هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

الشرعي عليها القصد ، بحيث لا عبرة بها (١) إذا وقعت بغير القصد ، فما (٢) يصدر منها عن الصبي قصدا بمنزلة (٣) الصادر عن غيره بلا قصد ، فعقد (٤) الصبي وإيقاعه مع القصد كعقد الهازل والغالط والخاطي وإيقاعاتهم.

بل (٥) يمكن بملاحظة بعض ما ورد من هذه الأخبار في قتل المجنون والصبي استظهار المطلب من حديث رفع القلم ، وهو ما عن قرب الاسناد بسنده عن أبي البختري : «عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام : انّه كان يقول : المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ عمدهما خطأ يحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم» (١).

______________________________________________________

(١) أي : بالأفعال ، والمراد بها المعاملات. وقوله : «القصد» نائب فاعل : «يعتبر».

(٢) جواب الشرط المستفاد من قوله : «فكل حكم» مثل قولك : كلّ من يزورني فله درهم.

(٣) خبر قوله : «فما يصدر».

(٤) هذا متفرّع على عموم إلغاء قصد الصبي ، وعدم موضوعيّته لحكم شرعي.

(٥) هذا إضراب عن قوله : «ويمكن أن يستأنس له» وغرضه أنّ ما ورد من «أن عمد الصبي خطأ» ليس مجرّد استيناس للحكم بسلب عبارة الصبي ، بل بملاحظة رواية أبي البختري يمكن استظهار الحكم ـ وهو إلغاء قصد الصبي مطلقا ، لا في خصوص باب الجنايات ـ من قوله عليه‌السلام : «عمد الصبي خطأ».

وتقريب الاستظهار : أنّ رواية أبي البختري تكفّلت مطالب ثلاثة : أوّلها : أن جناية المعتوه والصبي بالقتل العمدي تكون بمنزلة جنايتهما خطأ ، فلا مجال للاقتصاص منهما ، الذي هو حكم ارتكاب القتل العمدي من البالغ.

ثانيهما : أنّ الدية تستقر على عاقلتهما ، ولا تخرج من مال المعتوه والصبي ، وهذا حكم الخطأ المحض ، وإلّا فالدية في الجناية شبه العمد تكون في مال الجاني.

ثالثها : رفع القلم عن المعتوه والصبي.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٦٦ ، الباب ٣٦ من أبواب قصاص النفس ، ح ٢.

٤١

فإنّ (١) ذكر «رفع القلم» في الذيل ليس له وجه ارتباط إلّا (٢) بأن تكون علّة لأصل الحكم وهو ثبوت الدية على العاقلة ، أو بأن تكون معلولة لقوله :

______________________________________________________

وبما أنّ قوله عليه‌السلام : «وقد رفع عنهما القلم» ليست جملة مستأنفة ، بل هي مرتبطة بكون الدية على العاقلة ، فلا بد من استكشاف وجه الربط ، وهو أحد أمرين.

فإمّا أن يكون رفع القلم علّة لوجوب الدية على العاقلة ، ومعناه : أنّ رفع قلم المؤاخذة الدنيوية ـ سواء المالية كالدية والنفسية كالقصاص ـ عن المعتوه والصبي كارتفاع المؤاخذة الأخروية صار منشأ لوجوب الدية على العاقلة.

وإمّا أن يكون رفع القلم معلولا لتنزيل الشارع عمد المعتوه والصبي منزلة خطأهما ، ومعناه حينئذ : أنّ عمدهما لمّا كان في وعاء التشريع بمنزلة الخطأ وقصدهما كلا قصد ، فلذا ارتفعت المؤاخذة الأخروية والدنيوية ـ من القصاص والغرامة الماليّة ـ عنهما شرعا.

وهذان الاحتمالان يشتركان في نفي موضوعية إنشاء الصبي للأثر ، ويفترقان في ضمانه بالإتلاف.

أمّا الجهة المشتركة فلأنّ الإنشاء أمر قصدي ، ولا يتحقق بدونه ، ولذا لا يترتب أثر على إنشاء الهازل والنائم والغالط ونحوهم ممّن لا يكون داعيه إلى الإنشاء تحقق الأمر الاعتباري في وعاء الاعتبار كالملكيّة والزوجيّة والحريّة.

ولا فرق في لغويّة إنشاء الصبي بين كونه لأجل تنزيل قصده منزلة عدم القصد ، وبين رفع قلم المؤاخذة عنه شرعا. كما لا فرق بين كونه مستقلّا في التصرف في ماله ، وبين كونه وكيلا عن الغير أو مأذونا عن وليّه.

وأمّا الجهة الفارقة ـ وهي الضمان بالإتلاف بناء على المعلوليّة ، وعدمه بناء على العلّيّة ـ فسيأتي توضيحها في ص ١٤٦.

(١) هذا تقريب استظهار سلب عبارة الصبي من رواية أبي البختري ، وقد عرفته آنفا.

(٢) وجه الحصر في العلية والمعلولية عدم تطرّق احتمال آخر ككون الجملتين متلازمتين ، أو كونهما معلولي أمر ثالث.

٤٢

«عمدهما خطاء» يعني : (١) أنّه لمّا كان قصدهما بمنزلة العدم في نظر الشارع وفي الواقع رفع القلم عنهما.

ولا يخفى أنّ (٢) ارتباطها بالكلام على وجه العليّة والمعلولية للحكم المذكور في الرواية ـ أعني : عدم مؤاخذة الصبي والمجنون بمقتضى جناية العمد ، وهو القصاص ، ولا بمقتضى شبه العمد وهو الدية في مالهما ـ لا يستقيم (٣) إلّا بأن يراد من رفع القلم ارتفاع المؤاخذة عنهما شرعا من حيث العقوبة الأخروية (٤) والدنيوية (٥) المتعلقة بالنفس كالقصاص أو المال كغرامة الدية. وعدم (٦) ترتّب ذلك على أفعالهما المقصودة المتعمّد إليها ممّا لو وقع من

______________________________________________________

(١) هذا تقريب معلوليّة رفع القلم ، وعليّة تنزيل عمدهما منزلة خطائهما.

