هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

للعمومات المتقدمة (١) بالتقريب المتقدم. وفحوى (٢) الصحة في النكاح ، وأكثر ما تقدم من المؤيّدات (٣)

______________________________________________________

مطلقا ، والبطلان كذلك ، وهذا التفصيلان.

(١) وهي العمومات الأوّلية ك (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وآية (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) وغيرهما.

(٢) وهي الأولوية المستفادة من الروايات الواردة في نكاح الفضولي في الحرّ والعبد (١) إذ يستفاد منها قابلية البيع الفضولي للصحة الفعلية بالإجازة ، ولا فرق فيها بين أن يقصد الفضولي وقوع العقد للمالك كما هو مفروض المسألة الاولى ، وبين أن يقصد وقوعه لنفسه كما في هذه المسألة الثالثة.

(٣) تقدمت هذه المؤيّدات في المسألة الأولى بقوله : «ثم إنّه ربما يؤيّد صحة الفضولي ـ بل يستدل عليها ـ بروايات كثيرة وردت في مقامات خاصة .. إلخ» فراجع (ص ٤٢٧) وما بعدها.

والتعبير «بالأكثر» هنا من جهة ظهور بعض تلك المؤيّدات في أنّ قصد الفضولي إنشاء البيع لنفسه ، لا للمالك ، كما في صحيحة الحلبي الواردة في مسألة بيع الثوب. وكذا ما ورد في الودعي الذي جحد الوديعة واتّجر بها ، ثم جاء بعد مدّة بالربح وبرأس المال واستحلل من المودع ، لظهوره في كونه قاصدا ـ في تلك المدة ـ لوقوع المعاملة لنفسه وتملّكه للثمن.

وأمّا غير هذين الموردين فمقتضى إطلاقها صحة بيع الفضولي بالإجازة ، سواء قصد وقوع البيع لنفسه أو للمالك ، كما في الاتجار بمال اليتيم ، ومخالفة العامل لما عيّنه ربّ المال في عقد المضاربة ونحوهما.

__________________

(١) تقدمت روايات المسألة في ص ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، فراجع.

٥٤١

مع ظهور صحيحة ابن قيس المتقدمة (١).

ولا وجه للفرق بينه (٢) وبين ما تقدم من بيع الفضولي للمالك إلّا وجوه تظهر من كلمات جماعة ، بعضها مختصّ ببيع الغاصب ، وبعضها مشترك بين جميع صور المسألة (٣) (*).

______________________________________________________

(١) المتضمنة لبيع الوليدة بدون إذن سيّدها ، لاحتمال انطباقها على المقام ، وهي بيع الفضولي لنفسه لا للمالك ، فإنّ إقدام الولد على بيع الوليدة في غيبة أبيه ـ وبدون إذنه ـ يكون قرينة على قصد تملكه للثمن والتصرف فيه.

كما يحتمل الإطلاق ، يعني : سواء قصد الولد البيع لنفسه أم لأبيه.

وعلى كلّ من الاحتمالين يكون مناط الاستدلال بهذه الصحيحة ظهور كلامي الإمامين الأمير والباقر عليهما‌السلام في أنّ للمالك إجازة العقد الواقع على ماله ، سواء أكان قصد العاقد وقوعه للمالك كما كان في المسألة الأولى ، أم لنفسه كما في المسألة الثالثة.

(٢) أي : بين بيع الفضولي لنفسه ـ الذي هو مورد البحث ـ وبين ما تقدّم من بيع الفضولي للمالك. فكما تمّ المقتضي للصحة في المسألة الأولى ، فكذا في المقام. نعم لا بدّ من دفع ما يحتمل كونه مانعا عن الصحة ، وهو وجوه خمسة سيأتي بيانها.

(٣) وهي الصور الثلاث التي ذكرها المصنّف قدس‌سره في تصوير عقد الفضولي ، من بيع الفضولي للمالك مع سبق نهي من المالك ، ومن بيعه للمالك بدون سبق نهي منه ، ومن البيع لنفسه.

__________________

(*) ينبغي التكلم هنا في مقامين أيضا : الأوّل في وجود المقتضي للصحة وعدمه ، والثاني في وجود المانع وعدمه.

أمّا المقام الأوّل فمحصله : أنّه لا قصور في شمول العمومات المتقدمة مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ونحوهما لعقد الفضولي لنفسه.

مضافا إلى صحيحة محمّد بن قيس المتقدمة (في ص ٣٨٨) الدالة بترك

٥٤٢

منها (١) : إطلاق ما تقدّم من النبويين «لا تبع ما ليس عندك» و «لا بيع إلّا في ملك»

______________________________________________________

والوجوه المذكورة خمسة. والمختص منها ببيع الغاصب هو الثاني والثالث والرابع ، والوجه الأوّل إن قيل بإطلاق النهي فيه ـ سواء قصد الفضولي الإنشاء للمالك أم لنفسه ـ فهو من الوجوه العامة لبطلان بيع الفضولي في المسائل الثلاث. وإن قيل بتقييد الإطلاق واختصاص مورد النهي بالبيع لنفسه كان مختصا بهذه المسألة الثالثة. والوجه الخامس جار في المسائل الثلاث ، وهو ما سيأتي نقله عن العلّامة قدس‌سره في (ص ٥٧٦) : «لو باع الفضولي أو اشترى مع جهل الآخر ، فإشكال ، ينشأ من أنّ الآخر إنّما قصد تمليك العاقد» (١) بتقريب : أنّ المشتري الجاهل بفضولية العاقد ـ سواء باع للمالك أم لنفسه ـ قاصد لتمليك الثمن للفضولي ، لا لمالك المثمن ، فيحصل التخلف في القصد (٢).

(١) أي : ومن تلك الوجه التي ذكرت مانعة عن صحة بيع الفضولي لنفسه. وحاصل هذا الوجه هو : أنّ إطلاق النبويين المذكورين يشمل بيع الفضولي لنفسه كما يشمل بيعه لغيره ، فإنّ النهي عن بيع مال الغير ـ وكذا عدم صحة بيع مال الغير ـ مطلق يشمل كليهما.

