد اللفظ ، في قبال الغالط المتلفظ بكلمة سهوا بدل كلمة اخرى لسبق لسان ونحوه ، كأن يقول : «آجرت» مكان «بعت» مع كونه منشئا لتمليك عين لا منفعة ، لوضوح كون الإجارة غلطا في مقام إنشاء البيع ، لتغاير مفهوميهما.

ثانيها : قصد استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ، في قبال استعماله في معناه المجازي

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كما إذا تلفظ بالبيع وقصد بقوله : «بعت» معناه المجازي وهو الإجارة ، بناء على صحة إنشاء الإجارة بلفظ «بيع المنفعة بعوض».

ثالثها : الإرادة الجدية إلى تحقق مضمون العقد ، بعد تعلق إرادته بكلّ من اللفظ واستعماله في معناه الموضوع له أو المتفاهم منه عرفا. واعتبار هذا القصد الجدّي يكون في قبال استعمال الصيغ الإنشائية بدواع أخر كالسخرية والمزاح وأشباههما ، نظير استعمال صيغة الأمر فيما عدا الطلب ، كالتهديد والتعجيز والامتحان ونحوها مما ذكروه في الأصول.

والوجه في اعتبار هذه القصود الثلاثة واضح ، فإنّ العقود تابعة للقصود ، فلا بد من كون الإنشاء بداعي حصول المضمون الاعتباري. وقد نفى المصنف قدس‌سره الخلاف والاشكال في اعتبار ما نحن فيه وهو الإرادة الجدية المتأخرة عن القصدين الأوّلين ، وهو كما أفاده.

فإن قلت : المناسب للتنبيه على اعتبار القصد الجدّي هو المقدمة الباحثة عن ألفاظ العقود ، إذ كما يبحث فيها عن شرائط الصيغة من الماضوية والعربية والدلالة الوضعية ونحوها ، فكذا ينبغي التنبيه على اعتبار كون الداعي إلى استعمالها هو تحقق مفادها في وعاء الاعتبار ، بأن يقصد التسبب بصيغة «بعت» إلى مبادلة عين بعوض. فما الوجه في عدّ القصد الجدّي إلى مضمون العقد من شرائط المتعاقدين ، وعدم جعله من شرائط الصيغة؟

قلت : فرق بين الإرادة الاستعمالية والجدية ، والأمور المعتبرة في الصيغة مقوّمة للبيع الإنشائي ، أي استعمال اللفظ ـ المنشأ به العقد ـ في معناه ، ومن المعلوم اعتبار القصد إلى المعنى في الاستعمال الإنشائي ، فلو كان مادة «البيع» حقيقة في تمليك عين بعوض ، ومجازا في تمليك المنفعة ، كان اعتبار الدلالة الوضعية في الإنشاء متضمنا لاعتبار الإرادة الاستعمالية ، بأن يكون المنشئ مريدا للمعنى الحقيقي دون المجازي ، وهو تمليك المنفعة.

٩٨

واشتراط القصد بهذا المعنى (١) في صحة العقد ـ بل في تحقق مفهومه (٢) ـ مما (٣) لا خلاف فيه ولا إشكال.

______________________________________________________

وأمّا الإرادة الجدّية فهي أمر آخر وراء شرائط الصيغة ، فإنّ الاستعمال ـ سواء أكان إفناء اللفظ في المعنى أم غيره ـ يتحقق بمجرّد استعمال «بعت» في حصّة خاصة من طبيعي التمليك وهي «مبادلة عين بمال» مثلا. ولكن هذا المقدار غير كاف في تحقق البيع بالحمل الشائع ، وذلك لأنّ هذا الاستعمال يمكن أن يكون بداعي الجدّ ، فيتسبب به الى التمليك الاعتباري ، ويمكن أن يكون بدواع أخر كالهزل والمزاح. ومن المعلوم أن البيع متقوّم بقصد تحقق المبادلة في إضافة الملكية ، وهذا القصد لا بد من تحققه من المتعاقدين في مقام الإنشاء ، وهو أمر زائد على الإرادة الاستعمالية القائمة بالصيغة. ولذا يعتبر القصد الجدي في غير العقد اللفظي أيضا ـ كما عرفت ـ كالمعاطاة العارية عن الصيغة وشؤونها ، ولكن شرائط الصيغة مختصة بالعقد اللفظي.