(٢) غرضه من هذه الجملة أنّ ربط جملة «عمدهما خطأ» بجملة «رفع القلم» بالعلية أو المعلولية منوط بكون المرفوع قلم المؤاخذة مطلقا ـ كما هو مورد الرواية ـ لا قلم الأحكام التكليفيّة خاصّة ، إذ بناء عليه تكون المؤاخذة الدنيوية ـ وهي الغرامة الماليّة بأداء الدية ـ في مالي المعتوه والصبي ، مع أنّ الرواية صريحة في كون الدية على العاقلة ، وهذا يتوقّف على كون المرفوع عنهما مطلق المؤاخذة حتى الدنيويّة ولو الماليّة.

(٣) خبر قوله : «أنّ ارتباطها» وقد عرفت تقريب عدم الاستقامة إلّا برفع المؤاخذة.

(٤) فالعقوبة الأخرويّة لمن قتل مؤمنا عمدا هو الخلود في العذاب ، وهذه مرفوعة عن قتل الصبي والمجنون عمدا.

(٥) وهي إحدى ثلاث ، فإمّا في النفس وإمّا في الطرف ـ بالقصاص في حق البالغ القاتل أو الجارح عمدا ـ وإمّا في المال بأداء الدية في الجناية شبه العمد.

(٦) بالرفع معطوف على «ارتفاع المؤاخذة» والمراد ب «ذلك» هو المؤاخذة ، والتذكير بلحاظ قوله : «للحكم المذكور».

٤٣

غيرهما (١) مع القصد والتعمد لترتب عليه غرامة أخروية أو دنيوية.

وعلى هذا (٢) فإذا التزم على نفسه مالا بإقرار (٣) أو معاوضة (٤) ولو (٥) بإذن الولي فلا (٦) أثر له في إلزامه بالمال ومؤاخذته به ولو (٧) بعد البلوغ ، فإذا (٨)

______________________________________________________

(١) أي : غير الصبي والمجنون ، والمراد بالغير هو البالغ العاقل.

(٢) المشار إليه هو رفع المؤاخذة عن أفعال المعتوه والصبي المقصودة المتعمّد إليها. وغرضه قدس‌سره من هذا التفريع إلغاء إقرارهما وإنشائهما عن الأثر ، فلو أقرّ الصبي المميّز بمال على ذمّته لم يؤاخذ به مطلقا ولو بعد بلوغه ، سواء أكان بإذن وليّه أم لا. والوجه فيه ما استفيد من الحديث من سلب قصده ، والمفروض أنّ الإقرار والمعاملات أمور قصديّة.

وليس الوجه في إلغاء إقراره المزبور كونه محجورا عن التصرف ، إذ بناء عليه يلزم مؤاخذته بإقراره لو كان بإذن الولي ، مع أنّ الحديث دال على سلب قصد الصبي مطلقا حتى بإذن وليّه.

(٣) كما لو قال : «لزيد عليّ دينار» فهو إخبار باشتغال ذمّته بدينار لزيد.

(٤) كما لو أنشأ القبول بقوله : «اشتريت هذا بدينار في ذمّتي».

(٥) وصليّة ، وهذا تصريح بإطلاق سلب الأثر عن التزام الصبي مالا على ذمته. وكان الأولى تأخيره عن قوله : «فلا أثر له».

(٦) جواب «فإذا التزم» أي : ليس التزام الصبي مؤثّرا في إلزامه بالمال في الحكم باشتغال ذمته به.

(٧) وصلية ، وهذا تصريح بإطلاق سلب مؤاخذة الصبي بالمال ، فلا يؤاخذ به حتى بعد بلوغه.

(٨) هذا وجه عدم إلزام الصبي بما التزم به على نفسه بإقرار أو معاوضة. ومحصّله كما تقدم آنفا هو كون قصده تكوينا خطأ تشريعا ، وليس الوجه فيه مجرّد حجره عن التصرف في ماله ، لما عرفت من ارتفاع الحجر عنه بإذن وليّه ، فيلزم نفوذ

٤٤

لم يلزمه شي‌ء بالتزاماته ـ ولو كانت بإذن الولي ـ فليس (١) ذلك إلّا لسلب قصده وعدم العبرة بإنشائه ، إذ لو كان ذلك لأجل عدم استقلاله وحجره عن الالتزامات على نفسه لم يكن (٢) عدم المؤاخذة شاملا لصورة إذن الولي. وقد فرضنا الحكم (٣) مطلقا (٤) ، فيدل (٥) بالالتزام على كون قصده في إنشاءاته وإخباراته مسلوب الأثر.

ثمّ (٦) إنّ مقتضى عموم هذه الفقرة

______________________________________________________

إقراره وتصرفه لو أذن له وليّه ، مع أنّ الظاهر سقوط إنشاءاته وإخباراته عن الاعتبار مطلقا ولو كانت بإذن وليّه ، وهذا السقوط كاشف عن أنّ الدليل عليه هو سلب عبارته وكون قصده كلا قصد.

(١) جواب قوله : «فإذا لم يلزمه».

(٢) جواب قوله : «لو كان ذلك».

(٣) يعني : الحكم بعدم مؤاخذة الصبي بإقراره ومعاوضته.

(٤) أي : حتّى في صورة إذن الوليّ.

(٥) يعني : فيدلّ رفع قلم المؤاخذة عن الصبي ـ بالالتزام ـ على سلب الأثر عن قصده. وعليه فدلالة «رفع القلم عن الصبي» على سلب العبارة وإن لم تكن بالمطابقة ، لكنها تكون بالالتزام ـ إذ لو كان قصده كقصد البالغ العاقل موضوعا للأثر جازت مؤاخذته به ـ ومن المعلوم كفاية الدلالة الالتزاميّة في مقام الاستدلال.

هذا كله في أصل دلالة رواية أبي البختري على دعوى المشهور من سلب عبارة الصبي ، ويتفرّع عليها أمران نبّه عليهما المصنف قدس‌سره.