__________________

الاستفصال على بيع الفضولي لنفسه ، فإنّ قول السيد : «وليدتي باعها ابني بغير إذني» يشمل بيع الابن الوليدة لنفسه أو لوالده الذي هو مالك الوليدة.

وهذه الصحيحة تدل على صحة الفضولي في هذه المسألة الثالثة والمسألة الاولى وهي بيع الفضولي للمالك بدون سبق منع منه ، دون المسألة الثانية وهي بيع

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٣

(٢) تقدم مصدرهما في ص ٤٨٦ و ٤٨٧ ، فراجع.

٥٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقول المصنف : «بناء على اختصاص مورد الجميع .. إلخ» يراد به وجه الفرق بين هذه الصورة ـ وهي بيع الفضولي لنفسه ـ وبيع الفضولي للمالك. وحاصل وجه الفرق هو : أنّ إطلاق النبويين وإن كان مقتضيا لبطلان البيع في كلتا الصورتين وعدم وقوعه ، لا عن المالك ولا عن الفضولي. إلّا أنّ إخراج عدم وقوعه للمالك عن الإطلاق ـ والبناء على وقوعه له ـ بما دلّ على صحته له لا محذور فيه. بخلاف إخراج

__________________

الفضولي للمالك مع سبق منع منه ، لما مرّ من عدم شمول الصحيحة لها.

وإلى : عموم التعليل الوارد في نكاح العبد والحرّ ، وهو عدم عصيان الله تعالى ، إذ المستفاد منه هو : أن المدار في الفساد على عصيانه سبحانه وتعالى ، وكون العقد جاريا على خلاف القانون الإلهي. وليس مناط فساد العقد ضياع حقّ الخلق وعدم رعايته ، فإذا أجاز صاحب الحق نفذ العقد وصحّ.

وأما المقام الثاني ـ وهو وجود المانع عن صحة عقد الفضولي لنفسه وعدمه ـ فقد ذكر المصنّف قدس‌سره فيه وجوها :

منها : النبويان المذكوران في المتن. وأوّل الإشكال عليهما هو ضعف السند ، لأنّهما نبويّان عامّيان ، ولم يظهر استناد الأصحاب إليهما.

ومنها : كون منع المالك حين إنشاء الفضولي للعقد وبقائه بعد العقد آنا ما مانعا عن صحته وردّا له.

وجوابه : أنّ هذا المنع لا يكون ردّا للعقد ، لعدم دليل شرعا على كونه ردّا ، ولا مانعا عن انعقاده ، لعدم مساعدة العرف عليه ، إذ لو أجازه المالك صحّ العقد وترتّب عليه الأثر ، ولو لم ينعقد العقد لم يكن مورد للإجازة. ولو شك في ردّه بعد انعقاده فلا مانع من استصحابه وصحته بإجازة المالك.

٥٤٤

بناء (١) على اختصاص مورد الجميع

______________________________________________________

بيع الفضولي عن الإطلاق المزبور ، والبناء على صحته ، لاستلزامه إخراج المورد عن الإطلاق ، وهو غير صحيح. وهذا هو الفارق بين هاتين الصورتين.

وبعبارة اخرى : انّ مفاد «النهي عن بيع ما ليس عندك» بطلان بيع غير المالك ، سواء باع هذا الغير للمالك أم لنفسه ، فالبيع الفضولي فاسد مطلقا. إلّا أنّه لا سبيل للأخذ بهذا الإطلاق ، لما تقدم في المسألة الاولى من وجود المقيّد ، وهو أدلة صحة البيع الفضولي ووقوعه للمالك المجيز ، وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن هذا النبوي بأحد وجهين : إمّا بالالتزام بالصحة مطلقا ، وإما بالتفصيل بالالتزام بالصحة فيما لو باع للمالك ، وبالفساد فيما لو باع لنفسه.

والمتعيّن هو الوجه الثاني ، وذلك لأنّ مورد النهي في رواية حكيم بن حزام هو بيع مال الغير لنفسه على ما مرّ في المسألة الاولى. فلو قلنا بصحة بيع الفضولي القاصد لوقوعه للمالك وبفساد فرد آخر من بيع الفضولي وهو المقصود وقوعه لنفسه لم يلزم محذور. وهذا بخلاف ما لو قلنا بصحة بيع الفضولي مطلقا حتى بقصد وقوعه لنفسه ، فإنّه يستلزم خروج المورد ـ وهو البيع لنفسه ـ عن إطلاق النهي عن بيع ما ليس عندك. وقد تقرّر في الأصول امتناع إخراج المورد عن الدليل.

ووجه الاستلزام واضح ، ضرورة اقتضاء أدلة الصحة ترتب الأثر على مطلق البيع الفضولي بإجازة المالك سواء باع لنفسه أم للمالك ، والمفروض كون مورد النبوي النهي عن بيع شي‌ء لنفسه لم يملكه بعد.

وبهذا يتجه الاستدلال بالنبوي على فساد بيع الفضولي لنفسه ، عملا بالنهي في مورده ، والاقتصار في الصحة على ما لو قصد وقوعه للمالك.

(١) ظاهر كلمة «بناء» توقف الاستدلال بالنبوي على اختصاص مدلوله ببيع الفضولي لنفسه ، بحيث لو قيل بشمول إطلاق النهي للبيع للمالك لم يصح الاستدلال به

٥٤٥

ببيع الفضولي لنفسه (١).

والجواب عنه يعرف مما تقدم (١) من : أنّ مضمونهما (٢) عدم وقوع بيع غير المالك لبائعه غير المالك ، بلا تعرّض فيهما لوقوعه وعدمه بالنسبة إلى المالك إذا أجاز.