وبهذا ظهر الفرق بين الإرادتين الاستعمالية والجدية ، وأنّ الاولى من شؤون الصيغة ، دون الثانية التي هي من شرائط المتعاقدين ، كما جعلوها منها.

إذا اتّضح هذان الأمران قلنا : إنّ المصنف قدس‌سره تعرّض في هذه المسألة لشرطية القصد الجدّي ، ثم عطف عنان البحث إلى كلام المحقق التستري في المقابس ، وسيأتي.

(١) أي : بمعنى القصد الجدّي لمدلول العقد الذي يتلفظان به.

(٢) أي : في تحقق مفهوم العقد ، والوجه في الإضراب ـ عن الاشتراط في الصحة وترتيب الأثر شرعا ـ إلى الدخل في المفهوم العرفي هو : أن «الشرط» إنّما يطلق على الأمر الخارج عن حقيقة المشروط كالصيغة الخاصة لو قيل باعتبارها شرعا ، ولا يطلق الشرط على ما يقوّم المفهوم والعنوان عرفا ، ومن المعلوم أنّ القصد الجدّي لمدلول العقد دخيل في حقيقته ، لتبعية العقود للقصود ، وعليه فالتعبير بالشرط مبني على المسامحة.

(٣) خبر قوله : «واشتراط القصد» يعني : أنّ هذا الشرط من مسلّمات الفقه.

٩٩

فلا يقع (١) من دون قصد إلى اللفظ كما في الغالط (٢) أو إلى المعنى ـ لا بمعنى عدم استعمال اللفظ فيه ـ بل بمعنى عدم تعلق إرادته وإن أوجد مدلوله بالإنشاء كما في الأمر الصوري (٣) ، فهو شبيه الكذب في الإخبار كما في الهازل. أو قصد (٤) معنى يغاير مدلول العقد ، بأن قصد الإخبار أو الاستفهام ، أو إنشاء معنى غير البيع مجازا أو غلطا (٥) ، فلا (٦) يقع البيع ، لعدم القصد إليه ، ولا المقصود (٧) ، إذا اشترط فيه عبارة خاصة.

______________________________________________________

(١) أي : فلا يقع البيع ، وهذا متفرع على اعتبار قصدهما لمدلول العقد ، ضرورة أنّ القصد الجدّي ـ أي إنشاء مدلول العقد ـ منوط بقصد اللفظ ومعناه ، وإيجاد مدلول اللفظ في وعاء الاعتبار.

(٢) كأن يقول : «آجرت» بدل «بعت» غلطا.

(٣) فإنّ الأمر الصوري فاقد للقصد الجدي ، وإلّا فقصد اللفظ والمعنى والإنشاء موجود فيه ، والمفقود فيه الإرادة الجدية بمعنى عدم كون الإنشاء بداعي الجدّ ، بل بدواع أخر كالسخريّة والتعجيز والتهديد.

(٤) معطوف على «عدم» في قوله : «بل بمعنى عدم تعلق إرادته» يعني : عدم القصد إلى المعنى تارة يكون بعدم الإرادة الجدية وكون الإنشاء صوريا ، واخرى بقصد معنى يغاير مدلول العقد ، كما إذا قصد الحكاية بقوله : «بعت».

(٥) هذا الغلط غير الغلط السابق ، لأنّ ذلك في التلفظ بكلمة بدل كلمة ، كالتلفّظ بلفظ «آجرت» بدل «بعت». وهذا في استعمال اللفظ في غير ما وضع له بدون علاقة. كاستعمال لفظ الحمار مثلا في الجدار.

(٦) متفرع على إنشاء معنى غير البيع مجازا أو غلطا.

(٧) لعدم صحة إنشائه إلّا بلفظ خاص ، فلو كان المقصود البيع وأنشأه بغير لفظ البيع لا يقع شي‌ء من الإجارة والبيع ، لعدم قصد الإجارة ، وعدم لفظ خاص معتبر في إنشاء البيع. فلا تقع الإجارة ، لعدم قصدها ، ولا البيع ، لعدم إنشائه باللفظ المجعول آلة لإنشائه.

١٠٠