(٦) هذا هو الأمر الأوّل ، وحاصله : أنّ جملة «وقد رفع عنهما القلم» إمّا علة للحكم باستقرار الدية على العاقلة ، وإمّا معلولة لتنزيل العمد منزلة الخطأ.

فإن كانت الجملة علّة اقتضت عدم مؤاخذة الصبي والمعتوه بشي‌ء من الأفعال

٤٥

ـ بناء (١) على كونها علّة للحكم ـ عدم (٢) مؤاخذتهما بالإتلاف الحاصل منهما ،

______________________________________________________

سواء صدرت عنهما عمدا أم خطأ ، فلو أتلفا مالا محترما لم يضمناه ، لفرض رفع قلم المؤاخذة عنهما مطلقا. وضمان المتلف مؤاخذة ، فهي مرفوعة عنهما.

فإن قلت : لا ريب في كون الإتلاف مضمّنا مطلقا حتى في حال الغفلة والنوم ، وحيث إنّ «رفع القلم» من العمومات الشرعية القابلة للتخصيص فلذا يخصّص بما دلّ على الضمان بالتضييع والإتلاف ، ولا إشكال ، هذا.

قلت : عموم «رفع القلم» وإن كان شرعيا ، لكنّه آب عن التخصيص ، لوروده مورد الامتنان على المعتوه والصبي ، وهو يقتضي رفع كلّ مؤاخذة عنهما سواء أكانت في النفس أم في الطرف أم في المال. وعليه فإشكال الضمان بالإتلاف باق بناء على العلية.

وإن كانت الجملة معلولة لقوله عليه‌السلام : «عمدهما خطأ» لم يلزم إشكال أصلا ، لاختصاص المؤاخذة المرفوعة عنهما بما إذا ترتبت على خصوص فعل البالغ العمدي حتى يترتب عليه حكم فعله الخطائي ، وحيث إن ضمان البالغ بالإتلاف مطلق ويثبت لحال خطائه أيضا ، فلذا يخرج هذا الضمان عن مورد قوله عليه‌السلام : «وقد رفع عنهما القلم» لتبعية المعلول لعلّته سعة وضيقا ، ولمّا كان الضمان بالإتلاف خارجا عن العلّة موضوعا امتنع أن يكون مشمولا للمعلول ، وهو رفع القلم.

فالمتحصل : أنّ دلالة جملة «عمد الصبي خطأ» على سلب عبارته وإلغاء إنشائه وإخباره عن الأثر تامّة ، ولا يقدح فيها ضمانه بالإتلاف مطلقا على تقدير عليّة «رفع القلم» لوجوب الدية على العاقلة.

(١) وأمّا بناء على كون «رفع القلم» معلولا لقوله : «عمد الصبي خطأ» فقد عرفت خروج ضمان الإتلاف تخصّصا عن العلّة. فالإشكال إنّما يتجه لو كان رفع القلم علّة لاستقرار دية الجناية على العاقلة ، كما عرفت توضيحه آنفا.

(٢) خبر «ان مقتضى» وضميرا «مؤاخذتهما ، منهما» راجعان إلى المعتوه والصبي.

٤٦

كما هو ظاهر المحكي عن بعض ، إلّا أن يلتزم (١) بخروج ذلك عن عموم رفع القلم. ولا يخلو من بعد (٢).

ولكن (٣) هذا غير وارد على الاستدلال ، لأنّه (٤) ليس مبنيّا على كون «رفع القلم» علّة للحكم ، لما (٥) عرفت من احتمال كونه معلولا لسلب اعتبار قصد الصبي والمجنون ، فيختص (٦) رفع قلم المؤاخذة بالأفعال الّتي يعتبر في المؤاخذة عليها قصد الفاعل ، فيخرج مثل الإتلاف (٧) ،

______________________________________________________

(١) أي : إلّا أن يلتزم بخروج إتلاف الصبي والمجنون عن عموم رفع القلم تخصيصا.

(٢) لأنّ سوقه آب عن التخصيص بعد وروده في مقام الامتنان.

(٣) يعني : أنّ إشكال ضمانهما بالإتلاف وإن كان لازما بناء على علّية رفع القلم ، إلّا أنّ الاستدلال بحديث أبي البختري على سلب عبارة الصبي سليم عن الإيراد ، إذ ليس الاستدلال منوطا بعلية رفع القلم ، بل المهمّ ظهور جملة «عمد الصبي خطأ» في إلغاء أفعاله وأقواله القصدية. ويكفي احتمال معلولية «رفع القلم» لتنزيل عمده منزلة خطأ البالغ شرعا ، ولا ينتقض بضمان الإتلاف أصلا ، كما أوضحناه قبل أسطر.

(٤) أي : لأنّ الاستدلال على سلب عبارة الصبي ليس مبنيا على خصوص علّية رفع القلم حتى يستشكل فيه بضمان الإتلاف. وجه عدم الابتناء ما عرفت من أنّ جملة «عمد الصبي خطأ» وافية بإسقاط أفعاله وأقواله عن الأثر ، سواء أكانت علّة لرفع القلم أم معلولة له.

(٥) تعليل لقوله : «ليس مبنيّا».

(٦) هذه نتيجة احتمال كون رفع القلم معلولا لجعل قصد الصبي بمنزلة العدم.

(٧) خروجا موضوعيا ، بأحد وجهين :

الأوّل : أنّ حديث الرفع ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ ينفي الآثار الثابتة للأفعال التي يعتبر فيها قصد الفاعلين ، فيخرج مثل الإتلاف الذي لا يعتبر القصد في

٤٧

فافهم واغتنم (١).

ثم إنّ (٢) القلم المرفوع هو قلم المؤاخذة الموضوع

______________________________________________________

سببيته للضمان ، لأنّ ذات الإتلاف مع الغضّ عن العمد سبب الضمان ، ولذا يترتب على إتلاف فاقد العقل كالمجنون ، وعلى فعل النائم الذي لا يشعر بما يفعله.

فسببيّة الإتلاف نظير نواقض الوضوء ، فإنّ ناقضية البول مثلا للوضوء غير منوطة بالقصد والاختيار ، فلا ترتفع بحديث رفع القلم عن الثلاثة.