______________________________________________________

على المقام وهو بطلان بيع الفضولي لنفسه. مع أنّ هذا الظاهر غير مراد قطعا ، لكفاية إطلاق النهي في الحكم بالفساد سواء باع لنفسه أم للمالك.

فالصحيح ـ كما أفاده السيد قدس‌سره (٢) ـ عدم إرادة هذا التوقف ، بل المراد اختصاص النبوي ببيع الفضولي لنفسه ، لكونه مورده. وإطلاقه لما إذا باع للمالك أو لنفسه مقيّد بأدلة الصحة في ما لو باع للمالك.

والحاصل : أن للنبوي تقديرا واحدا وهو الاختصاص بالبيع لنفسه ، فليس له تقديران حتى يكون على تقدير إطلاقه أجنبيا عن المدّعى ، وعلى تقدير اختصاصه دليلا عليه.

(١) كما في خبر حكيم بن حزام : «لا تبع ما ليس عندك» فإنّ مورد هذا النبوي ـ كما في التذكرة ـ هو : أن يبيع الفضولي عن نفسه ، ثم يمضي ليشتريه من مالكه. وكذا النبوي الآخر : «لا بيع إلّا في ملك» لوقوعه في سياق تطليق منكوحة الغير عنه أو عتق مملوك الغير عنه ، فيكون ظاهرا في البيع لنفسه.

(٢) أي : مضمون النبويين. وحاصل الجواب : أنّ النبويين يدلّان على عدم وقوع بيع الفضولي لنفسه ، ولا يدلّان على عدم وقوعه للمالك إذا أجاز. وهذا هو مورد البحث.

__________________

(١) تقدم في ص ٤٩٦.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٤١.

٥٤٦

ومنها (١) : بناء المسألة (٢) على ما سبق (٣) من اعتبار عدم سبق منع المالك. وهذا (٤) غالبا مفقود في المغصوب.

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : يحتمل في هذين النبويين وجهان ، أحدهما : فساد بيع غير المالك ، سواء قصد وقوعه للمالك أم لنفسه. والاستدلال بهما على المقام منوط بظهورهما في هذا الاحتمال.

ثانيهما : عدم وقوع البيع لغير المالك ، وأمّا وقوعه للمالك لو أجاز أو عدم وقوعه له فلا تعرض في النبويين له ، ولا بدّ من التماس دليل آخر عليه. وهذا الاحتمال أقرب إلى مورد رواية حكيم بن حزام ، على ما تقدم في المسألة الأولى ، حيث قال :

«وبعبارة أخرى : نهي المخاطب عن البيع دليل على عدم وقوعه مؤثرا في حقه ، فلا يدلّ على الغاية بالنسبة إلى المالك حتى لا تنفعه إجازة المالك في وقوعه له .. إلخ» فراجع (ص ٤٩٦).

وعليه فالنبوي أجنبي عن بيع الفضولي بالمرّة ، لعدم كونه موردا له.

(١) أي : ومن الوجوه الدالة على عدم صحة بيع الفضولي لنفسه ، وهذا ثاني وجوه البطلان ، وقد ذكره في المقابس ، وأحال جوابه على ما ذكره في المسألة الأولى ، فراجع (١).

(٢) أي : بناء فساد بيع الفضولي لنفسه على اشتراط عدم سبق منع المالك.

(٣) في المسألة الثانية (ص ٥٢٨) وحاصل ما ذكر هناك : أنّ سبق منع المالك الباقي ـ هذا المنع ـ بعد العقد ولو آنا ما كاف في الرد ، فلا ينفع الإجازة اللاحقة.

والظاهر أنّ هذا الوجه مشترك بين الصورة الثانية ـ وهي نهى المالك ـ والثالثة ، لإطلاق النهي الشامل لكلتيهما.

(٤) أي : عدم سبق منع المالك غالبا ـ بل دائما ـ مفقود في الغاصب ، لأنّ الغصب

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٣٢.

٥٤٧

وقد تقدّم (١) عن المحقق الكركي أنّ الغصب قرينة عدم الرضا.

وفيه أوّلا : أنّ الكلام في الأعم من بيع الغاصب (٢).

وثانيا : أنّ الغصب أمارة عدم الرضا بالبيع للغاصب ، لا مطلقا (٣) ، فقد يرضى المالك ببيع الغاصب لتوقع الإجازة وتملك الثمن ، فليس في الغصب دلالة على عدم الرضا بأصل البيع ، بل الغاصب وغيره من هذه الجهة (٤) سواء.

وثالثا : قد عرفت (٥) أنّ سبق منع المالك غير مؤثّر.

______________________________________________________

ظلم على المغصوب منه. ومقتضى العادة عدم رضا المالك بل منعه عن تصرف الغاصب مطلقا من التصرف الخارجي والاعتباري في ماله.

(١) عند نقل الشيخ عنه في (ص ٥٢٦) : «ويظهر من المحقق الثاني حيث احتمل فساد بيع الغاصب ، نظرا إلى القرينة الدالة على عدم الرضا ، وهي الغصب» وتقدّم هناك أيضا أن المحقق الكركي ذكره وجها للبطلان ، وإلّا فقد اختار صحة بيع الغاصب كغيره من العاقد الفضولي. وكيف كان فقد ردّ المصنف هذا الوجه بوجوه ثلاثة ستأتي.

(٢) محصل هذا الجواب : أنّ هذا الدليل أخص من المدّعى ، وهو بيع الفضولي لنفسه سواء أكان غاصبا أم لا. وهذا الدليل مختص بالغاصب ولا يشمل غيره.

(٣) حاصل هذا الجواب : أنّ الغصب ليس أمارة على عدم الرضا بالبيع مطلقا حتى للمالك ، بل أمارة على عدم الرضا بكون البيع للغاصب ، لخصوصية فيه وهو الظلم. فليس الغصب أمارة على عدم الرضا بأصل البيع حتى يقع منهيّا عنه وباطلا.