الثاني : أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان على الأمّة الذين هم على السّواء بنظر الشارع ، فرفع قلم الضمان عن إتلاف الصبي وإن كان منّة عليه قطعا ، إلّا أنّه خلاف الامتنان على الكبير الذي تلف ماله ، ومن المعلوم أنّه لا ترجيح للصغير على الكبير حتى يقال بعدم سببيّة إتلاف الصبي للضمان.

وبهذا يقال أيضا بعدم شمول «رفع الخطأ» في مثل حديث رفع التسعة لإتلاف البالغ خطأ ، ضرورة استلزام عدم ضمانه خلاف الامتنان على المالك ، هذا.

(١) الأمر بالفهم والاغتنام إشارة ظاهرا إلى دقة المطلب وتمامية الاستدلال بالحديث على مسلك المشهور.

(٢) هذا إشارة إلى الأمر الثاني ، ومحصله : عدم التنافي بين كون المرفوع عن الصبي مطلق المؤاخذة المترتّبة على فعل البالغ ، وبين تشريع بعض التعزيرات عليه كإدماء أنامله وقطعها في السرقة المتكررة. وجه عدم التنافي : أنّ المؤاخذة المرفوعة عنه هي الثابتة في حق البالغين سواء أكانت دنيوية ـ بأن كانت في النفس كالقصاص أم في المال كالدية ـ أم أخروية. وهذا لا ينافي تأديبه ببعض العقوبات الدنيوية التي تخفّ عن عقوبة البالغ كمّا وكيفا.

قال شيخ الطائفة قدس‌سره : «ومتى سرق من ليس بكامل العقل بأن يكون مجنونا أو صبيّا لم يبلغ ـ وإن نقب وكسر القفل ـ لم يكن عليه قطع. فإن كان صبيا عفي عنه مرّة ، فإن عاد أدّب ، فإن عاد ثالثة حكّت أصابعه حتى تدمى ، فإن عاد قطعت أنامله ،

٤٨

على البالغين (١) ، فلا ينافي (٢) ثبوت بعض العقوبات للصبي كالتعزير (٣) (*).

______________________________________________________

فإن عاد بعد ذلك قطع أسفل من ذلك ، كما يقطع الرّجل سواء» (١). وقطع أصابعه في المرحلة الخامسة وإن كان عقوبة البالغ ، إلّا أنّه عقوبته في سرقته الاولى ، وهذا فارق بين تعزير الصبي وحدّ البالغ. وقال الشهيد الثاني قدس‌سره : «ومستند هذا القول أخبار كثيرة صحيحة ، وعليه الأكثر» (٢).

(١) وجهه تقييد الرفع بغاية البلوغ ، لقوله عليه‌السلام : «حتى يحتلم» ، فالمرفوع عن الصبي هو الثابت على البالغ.

(٢) ضمير الفاعل راجع إلى قلم المؤاخذة المرفوع.

(٣) يعني : بما يراه الامام من التأديب بما دون الحد الثابت على البالغ ، فيمكن ثبوته على الصبي.

__________________

(*) يقع الكلام في تحقيق رابع أدلة المشهور من الروايات المتضمنة لكون عمد الصبي وخطائه واحدا ، وهي على ثلاثة مضامين :

الأوّل : ما يدلّ على ذلك مطلقا من دون تقييد بشي‌ء ، كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : عمد الصبي وخطؤه واحد» (٣).

الثاني : ما يدلّ على ذلك مقيّدا بكون دية الجناية الصادرة عن الصبي خطأ على عاقلته ، كخبر إسحاق بن عمار «عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام انّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : عمد الصبيان خطأ تحمل على العاقلة» (٤).

__________________

(١) النهاية ونكتها ، ج ٣ ، ص ٣٢٥.

(٢) الروضة البهية ، ج ٩ ، ص ٢٢٢ ، وراجع أخبار الباب في الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٥٢٢ الى ٥٢٦ ، الباب ٢٨ من أبواب حد السرقة «باب حكم الصبيان إذا سرقوا».

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٣٠٧ ، الباب ١١ من أبواب العاقلة ، ح ٢.

(٤) المصدر ، ح ١.

٤٩

.................................................................................................

__________________

وعن علي عليه‌السلام : «ليس بين الصبيان قصاص عملهم خطأ يكون فيه العقل» (١).

وعن دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام : «انّه ما قتل المجنون المغلوب على عقله والصبي ، فعمدهما خطأ على عاقلتهما» (٢) وغير ذلك من الروايات.

الثالث : ما يدلّ على هذا الحكم مع قيد آخر ، وهو رفع القلم عن الصبي ، كرواية أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام : «أنّه كان يقول في المجنون المعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ : عمدهما خطأ تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم» (٣).

قد يقال : ان الطائفة الأولى تدلّ على عدم الاعتناء بأقوال الصبي وأفعاله ، وأنّ وجود ما يصدر عنه كالعدم ، في عدم ترتب أثر عليه ، فلا يترتب على عقود الصبي وإيقاعاته أثر وإن أذن له الولي أو أجازه ، لأنّها كالصادرة من البالغين نسيانا ، أو في حال النوم. فكأنّه قيل : عمد الصبي كالعدم ، وقصده كلا قصد.

ولا تنافي بين هذه الطائفة وبين الطائفتين الأخريين حتى يحمل المطلق على المقيّد ، ضرورة عدم التنافي بين كون عمد الصبي بمنزلة الخطاء في الجنايات ، وبين كون عمده بمنزلة الخطاء في غير موارد الجنايات ، فلا وجه لحمل المطلق على المقيّد.

هذا ملخص ما يقال في تقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات على سلب عبارة الصبي حتى مع إذن الوليّ كما نسب إلى المشهور.

لكن فيه أوّلا : القطع بعدم إمكان إرادة الإطلاق ، وإلّا يلزم تأسيس فقه جديد أو يلزم عدم مانعيّة مبطلات الصلاة ومفطرات الصوم ، فإذا أكل أو شرب عمدا وهو صائم ، أو أحدث كذلك وهو في الصلاة لزم عدم بطلان صومه وصلاته. وكذا لو زاد عمدا في صلاته ، أو سافر قاصدا لقطع المسافة ، فإنّه يلزم عدم بطلان صلاته في الأوّل ، وعدم

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٤١٨ ، الباب ٨ من أبواب العاقلة ، ح ٢.