وعليه فيمكن إجازة المالك للبيع الذي أنشأه الغاصب ، لكونه راضيا بالبيع وإن كان كارها لتصدّي الغاصب له.

(٤) أي : من جهة رضا المالك ببيعه وعدم رضاه به.

(٥) عند قوله في (ص ٥٢٣) : «وأمّا ما ذكره من المنع الباقي بعد العقد ولو آنا ما فلم يدلّ دليل على كونه فسخا لا ينفع بعده الإجازة». ومحصل هذا الجواب هو : أنّه لا دليل على كون المنع السابق على عقد الفضولي ـ الباقي آنا ما بعد العقد بالعلم

٥٤٨

ومنها (١) : أنّ الفضولي إذا قصد بيع مال الغير لنفسه فلم يقصد حقيقة

______________________________________________________

أو الاستصحاب ـ ردّا للعقد وهدما له بحيث لا تنفع إجازة المالك بعد. وعليه فلا مانع من لحوق الإجازة به.

(١) أي : ومن تلك الوجوه المانعة عن صحة عقد الفضولي لنفسه : ما نسب إلى العلامة قدس‌سره وتابعيه من عدم انطباق مفهوم المعاوضة الحقيقية على بيع الفضولي لنفسه ، فالفضولي غير قاصد للمعاوضة. وانتفاء قصدها المقوّم للعقد يوجب عدم تحقق المعاقدة وما هو مقوّم عقدية العقد ، فلا عقد حقيقة حتى يتكلم في صحته بلحوق الإجازة وعدمها.

وأمّا عدم تحقق المعاوضة الحقيقية هنا فلأنّ الفضولي يعطي المبيع الذي هو مال الغير ، ويأخذ الثمن لنفسه ، وهذا خلاف المعاوضة الحقيقية.

وبعبارة أخرى : قد تقدم في الشرط الثاني من شرائط المتعاقدين تقوّم الأمور الاعتبارية ـ التي منها البيع ـ بالقصد الجدّي لتحقق المدلول في وعاء الاعتبار. كما تقرّر هناك تقوم مفهوم المبادلة بين المالين بحلول كل منهما محلّ الآخر ، فلو خرج المبيع من ملك زيد وتملّكه عمرو اعتبر خروج الثمن من ملك عمرو وتملك زيد له.

والمدّعى في المقام انتفاء حقيقة المعاوضة وعدم قصدها ، ولا تصل النوبة إلى البحث عن صحة عقد الغاصب لنفسه ، لتفرّع هذا البحث على تحقق العقد بإنشاء الغاصب ، كي يقال بصحته بإجازة المالك ، أو ببطلانه لفقد الرضا المقارن المعتبر في العقود.

والوجه في انتفاء القصد الجدّي في الغاصب هو : أنّ معنى قصده لبيع مال الغير هو المبادلة بين المالين المضافين إلى مالكين ـ وهما مالك المثمن المغصوب ومالك الثمن ـ فلا بدّ أن يقصد دخول الثمن في ملك المغصوب منه تحقيقا لمعنى المعاوضة. ومن المعلوم أنّ هذا القصد ينافي قصد تملكه للثمن وعدم تملك المغصوب منه له ، فيلزم أن

٥٤٩

المعاوضة (١) ، إذ لا يعقل دخول أحد العوضين في ملك من لم يخرج عن ملكه الآخر (٢) ، فالمعاوضة الحقيقية غير متصوّرة ، فحقيقته (٣) ترجع إلى إعطاء المبيع وأخذ الثمن لنفسه. وهذا (٤) ليس بيعا.

والجواب (٥) عن ذلك ـ مع اختصاصه ببيع الغاصب ـ أنّ (٦) قصد

______________________________________________________

يكون الغاصب قاصدا لأمرين متنافيين حين الإنشاء. وهذا معنى عدم تمشّي قصد المعاوضة منه ، وكون إنشائه بيعا صوريا لا حقيقيا.

ولا يخفى أن هذا الوجه عمدة المحذور في صحة بيع الغاصب لنفسه ، وهو ممّا يختص بهذه المسألة ، ولا يجري في بيع الفضولي للمالك ، لكونه هناك قاصدا لحقيقة المعاوضة.

(١) قد عرفت عدم قصد المعاوضة الحقيقية في بيع الفضولي لنفسه.

(٢) تقدم في (ص ١٢٩) التنظير له بإعطاء مال لطالب الطعام لشرائه لنفسه ، وكذا بإذن الراهن للمرتهن بأن يبيعها لنفسه ، فراجع.

(٣) أي : فحقيقة بيع مال الغير لنفسه ترجع إلى إعطاء المبيع وأخذ الثمن لنفسه.

(٤) أي : وإعطاء المبيع من مال الغير وأخذ الثمن لنفسه ليس بيعا حقيقة.

(٥) قد أجاب المصنّف قدس‌سره عن عدم قصد الفضولي المعاوضة الحقيقية ـ الموجب لبطلان عقده ـ بوجهين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله «مع اختصاصه» وحاصله : أخصية الدليل من المدّعى ـ وهو بطلان عقد الفضولي لنفسه ـ لاختصاص دليله بما إذا كان الفضولي غاصبا حتى لا يتمشّى منه قصد المعاوضة الحقيقية. وأمّا إذا كان معتقدا بأنّ المبيع ملكه ، فلا إشكال في تمشّي قصد المعاوضة الحقيقية منه. فدليل الخصم لا يشمله ، إذ المفروض إمكان قصد المعاوضة الحقيقية من غير الغاصب.

(٦) هذا إشارة إلى الوجه الثاني ، وحاصله : أنّه يمكن تمشّي قصد المعاوضة الحقيقية من الفضولي الغاصب بعد ادّعاء نفسه مالكا حقيقيّا ، كادّعاء كون زيد أسدا ،

٥٥٠

المعاوضة الحقيقية مبنيّ على جعل الغاصب نفسه مالكا حقيقيّا ، وإن كان هذا الجعل لا حقيقة له (١). لكن المعاوضة المبنية على هذا الأمر غير الحقيقي حقيقيّة (٢). نظير المجاز الادّعائي في الأصول.