(٢) المصدر ، ح ٤.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٦٦ ، الباب ٣٦ من أبواب القصاص في النفس ، ح ٢.

٥٠

.................................................................................................

__________________

ثبوت القصر في الثاني ، بل يلزم عدم مشروعية عبادات الصبي طرّا ، لأنّها قصدية ، والمفروض أنّ قصد الصبي كلا قصد على ما استظهره المستدل.

وثانيا : انّ الاستظهار المزبور منوط بأن تكون العبارة دالة على نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، «كلا ربا بين الوالد والولد» حتى يراد عدم ترتب حكم على عمد الصبي كعدمه على خطائه ، ويكون المراد أنّ قصده كلا قصد في عدم ترتب أثر عليه.

وليس الأمر كذلك ، لأنّ المقام من تنزيل أحد الأمرين الوجوديّين منزلة صاحبه ، وذلك يتوقف على وجود الأثر شرعا للمنزّل عليه ، فلا بد أن يكون للخطاء أثر حتى يصح تنزيل العمد منزلته ، كتنزيل الطواف منزلة الصلاة. ومن المعلوم أنّه لا مصداق لهذه الكبرى ، وهي كون عمد الصبي منزلة خطائه إلّا الجنايات ، لأنّ الجناية الصادرة منه عمدا بمنزلة الجناية الصادرة منه خطأ في كون الدية على العاقلة ، فيصح حينئذ تنزيل جناية الصبي عمدا منزلة جنايته خطأ في كون ديتها على العاقلة ، ولا مورد لهذا التنزيل في غير الجنايات.

لا يقال : إنّه قد ثبت أثر خاص لكل من العمد والخطاء في الصلاة ، وفي تروك الإحرام ، حيث إنّ ترك جزء من الصلاة عمدا موجب لبطلان الصلاة ، وتركه خطأ غير موجب له ، بل موجب لسجدة السهو إن لم يكن المتروك ركنا. والمحرم إذا صاد حيوانا عمدا وجبت عليه الكفارة زائدة على ما إذا صاده خطأ ، فلا تختص أخبار تنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ بالجنايات.

فإنه يقال : إنّ تنزيل عمد الصبي منزلة خطائه متقوم بأمرين :

أحدهما : ثبوت الأثر لكلّ من العمد والخطاء.

ثانيهما : كون أثر الخطاء ثابتا لغير الفاعل ، كما في الجناية الخطائية ، فإنّ أثرها ـ وهو الدية في جناية البالغ خطاء ـ ثابت على غير الجاني أعني العاقلة. ومن المعلوم أنّ مصداقه منحصر بباب الجنايات ، لفقدان الأمر الثاني ـ وهو ثبوت أثر الخطاء على غير

٥١

.................................................................................................

__________________

الفاعل ـ في الموارد المزبورة ، ضرورة أنّ حكم الخطاء فيها كوجوب سجدتي السهو ووجوب الكفارة الثابتين على المخطئ البالغ منتف عن الصبي بحديث الرفع ، وعلى فرض ثبوته على الصبي ليس ثابتا على العاقلة.

لكن عن المحقق النائيني قدس‌سره جريان الحديث أعنى عمد الصبي خطأ في كفارات الحج ، حيث إنّ ارتكاب محرمات الإحرام عمدا يوجب الكفارة ، دون ارتكابها خطأ إلّا الصيد. فلكلّ من العمد والخطاء أثر ، فلا يختص الحديث بالجنايات (١).

وفيه : أنّ عدم وجوب الكفارة في الخطأ إنّما هو لعدم الموضوع وهو العمد ، بخلاف الجنايات ، فإنّها على ثلاثة أقسام : العمدية والخطائية المحضة والشبيهة بالعمد.

فتلخص : أنّ الاستدلال بالمطلقات المتقدّمة لإثبات كون الصبي مسلوب العبارة في غير محله.

بقي الكلام فيما يستفاد من قوله عليه‌السلام في ذيل رواية أبي البختري : «عمدهما خطاء تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم» فانّ المصنف قدس‌سره استظهر من هذه الجملة دلالتها على كون الصبي مسلوب العبارة ، وأنّ عقده وإيقاعه مع القصد ليسا موضوعين للآثار الشرعية ، بل هما كعقد الخاطى والهازل وإيقاعهما ، فلا يختص ما دلّ على كون عمد الصبي خطاء بالجنايات.

وتقريب استظهاره : أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وقد رفع عنهما القلم» إمّا علة لثبوت الدية على العاقلة ، يعني : أنّ علة ثبوت الدية على العاقلة لا على نفس الصبي هي رفع القلم عنه إذ لو كان القلم موضوعا عليه كان نفس الصبي مطالبا بالدية. وإمّا معلول لقوله : «عمدهما خطأ» بمعنى أنّ علّة رفع القلم عن الصبي والمجنون هو كون قصدهما بمنزلة عدم القصد في نظر الشارع. فالرواية وإن كان موردها الجناية ، إلّا أنّ العبرة بعموم العلّة لا بخصوصية المورد ، فلا يعتد بشي‌ء من الأفعال والأقوال الصادرة من الصبي

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٧٣.

٥٢

.................................................................................................

__________________

والمجنون ، لأنّهما مسلوبا العبارة في وعاء التشريع ، فلا محذور في الأخذ بعموم العلة في سائر الموارد ، هذا.

لكن الظاهر عدم تمامية شي‌ء من التقريبين.

أمّا كونه علّة لثبوت الدية على العاقلة ، ففيه : عدم الملازمة بينهما فضلا عن العليّة. نعم ثبت في الشريعة المقدسة أنّ دم المسلم لا يذهب هدرا ، لكنه لا يلازم ثبوت الدية على العاقلة ، لإمكان أن تكون الدية على جميع المسلمين ، أو بيت المال ، أو غير ذلك.