نعم (٣) لو باع لنفسه من دون بناء على ملكية المثمن (٤)

______________________________________________________

وبعد هذا الادّعاء يقصد المعاوضة الحقيقية ، فتقع المبادلة بين مالكين أحدهما حقيقي ، وهو المشتري من الغاصب ، والآخر ادعائي ، وهو الغاصب الذي نزّل نفسه منزلة المالك الحقيقي المغصوب منه ، فقصد المبادلة بين مالكي العوضين موجود.

وعلى هذا فلا تستلزم صحة بيع الغاصب كونه قاصدا للمتنافيين ، وهما قصد وقوع البيع للمغصوب منه ولنفسه. وجه عدم اللزوم : أنه يقصد إنشاء البيع للمالك الادّعائي ، وهو منحصر في نفسه ، ولم يتعدّد المقصود حتى يقصد المتنافيين.

(١) لوضوح كونه على خلاف الواقع وكذبا محضا.

(٢) كيف يتصور ترتب أمر واقعي حقيقي على أمر لا واقع له وليس إلّا ادّعاء كاذبا؟ وهذا غير ترتب الأثر الخارجي ـ وهو التصرف مطلقا من الخارجي والاعتباري ـ على ملكية الأموال للأشخاص. وذلك لأنّ الملكية من الموجودات الاعتبارية المترتبة عليها آثار خارجية. بخلاف ادّعاء الملكية ، فإنّ الادّعاء الكاذب لا اعتبار له عند العقلاء أصلا ، وليس له وجود اعتباري كالملكية حتى يترتب عليه أمر واقعي.

(٣) استدراك على صحة بيع الفضولي ، وحاصله : أنّه لو لم يبن البائع الفضولي على ملكية المثمن أو لم يكن معتقدا لها حتى يتحقق قصد المعاوضة الحقيقية كانت المعاملة باطلة غير واقعة لا للفضولي ولا للمالك ، لعدم قصد المعاوضة الحقيقية الذي هو مقوّم العقد.

(٤) كما في البائع الفضولي العالم بعدم ملكية المبيع له كالسارق وغيره من الغاصبين.

٥٥١

ولا اعتقاد له (١) كانت المعاملة باطلة غير واقعة له ولا للمالك ، لعدم تحقق معنى المعاوضة (٢) ، ولذا (٣) ذكروا أنّه لو اشترى بماله لغيره شيئا بطل ، ولم يقع له ولا لغيره. والمراد (٤) ما لو قصد تملّك الغير للمبيع بإزاء مال نفسه.

وقد تخيّل (٥) بعض المحققين أنّ البطلان هنا يستلزم البطلان للمقام ، وهو

______________________________________________________

(١) كما في المعتقدين لملكية المبيع لهم اعتمادا على أمارات الملكية كاليد أو الاستصحاب.

(٢) التي مقتضاها دخول الثمن في ملك من خرج المبيع عن ملكه ، وهذا تعليل للبطلان.

(٣) يعني : ولعدم صدق معنى المعاوضة مع عدم بناء الفضولي على كونه مالكا ـ للمبيع حتى يتمشّى منه قصد المعاوضة ـ لو اشترى بمال نفسه لغيره متاعا من دون أن يبني على تنزيل الغير منزلة نفسه لم يقع الشراء له ولا لغيره ، حتى مع لحوق الإجازة.

أمّا عدم وقوع البيع لمالك الثمن فلعدم بنائه على تملك المثمن لاعتقاده دخوله في ملك الغير. وأمّا عدم وقوعه للغير فلعدم مالكيته للثمن حتى تتصوّر المعاوضة بالنسبة إليه.

(٤) يعني : والمراد من الاشتراء بمال نفسه لغيره هو : أن يقصد مالك الثمن تملك الغير للمبيع بعوض مال نفسه ، وهذا خلاف معنى المعاوضة ، إذ لم يدخل المبيع في ملك من خرج الثمن عن ملكه ، بل دخل في ملك من لم يخرج بإزاء المبيع شي‌ء من ملكه. ولو قصد تملك نفسه للمبيع ثم هبته لذلك الغير صحّ ، لتحقق معنى المعاوضة.

(٥) الظاهر أن المتخيّل صاحب المقابس ، فإنّه قدس‌سره نقل عن التذكرة بطلان ما لو اشترى الفضولي لغيره شيئا بمال نفسه ، وصرّح في العقد باسم ذلك الغير ، سواء أذن ذلك الغير أم لم يأذن. قال العلّامة : «والأقرب البطلان فيما لو أذن ، إذ ليس

٥٥٢

ما لو باع مال غيره لنفسه ، لأنه (١) عكسه. وقد عرفت (٢) أنّ عكسه هو ما إذا

______________________________________________________

للإنسان أن يملك شيئا والثمن على غيره» ثم أورد عليه المحقق الشوشتري بقوله : «ويلزم من كلامه أنّه لو باع مال غيره لنفسه ثم أذن المالك ـ أي أجاز ـ على ما وقع عليه العقد كان أيضا باطلا ، للعلّة المذكورة» (١) وظاهر العبارة النقض على العلّامة بإلزامه بالبطلان ـ بمقتضى تعليله ـ في مسألتنا وهي بيع الغاصب مال غيره لنفسه مع ذهاب المشهور إلى صحته.

فمحصل هذا التخيل هو : أنّ مقتضى القول بالبطلان في الشراء بمال نفسه لغيره هو القول بالبطلان في مسألتنا ، وهي بيع مال الغير لنفسه ، حيث إنّ مسألتنا هذه عكس مسألة الشراء بمال نفسه لغيره ، فإنّ البناء على تنزيل الغير منزلة نفسه ثابت في كلتا المسألتين من الأصل والعكس. يعني : في مسألة ما لو اشترى بمال نفسه لغيره شيئا.

(١) أي : لأنّ الشراء بماله لغيره عكس ما نحن فيه من بيع مال غيره لنفسه. ومناط كليهما ـ وهو التنزيل المزبور ـ واحد ، فالصحة في أحدهما يستلزم صحة الآخر ، كما أن بطلان أحدهما يستلزم بطلان الآخر.

(٢) بقوله : «نعم لو باع لنفسه من دون بناء على ملكية المثمن ولا اعتقاد له كانت المعاملة باطلة» وغرض المصنف منع النقض الذي أورده صاحب المقابس على العلّامة قدس‌سرهما.

وبيانه : أن مسألة الشراء بمال نفسه لغيره ـ التي أفتى العلامة فيها بالبطلان ـ يكون عكسها ما إذا أعطى مال الغير للمشتري بقصد تملك الثمن ، من دون أن يبني على كونه مالك المبيع ولا اعتقاده بمالكيّته. وهذا باطل ، ولا تنفعه إجازة مالك المبيع.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٨٦ ، السطر ١٣ ـ ١٦ ، مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٣٢ ، السطر ١٨.

٥٥٣

قصد تملك الثمن من دون بناء ولا اعتقاد (١) لتملك المثمن ، لأنّ (٢) مفروض الكلام في وقوع المعاملة للمالك إذا أجاز (*).

______________________________________________________

والجهة المشتركة بين هذا الفرع والفرع المنقول عن التذكرة هو عدم تنزيل كلّ منهما منزلة المالك الحقيقي ، فلا المشتري ـ في كلام العلامة ـ يبني على كونه هو المشتري المتملك للمبيع ، ولا البائع لمال غيره بقصد تملك الثمن بدون قصد تملكه للمبيع قبل العقد. والحكم هو البطلان ، وعدم إجداء الإجازة اللاحقة ، لفقدان قصد المعاوضة الحقيقية.

وهذا بخلاف مسألتنا وهي بيع الغاصب مال غيره لنفسه ، لكونه بانيا على تملكه للمبيع ، فيقصد تملكه للثمن ، وتتمشّى منه قصد المعاوضة ، فلو أجاز المغصوب منه وقع البيع له لا للغاصب.

وبهذا ظهر عدم ورود النقض على حكم العلّامة قدس‌سره ببطلان الشراء بمال نفسه لغيره معللا بأنه «ليس للإنسان أن يتملك شيئا والثمن على غيره».

(١) الأوّل في الغاصب ، والثاني فيمن يعتقد ملكية المثمن استنادا إلى الأمارات.

(٢) هذا تعليل لعدم كون بيع الغاصب عكسا لفرع الشراء بمال نفسه لغيره. ومحصله : وجود الفارق بين المسألتين وهو : أنه لو صحّ الشراء للغير وأجاز وقع الشراء له ، بخلاف بيع الغاصب لنفسه ، إذ لو أجاز المغصوب منه وقع له لا للغاصب.

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا الاشكال الثالث قد يعدّ عمدة المحذور في تصحيح بيع الغاصب لنفسه ، ولذا تصدّى جمع لدفعه بوجوه ، سيأتي التعرض لبعضها. والاشكال هو عدم تمشّي قصد المعاوضة الحقيقية من الفضولي الذي يبيع لنفسه ، ضرورة أنّه ليس مالكا للمبيع حتى يقصد خروجه عن ملكه بإزاء ما يتملّكه من الثمن ، حيث إنّ المعاوضة الحقيقية ـ على ما عن العلّامة ومن تبعه ـ هي : أن يدخل الثمن في ملك من خرج

٥٥٤

.................................................................................................

__________________

عنه المبيع ، وهنا لم يدخل الثمن في ملك مالك المبيع ، بل دخل في ملك الأجنبي ، وهو البائع الفضولي الذي لم يخرج المثمن عن ملكه. فبيعه حينئذ نظير بيع الهازل والساهي في عدم كونه بيعا حقيقة.

فهذا الوجه مانع عن تحقق العقد ، لا رافع له ، فلا موضوع حينئذ للبحث عن صحته بإجازة المالك وعدمها.

وجوابه بالنسبة إلى تمشّي قصد المعاوضة الحقيقية من البائع الغاصب ـ كما في المتن ـ بادعاء الغاصب مالكيته للمبيع ، ثم قصده المعاوضة الحقيقية لا يخلو من النظر ، لأنّ الفضولي مع علمه بعدم مالكيته للمبيع كيف يمكن أن يقصد المعاوضة الحقيقية بمجرّد ادّعاء المالكية كذبا ، فإنّ ادّعاء كون زيد أسدا لا يجعله أسدا حقيقة ، لكونه حقيقة ادعائية.

والحاصل : أنّ تمشّي قصد المعاوضة الحقيقية بمجرّد جعله مالكا ادّعاء مع العلم بكذب هذه الدعوى وكونها من الدّعاوي الصورية الكاذبة غير متصور. فإشكال عدم قصد المعاوضة الحقيقية من البائع العالم بعدم مالكيته لا يندفع بادّعاء مالكيته كذبا.

هذا مضافا الى ما أورد عليه تارة بما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره وغيره من أنّه أخص من المدّعى ، لاختصاص تنزيل غير المالك نفسه منزلة المالك بالغاصب الملتفت حتى يتمشّى منه ادّعاء المالكية ، مع أنّ موضوع البحث في هذه المسألة الثالثة أعم من الغاصب كمن يبيع معتقدا مالكيته للمثمن اعتمادا على الأمارات الشرعية ، فإنه يرى نفسه مالكا حقيقة ، ولا يتمشى منه الفرض والتنزيل ، لاستغنائه عنه.

وكذا الحال في الغاصب الغافل عن غصبه لمرور زمان أو عروض نسيان ، فيبيع ما سرقه قبل سنين بزعم كونه مالكا حقيقة لا ادّعاء ، فلا موضوع للتنزيل (١).