وأمّا كونه معلولا لقوله : «عمده خطأ».

ففيه : ـ مضافا إلى عدم اقترانه بما يفيد العلية في مقام الإثبات كلفظة «لأنّ» أو «فان» ـ أنّه إن أريد كون العمد خطاء تكوينا فلا بأس بعليّته لرفع القلم ، لأنّه بعد فرض عدم صدور الفعل العمدي عن الصبي لا يصلح فعله لأن يكون موضوعا شرعا للأثر. لكن الأمر ليس كذلك ، لكونه كذبا.

فلا بد أن يكون عمده خطاء تنزيلا لا تكوينا ، بمعنى : أنّ الشارع نزّل عمد الصبي منزلة الخطاء ، بأن يراد من التنزيل نفي آثار العمد كالقصاص وشبه العمد كالدية الثابتة في مال الجاني خطأ ، وترتيب آثار الخطاء المحض بالنسبة إلى غير الفاعل. وذلك منحصر بالجنايات ، لأنّها هي التي تترتب على أقسامها الثلاثة ـ من العمد وشبهه والخطأ المحض ـ أحكام خاصة.

وإن شئت فقل : إنّ وجه المناسبة بين قوله عليه‌السلام : «رفع عنهما القلم» وبين قوله عليه‌السلام : «عمدهما خطاء» هو أنّ تنزيل عمد الصبي منزلة خطائه متقوم بأمرين :

أحدهما : حكم سلبي ، وهو عدم ترتب أحكام العمد ـ من القصاص والدية في ماله ـ على فعله ، وعدم إلزام الصبي بشي‌ء من أفعاله.

والآخر : حكم إيجابي ، وهو ترتب أحكام الفعل الخطائي على فعله في خصوص ما إذا كان متوجّها إلى الغير كالعاقلة ، لا إلى الصبي.

٥٣

.................................................................................................

__________________

والمتكفل لبيان الأمر الأوّل هو : «رفع القلم عن الصبي» ولبيان الأمر الثاني هو قوله : «تحمله العاقلة» وهذا معنى رفع القلم ، يعني : أنّ قلم التكاليف الإلزامية الثابتة للأفعال العمدية على البالغين مرفوع عن الصبي ، فعمد الصبي عمد تكوينا وخطاء تشريعا. فالقصاص مرفوع عن الجناية الصادرة عنه عمدا ، فرفع القلم عن الصبي متمم لقوله : «عمد الصبي خطاء» لا معلول له.

وعلى هذا فمفاد رواية أبي البختري موافق لما يستفاد من سائر الروايات المتضمنة لكون الصبي مرفوع القلم.

هذا مضافا الى ضعف سندها بأبي البختري الذي اسمه وهب بن وهب بن عبد الله بن رمعة بن الأسود ، لأنّه كان كذّابا عامي المذهب. فلا تكون الرواية حجة.

فتلخص من جميع ما تقدم : أنّه لا دليل على كون الصبي مسلوب العبارة ، بحيث لا يترتب على إنشاءاته العقدية والإيقاعية أثر أصلا ولو كانت بإذن الولي أو إجازته. مع أنّ الإذن والإجازة يوجبان إضافة ما أنشأه الصبي إلى الولي كعقد الفضولي.

ثمّ إنّ المصنف قدس‌سره أشار إلى فروع :

منها : مسألة إتلاف الصبي وسببيّته للضمان وعدمها ، فإنّه قد يتوهم عدم الضمان ، لأنّ عمد الصبي خطاء ، ولأنّ قلم التكليف مرفوع عنه حتى يحتلم.

لكن فساد هذا التوهم ظاهر. أمّا الأوّل فلأنّ تنزيل عمد الصبي منزلة خطائه إنّما هو في خصوص الأفعال التي لا تكون موضوعة للأحكام الشرعية ، إلّا إذا صدرت عن فاعليها بالقصد والاختيار ، فلو كان الحكم الشرعي مترتبا على نفس الفعل وإن صدر بلا قصد وعمد كالجنابة الموجبة للغسل وإن حصلت في النوم ، وكمباشرة النجاسات الموجبة لنجاسة البدن ، وإن كانت المباشرة بغير إرادة واختيار ، وكالإحداث الناقصة للطهارة ، فإنّها ناقصة لها وإن صدرت جهلا أو غفلة وبغير اختيار ، فإنّ موضوعية هذه الأمور لأحكامها لا تتوقف على صدورها عن قصد وعمد. ومن المعلوم أنّ الإتلاف من

٥٤

.................................................................................................

__________________

هذا القبيل ، إذ لم يؤخذ في قاعدته إلّا صدق الإتلاف المعلوم صدقه على الإتلاف العمدي وغيره.

هذا مضافا إلى ما تقدم من اختصاص الحديث بما إذا كان للفعل العمدي أثر كالجناية العمدية ، وللفعل الخطائي أثر آخر بالنسبة إلى غير الفاعل ، فيحكم على فعل الصبي حينئذ بحكم الخطاء ، ومن المعلوم أنّ الإتلاف لا يختلف حكمه بحسب العمد والخطاء ، فلا يكون الحديث شاملا للإتلاف ، كما لا يشمل كفارات الحج ، لأنّ عدم وجوب الكفارات على الصبي المرتكب لمحرّمات الإحرام إنّما هو من جهة انتفاء الموضوع وهو العمد ، فعدم ترتبها على الخطاء الصادر عن البالغ إنما هو لعدم تحقق العمد ، لا لأجل موضوعية الخطاء له كموضوعية الخطاء في باب الجنايات.

فما عن المحقق النائيني قدس‌سره «من التمسك بالحديث في كفارات الحج» مما لم يظهر له وجه ، لما عرفت من أنّ انتفاء الكفارات عن ارتكاب البالغ خطاء لمحظورات الإحرام إنّما هو لانتفاء موضوعها وهو العمد ، لا لأجل الخطاء كما لا يخفى.