__________________

(١) المكاسب والبيع ، ج ٢ ، ص ٤٦.

٥٥٥

.................................................................................................

__________________

واخرى : أن تصحيح بيع الغاصب بالمالكية الادعائية منوط بإحراز التفات الغاصب الى توقف قصد المعاوضة الحقيقية على الادعاء المزبور ، فلو شكّ في التنزيل لم يكن سبيل إلى إثبات إنشاء البيع الجدّي. ولا مجال في مثله للتمسك بأصالة الصحة لإحراز العنوان الصادر منه كما هو واضح. بل مقتضى كلام المصنف قدس‌سره التفصيل في بيع الغاصب لنفسه بين تحقق هذا الادّعاء ، وعدمه. مع أنّ المشهور حكموا بصحة عقد الغاصب بإجازة المالك مطلقا ، حتى بدون المالكية الادّعائية. هذا

ويمكن دفع محذور عدم تحقق قصد المعاوضة الحقيقية في بيع الغاصب ، بأن يقال : انّ المعاوضة حقيقة هي التبديل بين المالين ـ اللّذين هما ركنان في العقود المعاوضية ـ في طرف الإضافة. ونفس قصد هذا التبديل مستلزم لدخول كل من العوضين في ملك مالك العوض الآخر المقصود تبعا لقصد نفس التبديل. وقصد تعيين المالك ليس شرطا في صحة المعاوضة ولا مقوّما لها. فتعيين المالك لا حقيقة ولا تنزيلا غير معتبر في المعاوضة أصلا.

وعليه فذكر المالك في العقد وعدمه سيّان ، فإنّ البيع ليس إلّا تبديل عين بمال ، لا تمليك عين بعوض ، إذ لا يصدق هذا التعريف على كثير من البيوع ، كما إذا باع أرباب مصالح البناء كالآجر والجص والحديد ونحوها على من يشتريها بأجور موقوفات المسجد مثلا لإصلاح ذلك المسجد أو غيره وتعميره ، فإنّ البائع لا يملّك المصالح للمشتري ، إذ ليس الثمن ملكا له حتى يتملك المصالح. وكذا الحال في المعاملات الواقعة على سائر الموقوفات والجهات العامة.

وبالجملة : فقصد المعاوضة الحقيقية موجود في الفضولي العاقد لنفسه إمّا تبعا كما في الغاصب ، لاستلزام قصد تبديل العين بعوض معلوم المعاوضة الحقيقية ، بل قصد التبديل المزبور عين قصد المعاوضة ، وما يتقوم به مفهوم البيع هو إنشاء هذا التبديل من

٥٥٦

.................................................................................................

__________________

دون حاجة إلى تنزيل غير المالك منزلة المالك حتّى يتمشّى من الفضولي قصد المعاوضة الحقيقية بين المالكين ، لعدم اعتبار تعيين المالك في صحة العقد.

وإمّا استقلالا كما في المالك ، فإنّه يقصد من الأوّل المعاوضة بين مال نفسه ومال المشتري.

وإن شئت فقل : إنّ الفضولي الذي يقصد البيع لنفسه سواء أكان غاصبا أم غيره ـ بمجرّد إنشائه تبديل المال الشخصي الذي يكون للغير بمال المشتري ـ تتحقق قهرا نيّة المعاوضة بين المالين ، وفي الرتبة الثانية المتأخرة عن الإنشاء يقصد البيع لنفسه ليأخذ الثمن غصبا كما أخذ المثمن كذلك.

وهذا القصد الثانوي لا يقدح في صحة المعاملة إذا أجاز المالك ، لأنّ هذا القصد وقع لغوا ، ولم يكن مقوّما للعقد ، ولا شرطا له. سواء أكان قصد مالكيته ادّعاء من قبيل الجهات التقييدية بأن يكون المالك موضوعا لهذا العقد ، والفضولي طبّق المالك على نفسه ادّعاء. أم من قبيل الجهات التعليلية ، بأن يجعل نفسه مالكا لأخذ الثمن.

ولعل هذا مراد المصنف قدس‌سره من دعوى الفضولي مالكيته للمبيع ، فإن كان كذلك فلا بأس به.

فالمتحصل : أنّه في هذه الصورة الثالثة ـ وهي بيع الفضولي لنفسه ـ لا مانع من صحته بإجازة المالك. والوجوه المتقدمة لا تصلح للمانعية بعد فرض صدق العقد عليه ، وقصد المعاوضة التي هي تبديل مال بمال قبل العقد موجود. ولا يتوقف على مالكية الفضولي. فما أفاده المصنف قدس‌سره من صيرورة المعاوضة حقيقية بعد ادّعاء الفضولي مالكيته للمبيع غير ظاهر ، إذ لا يتوقف قصدها على الادّعاء المزبور. بل قصد التبديل قبل هذا الادّعاء موجود. فعقدية عقد الفضولي البائع لنفسه ثابتة ، فتشمله أدلة الصحة كشمولها للصورتين السابقتين ، وهما عقد الفضولي للمالك بدون سبق النهي ومع سبقه.

٥٥٧

.................................................................................................

__________________

وقد أجيب عن محذور عدم تمشّي قصد المعاوضة الحقيقية من الغاصب بوجوه اخرى :

منها : ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره ولم يستبعد كونه مراد شيخنا الأعظم قدس‌سره وإن لم تكن عبارة الكتاب وافية به ، ومحصله : أن الملكية هي الإضافة الاعتبارية بين المالك والمملوك ، والغاصب لا يغصب المملوك بل يغصب هذه الإضافة ويجعل نفسه مالكا ، وبعد هذا التجعّل يتمشى منه البيع العرفي ، لكفاية اعتبار الملكية عدوانا أو جهلا في ترتب الأثر عليها وإن لم يمضه الشارع ، فصدور المعاوضة الحقيقية مبني على هذا الجعل ، وهو المصحّح لقصد البيعية ، فينشئ تبديل طرف إضافة بطرف إضافة أخرى .. إلخ (١).

وقد يشكل بأنّ الغصب من المفاهيم العرفية ، والمعهود منه هو الاستيلاء على ما للغير عدوانا ، فالملحوظ فيه هو الاعتداء على مال الغير والتصرف فيه ، ولا يطلق عنوان «الغصب» على مجرّد اعتبار شخص مالكا لأموال غيره ما لم يضع يده عليها. ولم يعهد سرقة إضافة الملكية ، فإنّها أمر اعتباري. ومن المعلوم خروج هذا الوعاء عن حيطة تسلّط الغاصب عليه. بل ربّما ينافيه تصريح الميرزا قدس‌سره في أوّل البيع بأنّ البيع العرفي ليس تبديل الإضافة وإنما هو تبديل طرفيها ، لأنّ الملكية سواء أكانت بمعنى السلطنة أم بمعنى الجدة الاعتبارية مما لا تقبل النقل إلى الغير «إذ ليس للمالك ملكية على الملكية» (٢) فالبيع العرفي هو تبديل طرفي إضافتين. وهو الذي يتعلّق به الإمضاء الشرعي تارة ، والرّد اخرى.

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، المكاسب والبيع ، ج ٢ ، ص ٤٦.

(٢) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٣٥.

٥٥٨

.................................................................................................

__________________

وبامتناع انفكاك الملكية عن المالك عرفا كيف يجعل الغصب سرقة لهذه الإضافة مع كونه من الأمور المتعارفة عندهم؟ وعليه فيشكل تصحيح معاملات الغاصب بالوجه المزبور.

وليس الإشكال في البيع الممضى شرعا حتى يقال : يتمشّى قصد المعاوضة عرفا من الغاصب. وذلك لما تقدم من أن الغصب كالبيع من الأمور العقلائية ، والمحذور كله في امتناع قصد الغاصب حقيقة المعاوضة.

ومنها : ما أفاده المحقق الايرواني قدس‌سره فإنه ـ بعد منع توقف المبادلة على قصد دخول أحد العوضين في ملك مالك الآخر ـ صحّح بيع الغاصب بوجهين :

أحدهما : أن بيع الغاصب مال الغير لنفسه لا هو هبة متعارفة ولا بيع متعارف ، بل هو عقد متضمن لهما معا ، حيث يتبدل المالكان فيه كما في الهبة ، والمملوكان كما في البيع.

ولا تتوقف حقيقة المعاوضة على قصد دخول العوض في ملك مالك المعوّض. فإذا باع الغاصب انحلّ إنشاؤه إلى بيع وهبة من جانب واحد. أما أنه بيع فلأنّه من تبديل مملوك بآخر. وأما أنه هبة فلأنها تبديل مالك بآخر ، لفرض تمليك المشتري الثمن للبائع. وهذه معاملة صحيحة لخصوص دليل حلّ البيع ولعموم الأمر بالوفاء بالعقود والتجارة عن تراض.

ثانيهما : أنه هبة معوّضة ، قال قدس‌سره : «وإن تعاسرت من هذا قلنا : لا أقل من أن يكون ما يصنعه الغاصب هبة معوّضة ، فيهب مال الغير بإزاء أن يهبه الطرف المقابل مال نفسه .. ويكون القبول من الطرف الآخر إنشاء للهبة الأخرى. والوجه في تملك الغاصب للثمن هو : أنه يستوهبه من الطرف المقابل بإزاء رفع يده عن العين المغصوبة حتى يعصبها الطرف المقابل» (١) هذا.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٢٣

٥٥٩

ومنها (١) : أنّ الفضولي إذا قصد البيع لنفسه ، فإن تعلّقت إجازة المالك بهذا

______________________________________________________

(١) أي : ومن الوجوه التي تمسّك بها لبطلان بيع الفضولي مال الغير لنفسه : أن الفضولي .. إلخ. وهذا الوجه الرابع ناظر إلى امتناع تأثير الإجازة فيما صدر من الفضولي وإن لم تتقوّم المعاوضة عقلا بالدخول في ملك المالك ، بل كان ذلك شرطا لصحة البيع شرعا. والوجه السابق كان ناظرا إلى امتناع قصد البيع الذي هو من المعاوضات الحقيقية.

__________________

أقول : لا ريب في أن العقود أمور قصدية لا تترب عليها آثارها ما لم تقصد. كما لا ريب في اختلاف البيع والهبة مفهوما ، فالبيع يعتبر فيه المبادلة بين مالين سواء أكان بمعنى التبديل أو التمليك أو غيرهما ، ولا يصدق على إعطاء مال خال عن العوض ، ولو كان هذا العوض إسقاط حقّ ونحوه. والهبة هي التمليك المجّاني ، ولذا تتوقف الهبة المعوضة على الشرط. وحينئذ كيف يكون الإنشاء الواحد جامعا للعنوانين المتقابلين؟

مضافا إلى : أنّ الكلام في تصحيح بيع الغاصب بما أنه بيع ، لا بما أنه منحل إلى بيع وهبة ، إذ الانحلال المزبور منوط بقصدهما حتى تصل النوبة إلى إمضاء الشارع.

وإلى : أن الوجهين أخصّ من المدّعى ، لاختصاصهما بالمشتري العالم بغصبية المبيع حتى يكون قبوله بيعا وهبة ، أو هبة معوّضة. مع أنّ الكلام في الأعم منه ومن الجاهل ، كما أنه أعمّ من الغاصب وممّن يزعم مالكيته للمال اعتمادا على الأمارات الشرعية.

وبهذا يظهر غموض التمسك بأدلة الإمضاء ، إذ لم يعهد تركّب عقد من بيع وهبة حتى يشمله عموم الأمر بالوفاء ، كما أنّ مثله ليس بيعا بخصوصه حتى يصحّ بدليل حلّ البيع.

٥٦٠