وأمّا الثاني أعني : حديث رفع القلم ، فلأنّ المراد به كما مرّ آنفا رفع الأحكام الإلزامية عن الصبي. وهذا لا ينافي توجه الأحكام الإلزامية إليه بعد البلوغ ، لإمكان موضوعية فعل الصبي لأحكام إلزامية بعد بلوغه ، فإنّ جميع الإلزاميات مرفوعة عن الصبي ما دام صبيا ، فإذا بلغ توجّه إليه وجوب تدارك ما أتلفه في حال الصبا ، لأنّ الإتلاف بعنوانه موجب للضمان وإن كان المتلف صبيا. وليس الضمان من الأحكام الإلزامية حتى يرفع بحديث رفع القلم.

لا يقال : إن كان الإتلاف موضوعا لوجوب الأداء بعد البلوغ فليكن بيع الصبي أيضا واجب الوفاء بعد البلوغ.

فإنّه يقال : إنّ بيع الصبي غير نافذ بمقتضى رواية ابن سنان المتقدمة ، حيث إن نفوذ أمر الصبي أنيط فيها بالبلوغ ، فعقد غير البالغ لا أثر له ، هذا.

٥٥

.................................................................................................

__________________

ومنها : تعزيرات الصبي ، فإنّه لا إشكال في ثبوتها على الصبي. إنّما الكلام في أنّ خروجها عن حديث رفع القلم ونحوه هل هو بالتخصص أم التخصيص؟ قال المصنف قدس‌سره : «ثم إنّ القلم المرفوع هو قلم المؤاخذة الموضوع على البالغين ، فلا ينافي ثبوت بعض العقوبات للصبي كالتعزير» وحاصله : أنّ المراد بالقلم المرفوع عن الصبي هو رفع التكاليف الإلزامية الثابتة على البالغين ، فيكون خروج تعزيرات الصبي عن حديث «رفع القلم» موضوعيا ، لعدم ثبوت تلك التعزيرات في حق البالغين ، بل هي ثابتة في حق الصبيان لحكمة خاصّة ، وهي تأديبهم وصيانتهم عن الضلال.

ويحتمل أن يكون خروج تعزيرات الصبي عن رفع القلم بالتخصيص ، بأن يقال : إنّ رفع القلم يشمل كل حكم إلزامي ، وقد خرج عنه تعزيرات الصبي بنصوص خاصة.

والتحقيق أن يقال : إنّ التعزيرات الثابتة في الشريعة المقدسة إمّا أن يؤخذ في موضوعها البالغ ، وإمّا أن يؤخذ في موضوعها الصبي ، وإمّا أن لا يؤخذ شي‌ء منهما في موضوعها ، بأن كان موضوعها الطبيعي الجامع بين البالغ والصبي.

فإن كان موضوعها البالغ فهي ترتفع عن الصبي ، لعدم الموضوع ، فالخروج عن حديث رفع القلم موضوعي.

وإن كان موضوعها الطبيعي الجامع بين البالغ والصبي فالخروج حكمي.

وإن كان موضوعها الصبي فهي غير قابلة للرفع ، لأنّ مقتضي الشي‌ء لا يكون رافعا له ، فلا محالة يخصّص عموم رفع القلم بما دلّ على تلك التعزيرات على الصبي ، هذا.

ومنها : عدم العبرة بقبض الصبي وإقباضه وإقراره ونذره وإيجاره وضمانه وغيرها ممّا يعتبر فيه القصد ، فإنّ شيئا من تلك الأفعال لا يترتب عليه الأثر إذا صدر عن الصبي ، لأنّ قصده كلا قصد. وقد أيّده المصنف بما نقله عن التذكرة.

لكن يرد عليه ما تقدم من عدم دليل على سقوط فعل الصبي وقوله عن الاعتبار مطلقا حتى مع إذن الولي ، لأنّ دليل عدم جواز أمر الصبي لا يقتضي إلّا عدم جواز

٥٦

.................................................................................................

__________________

استقلاله في التصرّف في أمواله ، فكلّ ما لا يعدّ في العرف تصرفا في أمواله استقلالا لا مانع عن جوازه ، فيصح تحجيره وحيازته والتقاطه وصيده وإحياؤه الموات.

ودعوى «عدم جواز الأمور المذكورة ، لاعتبار القصد فيها ، والمفروض أنّ قضية عمد الصبي خطاء ، هي جعل قصده كالعدم ، فلا يترتب على قصده أثر ، فما يصدر عن الصبي من الأمور القصدية يكون كالعدم» غير مسموعة ، لما عرفت من عدم دلالة «عمد الصبي خطاء» على تنزيل قصد الصبي منزلة عدم القصد ، بل إنّما يدلّ على تنزيل العمد منزلة الخطاء الذي هو موضوع لأحكام ، وذلك يختص بباب الجنايات. ولا يدلّ على لغوية قصد الصبي وكونه كالعدم في الأمور الّتي يعتبر في ترتب الأثر عليها قصدها ، هذا.

مضافا إلى : أنّ اعتبار القصد في بعض الأمور المذكورة كالحيازة وإحياء الموات والالتقاط غير مسلّم ، بل إطلاق مثل «من حاز ملك» و «من أحيى أرضا ميتة فهي له» و «من سبق إلى ما لم يسبق إليه غيره فهو أولى به» ونحو ذلك يقتضي عدم اعتبار القصد فيها.

والحاصل : أنّ عدم ترتب الأثر على الأمور القصدية الصادرة عن الصبي متوقف على أمرين : الأوّل : اعتبار القصد فيها ، والثاني : سقوط قصد الصبي عن الاعتبار.

وقد عرفت عدم اعتبار الأوّل في بعض الأمور المذكورة وعدم سقوط قصد الصبي عن الاعتبار بحيث يعدّ كالمعدوم ، لعدم دلالة ما استدل به من مثل قولهم عليهم‌السلام : «عمد الصبي خطاء» على ذلك لما مرّ مفصّلا من أنّ مفاده تنزيل العمد منزلة الخطاء ، لا جعل قصده كالعدم.

وقد عرفت عدم تمامية الأمر الثاني ، و «أنّ عمد الصبي خطاء» من باب التنزيل ويختص بباب الجنايات ، ولا يشمل الأمور القصدية المزبورة ، فهي خارجة عن هذا التنزيل ، فلا يبقى إلّا ما ورد من «عدم جواز أمر الصبي إلى أن يبلغ» وقد مرّ سابقا أنّ المراد بعدم الجواز عدم الاستقلال ، فلا يشمل التصرف المقرون بإذن الولي

٥٧

.................................................................................................

__________________

أو إجازته.

هذا كله مع عدم كون بعض الأمور المزبورة كحيازة المباحات وإحياء الموات قصديّا على ما هو قضية إطلاق أدلتهما ، هذا.

ثم إنّ المستفاد من جملة من النصوص كون قبض الصبي مفيدا للملكية ، كحسنة أبي بصير «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يموت ويترك العيال ، أيعطون من الزكاة؟ قال : نعم ..» (١) الحديث. ورواية أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : ذرّيّة الرجل المسلم إذا مات يعطون من الزكاة والفطرة كما كان يعطى أبوهم حتى يبلغوا» (٢) الحديث. ومعتبرة يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن عليه‌السلام «قال : سألته عن رجل عليه كفارة عشرة مساكين ، أيعطي الصغار والكبار سواء ، والرجال والنساء ، أو يفضل الكبار على الصغار والرجال على النساء؟ فقال : كلّهم سواء» (٣) وكموثق يونس بن يعقوب : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عيال المسلمين أعطيهم من الزكاة ، فأشتري لهم منها ثيابا وطعاما ، وأرى أنّ ذلك خير لهم؟ قال : فقال لا بأس» (٤) فإنّ ظاهر هذه الروايات وغيرها هو مالكية الصبيان للزكاة والكفارة بمجرّد القبض.

هذا مضافا إلى : ما قيل من قيام السيرة على كون قبض الصبي مفيدا للملكية في الهبة وغيرها.

ثمّ إنّ الظاهر عدم خصوصية لزكاة المال والفطرة والكفارة ، فيتعدى إلى سائر الموارد ، ويحكم بمملّكية القبض في سائر المقامات المعتبر فيها القبض.

وهل تنفذ وصية الصبي أم لا؟ فيه خلاف ، فعن العلامة في القواعد : «يشترط في

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٥٥ ، الباب ٦ من أبواب المستحقين للزكاة ، ح ١.

(٢) المصدر ، ح ٢.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٥٧٠ ، الباب ١٧ من أبواب الكفارات ، ح ٣.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٥٦ ، الباب ٦ من أبواب المستحقين للزكاة ، ح ٣.

٥٨

.................................................................................................

__________________

الموصى البلوغ والعقل والحرية فلا تنفذ وصية الصبي وإن كان مميزا في المعروف وغيره» وهذا القول قد حكي عن السرائر والإيضاح وشرح الإرشاد لفخر الإسلام وغيرهم. لكن عن ظاهر التذكرة واللمعة والنافع والدروس التوقف. وعن المقنعة والمراسم والنهاية والمهذب والغنية وكشف الرموز والإرشاد والروض والكفاية والمفاتيح وأبي الصلاح وأبي علي : أنه تجوز وصية من بلغ عشرا مميّزا في البرّ والمعروف.

ويدل على الجواز روايات :

منها : موثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته» (١).

ومنها : صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حقّ جازت وصيته ، وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حقّ جازت وصيته» (٢) الحديث.

ومنها : غير ذلك (٣).

وهذه الروايات أخص من النصوص الدالة على عدم نفوذ أمر الصبي ، فتخصصها.

نعم في صحة وصيته للغرباء إشكال ، لصحيح محمّد بن مسلم «قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ الغلام إذا حضره الموت فأوصى فلم يدرك جازت وصيته لذوي الأرحام ، ولم تجز للغرباء» (٤). فإنّ مقتضى حمل المطلق على المقيّد هو نفوذ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٤٢٩ ، الباب ٤٤ من أحكام الوصايا ، ح ٣.

(٢) المصدر ، ح ٢.

(٣) المصدر ، ح ٦.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٤٢٩ ، الباب ٤٤ من أحكام الوصايا ، ح ١.

٥٩

.................................................................................................

__________________

وصيّة الصبي لخصوص ذوي الأرحام دون غيرهم ، إن لم يثبت الإعراض عن هذه الصحيحة ، وإلّا فلا وجه للتقييد ، بل لا بدّ من الالتزام بالإطلاق.

وهل يتبع قول الصبي في الإذن بدخول الدار أم لا؟ قال العلّامة في التذكرة : «لو فتح الصبي الباب وأذن في الدخول عن إذن أهل الدار وأوصل الهدية إلى انسان عن إذن المهدي فالأقرب الاعتماد ، لتسامح السلف فيه» (١).

ولا يخفى إنّه بناء على المنع عن نفوذ تصرفات الصبي لا وجه لاستثناء هذين الأمرين ، لعدم دخولهما في المستثنى منه ، لأنّ المراد بالمستثنى منه تصرفات الصبي التي تكون موضوعا لأثر شرعي. وليس شي‌ء من الأمرين كذلك. أما الأوّل فلأنّ جواز الدخول في الدار بإذن الصبي إنّما هو لحصول الاطمئنان بإذن أهل الدار من إذن الصبي ، لا لأجل اعتبار إذن الصبي ، فلو لم يحصل هذا الاطمئنان من قول الصبي لم يجز الدخول كما إذا لم يحصل هذا الاطمئنان من إذن البالغ أيضا ، فالمدار في جواز الدخول على الاطمئنان برضا المالك بالدخول سواء حصل هذا الاطمئنان من قول البالغ أم من قول الصبي.

والحاصل : أنّ الاذن في الدخول إلى دار الغير ليس في نفسه موضوعا لجواز الدخول.

وأمّا الثاني وهو إيصال الهدية إلى المهدي إليه فليس أيضا مرتبطا بما نحن فيه ، إذ ليس مقوما لعقد الهبة ، ولذا يتحقق بواسطة حيوان معلّم.

وبالجملة : فأمثال هذه الموارد خارجة عن العمومات المانعة عن نفوذ أمر الصبي بالتخصص لا التخصيص.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢ ، س ٣٠.

٦٠